الأصحاح ٦

فتح الأختام الست الأولى

مدخل إلى الأختام:

تُختتم فترة الكنيسة برفض الرب لأولئك الذين يحملون اسم المسيحيين ظاهرياً (رومية ١١: ٢١، ٢٢؛ رؤيا ٣: ١٦)، وبتجمع كافة القديسين، الأموات القائمين والأحياء الذين تبدلوا، عند مجيء الرب شخصياً (١ تيموثاوس ٤: ١٥- ١٧؛ ٢ تسالونيكي ٢: ١). المكانة الحالية للرب سائراً وسط الكنائس، ناظراً كل شيء ومانحاً المديح الممتزج باللون، هي الحقيقة المميزة التي تسم الأصحاح ٢ و٣ من الرؤيا. يا لها من فائدة كبيرة لنا! كم هي قيِّمة وثمينة وكاملة تلك الدروس!

وإذا تأملنا الآن عميقاً في صيغة "بَعْدَ هَذَا"، فإن هذا سيساعدنا هنا. إنها ترد مرتين في الآية ١ من الأصحاح ٤؛ ونجدها أيضاً في ٧: ٩؛ ١٥: ٥؛ ١٨: ١؛ ١٩: ١؛ وأيضاً تكوين ١٥: ١؛ و٢٢: ١. والصيغة على ما يبدو تُشكل همزة وصل بين سلسلة من الأحداث التي جرت في الماضي وأخرى ستحدث لاحقاً. فما الغاية من إدخالها مرتين في الأصحاح ٤: ١؟ أليس فيها إشارة إلى تاريخ الكنيسة على الأرض، الأصحاحين ٢ و٣، كما يراهما الرائي في الرؤيا، هو في الماضي، وبالتالي أن سلسلة جديدة من الأحداث على وشك أن تُكشف؟

الشيوخ الـ ٢٤ الذين يلعبون دوراً هاماً في الأحداث السماوية والمشاهد التي يصفها الرائي يُذكرون أولاً في الأصحاح ٤. عددهم الرمزي ولقبهم يُشيران بشكل واضح إلى أنهم يدلون على كل جماعة المفديين الذين في الدهر الماضي والحاضر. والآن من المُسلّم به صراحة أنه ما من قول رؤيوي واضح يؤكد انتقال القديسين إلى السماء. تشير الآية في ١١: ١٢ إلى جماعة صغيرة وخاصة. بولس هو الوحيد بين كُتاب العهد الجديد الذي يؤكد على هذه الحقيقة. بينما يوحنا، على عكسه، يتكل على تجلّي القديسين مع المسيح لدى ظهوره. الأول يظهر تجمعنا حول المسيح، وعودتنا التالية معه. أما يوحنا فيكتب عن الحالة الأخيرة فقط. الشيوخ الـ ٢٤ يرمزون إلى المفتدين في السماء (ولذلك فإن انتقالهم قد حدث للتو)؛ يظهر الرائي لهم أيضاً في رؤيا بزغت من السماء (١٩: ١١- ١٤؛ ٢١: ١٠). في أي جزء من السفر يمكنك وضع انتقاله؟ بعد الأصحاح ٣، الذي يختم فترة الكنيسة، وقبل الأصحاح ٤، الذي يبدأ سلسلة جديدة من الأحداث، والتي فيها يكون الشيوخ أو المفديون في السماء مشهورين وبارزين. ولذلك فإننا ننظر تحقيق الآية في يوحنا ١٤: ٣، و١ تسالونيكي ٤: ١٥- ١٧، بين هذين الأصحاحين من سفر الرؤيا. الشيوخ الـ ٢٤ يُرون في الأعالي، ولكن حقيقة اختطافهم مفترضة، ولا يقولها صراحة السفر، وما لم يتم الإقرار بهذا فإن الفهم الصحيح للسفر يصير مستحيلاً. ومن هنا نجد بعد ذلك أن الكنيسة ليست على الأرض خلال فترة الدينونات الرؤيوية. كما رأينا من ذكر الشيوخ لأول مرة (٤: ٤) وحتى النهاية (١٩: ٤) السماء هي موطنهم.

إننا على وشك أن ندخل إلى تمحيص للجزء النبوي تماماً في السفر، ونقوم بذلك واضعين نصب أعيننا حقيقة أن السلاسل الثلاثة المختلفة من الدينونات- الأختام، والأبواق، والجامات، تجري في الفاصل بين تجمعنا للرب نفسه، وتجلّيه ونحن معه في العالم في نهاية أسبوع دانيال النبوي الأخير ١. القديسون المنتقلون هم في السماء خلال الأسبوع السبعين من دانيال، هذه الفترة المؤلفة من سبع سنوات، خلال النصف الأخير من الفترة التي تندلع فيها الضيقة العظيمة بعنف على الأرض، مشتملة من ضمن آلامها التي لا تُقاس جماعة تقية من اليهود والأمميين، تُدعى لتشهد لله بعد أن يكون المشتركون في الدعوة السماوية قد انتقلت. الكنيسة تُوعَد بشكل واضح بأن تُستثنى من الضيقة (٣: ١٠). النبوءة تتعلق بالأرض، ولكن الكنيسة كجسد المسيح وعروس الحمل، التي هي أقرب وأعز ما يكون إليه، لابد أن تكون مرتبطة به في السماوات، وبالتالي خارج نطاق التعامل النبوي. ومع ذلك، ورغم الإصرار على التحقيق الكامل والدقيق للقسم النبوي من الرؤيا في الأزمة القصيرة التي يُغطّها أسبوع دانيال الأخير من السنين، لا نزال بعيدين عن رفض التطبيق التاريخي على الماضي والحاضر؛ التشابه الجزئي أمر والتحقيق الحرفي أمر آخر. هذا الأخير يمكن تحقيقه فقط في النهاية ٢.

الختم الأول:

الخواص المميزة:

١- ٢- "وَنَظَرْتُ لَمَّا فَتَحَ الخَرُوفُ وَاحداً منَ الْخُتُوم السَّبْعَة، وَسَمعْتُ وَاحداً منَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات قَائلاً كَصَوْت رَعْدٍ: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطيَ إكْليلاً، وَخَرَجَ غَالباً وَلكَيْ يَغْلبَ". الدينونات تحت الأختام والأبواق ليست في نفس العصر أو الوقت بل متعاقبة. الأولى تُغطي فترة أكبر من الأبواق، ولكن هذه الأخيرة، من جهة أخرى، هي أشد وأكثر قساوة.

لاحظوا أيضاً أن الحمل مرتبط بالأختام، والملائكة بالأبواق، والله بجامات الغضب.

في هذا الإعلان التمهيدي للدينونة الآتية هناك اكتمال ودقة في التعبير لا نجدها في افتتاح الأختام الست الأخرى، أو حتى في البوق الأول والجامة الأولى. هنا العدد العادي ١ يُستخدم لوحده، وليس العدد الترتيبي "الأول"، الخ. كما في الأخرى.

"وَنَظَرْتُ" تُلفظ مرتين. لقد كان يوحنا شاهد عيان مراقباً عن كثب. لقد "رأى" عمل الحمل في فتح الختم (الآية ١). وأيضاً "رأى" القائم بالدينونة (الآية ٢).

الخيول الملونة المتنوعة في الأختام الأربعة الأولى تُمثل بالرمز الوكلاء البشريين المستخدمين في تنفيذ هذه الدينونات على الأرض، والتي هي مقرِّرة للعناية الإلهية في طابعها. ولكن بما أن المسيحيين لهم فكر المسيح، أي خاصة التمييز، فإننا ننظر إلى ما وراء المسار التاريخي للأحداث ونتتبعها كلها إلى المصدر غير المنظور، الله نفسه. وهكذا فإن المخلوقات الحية، المنفِّذون لأوامر العرش، يستدعون بشكل متتالٍ الأدوات البشرية للانتقام ليُنفذوا مهمتهم التي أوكلهم الله بها. لا يمكنهم أن يتحركوا في الدينونة إلى أن يستدعيهم العرش طالباً منهم القيام بذلك. يا لها من قوة تشجع القلب في أيام الشر! الأختام الأربعة الأولى تتميز بالمخلوقات الحية والأحصنة. في الثلاثة الباقية ليس هناك من ذكر لأي منهما.

في الختم الأول مخلوق حي واحد فقط يتكلم، "كَصَوْت رَعْدٍ"، وفي الحال الحادث النبوي الأول الذي تم التنبؤ عنه في الرؤيا يتبدى للعيان. وتُفتح النبوة.

الكلمات في الآيات ١، ٣، ٥، ٧، "وَانْظُرْ" ينبغي أن تُحذف. وفي هذا يتفق تريغلز وكيلي وآخرون في الرأي ٣. الإبقاء على الكلمات سيجعل منها دعوة إلى يوحنا أن "تعال وانظر"، ولكن لمَ التنافر في أن التحدث إليه يكون من خلال صوت الرعد؟ إن حذفها يجعل النداء "تعال" دعوة إلى الأداة البشرية المستخدمة في هذه التأديبات الأرضية.

النداءات المرتفعة الصوت والتجاوب المباشر معها:

التجاوب مع الطرف الآمر والمرتفع الصوت للكائن الحي تتم إطاعته في الحال. "فَنَظَرْتُ ، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه". من الواضح أن الإشارة هي إلى فرس الحرب. لا يمكن أن يرمز هذا الفارس، كما يحتج جمهور المفسرين، إلى المسيح كممتهن للغزو. المزمور ٤٥، وخاصة رؤيا ١٩: ١١، زُعم بالدليل أن تطبيق الختم الأول هو على المسيح. ولكن كاتب المزامير والرائي كلاهما يُوجهاننا إلى المسيح في تلك اللحظة العظيمة من مجيئه ليُمسك بيده زمام حكم العالم، في حين أن حقبة الختم الأول تشير إلى وقت يأتي قبل بضعة سنوات من تأسيس الملكوت بقوة. في الأصحاح ١٩ يتم ذكر الفارس؛ ولكنه لا يُذكر هنا. من أي جزء من الأرض يبزغ فارس الختم لا نعلم. لدينا هنا رمز لقوة الغلبة. الحصان الأبيض يدل على القوة المنتصرة. إنه يشير إلى مجيء المشهد النبوي للقوة التي أدت إلى غلبة. احتراف للانتصار الكبير والعظيم ومع ذلك غير الدموي يكمن قبل هذا المجيء للمحارب الملكي ذي الشهرة العالمية الواسعة، كُورَشَ، أو الإسكندر، أو نابليون في انتصاراته وغزواته، ولكن بدون سفك دم ومذابح، وهذا هو الفرس وراكب الفرس في الختم الأول.

"خَرُّوا وسجدوا" ٤. اليهود العائدون من بابل وخلال إعادة بنائهم لأورشليم كانوا مسلحين بـ "سُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَقِسِيِّهِمْ" (نحميا ٤: ١٣). القتال عن قرب كان يتطلب استخدام السيوف؛ وإذا زادت المسافة بين المتحاربين كان الأمر يستدعي استخدام الرمح؛ ومع مسافة زائدة في ساحة المعركة يتم استخدام القوس. السلاح الأخير لن يكون له تأثير كبير؛ ومن هنا فإن استخدامه كرمز عن الحرب عن بعد، وأنه ليس بسلاح قاتل مهلك.

"وَقَدْ أُعْطيَ إكْليلاً"، يجب أن يكون هذا أكثر من إكليل النصر الذي يُمنح للغالب في نهاية حملة ناجحة، إذ أن الإكليل هنا يُعطى قبل النصر الذي يجري الحديث عنه. الوقار الملوكي أو الإمبراطوري يُمنح لهذا الشخص المتميز قبل أن يدخل في مهنته الرائعة كفاتح.

"خَرَجَ غَالباً وَلكَيْ يَغْلبَ". النصر تلوى النصر، والفتح تلوى الفتح، بدون هزيمة أو انقطاع، كان يُميز التقدم الملكي لهذا البطل في اليوم والساعة الآتيين. الرموز تحت هذا وتحت الأختام التالية بسيطة جداً ومليئة بالمعنى ٥.

الختم الثاني:

مواصفات الختم الثاني:

٣- ٤- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الثَّانيَ، سَمعْتُ الْحَيَوَانَ الثَّانيَ قَائلاً: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَخَرَجَ فَرَسٌ آخَرُ أَحْمَرُ، وَللْجَالس عَلَيْه أُعْطيَ أَنْ يَنْزعَ السَّلاَمَ منَ الأَرْض، وَأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَأُعْطيَ سَيْفاً عَظيماً". في كل دينونات الختم، ما عدا الثانية، يعلمنا الرائي أنه كان شاهد عيان: "نظرتُ". ثم تحت الأختام الأخرى تأتي الكلمة "رأيتُ" وتسبق وصف الفرس، بينما نجدها تُحذف هنا. بدلاً من "رأيتُ" تأتي الكلمة "آخر" مضافةً، ولا نجدها في الأختام الأخرى. قد تكون هذه اختلافات بسيطة، ولكن بما أننا نؤمن إيماناً راسخاً بالوحي الشفهي في الكتابات المقدسة، فنرضى بالفكرة القائلة بأن هناك مغزى إلهي في هذه التفاصيل التي تبدو غير هامة. ورود الكلمات "نظرت" و"رأيت" في الختم الأول، وحذفها من الثاني، ربما كان سببه هو حقيقة أن كلمة "آخر" في الأخير تربط الختمين. ومن هنا فإن "نظرت"، و"رأيت.... فرساً آخر أحمر".

إجابة للطلبات والدعوات بأن "هلم"، التي يطلقها المخلوق الحي الثاني، "خَرَجَ فَرَسٌ آخَرُ أَحْمَرُ". لماذا "أحمر" ٦، وما المغزى الخاص به؟ يشير الفرس الأبيض إلى سلسلة من الانتصارات السلمية. الفرس الأحمر، من جهة أخرى، يشير إلى فترة مذابح وسفك دماء (أشعياء ٦٣: ٢؛ رؤيا ١٢: ٣). الفارس لا يُذكر اسمه. إنه يوم انتقام الرب من العالم الآثم؛ ومن هنا تكرار ضمير الغائب، مؤكداً على حقيقة أن العامل المباشر للدينونة هو إنسان يُعينه الله لأجل تلك الغاية، "أُعْطيَ أَنْ". مهما كانت الدوافع أو الحوافز أو المطامح السياسية هي التي تحرك رجل الدماء هذا، فإنه سوط الله للوقت الحالي. فترة سلام قصيرة تلي مباشرة انتقال القديسين إلى السماء، ومع ذلك، كما رأينا تحت الختم الأول، صعود ونمو الغازي المقتدر لن يتلازم مع سفك دماء كثيرة. مهمته هي تحقيق انتصار عظيم بالكاد يهز السلام العام. ولكن تحت الختم الثاني نتتبع آثار خطوات ذاك الذي يطأ على الأرض في مهمة دامية. إن لديه تفويض إلهي "أن يَنْزعَ السَّلاَمَ منَ الأَرْض"، و"أن يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً". وفي مسيرته نحو هدفه فإنه يثير، وأينما ذهب، مشاعر غضب عند الناس. ليت حكومات أوربا التي تحلم بأنه بتسليح وتدريب شعوبهم فإن أسلحة القتل تلك التي أنتجتها العلوم التطبيقية للعصر الحالي سوف لن تُستخدم فيما بعد في حروب هجومية أو دفاعية، بل في حروب أهلية وصراعات بين الأحزاب. ليس الأمر هنا "أمة على أمة" بل "أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً". مشاعر الناس المتوحشة يُطلق سراحها. ويمر وقت من القتل المتبادل. موثوقية السلطة المدنية لا تكون مجدية لمنع الشغب وسفك الدماء في المدن والبلدات والقرى، وإن اقتضت الحاجة فإنها لن تفلح في تفادي الدمار الفظيع. "سَيْفاً عَظيماً" يُعطى للفارس ما يدل على أن المشاجرات والفتن التي يُحدثها ستتميز بمذابح عظيمة وسفك دماء رهيب. إن الحرب، سواء كانت هجومية أم دفاعية، هي بلا ريب وفي جميع الأوقات باعثة على الأسى، ولكن تمرداً مدنياً مفتوحاً، مسلّحاً يقوم به الناس ضد الناس، والأصدقاء ضد بعضهم، ويتميزوا بالعنف والانتقام وسفك الدماء كسيل المياه وستكون هذه الحالة أسوأ مما يمكن تصوره على الإطلاق في الحروب، وهكذا يُصور لنا المشهد المريع تحت هذا الختم.

الختم الثالث:

المجاعة:

٥- ٦- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الثَّالثَ، سَمعْتُ الْحَيَوَانَ الثَّالثَ قَائلاً: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ وَإذَا فَرَسٌ أَسْوَدُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه مَعَهُ ميزَانٌ في يَده. وَسَمعْتُ صَوْتاً في وَسَط الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات قَائلاً: «ثُمْنيَّةُ قَمْحٍ بدينَارٍ، وَثَلاَثُ ثَمَانيّ شَعيرٍ بدينَارٍ. وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَمْرُ فَلاَ تَضُرَّهُمَا»". الفرس الأبيض هو رمز القوة في النصر. الفرس الأحمر يشير إلى القوة في سفك الدماء. والفرس الأسود يشير إلى القوة في إحداث الندب والنواح والعويل. وهنا، كما في زكريا ٦: ٢، الفرس الأسود يتبع الأحمر. "جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ مِنْ جَرَى نِيرَانِ الْجُوعِ"، كما يقول النبي الباكي (انظر مراثي إرميا ٥: ١٠؛ إرميا ٤: ٢٣؛ يهوذا ١٣ ، الخ.، لفهم القوة الرمزية لهذا اللون).

هناك أشياء عديدة يتم التنبؤ عنها في ما يتعلق بكل من الفرسان الثلاثة الآخرين تحت الأختام الخاصة بكل منهم، ولكن هنا أمر واحد فقط. يحمل الفارس "ميزَاناً في يَدهِ". نوعا الحب الرئيسيان اللذان يُقدّمان قوت الحياة يجب أن يُعطيا بتقتير استناداً إلى الوزن و أن يُباعا بأسعار تناسب المجاعة. القمح والشعير يُذكران. حبوب الشعير كان يأكلها عادة العبيد وفقراء الشعب، لأنها أرخص بكثير من القمح، وذات طبيعة أخشن. الدينار الروماني كان يعادل ٨ بنسات من عملتنا؛ وكان أجرة يوم كامل للجندي، وأجرة عمل يوم كامل للعامل الكادح (متى ٢٠: ٢). كان يمكن شراء ثمانية أكيال أو ثَمَانيّ من القمح بدينار، ولكن هنا نجد أن الدينار يشتري ثُمْنيَّة واحدة فقط، وبالكاد تكفي لتبقي الإنسان على قيد الحياة ٧. ولكن ماذا عن الأعداد الهائلة من الكهول، والنساء والأطفال العاجزون عن العمل؟ ولكن إن كان الدينار يمكنه تدبير الطعام الضروري لشخص واحد، فماذا بخصوص العدد الكبير من الناس الذين لا يستطيعون العمل بسبب العجز أو عدم الأهلية أو أمرٍ ما؟ هل تكون المجاعة هي مصيرهم المؤلم لدرجة أن الموت يصبح محرراً سعيداً لهم من قرصات الجوع؟

ولكن المخلوقات الحية ليسوا أنفسهم مصدر هذا التأديب التدبيري. إنهم مرتبطون بالعرش حيوياً (٤: ٦)، ولكن الله هو الجالس على العرش، وسيبقى كذلك إلى الأبد. يسمع الرائي صوتاً من نفس المركز والعرش الذي لله الأبدي، وهو إعلان عن مجاعة وجوع. الله نفسه هو محدث هذه الدينونات التدبيرية التمهيدية على أهل الأرض. الله هو الذي يوقع بهم ذلك البلاء وهو يُسخّر أي شخص أو وسيلة لتحقيق هدفه.

الأغنياء يسلمون من الضرر:

إن التحذير أن "أَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَمْرُ فَلاَ تَضُرَّهُمَا"، يفترض البعض أنها تشير إلى تلطيف للمجاعة المعلنة في الإعلانات السابقة. ولكن هذا من غير المحتمل أن يكون. ما كان الناس يستطيعون العيش على الزيت والخمر. كان القمح والشعير ضروريان وأساسيان للحياة. الزيت والخمر كانا يُعتبران من الترف الموجود فقط على موائد الأغنياء (أمثال ٢١: ١٧؛ إرميا ٣١: ١٢؛ مزمور ١٠٤: ١٥). ومن هنا فإن التأديب تحت هذا الختم يقع بشكل خاص على الطبقات العاملة. الأغنياء، والمترفون، والطبقات الحاكمة يُستثنون بشكل ملحوظ. ولكنهم لن ينجوا. إذ تحت الختم السادس (الآيات ١٢- ١٧) ستُلقى الدينونة على الجميع سواسية بدون تحيز أو تمييز، من الملك ونزولاً إلى العبيد.

الاشتراكيّة:

أليس جزاءاً عادلاً أن جموع الناس في هذه الأراضي وغيرها يفتقدهم الله أولاً بالدينونة، ويجعلهم يُعانون من نفس الظروف التي يبدو أنهم منتصرين فيها الآن؟ من علامات الأزمنة التي تنذر بالشؤم انتشار الشيوعية، وإنجيل المساواة بين الأمم في أوربا. لقد تم الازدراء بالفروقات بين السادة والعبيد، الحكام والمحكومين؛ الثروة والمكانة الاجتماعية، مع الادعاءات المتعلقة بكل منها تعامل باحتقار؛ العمل ورأس المال يُعتبران قوتان متعاكستان. الطبقات الكادحة تقبض على السلطة بسرعة وهي بطيئة في اغتنام الفرص، بينما هي تطالب بحقوق وامتيازات أخرى. روح التمرد والعصيان على السلطة واسعة الانتشار. لقد غُرست البذرة، والحصاد قادم بلا شك. الجموع تُرى هنا وهي تعاني من شحة مقومات الحياة، بينما الأغنياء ببحبوتهم وترفهم يبقون بعيدين عن التأثر، رغم أنه قُدّر لهم أن يعانوا في فترة لاحقة.

الختم الرابع

الموت والهاوية:

٧، ٨- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الرَّابعَ، سَمعْتُ صَوْتَ الْحَيَوَان الرَّابع قَائلاً: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ وَإذَا فَرَسٌ أَخْضَرُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه اسْمُهُ الْمَوْتُ، وَالْهَاويَةُ تَتْبَعُهُ، وَأُعْطيَا سُلْطَاناً عَلَى رُبْع الأَرْض أَنْ يَقْتُلاَ بالسَّيْف وَالْجُوع وَالْمَوْت وَبوُحُوش الأَرْض". قوة أخرى تتجمع الآن. هذه الدينونات الأولية تزداد آخذة في الازدياد من حيث الشدة. الفرس الأخضر يدل على لون شديد الشحوب وهو النذير الجديد بالدينونة القادمة.

في الأختام الثلاثة السابقة، لا يُذكر اسم الفرسان. وأما هنا فاسم الفارس هو الموت. "الأختام الأربعة التي تصيب الناس الأحياء؛ وكذلك الموت، الذي يخضعون له، نجد تمثيلاً لها هنا على أكمل وجه. ولكن الهاوية تقتبل حتى الآن فقط أولئك الذين اقتلعهم الموت، فتكون كعربة الموت، التي ليس من فرس معين محدد لها" ٨. الهاوية لا تأتي لاحقاً بل تأتي مع الموت. هذان الاثنان هما الحارسان القيّمان على أجساد وأرواح الناس. في نهاية حكم الألف سنة يُطلقون سراح سجنائهم، ويتدمرون هم أنفسهم، وهذا ويتم تجسيدهم، ويُلقون إلى بحيرة النار (٢٠: ١٤). الهاوية تشير إلى ما يلي الموت مباشرة، والذي تنهيه القيامة بالتأكيد، إنها تلك الحالة بين الموت والقيامة. الموت والهاوية يُستخدمان هنا بعلاقتهما مع غير الأتقياء. الكلمة الأخيرة تعني ببساطة "غير المنظور"، ومن هنا فإن كلمة "جحيم" ليست هي المرادف تماماً للـ "الهاوية". في هذا الوصف الحيوي يظهر ملك الرعب نفسه. لون الحصان المشابه للون الجثث يتناسب مع اسم وشخص الفارس. الموت والهاوية رفيقان لا ينفصلان. وكلاهما معاً يتشاركان في الدينونة ويساهمان في الهلاك.

دينونات الله الأربعة المؤلمة:

يُذكرنا يوحنا هنا من جديد بالحقيقة الرائعة أن هذه الدينونات في تتابعها وطابعها ومدتها وشدتها لها مصدرها في عرش الله. نقرأ أن "سُلْطَاناً أُعْطيَ له"، وليس "لهما". "له" أو "لهما" هي موضع جدال ولكن الدليل الداخلي هو الذي يقرر أيهما أصح. الموت يصيب الأحياء. والهاوية تستولي على أرواح الأموات. فالموت بالتأكيد يسبق الهاوية. الموت يتعامل مع الأحياء، في حين أن الهاوية تتعامل مع الأموات.

تحت كل من الأختام السابقة نجد أداة للدينونة، ولكن هنا نجد أربع أدوات، الأربعة التي كان الرب يهدد بها أورشليم الآثمة في الماضي. "لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: كَمْ بِالْحَرِيِّ إِنْ أَرْسَلْتُ أَحْكَامِي الرَّدِيئَةَ عَلَى أُورُشَلِيمَ سَيْفاً وَجُوعاً وَوَحْشاً رَدِيئاً وَوَبَأً, لأَقْطَعَ مِنْهَا الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ" (حزقيال ١٤: ٢١). الفارق الوحيد بينها هو أنه في الدينونات الرؤيوية "الوحوش" تُسمى في النهاية؛ "الموت"، أيضاً، الثالث في القائمة، يجب أن يُفهم على أنه "الطاعون" كما يرد في حاشية بعض إصدارات الكتاب المقدس. السيف تحت الختم الثاني، والجوع تحت الثالث، تتواجد ثانية هنا تحت الختم الرابع مقترنة مع آخرين. السيف المسلول في يدي الفارس القاسي الذي لا يرحم لن يُسحب إلى أن يتم إنهاء مهمته المكلف بها من قِبل الله. والجوع أيضاً سيقوم بدوره المميت، موت مؤخر ومؤلم أكثر من الموت الذي ينجم عن السيف. الموت أو الطاعون سيستعمل مِنجلهُ بضربات قاتلة ويحصد حصاداً كاملاً. وأخيراً، "وُحُوش الأَرْض" سوف تُكمل التدمير.

تحت المساعي الزراعية السابقة للختم، والتي بدونها لا يمكن أن يوجد أناس متمدنون، يجب تركها. الجموع تحت الختم الثاني كانوا يستخدمون السيف بدلاً من شفرة المحراث. الأرض يجب أن تقبع غير محروثة، وفي غياب جوع المحاصيل الذي يأتي نتاجاً لذلك، والوحوش، وقد تركت مأواها المعتاد، ستضيف إلى البؤس العام بافتراسها للناس. هذه الدينونات المؤلمة الأربعة، السيف، والجوع، والطاعون، والوحوش، يجب أن تكون في حالة فعالة في نفس اليوم. إنها دينونات متزامنة مع بعضها. روحنتها، كما يفعل الكثيرون، أي لجعلها تتكلم لغة غريبة عن معناها الطبيعي والبسيط، هو تحريف للكتابات المقدسة وليس تفسيراً لها. الحمد لله أن المجال الذي تحل فيه هذه الدينونات يقتصر على "رُبْع الأَرْض". العالم الروماني آنذاك يتم الكلام عنه على أنه "ثالث" (١٢: ٤). مجال عالم الدينونة محدود. يا له من مستقبل مريع ينتظر سكان تلك الأراضي الذين لا يعرفون المسيح!

الختم الخامس

تقسيم الأختام:

٩- ١١- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَح نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا منْ أَجْل كَلمَة الله وَمنْ أَجْل الشَّهَادَة الَّتي كَانَتْ عنْدَهُمْ، وَصَرَخُوا بصَوْتٍ عَظيمٍ قَائلينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضي وَتَنْتَقمُ لدمَائنَا منَ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض؟» فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحدٍ ثيَاباً بيضاً، وَقيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَريحُوا زَمَاناً يَسيراً أَيْضاً حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإخْوَتُهُمْ أَيْضاً، الْعَتيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مثْلَهُمْ". الأختام الأربعة الأولى متمايزة بشكل واضح عن الثلاثة البقية الأخرى، كما في معظم التقسيمات السبعة. كل من الأختام الأربعة يميزه مخلوق حي ٩ وفرس، وكلاهما يختفيان في الأختام التي تليها. المخلوقات الحية مرتبطة مع الحكم التدبيري للعالم؛ إنها قوى غير منظورة وراء العوامل والأدوات البشرية. ولكن في الأختام التالية يتعتم المشهد، ويظهر جلياً أكثر تدخل الله العلني في شؤون الناس. وانقطاع مشابه في السلسلة السباعية من الأبواق ودينونات الجامات يحدث (من أجل السابق انظر ٨: ١٣، ومن أجل الأخير انظر ١٦: ١٠). الجامات الثلاث الأخيرة تعبر بشكل كامل عن غضب الله على العالم المسيحي الخاطئ الأثيم.

أول فريق في جماعة الشهداء:

٩- "رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَح نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا". كم تغير المشهد! المؤمنون الآن هم "ملح الأرض" (متى ٥: ١٣). وجودهم في الأرض يحفظ هذه الأراضي خلال هذه الفترة من الارتداد والفساد والدينونة التالية المستحقة. ولكنهم أيضاً "نور العالم" (الآية ١٤). شهادتهم على نعمة الله، وإن كانت ناقصة في امتلائها وطابعها، لا تزال أفضل وأسمى بركة في العالم. ولكن عندما ينفد صبر الله، ويُزال "الملح" و"النور"، فعندها سيخضع العالم للفساد والظلمة الأخلاقية، وينال الدينونة العادلة التي يستحقها (أشعياء ٦٠: ٢). صفحة البداية للدينونة هي أمامنا في الأختام الأربعة الأولى.

عندما يتهدم مسكن الروح القدس على الأرض، أي الكنيسة (١ كور ٣: ١٦)، إذ يجب أن يُقدمها المسيح لنفسه في المجد (أفسس ٥: ٢٧)، فإن الروح سيعمل من السماء على الأرض، ويُنشط الأرواح بقدرته الإلهية. أولئك الذين اهتدوا وخلصوا أولاً، دون الاتكال على أي وكالة بشرية معروفة، سيجلبون على أنفسهم العدائية القاسية والشديدة من سكان الأرض الذين لا يعترفون بالمسيح. بما أنهم معرضون للاضطهاد الوثني الباكر، فمن الممكن أن الجماعة الشاهدة المستقبلية من المؤمنين ستُعتبر سبب الكوارث التي تصيب الشعب، ومن هنا اندلاع العنيف للاضطهاد المرير والقاسي والشرير. ولكن يُذكر هنا السبب الحقيقي والواقعي لاستشهادهم، "قُتلُوا منْ أَجْل كَلمَة الله وَمنْ أَجْل الشَّهَادَة الَّتي كَانَتْ عنْدَهُمْ". كلمة الله عندما تُعلن بإخلاص وأمانة بحسب ما تتطلبه المطالب واضحة المعالم من ضمير الإنسان تحرك العداوة من طرف العالم، والخاضعون لكلمة الله الأكثر أمانة في الحياة والشهادة للعلنية يجب أن يختموا تلك الشهادة بدمهم. الرب في الوقت الحالي، وبقوة الروح القدس على الأرض، يكبح هواء البشر، ولكن يسمح بانسحاب حضور وقوة الروح القدس، وبعداوة العالم للمسيح ولأولئك الذين هم خاصته التي ستؤدي إلى اندلاع اضطهاد عنيف قوي ومرير يوصلهم إلى الشهادة. "الشَّهَادَة الَّتي كَانَتْ عنْدَهُمْ" ليست نعمة الله كما الحال الآن، بل بالنسبة إلى المطالب العادلة لله في تأسيس ملكوته على الأرض. الجواب على هذه الادعاءات هو سيف القوة في يدي السلطة المرتدة التي تقود الاضطهاد عندئذ. يُطلق العنان للدينونة على هؤلاء المتألمين القديسين. حقوق المسيح بالملكوت (متى ٢٤: ١٤)، التي تكون عندئذ موضوع الشهادة، ستهتز تحت وطأة وشهادة المذبوح بقسوة. الكلمة القربانية "يُذبح" تُستخدم بشكل يتناسب مع الطابع الخاص لهؤلاء الشهود الذين يُرجح أن يكونوا من اليهود. الجماعة الأخيرة تحت الوحش (١٣: ٧) يُقال بأنهم "يُقتلون" (الآية ١١)، وهي كلمة أعم من السابقة. مذبح المحرقة الذي كان في باحة خيمة الاجتماع والهيكل يُشار إليه هنا. المذبح النحاسي هذا الذي يرمز إلى تحمل الدينونة الإلهية يُشار إليه أيضاً في الأصحاحات ١١: ١؛ ١٤: ١٨؛ ١٦: ٧. المذبح الذهبي للبخور يتبدى مرتين للعيان في هذه المشاهد الرؤيوية (الأصحاحات ٨، القسم الأخير من الآية ٣؛ و٩: ١٣). "المذبح" في الآيات ٣ و٥ من الأصحاح ٨ يشير إلى المذبح النحاسي.

تحت المذبح، الذي عليه قُدِّموا كذبائح على يد المضطهد القاسي العديم الرحمة، تصرخ أرواحهم بصوت عالٍ للانتقام من أعدائهم. الصورة المجازية موضوعة في قالب يهودي، ولكن مع ذلك ليس من السهولة فهمها. الصرخة ليس فيها شيء من النعمة الإلهية، بل إدانة عادلة. مناشدة البقية التقية اليهودية المستقبلية لإله الدينونة تتوافق تماماً مع الفكر الإلهي كما الحال في الكلمات المؤثرة التي قالها الرب على الصليب: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لوقا ٢٣: ٣٤)، أو صلاة شهيد المسيحية الأول: "يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ" (أعمال ٧: ٦٠). تغير الدهر التدبيري يُغير طابع تعامل الله مع العالم. الناموس كان المبدأ الذي تعامل به الله في أزمنة العهد القديم. النعمة هي الأساس في تعاملات الله الحالية وطرقه. الدينونة، في التعامل مع الشر وفاعلي الشر، يميز الأزمة القصيرة المستقبلية قبل أن يبزغ نور المجد على الأرض. لذا صوت المذبوح تحت المذبح ينسجم تماماً مع ما يرد في المزمور ٩٤: "يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ يَا رَبُّ يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ أَشْرِقِ. ارْتَفِعْ يَا دَيَّانَ الأَرْضِ. جَازِ صَنِيعَ الْمُسْتَكْبِرِينَ. حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَا رَبُّ حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟" (الآيات ١- ٣). دينونة الخطيئة على الصليب هو الأساس الذي يعتمد عليه بشكل مضمون مجدنا في السماء. دينونة الخطيئة التي ستحل على الأشرار في الأرض لابد منها لمحو الشر منه ولتؤهله ليكون مكاناً يليق بسكن شعب الله الأرضي.

أرواحهم تُرى في رؤيا "تَحْتَ الْمَذْبَح". على المذبح نرى المحرقة التي تُقدّم، ولكن تحت المذبح، حيث ذبيحة الخطيئة يُسكب (لاويين ٤: ٧)، فهذا يرمز إلى اكتمال الذبيحة. شهادة القديسين لم تكن تجري. كان العالم قد انتهى. ليس هناك من تفاصيل. قسوة المضطهد وتنهد الشاهد الأمين المخلص للمسيح وحقوقه الملوكية ليست مدونة. الشهداء لا يُرون هنا في الحياة، ولا كقائمين، بل في حالة منفصلة؛ "نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا".

بصوت عالٍ يصرخون: "حَتَّى مَتَى؟" الصرخة المعروفة لليهود المتألمين في الساعة الآتية من الآلام التي لا نظير لها. الألم والإيمان نراهما في الصرخة التي نجدها في (مز ٧٤: ٩، ١٠؛ ٧٩: ٥؛ ٨٩: ٤٦؛ ٩٤: ٣، ٤). المناشدة هي لله لأنه "السَّيّد الْعظيم الجلال". وهذا لقب يدل ضمناً على سيادة مطلقة، ولا يوجد في الرؤيا إلا هنا. وتُضاف ألقاب "الْقُدُّوسُ" وَ"الْحَقُّ". الصرخة تتوجه إلى ذاك الذي له حق وقدرة على الانتقام للدم الذي سُفك بوحشية وغدارة؛ من هو قدوس بطبيعته وأمين لكلمته وبعده. الظروف المتوقعة تحت هذا الختم تشابه تلك التي نراها في المزمور ٧٩، وحده صاحب المزامير يشهد إلى لحظة لاحقة وإلى منطقة أكثر تحديداً. يُنفذ الانتقام على "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". جماعة أخلاقية يُشار إليها هنا، إذ في ١١: ٩ يُشار إلى سكان الأرض تحت اللائحة المعروفة، "الأُمَم وَالْقَبَائل وَالشُّعُوب وَالأَلْسنَة"؛ ثم في الآية التالية طبقة أخلاقية، أسوأ من فيهم يتم الكلام عنهم على أنهم "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". مغزى هذا التعبير نجده في فيلبي ٣: ١٩. الصرخة المطالبة بالانتقام تُسمع، ولكن الجواب مؤجل. في هذه الأثناء يعطي الرب علامة على موافقة خاصة. كل واحد من جماعة الشهداء أُريق دمه لأجل الكرامة والتبرئة. "فأُعْطُوا كُلُّ وَاحدٍ ثيَاباً بيضاً" ١٠.

لو كانت هذه الآية لوحدها لكانت ستجعل أمراً متعذراً الدفاع عن مدرسة التفسير التاريخية. المسيحيون مرتبطون بالآب، وليس بالسَّيّد الْعظيم الجلال؛ فهم يُصلون لأجل أولئك الذين يعاملونهم بازدراء؛ إنهم لا يُنفذون انتقامهم منهم. فبالنسبة للمسيحي يستحيل تنفيذ الانتقام. وأما بالنسبة لليهودي المستشهد فإن هذا النداء الشرعي للانتقام متوافق تماماً مع الناموس الذي عاش تحت ظله، وكتاباته المقدسة، والرب بإعطائه كل واحد رداءً أبيض إنما يدل على موافقته على ما يتلفظون به.

كم هو صالح وكريم ربنا ليُعبر هكذا عن موافقته الجاهزة للموقف البار الذي لقديسيه الشهداء. ولكن سيف الرب لم تُسحب بعد. إثم الإنسان كان ينتظر تطوراً أكمل للشر قبل أن يحل غضب الرب العادل والمقدس بضراوة على الشرار الآثمين. وقت الانتقام كان سيأتي بعد "زَمَان يَسير". وهنا جماعة أخرى يُطلق عليهم اسم "الْعَبيدُ رُفَقَاؤُهُمْ" و"إخْوَتُهُمْ" كانوا سيرتفعون إلى مراتب جيش الشهداء النبيل. جماعتان منفصلتان من القديسين الشهداء يُشار إليهما بشكل واصح في هذه الآيات، الجماعة الأولى الأبكر تُذبح تحت الختم الخامس ١١؛ والأخيرة تُختم في فترة لاحقة، بعد "زَمَان يَسير". ليس هنا جواب كامل على الصرخة "تَحْتَ الْمَذْبَح" إلى أن يحدث هذا الأمر الطارئ الثاني على جماعة الشهداء.

يجب أن نضع في ذهننا بشكل واضح أن الإشارة هنا ليست إلى شهداء العهد القديم منذ هابيل، وليست إلى شهداء المسيحية منذ ستيفانوس. الجماعتان هم أولئك الذين يختمون شهادتهم بدمهم بعد انتقال قديسي الماضي والحاضر إلى السماء. الأزمة الموجزة الآتية ستشهد في مراحلها الأولى واللاحقة انفجارات عنيفة من الاضطهاد القاسي ضد أولئك الذين كانوا يشهدون لله آنذاك.

الختم السادس

الدمار الكامل لكل السلطة الحكومية والمدنية:

١٢- ١٧- "وَنَظَرْتُ لَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ السَّادسَ، وَإذَا زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ حَدَثَتْ، وَالشَّمْسُ صَارَتْ سَوْدَاءَ كَمسْحٍ منْ شَعْرٍ، وَالْقَمَرُ صَارَ كَالدَّم، وَنُجُومُ السَّمَاء سَقَطَتْ إلَى الأَرْض كَمَا تَطْرَحُ شَجَرَةُ التّين سُقَاطَهَا إذَا هَزَّتْهَا ريحٌ عَظيمَةٌ. وَالسَّمَاءُ انْفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلْتَفٍّ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَجَزيرَةٍ تَزَحْزَحَا منْ مَوْضعهمَا. وَمُلُوكُ الأَرْض وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْويَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ في الْمَغَاير وَفي صُخُور الْجبَال، وَهُمْ يَقُولُونَ للْجبَال وَالصُّخُور: «اُسْقُطي عَلَيْنَا وَأَخْفينَا عَنْ وَجْه الْجَالس عَلَى الْعَرْش وَعَنْ غَضَب الخَرُوف، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبه الْعَظيمُ. وَمَنْ يَسْتَطيعُ الْوُقُوفَ؟»". تحت الختم السابق شهدنا صراعاً عنيفاً شرساً بين النور والظلام. الصراع بين الخير والشر لا يعرف توقفاً أو انقطاعاً. ولكن الله سوف ينتصر في النهاية. الجواب الكامل على صرخة المناشدة للقديسين الشهداء يجب أن تنتظر اكتمال جماعة الشهداء. اندلاع ثانٍ من الغضب على شهود الله، يُوجهه ويديره الوحش وتابعه، ضد المسيح، يُشار إليه هنا. ثم ستأتي ساعة الضيقة المريعة الفظيعة. ثم سيتعامل الله الغاضب بدينونة مع مُضطهدي شعبه الأشرار. "إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقاً" (٢ تسالونيكي ١: ٦). ولكن تحت هذا الختم سيبدأ الله بالتعامل مع العالم بإدانة، معطياً بذلك طابعاً جدياً للجواب الكامل الذي سيُعطيه استجابة للصرخة التي تحت المذبح.

المشهد الموصوف هنا مهيب ومريع وفظيع. الرموز المستخدمة تشير إلى قوة الطبيعة. كل نسيج السلطة المدنية والحكومية على الأرض يتكسر. الفوضى تسود وتكون شديدة. غنه ليس مجرد انهيار لهذه الحكومة أو تلك، بل دمار كامل لكل السلطات الحاكمة، سواء كانت سيادية مستقلة أم خاضعة لغيرها. الفكرة العامة التي تُقدمها هذه الاستعارات المجازية هي نزف عام عالمي لكل السلطات الموجودة؛ أزمة جذرية من ذلك النوع الكبير الخطير الذي سيجعل الملوك والعبيد في حالة رعب شديد. التحطم الآتي سيكون مشتملاً في كارثة عامة تصيب كل شيء على الأرض التي كانت تُعتبر آمنة وقوية. فوضى مدنية واجتماعية وسياسية واسعة ستُخلق يا له من مشهد فظيع نتأمل به! عالم بدون حاكم! وحتى بدون شكل أو مظهر خارجي من السلطة العادلة! بدون حكومة! بدون سلطة للكبح أو للإخضاع!

١٢- "زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ" تُشير إلى تمزق عنيف في حالة الأشياء المنتظمة، تدمير كامل لكل السلطة الموجودة. تحت الختم السابع، وتمهيداً إلى إنزال الضربات التي ستكون تأديبات أشد قساوة (٨: ٥)، يُذكر حدوث زلزال، إضافة إلى العلائم الأخرى، وهذا في إشارة علنية إلى الغضب الآتي. ولكن الزلزال هنا يُوصف بأنه "عظيم"، كما يتم التأكيد على أن آثاره على البشر ستكون شديدة. تحت الجام السابع (١٦: ١٨) سيكون هناك ثورة اجتماعية وسياسية أخرى تتجاوز في تأثيرها هنا مع ما لدينا في النص هنا، كارثة ذات طابع مرعب مروَّع لم يعرف التاريخ مثلها. يجب أن نضع في أذهاننا أن الأختام تكشف عن سلسلة من الآلام المتتالية والتمهيدية. إن "الزَلْزَلَة العَظيمَة" لا تعلن عن يوم الرب. هناك مجموعتان من العلامات يذكرهما الرب في خطبته النبوية العظيمة (متى ٢٤: ٢٥). المجموعة الأولى تنطبق على الفترة قبل الضيقة العظيمة (٢٤: ٦- ١٤)، والمجموعة الثانية ستجد تطبيقها بعد الضيقة، وكلها تعلن عودة الرب الفورية بقوة (الآية ٢٩). والآن، إن الحوادث تحت الأختام سابقة للضيقة، وهي تندمج فعلاً مع الحالة السابقة من الأشياء الموصوفة في متى ٢٤: ٦- ١٤. لذلك فإن "الزَلْزَلَة العَظيمَة" التي يتكلم عنها نصنا لا تعلن الدينونة النهائية، وليست هي البشير المباشر لعودة الرب، مهما قال الناس بدافع مخاوفهم ورعبهم (رؤيا ٦: ١٧). هذه الحقيقة نفسه في أن زلزلة مريعة أخرى ستلي تلك التي في نصنا ستُسوي المسألة (١٦: ١٨). حالة الأشياء الموصوفة تحت الختم السادس ستليها مخاوف وفظائع أشد رعباً.

١٢- "وَالشَّمْسُ صَارَتْ سَوْدَاءَ كَمسْحٍ منْ شَعْرٍ" ١٢. الشمس ترمز إلى السلطة الحاكمة السامية العظيمة الشأن (تكوين ٣٧: ٩؛ رؤيا ١٢: ١). "سَوْدَاءَ كَمسْحٍ منْ شَعْرٍ" تشير إلى قوة الشيطان المعتمة، وتدل على السلطة العليا في الأرض (التي كان الجميع عليها متكلون) في حالة من الانهيار الكامل (أشعياء ٥٠: ٣؛ حزقيال ٧: ١٨). تعتيم الأجرام السماوية هو كارثة مريعة في العالم المادي، ومن هنا الملاءمة في لصورة المجازية المستخدمة هنا. "الْقَمَرُ صَارَ كَالدَّم". كل سلطة تنحدر مباشرة من القوة الأسمى وتتكل عليها وهذه نجدها هنا مصورة مجازياً بـ "الْقَمَرُ" ١٣. القمر في العالم المادي هو كوكب ثانوي تابع، ويرمز إلى السلطة الثانوية في العالم المعنوي. إنه شخص إسرائيل متكلاً على المسيح الذي هو شمس البر (مز ٨١: ٣). "صَارَ كَالدَّم". الموت الأخلاقي والارتداد في كل سلطة تابعة هو المشار إليه هنا. "الدم" هو رمز عام يدل على الموت (رؤيا ١١: ٦؛ ١٩: ٢، ١٣).

١٣- "نُجُومُ السَّمَاء سَقَطَتْ إلَى الأَرْض كَمَا تَطْرَحُ شَجَرَةُ التّين سُقَاطَهَا إذَا هَزَّتْهَا ريحٌ عَظيمَةٌ". كل السلطات الأقل شأناً، والحكام الأفراد، مدنيين أو كنسيين، يسقطون أخلاقياً من مركزهم الرفيع المقام. الله وعلاقتهم به تم التخلي عنهم. التين الفج أو الذي في غير أوانه هم أولئك الذين يختفون تحت الأوراق ولا ينضجون أبداً، وتطرحهم أرضاً في الشتاء الريح العاتية. عندما تهب رياح غضب الله مندفعة بقوة عبر العالم، فعندها أولئك الذين لم يكونوا خاصته، ومهما سمت مكانتهم، سيرتدون علانية ويتخلون عن كل علاقتهم الخارجية به (أشعياء ٣٤: ٤).

١٤- "السَّمَاءُ انْفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلْتَفٍّ". الأنظمة السياسية والمدنية والكنسية، والمؤسسات، والروابط، وإطار عمل المجتمع، سيختفي كلياً كدرج أو سفر ينفلق ولا يعود بالإمكان قراءته. زوال السماء مادياً (رؤيا ٢١: ١) والسموات (٢ بطرس ٣: ١٠)، وبالطبع، ليس مكان سكنى الله، والقديسين والملائكة، هو من أضخم الأحداث التي تدونها كلمة الله. ولكن التوقف الكلي لكل النظام المتحكم، والسماء المعنوية، هي أحد الأحداث القادمة وأشدها فظاعة التي يمكن التفكير فيها، لقد رأينا دمار السلطات الأعظم والأصغر، ولكن هنا النظام برمته الذي كانت فيه ينهار.

١٤- "كُلُّ جَبَلٍ وَجَزيرَةٍ تَزَحْزَحَا منْ مَوْضعهمَا". نظام من السلطة المستقرة يُمثله لنا الجبل (دانيال ٢: ٣٥؛ إرميا ٥١: ٢٥)، ما يشير إلى حكومة قوية مستقرة تسود لفترة طويلة. كان اليهود يعتبرون الجزر كمصادر للثروة ومراكز للتجارة (أشعياء ٢٣: ٢؛ حزقيال ٢٧: ٣- ١٥). وهنا نجد الإشارة إلى زوال كل شيء، مهما كان عظيماً أو طويل الأمد، وهما كان مصدراً للثروة والتجارة.

رعب كوني:

تأثير هذه الثورة القوية والعالمية في الحياة المدنية والسياسية سيتجلى في مشهد من الرعب الفظيع. بالتوافق مع الميزات الواضحة للرؤيا، والتي يُستخدم فيها العدد ٧ كثيراً، هناك سبع طبقات معلنة من الناس، وكما العادة، هذه تُقسم ثانية إلى مجموعتين واحدة مؤلفة من ثلاثة والثانية من أربعة. الأولى تتألف من أولئك الذين يحكمون: "ملوك"، الأسمى مكانة ومقاماً؛ و"العظماء"، أو الرؤساء، و"القادة الأقوياء ١٤". المجموعة الثانية تشتمل على طبقة من غير الموظفين يُشار إليهم في ثنائيات: "الأَغْنيَاءُ" و"الأَقْويَاءُ" وَ"كُلُّ عَبْدٍ" وَ"كُلُّ حُرٍّ" ١٥.

١٥- الجميع، ذوي المراكز العالية والدُنيا، الأغنياء والفقراء، "أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ في الْمَغَاير وَفي صُخُور الْجبَال". يا لها من صورة رمزية تشير إلى الرعب! مخافة الرب ومجد جلاله في قوة حاكمة سيادية، كما تُشاهد في التمزق العالمي للمجتمع، سوف يصيب الناس بخوف شديد حتى أن المغاور وصخور الجبال ١٦ سيتراكضوا الناس إليها ليختبئوا من غضبه وليحجبوا أنفسهم عن وجهه. إنها ساعة خوف قاتل. وفي رعبهم سيلتجئون، ليس إلى الله، بل إلى الجبال والصخور متمنين أن تقع فوقهم لكيما تحبسهم "عَنْ وَجْه الْجَالس عَلَى الْعَرْش وَعَنْ غَضَب الخَرُوف". ومخاوفهم الناجمة عن آثامهم تُضيف: "لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبه الْعَظيمُ. وَمَنْ يَسْتَطيعُ الْوُقُوفَ؟" ولكن ليس الأمر كذلك. دينونات أشد وطأة تلوح في الأفق، وسحب أشد عتمة تتجمع قبل الساعة الأخيرة للألم المضني المكثف الذي سيُعرف بأنه "غَضَب الخَرُوف". تحت الختم السادس تُسبب أول قطرات من العاصفة القادمة لغضب الله رعباً وخوفاً عالميين. عندما ستندلع العاصفة فعلياً لدى الرجوع الشخصي للرب، فعندها، وبدلاً من غضبه المخيف، سيتميز المشهد بازدراء وقح للحمل (رؤيا ١٩: ١٧- ١٩). هذا المشهد الذي سيغرقه الملك المحارب بالدم.

علينا أن نكون منتبهين للغاية لأن لا نسمح للتفاصيل بأن تُضعف في نفوسنا التأثير العام لهذا الوصف المثير للأحداث القادمة، ومخاوف البشر التالية. فحتى القارئ العادي يجب أن يشعر بالرهبة لدى وقوع هذا المشهد الذي سيكون عظيماً ورفيع الشأن بما لا نظير له، والذي يتم الكشف عنه بعبارات كاملة وواضحة تفوق الاحتمال، ما عدا للجاهل المتعمد، الذي سيسيء فهمها.

إن الاعتبارات المتعلقة بالختم السابع ١٧ يجب أن نضعها في ذهننا إلى أن نبدأ بدراسة الأصحاح ٨.


١. انظر الفصل عن "النبوءة المشهورة للأسابيع السبعين".

٢. "الرؤى في السفر يمكن أن تكون لها تطبيقات تمهيدية، لأن المبادئ التي بُنيت عليها أبدية"- "تفسير العهد الجديد".

٣. البعض يرى في حذف الكلمات، خاصة في الآية ١، أمراً مشكوكاً به، ولكن المسألة يحلها بشكل مرضٍ كاتب تفسير الرؤيا، بيشوب إليكوت، "تفسير العهد الجديد": "الكلمات "وانظر" مشكوك بها. نجدها في بعض المخطوطات، ومحذوفة في أخرى؛ مؤيدي حذفها يتساوى عددهم مع مؤيدي الإبقاء عليها. في ظل هذه الظروف لعله من الأفضل لنا أن نسترشد في سياق النص. لمن تُوجه الدعوات بالحضور؟ من هم الذين يُمنعنون من المجيء؟ إن كانت الدعوات موجهة إلى الرائي فيمكن فهم إضافة ناسخ ما للكلمات "وانظر". ولكن هل هي موجهة إلى الرائي؟ يبدو من الصعب إيجاد سبب أو مبرر لهكذا مطلب. لقد كان قريباً جداً من هناك. لقد رأى الحمل يفتح الختم. وليس من هناك ما يستدعي اقترابه أكثر. فهل الكلمات إذاً موجهة للمسيح، كما يفترض ألفورد؟ من الصعب أن نعتقد أن الكائن الحي سيتكلم هكذا مع الحمل الذي كان يفتح الدرج. أبسط طريقة للإجابة على هذا السؤال هو طرح سؤال آخر: من الذي جاء طائعاً الصوت؟ ليس هناك سوى جواب واحد: الفارس. الكائن الحي يصرخ أن "تعال"، وصرخته تجد استجابة عليها من خلال ظهور الفرسان العديدون".

٤. عندما يتعلق الأمر بالقتال الفعال بالقوس والسهام، فعندها تّذكر الأخيرة بشكل محدد (عدد ٢٤: ٨؛ مز ٤٥: ٥؛ زكريا ٩: ١٤، الخ). ولكن لا شيء يُذكر هنا حول القوس إن كانت قد شُدت أو صارت جاهزة للعمل (مراثي إرميا ٢: ٤)، بل ببساطة يُذكر أن الراكب على الفرس الأبيض يملكها. الفكرة الرئيسية هي الانتصار غير الدامي أو الذي ليس فيه سفك دماء.

٥. في الأحصنة الأربعة تحت الأختام الأربعة الأولى هناك تلميح واضح إلى الأبطال الوارد ذكرهم في زكريا ١ و٦. في هذه الرؤيا الأخيرة الأحصنة الملونة الحمراء والكستنائية والبيضاء تُمثل طابع وطاقة القوى الإمبراطورية الثلاثة لفارس واليونان وروما. الفارس الذي يركب على الفرس الأحمر يُمثل كورش، الملك الفارسي المشهور، الذي دمر بابل وأعتق اليهود، كممثل سابق رمزياً عن المسيح، مخلّص إسرائيل في ما بعد، وديّان بابل الأسرارية. في الرؤيا الأخيرة (زكريا ٦) شخصية والمسار الجغرافي للإمبراطوريات الأمميين الأربعة يتم تصغيرها وعرضها، هذه الإمبراطوريات نفذت بدون أن تدرك أو تعرف إرادة الله السيادية. الفرسان السوداء (الفرس) ينطلقون نحو بلاد الشمال (بابل) ويدمرونها في حين أن الأحصنة البيضاء(الإغريق) تُدمرهم تدورهم؛ الخيول الحمراء (الرومان) يتمركزون في الجنوب (الآية ٦). الله يمنح روما سيطرة عالمية (الآية ٧)، ويرتاح بدمار بابل (الآية ٨). إن بابلان، الحرفية (إرميا ٥١) والأسرارية (رؤيا ١٨)، قُدّر لهما الدمار الكامل. فكلتاهما سبيا شعب الله.

٦. "فقدان الحياة يُرمز له مجازياً بالألوان العديدة: الأحمر والقرمزي"- "علم الرموز المقدسة"، بقلم Mills ، ص.١٦٠.

٧. توزيع الخبز بتقتير وبحسب الوزن هو علامة على ندرة هذه المادة (لاويين ٢٦: ٢٦؛ حزقيال ٤: ١٠- ١٧). ولكن تحت الختم، نجد تمايزاً في الوزن والمقياس، ولكن بصفة محدودة إذ أن عدداً كبيراً من الناس كان قد تأثر بالبؤس من جرّاء نقص الطعام فعلياً.

٨. Bengel as quoted by Hengstenberg .

٩. ما من شك أن هناك انسجام معنوي بين ميزات المخلوقات الحية (٤: ٧، ٨) والأختام الخاصة بكل منها التي ترتبط معها كل بمفرده. المخلوق الحي الأول والختم الأول، الأسد والغالب الإمبراطوري، يمكن رؤية الانسجام فيها بسهولة. وكذلك الأمر بين المخلوق الحي الرابع ونسر الختم الرابع (انظر متى ٢٤: ٢٨. الدينونة) ومسير الموت، نجد بينها تشابهاً مذهلاً.

١٠. الترجمة الأصح هي "ثوباً أبيض" وليس "ثياباً بيضاً".

١١. انظر متى ٢٤: ٩، التي تتزامن مع زمان وأحداث ما يُشار إليه هنا.

١٢. َمسْحٍ منْ شَعْرٍ: كانت تُصنع أصلاً من شعر الجمال أو الإبل (متى ٣: ٤)، وكانت عباءة النبي المألوفة (زكريا ١٣: ٤). ولكنها كانت رداء الندب والنحيب (رؤيا ١١: ٣؛ ٢ صم ٣: ٣١، الخ). وبهذا المعنى الأخير يجب أن نرى المشهد هنا.

١٣. ترد "القمر" هنا، ولكنها تأتي "القمر الكامل" أو "البدر" في ترجمات أخرى وكذلك في المخطوطات السينائية والإسكندرية والفاتيكانية.

١٤. في مرقس ٦: ٢١ نقرأ عن هيرودس يصنع مأدبة لنبلائه وقادته العسكريين ورؤساء الجليل، وهؤلاء الآنف ذكرهم ليسوا بالضرورة موظفين، فعلى الأرجح أنهم أشخاص ذوي مكانة عالية ولديهم حالة اجتماعية خاصة.

١٥. في الأصحاحات ١٣: ١٦؛ ١٩: ١٨ نجد الترتيب معكوس: الأحرار والعبيد.

١٦. هذه الإشارة الثانية والإضافية إلى الجبال سترينا بحد ذاتها أن السماء المادية، والقمر، والنجوم، والجبال، الخ. ليست هي ما يتم الحديث عنه فعلياً، بل يجب أن تُفهم بشكل رمزي. كيف أمتن لكل جبل أن يُزال (الآية ١٤) ومع ذلك يبقى الناس يلتجئون إليه للاختباء (الآية ١٥)، ستكون هناك تغيرات مادية في السموات والأرض عند البدء (زكريا ١٤) وستختم الحكم الألفي (٢ بطرس ٣)، ولكن زمن حدوث هذا الختم سيدل على المغزى المعنوي والرمزي.

١٧. لقد فكرنا بتقديم خلاصة مكثفة عن التطبيق التاريخي للأختام، ولكن بعد إمعان الفكر قررنا أن لانفعل ذلك. إنه و لما يذهلنا أن نرى التضاد في الفكر عند التاريخيين. بالكاد نرى اثنين منهم يتفقان في تفسيرهما للأمور، بينما التواريخ المحددة لديهم الخاصة بهذا الحدث أو ذاك نجدها في تشوش ميئوس منه. لا عجب إذاً في أن جماعة المسيحيين يعتبرون أن دراسة الرؤيا فيها كم كبير من الريبة يصعب التخلص منها. من الواضح أن مبدأ التفسير خاطئ. إن كانت الرؤيا ستفسر على ضوء الحقائق الواردة في التدوين التاريخي، فإن هذا سيمنع عدد كبير من شعب الله من دراسة السفر، كيف يستطيعون دراسة التاريخ؟ إضافة إلى ذلك، إن كان هؤلاء الذين فعلوا ذلك ويسعون لتفسير السفر على هذا المبدأ يختلفون بشكل كبير حتى تنعدم احتمالات التوافق بينهم، فكم يكون الأمر صعباً ومستحيلاً بالنسبة للآخرين. حسن أننا نعتبر أن مبدأ تفسير هذا السفر استناداً إلى المدرسة التاريخية خاطئ كليةً. روح الله وحدها هي التي تعطينا القوة لفهم النبوءة، وليس حقائق التاريخ. إن الرؤيا ابتداءً من الأصحاح ٤ تشير إلى المستقبل.