الأصحاح ٤

عرش الأبدي

الحالة بمجملها وقد تغيّرت:

١- "بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ في السَّمَاء، وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذي سَمعْتُهُ كَبُوقٍ يَتَكَلَّمُ مَعي قَائلاً: «اصْعَدْ إلَى هُنَا فَأُريَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصيرَ بَعْدَ هَذَا»". لدينا هنا تغير كامل في الحالة. الرائي يُختطف من الأرض إلى السماء. الأصحاحين ٢ و٣ يتناولان الثروات في الكنيسة على الأرض. الأصحاحان ٤ و٥ يصفان مشاهد وأحداث في السماء بجلال لا نظير له. تاريخ الكنيسة قد كُتب، والغالبون رُفعوا للقاء الرب في الهواء، والجمع الأثيم من المسيحيين المعترفين فقط قد "تقيأهم". ومن هنا فإن انتقال الكنيسة يترك مجالاً للخاضعين للنبوءة لكي يحتلوا المكان المخصص لهم.

١- "بَعْدَ هَذَا"، تدل على بداية جديدة. الدول الكنسية المتنوعة على الأرض تكون قد آلت إلى زوال. المشاهد والرؤى النبوية تلفت انتباه الرائي الآن. الكلمات "بَعْدَ هَذَا" تُعبر صراحة ليس فقط على تسلسل الرؤى، بل على الأحداث أيضاً التي تليها بالترتيب الطبيعي.

١- "بَابٌ مَفْتُوحٌ في السَّمَاء"، يدل على أن السماء لابد من الدخول إليها إن كنا نريد أن نفهم النبوءة. إنها هناك حيث توجد منابع الخير الأبدي، حيث العالم الآتي في الألفية والبركة الأبدية مرتب ومخطط له كما ينبغي وأيضاً حيث منبع الدينونات الإعدادية التمهيدية. "بَابٌ مَفْتُوحٌ في السَّمَاء"، كان يُمكن الرائي من المرور عبره. "السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً" للقديسين ليمروا خارجين (رؤيا ١٦: ١١).

١- "الصَّوْتُ الأَوَّلُ" لا يشير إلى أول شيء في سلسلة متعاقبة، بل هو إشارة واضحة إلى صوت الرب الذي سُمع للكون (١: ١٠). هناك سُمع الصوت على الأرض؛ وهنا يتكلم من السماء. صوت البوق يستدعي يوحنا من الأرض إلى السماء. المشاهد في السماء يجب أن تُكشف للعيان، وهناك فقط يُمكن أن تُرى. النبوءة مصدرها هو في السماء، ومن هنا فإن الرائي يجب أن يجعل السماء نقطة استشراف له إن كانت الرؤى النبوية على وشك أن تمر أمام نظرته المستغرقة الطربة لكي تُفهم إلهياً. في السماء يُرسم المخطط النبوي، وهناك أعلى بكثير من سديم وغيوم الأرض، ومجادلات وغيرة وكبرياء الإنسان، وهناك فقط يُمكننا أن نتبين فكر الله فيما يتعلق بالمستقبل. الدرس الأخلاقي الذي يأخذه كل خادم لله أمر لابد منه.

الجدارة الأخلاقية للرائي؛ العرش والمتربِّع عليه:

٢،٣-«"وَللْوَقْت صرْتُ في الرُّوح، وَإذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ في السَّمَاء، وَعَلَى الْعَرْش جَالسٌ. وَكَانَ الْجَالسُ في الْمَنْظَر شبْهَ حَجَر الْيَشْب وَالْعَقيق، وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْش في الْمَنْظَر شبْهُ الزُّمُرُّد".» النداء الإلهي "اصْعَدْ إلَى هُنَا" لا يحتمل أي تأجيل. "للْوَقْت صرْتُ في الرُّوح". رؤيا المسيح كابن الإنسان في مجد فائق وسط المصابيح الذهبية كانت أيضاً منظراً يروق جداً للعين البشرية. الرائي في الوقت الراهن كان تحت تحكم الروح القدس الكامل؛ كان يعيش ويتحرك في شكل آخر من الوجود. "كُنْتُ فِي الرُّوحِ" (١: ١٠). ولكن هذا لا يمكن إطالته في طبيعة الأشياء. لقد انقضت الحالة. والآن رؤى جديدة، والمستقبل، على وشك أن تُرى وتكتب، وهذا في توافق كامل مع الطابع الجليل لها. والرائي من جديد آنية قوة الروح القدس. "صرْتُ في الرُّوح". إن غياب أداة ال التعريف من الأصل قبل كلمة "الروح" يجعل الحالة مميزة. رؤيا الأشياء في السماء شهد لها أنبياء معينون على الأرض، ولكن هذا النبي المميز في العهد الجديد هو وحده رأى تلك الرؤى في السماء نفسها. ليوحنا وحده وُجهت هذه الكلمات: "اصْعَدْ إلَى هُنَا". إن الجدارة والأهلية الأخلاقية للرائي لكي يرى ويُعاين الحالة النبوية المستقبلية لم تكن في داخله، بل بقوة خارج نطاق الطبيعة. الروح مرة أخرى يُمسك بإحكام بالآنية البشرية، ويتملكها بشكل كامل. كان يوحنا يعيش في ذلك الوقت في هيئة جديدة ونطاق من الوجود ليس فيها مكان للضعف أو الهشاشة البشريين. لقد كان الروح يملأه ويسيطر عليه.

٢- "وَإذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ في السَّمَاء". كان هذا أول ما رآه الرائي في هذه الرؤيا الجديدة. العرش هو الموضوع المركزي في المشهد السماوي. إنه العلامة والرمز الدالان على حكم الله الكوني. إنه "مَوْضُوعٌ في السَّمَاء". رسوخ تلك الحكومة تدلنا عليه الكلمة "موضوع" أو مؤسس؛ و"السماء" تُشير بشكل واضح إلى عرش السلطان الملكي بالتحديد. يا له من تضاد مع العروش الأرضية المترنحة المتداعية. هنا، في البدء، إعلان لأن الرب يملك. العرش هو ضماننا وقوتنا. إنه أيضاً الحقيقة المركزية العظيمة في الكون. إنه الضمانة على أن الحق بالأبدية سيتطلب الطاعة من كل مخلوق. إنه علامة على النظام والحكم والسلطة. العرش موضوع في السماء بعكس اللا استقرار أو الزعزعة في الحكومات الأرضية جميعها.

الجالس على العرش ليس له اسم، ولكنه يوصف بشكل عام برموز ذات مغزى. حجران كريمان يُذكران، الْيَشْب وَالْعَقيق، وبهاتين مجد وجلال الله ينعكسان. مجده الجوهري لا يمكن بالطبع أن يُصور أو يتم التعبير عنه حتى بالنسبة لأسمى المخلوقات. الله يسكن في النور بشكل لا يُدنى منه: "لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ" (١ تيموثاوس ٦: ١٦). ولكن ما يُعرض هو ما يمكن أن تراه المخلوقات. يُذكر الْيَشْب وَالْعَقيق في لائحة الحجارة الثمينة التي تُزيّن صدرة رئيس الكهنة في العهد القديم (خروج ٢٨: ١٧- ٢٠)، حيث يُذكر العقيق أولاً ثم الْيَشْب في النهاية؛ ويُذكران أيضاً بين تلك الأشياء التي تصف مجد الملك الرمزي لصور (حزقيال ٢٨: ١٣)، وفيها أيضاً يأتي ذكر العقيق أولاً والْيَشْب سادساً. ومرة أخرى نجد هذين الحجرين الثمينين يُذكران في وصف أورشليم المقدسة في سلطة الحكم والمجد التي ستتمتع بهما في العالم الألفي (رؤيا ٢١: ١٩، ٢٠)، العقيق أولاً والْيَشْب سادساً. أليس هناك مغزى في حقيقة أنه في هذه القوائم الثلاثة للحجارة الثمينة، والتي هي انعكاسات لله في النعمة، وفي الخليقة، وفي المجد- أن العدد الترتيبي يتغير؟ هل هذه صدفة فحسب أم دليل على تصميم معين وضعه الوحي؟ إنه الأخير بالتأكيد. لمعان الْيَشْب والتدرج اللوني في العقيق يعكسان مجد وروعة الله الفائقين بالدرجة التي يمكن عرضهما فيها. إن مجد الله أيضاً، كما يرمز إليه الْيَشْب، هو نور (رؤيا ٢١: ١١)، وضمان (الآية ١٨)، وأساس (الآية ١٩) الكنيسة أو العروس في الإعلان المستقبلي خلال الحكم الإلهي.

ثم يستأنف الرائي كلامه فيقول: "وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْش في الْمَنْظَر شبْهُ الزُّمُرُّد".

عرش الاتساع والجلالة يناسب رب الجنود. أن يكون مطوقاً بقوس قزح مشهدٌ يدل على أن الله، بممارسته للسلطة والسيادة المطلقة، وتمتعه بكل القوة والسلطان، سيتذكر مخلوقاته بسماحة ورحمة العهد. إنها علامة لكل من في السماء على أن الله يُسر بالخير والصلاح.

إن الحلقة المكتملة وغير المنقطعة التي تحيط بالعرش تعلن حقيقة أن "إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ". القوس القزح الذي يظهر في السحاب في العهد القديم، بألوانه البراقة وجمالياته المتنوعة، هو علامة على عهد الله مع الأرض (تك ٩: ٩- ١٧). نادراً ما يُرى كحلقة كاملة، ولكن يبدو عموماً كقوس، أو نصف دائرة، وهو درس للبشر من الله يُدرك بالحواس، علامة علنية معلقة في السماء لكي يراها الجميع ويتعلمون ويعلمون أن الله صالح، درس من الله وعن الله للبشر. في آخر ملاحظة للقوس القزح يُرى فوق رأس الرب عندما يؤكد بقوة مطالباته من الأرض. سيجرف العالم المدنس بمكنسة التدمير، ولكن حتى في ذلك الوقت تلك العلامة القديمة المميزة الدالة على الصلاح الإلهي تظهر من جديد (رؤيا ١٠: ١). بدلاً من اندماج الألوان الذي اعتدنا عليه في قوس القزح ذلك القوس السماوي فوق العرش هو "شبْهُ الزُّمُرُّد". الأخضر الجميل، اللون المميز لعالم الخضروات أو للعالم النباتي، والوحيد الذي لا يتعب العين، هو اللون المختار لقوس قزح الذي يراه الرائي. القديسون الممجدون سيرون قوس قزح في تماميته أمام عينهم المحدقة التي لا تتعب البتة. وفي هذا تذكار لنعمة الله للأرض حتى عندما يكون على وشك أن يتعامل مع الجنس البشري بدينونة.

السلطان الملوكي للمفتدين:

٤- "وَحَوْلَ الْعَرْش أَرْبَعَةٌ وَعشْرُونَ عَرْشاً. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوش أَرْبَعَةً وَعشْرينَ شَيْخاً جَالسينَ مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسهمْ أَكَاليلُ منْ ذَهَبٍ". العروش والأكاليل تشير إلى جماعة ملكية من القديسين المفتدين والممجدين في السماء، ومن الواضح أن ذلك ليس قبل بل بعد القيامة (١ كور ١٥: ٢٣). الأرواح جالسون ومتسربلون ومكللون هي فكرة متضاربة وغير مقبولة وغريبة كلياً عن الكتاب المقدس. متجمعين حول العرش الواسع في السماء هناك أربعة وعشرون عرشاً تستمد قبضتها واستقرارها من عرش الأبدية الذي لا مقياس له وتتآزر به. هنا نجد كلمة "عروش" وليس "كراسي". إن كلمة "عرش" مرتبطة بشخص ملوكي؛ أما كلمة" كرسي" فترتبط بشخص معين.

هؤلاء الشيوخ الأربعة والعشرون أو الرؤساء، يُمثلون الجسم العام للمفتدين آنذاك في السماء. إنهم يلعبون دوراً هاماً في المشاهد المدونة والرؤى المشاهدة من الأصحاح ٤ إلى الأصحاح ١٩، بينما في الآية ٤ نجد ذكراً لرؤيتها لآخر مرة ١. الشيوخ جماعة متمايزة عن الوحوش أو المخلوقات الحية، وعن الملائكة. في الأصحاح ٥ أعمال الشيوخ، المتمايزة عن الملائكة، تجعل أمراً مستحيلاً أن نعتبرهم واحداً أو نفس الشيء؛ الآية ١١تميز باللقب والاسم الجماعات الثلاثة. الشيوخ يغنون (الآية ٩)، والملائكة يقولون (الآية ١٢). الملائكة لا يُعدَّون أبداً (عبرانيين ١٢: ٢٢)، أما الشيوخ فيمكن عدهم. لست مرات يتكرر الرقم التمثيلي "٢٤". لا يُقال أن الملائكة يُتوجون، بل الشيوخ هكذا. تسبيح الجوقة في السماء، القيثارة والنشيد، يبدو عملاً مميزاً للشيوخ. الذكاء السماوي، وخاصة في المواضيع والأفكار المتعلقة بالفداء، تُنسب إلى الشيوخ وليس إلى الملائكة. وبالتالي ومن الشيوخ نفهم أنهم الجماعة التي لا عدد لها من القديسين المفتدين، المقامين والمتغيرين، والمختطفين إلى الأعلى لملاقاة المسيح في الهواء (١ تسا ٤: ١٧). تيجانهم وعروشهم تدل على كرامتهم الملكية؛ القيثارة والنشيد هي فرحتهم في العبادة، بينما ثيابهم وجاماتهم تشير إلى طابع وسلوك كهنوتيين. ولكن لماذا ٢٤؟ إن المغزى من الرقم يمكن فهمه إذا نظرنا إلى السفر الأول من أخبار الأيام ٢٤، ٢٥. لقد قسّم داود الكهنوت إلى ٢٤ درجة أو صف، وكل صف يخدم بدوره (لوقا ١، ٥، ٨، ٩). الشيوخ أو الرؤساء في كل صف من هذه الصفوف يمثلون كل اللاهوت اللاوي. ولذلك يجب أن يكون هناك ٢٤ من الكهنة الرئيسيين ورئيس كهنة واحد ٢. خدمتهم المتنوعة تتوافق مع تلك التي للشيوخ في السماء، لأن الهيكل (وليس بأقل من خيمة الاجتماع) في البناء، والأواني، والخدمات كان قد تشكل بناءً على ما في السموات. شعب الله يُنعَت بأنه "كَهَنُوتٌ مُقَدَّسٌ" (١ بطرس ٢: ٥) و"كَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ" (الآية ٩)، وفي كلا الطابعين نراهما هنا بالفعل.

الثياب البيضاء تشير إلى النقاء والطابع الكهنوتي لدى الشيوخ. "عَلَى رُؤُوسهمْ أَكَاليلُ منْ ذَهَبٍ"، تدل على مكانتهم الملكية. كل قديس مفتدى ومقام سيُكلَّل؛ وهذا ليس إكليلاً مميزاً يخص البعض، بل يشير إلى الكرامة الملكية والسلطة التي تخص جميع القديسين السماويين.

العرش مركز الفعل والاهتمام:

٥، ٦- "وَمنَ الْعَرْش يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ. وَأَمَامَ الْعَرْش سَبْعَةُ مَصَابيح نَارٍ مُتَّقدَةٌ، هيَ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله. وَقُدَّامَ الْعَرْش بَحْرُ زُجَاجٍ شبْهُ الْبَلُّور. وَفي وَسَط الْعَرْش وَحَوْلَ الْعَرْش أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً منْ قُدَّامٍ وَمنْ وَرَاءٍ". أما وأمامنا علاقة القديسين بالعرش وهم يحيطون به، وسلطتهم الملكية المنحدرة منه والمستندة إليه، لدينا تالياً فعل العرش نفسه. فـ "منه" وليس "عنه"، تكون نذائر الدينونة الآتية، "بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ". لقد قيل أن "السفر" بالكاد يشير إلى أي شيء ليس كتابياً. ويمكننا أن نضيف قائلين أن كاتب سفر الرؤيا يفترض أن القارئ على معرفة بشكل معقول بالأقسام السابقة من السفر المقدس، وفوق ذلك، أن كل رمز من الرموز التي يزخر بها السفر يمكن تفسيره وفهمه من استخدامه في جزء ما وآخر من الكتابات المقدسة. مهما يكن، لا تحاولوا الحصول على تفسير لأي جزء من الرؤيا خارج دفتي كتابكم المقدس. معنى كل رمز لابد أن تجدوه في الكلمة نفسها. الإعلان المثلث الجوانب للدينونة المباشرة والفورية قد وُضع بشكل ملائم ليثير الرعب في قلوب الآثمين على الأرض. العرش على وشك أن يفرض نفسه بقوة. والله يستعد لإصدار الإدانة والتعامل مع الإثم المتفشي في الأزمة الآتية الواقعة بين انتقال القديسين السماويين وعودتهم اللاحقة التالية من السماء. هذه العلائم من التعامل القضائي الإداني هي إعلانات تحذيرية من الرب يهوه عن قدرته في الدينونة (مزمور ٢٩: ٣- ٥). العلائم نفسها، مع بعض الإضافات تُذكر مرتبطة مع إعلان الناموس (خروج ١٩). وتأثير ذلك على الشعب يُذكر أيضاً: "ارْتَعَدَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي فِي الْمَحَلَّةِ" (الآية ١٦). كم كان واسعاً أكثر ومحذّراً أكثر نشر إعلانات الغضب تلك في عالم شرير يحكمه الشيطان.

٥- "أَمَامَ الْعَرْش سَبْعَةُ مَصَابيح نَارٍ مُتَّقدَةٌ" تشير إلى امتلاء الروح في فعل سيادي. الروح هنا لا يُرى كمخلّص للبشر من خلال الكرازة بالإنجيل، ولا في أي من خدماته المتنوعة في الكنيسة، بل يُشاهد هنا في حفظه الأخلاقي للعرش نفسه. كل شيء متضارب مع النقاء المطلق للعرش يجب أن يُدان؛ ومن هنا يُرى الروح هنا مرتبطاً مع طابع البر الذي للعرش. "تلك المصابيح السبع من النار (الكمال الروحي) ستسبر وتكشف كل ما يتناقض مع طبيعة الله المقدسة" (قارن مع ١: ٤؛ وأشعياء ١١: ٢).

٦- "وَقُدَّامَ الْعَرْش بَحْرُ زُجَاجٍ شبْهُ الْبَلُّور". علم الرموز في العهد القديم يدخل بشكل كبير في بنية الرؤيا. ويبدو أنه توجد إشارة واضحة هنا إلى مرحضة خيمة الاجتماع (خروج ٣٠: ١٨- ٢١)، وربما بشكل مباشر أكثر إلى الْبَحْر المَسْبُوك في الهيكل (الملوك الأول ٧: ٢٣- ٣٧)، وكلاهما يدلان على الطهارة الكهنوتية. ولكن بَحْر الزُجَاج يُشير إلى حالة ثابتة من القداسة، والنقاء الداخلي والخارجي، بينما "أَمَامَ الْعَرْش" تشير إلى أن النقاء هو في حفظ طابع القداسة للعرش نفسه. "شبْهُ الْبَلُّور" ٣، صفاء وجمال ذلك المشهد من القداسة المنتشر أمام العرش يرمز إليه بشكل جلي البلور. إن الرمزين، الزجاج والبلور، لهما نفس الصفات تقريباً، ولكنهما ليسا نفس الشيء تماماً. فالأول مادة صنعية، والأخير نتاج طبيعي. ومن هنا فإن "زجاج" البحر يشير إلى حالة مستقرة من النقاء. بينما "البلور" يشير إلى أن الحالة هي في توافق مع الله في طبيعته المقدسة. الفكرة الإلهية مرتبطة مع استخدام هذا الرمز الأخير (حزقيال ١: ٢٢؛ رؤيا ٢١: ١١؛ ٢٢: ١). بحر الزجاج يُشار إليه من جديد في الأصحاح ١٥، ولكنه "مُخْتَلِط بِنَار"، ما يُعبر عن المحنة المتقدة، الذي سينشأ عنها الشهداء. إنهم يقفون على بحر الزجاج؛ وهنا نجده خالياً.

يصف الرائي بعد ذلك جماعة أخرى من الكائنات، بل حيوانات، مخلوقات حية، متمايزة، أيضاً، عن الشيوخ والملائكة، ومرتبطة أكثر منهما بالعرش.

٦- "في وَسَط الْعَرْش" ترينا أنهم جزء أساسي متكامل منه، "وَحَوْلَ الْعَرْش" أنهم مرتبطون به خارجياً. أي أن المخلوقات الحية (وليس الوحوش) يمكن رؤيتهم إما مرتبطين بشكل أساسي بسلطة الله القضائية، أو كجزء منها، ومع ذلك في علاقة بها. المخلوق المدرك بالحواس، امتلاء البصيرة الروحية، يبدو أنه قوة الكلمات "مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً منْ قُدَّامٍ وَمنْ وَرَاءٍ".

المخلوقات الحية وعبادتها:

٧، ٨- "وَالْحَيَوَانُ الأَوَّلُ شبْهُ أَسَدٍ، وَالْحَيَوَانُ الثَّاني شبْهُ عجْلٍ، وَالْحَيَوَانُ الثَّالثُ لَهُ وَجْهٌ مثْلُ وَجْه إنْسَانٍ، وَالْحَيَوَانُ الرَّابعُ شبْهُ نَسْرٍ طَائرٍ. وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ لكُلّ وَاحدٍ منْهَا ستَّةُ أَجْنحَةٍ حَوْلَهَا وَمنْ دَاخلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً، وَلاَ تَزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً قَائلَةً: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ، الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي»". لماذا "أربعة" أحياء؟ لأن العدد "أربعة" يُمثل مواصفات الله في تعامله الإداني مع الإنسان والخليقة. إنه إمضاء العالم والجنس البشري، ويُستخدم عند الحديث عن الكونية أو العالمية. الممثلون، أو رؤساء الخليقة الحيوانية، يُسمون كالأسد دلالة الجلالة، والثور دلالة الصبر الطويل الأناة، والإنسان دلالة الذكاء، والنسر لسرعة التصرف. وهذه الرموز تعبر عن الملامح المحددة في ممارسة الحكم الإلهي، وتُقدّم هنا بشكل ملائم من حيث التنفيذ المباشر لهذه الملامح الإلهية. العالم بمجمله تحت السماء سيُفتقَد بالدينونة؛ ومن هنا كان استخدام العدد "٤" ٤. ولذلك ففي المجموعة المؤلفة من ٤ مخلوقات حية لدينا النظرة الكاملة والمكتملة عن حكم الله القضائي الإداني. الرموز مأخوذة من الحيوانات الأكثر شهرة، وليس من تلك التي في البحر. الصفة الأولى من صفات عرش الله المرموز إليها بالأسد هي الجلال والقوة والقدرة الكلية (تكوين ٤٩: ٩؛ دانيال ٧: ٤؛ عاموس ٣: ٨). الرمز الثاني هو ثور أو عجل دلالة الكدح الصابر، العمل المبذول بجهد لخير الآخرين (١ كور ٩: ٩، ١٠؛ رؤيا ١٤: ٤). والمخلوق الثالث له وجه إنسان، ما يشير إلى الذكاء أو العقل (أيوب ٩: ٢٤؛ عزرا ٩: ٦). الرمز الرابع هو نسر طائر ويشير إلى الرؤية الحادة والتصرف السريع (تثنية ٢٨: ٤٩؛ أيوب ٩: ٢٦؛ حبقوق ١: ٨؛ أيوب ٣٩: ٢٧- ٣٠). هذه المواصفات المجتمعة معاً تعبر عن طبيعة عرش الله فيما يختص بالأرض. غنها مواصفات الطبيعة الإدانية الممارسة من خلال أدوات بشرية أو ملائكية بحسب مسرة جلال الله. المخلوقات الحية تمثل السلطة الإدانية للعرش. من ذكر الْكَرُوبِيمَ (تكوين ٣: ٢٤) أولاً وحتى الذكر الأخير لها (عبرانيين ٩: ٥) نجد نفس الفكرة الرائدة تميز كل المقاطع، أي مواصفات حكومة الله ٥. الفروقات بين المخلوقات الحية في حزقيال ١، والكروبيم في الأصحاح ٩ و١٠ من نفس النبي، والمخلوقات الحية في الرؤيا عديدة ومثيرة للانتباه. في الوصف الذي يقدمه نبي السبي، كل من الأحياء الأربعة لديه أربعة وجوه وأربعة أجنحة (١: ٦). يصف الرائي في سفر الرؤيا فقط المخلوق الحي الثالث بوجه إنسان، وكلاً من الأربعة بستة أجنحة (٤: ٧، ٨). هناك كانت لديهم بَكَرَات؛ وهنا ليس لديهم شيئاً منها. هناك كان العرش فوقهم؛ وأما هنا فهم في وسطه وأيضاً حوله. هناك كانت مَمْلُوَّة عُيُوناً، "كُلُّ جِسْمِهَا وَظُهُورِهَا وَأَيْدِيهَا وَأَجْنِحَتِهَا وَالْبَكَرَاتِ مَلآنَةٌ عُيُوناً حَوَالَيْهَا لِبَكَرَاتِهَا الأَرْبَعِ" (حزقيال ١٠: ١٢)؛ وهنا هي "مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ" وأيضاً "منْ دَاخل". العديد من هذه الفروقات يمكن تعديلها بحقيقة أن دينونة يهوذا وأورشليم قد تم تناولها بشكل خاص في حزقيال، وبما أن تلك الدينونة كانت ستأتي من الشمال (بابل)، فإن الْبَكَرَات سوف تجري على الأرض بما يُمثل مسار الدينونة الأرضية، بينما المخلوقات الحية هنا لم تظهر بعد في حالة فعل؛ إنهم خدام العرش. في عمل إداني يتصرفون من السماء؛ ومن هنا نجد الأجنحة والبكرات. إضافة إلى ذلك، يقدم لنا الرائي مجالاً للدينونة أوسع بكثير من مملكة يهوذا وعاصمتها الأثيمة، أورشليم، لأن الأرض كلها على وشك أن ترتجف تحت وطأة تصرف العرش.

عناية الكروبيم هي لمجد الله السيادي والعلني (حزقيال ١٠). عناية السيرافيم هي لأجل قداسة الله؛ هذه الأخيرة تُسمى مرة واحدة فقط في الكتاب المقدس (أشعياء ٦). المخلوقات الحية في سفر الرؤيا تجمع بين الكروبيم والسيرافيم.

كل من المخلوقات الحية الأربعة لديه "ستة أجنحة". السيرافيم في أشعياء (٦: ٢) كان لكل منها "ستة أجنحة"، اثنان ليغطيا الوجه والقدمين على التوالي، واثنان لأجل السرعة في التصرف. المخلوقات الحية التي رآها نبي السبي كان لكل منها "أربعة أجنحة" (حزقيال ١: ٥، ٦). العدد "٤" يُستخدم بشكل كبير في ذلك الأصحاح لأن الموضوع يتعلق بحكم الله الأرضي. "الأجنحة الستة" في كل من المخلوقات الحية في الرؤيا تشير إلى فعالية وراء قوى الطبيعة- فعالية فائقة الطبيعة.

٨- "منْ دَاخلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً" تشير إلى الفهم الروحي الداخلي لأهداف وأفعال الحكم عند الله. في الجزء السابق من الوصف يُقال أن العينين هما "مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ" (الآية ٦). المستقبل والماضي يأتيان على قدم المساواة في مجال المقدرات المميزة للمخلوقات الحية.

أما وقد أعطانا وصفاً للمخلوقات الحية، يصف لنا الرائي بعد ذلك عبادتهم. في هذه الممارسة المباركة والسعيدة ليس هناك من تراخٍ أو استراحة: "لاَ تَزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً". ليس هناك نقص أو عيب في خدمته؛ ولا تراخٍ أو ضعف يميز عبادتهم. إنهم يُسبّحون الله ويعبدونه دون توقف، قائلين: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ، الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي". يمكننا هنا أن نشير إلى أن هناك تشابه بين المخلوقات الحية والسرافيم من ناحيتين: في عدد الأجنحة ونسب العبادة المثل الجوانب (قارن مع أشعياء ٦). إن أعمال الله تُمجّده، ولكن أيضاً مواصفاته الداخلية تعلن طبيعته القدوسة القدوسة القدوسة، أي ماهيته في داخل نفسه. إن ألقاب الألوهية هنا مجمّعة والحقائق المميزة لكل منها مرتبطة ويُحتفل بها بلا توقف. القوة نفسها التي تُنفّذ أوامر البر للعرش (الأصحاح ٦) تُمجّده هنا في كينونته الإلهية. المخلوقات الحية تُمثل رمزياً المواصفات المتعددة المذكورة، و"تُعْطي مَجْداً وَكَرَامَةً وَشُكْراً للْجَالس عَلَى الْعَرْش".

الألقاب الإلهية هي رب، أو يهوه، الكائن بنفسه؛ وفي علاقة الله مع خلائقه: القدير في النعمة، والقوة، ومنبع الموارد. إضافة إلى ذلك، فإن الكائن الإلهي يُحتفل به على أنه إله الدهور، الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي. وبالنسبة إلى هذا الأخير، أي ماهية الله في كيانه وطبيعته الحقة، انظر الأصحاح ١: ٤. هنا "الَّذي كَانَ" تسبق العبارة التي تدل على وجود مستقل وأزلي، "وَالْكَائنُ"- هذا لقب قد ذُكر قبلاً في آية سابقة. وهكذا المخلوقات الأربعة الحية تعبد الله.

عبادة المخلوقات الحية، والعبادة الكاملة للشيوخ:

٩- ١١- "وَحينَمَا تُعْطي الْحَيَوَانَاتُ مَجْداً وَكَرَامَةً وَشُكْراً للْجَالس عَلَى الْعَرْش، الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، يَخرُّ الأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً قُدَّامَ الْجَالس عَلَى الْعَرْش، وَيَسْجُدُونَ للْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَاليلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْش قَائلينَ: «أَنْتَ مُسْتَحقٌّ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاء، وَهيَ بإرَادَتكَ كَائنَةٌ وَخُلقَتْ»". كل واحد من المخلوقات الحية هو رمز متميز بحد ذاته ويشير إلى واحدة أو أكثر من المواصفات الإلهية، والآن يتوحد الأربعة، قبل شهادتهم في الفعل السيادي، بتقديم المجد والكرامة والشكر له بما يليق باسمه. لقد أعلنوا، كما رأينا، نقاءه الجوهري في تكرارهم المثلث للكلمة "قدوس"، والآن صارت تسبيحتهم (الآية ٩)، كما الشيوخ (الآية ١١)، مثلثة الجوانب. وهناك صفة أخرى تميز عبادة الشيوخ الأكثر رسوخاً من تلك التي للمخلوقات الحية هي أن أولئك السابقون يُخاطبون الله بشكل مباشر باستخدام ضمير المخاطب؛ بينما المخلوقات الحية تتكلم إلى الله أو مع الله بضمير الغائب. من المهم أن نلاحظ أنه مهما كانت الأداة، الملائكة أم البشر، في تنفيذ سلطة العرش القضائية، التي يُمثلها المخلوقات الحية هنا رمزياً، فإن على الجميع أن يلتفتوا إليه بقوة وامتلاء متزايدين. وإن تسبيحة المخلوقات الحية تُظهر برهاناً على هذا.

إن عبادة الشيوخ هي ذات طابع مختلف عن عبادة المخلوقات الحية. فعبادتهم هي عبادة أشخاص مُفتدين، وهؤلاء، وإذ لهم فكر المسيح (١ كور ٢: ١٦)، يدخلون بفطنة وذكاء إلى أفكار الله، وهؤلاء يعرفونه شخصياً في قداسته ومحبته. إنها عبادة لأشخاص قلوبهم قد اقتناها الرب بمحبته العظيمة الفائقة، وتطهرت ضمائرهم بالإيمان بالشهادة المقدسة لدم المسيح الثمين.

"يَخرُّ القديسون هنا قُدَّامَ الْعَرْش، وَيَسْجُدُونَ أمام كرسي مجده، ويعبدون الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَاليلَ مجدهم أَمَامَ عَرْش مجده السّامي والملائم، وينسبون له كل المجد الذي يستحقه؛ ولكن هنا هو بفضل طبيعة الاحتفاء به لكونه خالق كل الأشياء. وهذه تبقى حقيقية صحيحة في كل التغييرات. ومن الملاحَظ هنا أن المخلوقات الحيّة وحدها هي التي تحتفل وتعلن المجد؛ فالشيوخ يعبدون الله مع فهمٍ. وخلال كل الإعلان يتعبّد الشيوخ لله عقلانياً. هناك ذكاء روحي فيهم" ٦.

يجب أن نلاحظ في إعلان المخلوقات الحية وجود الْمَجْد وَالْكَرَامَة وَالشكر؛ بينما في إعلان الشيوخ نجد الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ. إضافة إلى ذلك، يسجد الشيوخ أمام ذاك الذي يحبونه ويوقِّرونه، ويلقون تيجانهم أمام العرش اعترافاً منهم بأن منه يستمدون الكرامة الملكية ٧.

مجد الله الخلقي هو هنا أساس العبادة التي يقدّمها الشيوخ. "هيَ بإرَادَتكَ كَائنَةٌ" يعني أن كل الأشياء موجودة بحسب إرادة الله ومسرته الجليلة، وهي قد "خُلقَتْ". هو الذي أوجدها، هو أصل ومصدر كل خليقة. العبادة هنا تقوم على أساس معرفة الله، ماهيته في كيانيته الذاتية وكخالق ومؤازر للكون. إن أول مطلب جوهري لله

من مخلوقاته هو هذا التمييز الذي لابد منه والاعتراف بقدرته ومجده، وهذا ما يخلق ويدعم الجميع- البشر والملائكة، الأحياء والأشياء الفاقدة الحياة، كل ما في عالمي الأرض والسماء. إن أول موضوع أُعلن عنه في الكتابات المقدسة هو الخلق، وأول أمر مطلوب هو الإيمان (عبرانيين ١ : ٣). العبادة في الأصحاح الثاني مؤسسة على الفداء بالدم، ومن هنا فلابد من أن يصير الحمل هو الشخص المركزي. العرش نفسه هو الموضوع البارز في أصحاحنا؛ الحمل مرتبط بالعرش الذي في الأصحاح ٥.

الأصحاح الذي كنا نتأمل فيه مثير للاهتمام جداً. الموضوع الأساسي المتبين في الرؤيا هو عرش الله الأبدي، الضمانة على أنه يحكم الكون وفق حق طبيعته. والعرش، أيضاً، "مؤسس" أو مرتكز في "السماء" على الأساس الثابت بالبر الأبدي كونه ضمان الديمومة أو الأمان. بينما "الْجَالس عَلَى الْعَرْش"، الوحيد، يشير إلى أنه لن يكون هناك تبدل في الملوك أو تحول في السلطة السيادية، أو تعاقب في الحكم؛ نقرأ هنا عن "جالس" وليس "جلسَ"، أي ما من فاصل أو انقطاع في الحكم. ليس من تسبيحة أو أنشودة في الأصحاح، وليس من رؤيا للحمل المذبوح، ولا وجود لذكر دم الذبيحة القربانية؛ فهذه ملامح تميز الأصحاح التالي، ومن هنا، وبسبب غيابها هنا، فإن هذا الأصحاح لا يُقرأ كثيراً كما الحال مع الأصحاح ٥. إلا أن العرش، بأمجاده الرمزية وصوره الثانوية والأمور المحيطة به، تجعل هذا الأصحاح ذا أهمية خاصة، تزداد وتتعمق كلما قرأنا هذا الأصحاح ودرسناه بعناية أكبر.


١. - الكلمة "شيوخ" ترد ١٢ مرة. الأعمال والخدمات المتنوعة التي يشاركون فيها تظهر بشكل واضح أنهم ممثلون للقديسين المفتدين والقائمين. إنه متوجون؛ لقد خروا يسجدون للرب؛ أحدهم يُعزي الرائي الباكي ويُفسّر له فكر الله؛ لديهم قيثارات وقوارير بخور؛ إنهم يُغنون ويُسبحون (وهذا لا يقال عن الملائكة)؛ وهم أقرب جماعة إلى العرش وإلى الحمل؛ ويُفسرون ببراعة الأمور للمفتدين على الأرض؛ ويحتفلون بنصر الله الألفي والأبدي؛ وينطقون بالـ "آمين" و"هللويا" لدى إطلاق الدينونة على الزانية- فساد الأرض. المقاطع التي توجد فيها هذه الكلمة هي كما يلي: ٤: ٤، ١٠؛ ٥: ٥، ٦، ٨، ١١، ١٤؛ ٧: ١١، ١٣؛ ١١: ١٦؛ ١٤: ٣؛ ١٩: ٤.

٢. - يخبرنا المؤرخ اليهودي، يوسيفوس، أن عائلته كانت "من الصف الأول من الـ ٢٤"- وليس من صف أدنى. البعض يفهم من الـ ٢٤ أن تُمثل العدد الحكومي "١٢"، فترمز بذلك إلى حاصل جمع قديسي العهد القديم كجسم واحد، وحاصل جمع قديسي العهد الجديد كجسم آخر من المؤمنين- ومن هنا الاثني العشر المضاعفة. نعتبر أنه لا مبرر لتوزيع رمز الرقم على هذا النحو. لأننا مقتنعون بأن الرمز الذي فيه إشارة إلى "٢٤" يعود إلى أخبار الأيام الأول ٢٤، ٢٥.

٣. - "بحر الزجاج يعبّر عن النعومة والملاسة والسطوع؛ وهذا البحر السماوي هو من البلّور، إشارة إلى أن هدوء السماء، خلافاً للبحار الأرضية، لا تكدّره الرّياح بل هو متبلور إلى سلام أبدي"- وردزورث.

٤. - العدد ٣ و٤ يعبران بشكل واضح عن الإلهي والبشري. فهناك ٣ أشخاص أو أقانيم في الله. ويعلن السيرافيم ٣ مرات قداسة الله قائلين: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ" (أشعياء ٦: ٣). وتقول المخلوقات الحيّة ٣ مرات أن "قدوس" (رؤيا ٤: ٨). وعلاقة الرب يهوه بالزمن والأبدية يُعبّر عنها بطريقة تتضمن ٣ جوانب "الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي" (الآية). وهناك ٣ تجارب يتعرض لها ربنا (لوقا ٤). واعترف الله بربنا ٣ مرات علانيةً على الملأ (متى ٣: ١٧؛ ١٧: ٥؛ يوحنا ١٢: ٢٨). وفي اليوم الثالث قام الرب من الموت. والظلمة التي سادت فوق الصليب وفوق الأرض استمرت ٣ ساعات. والإيمان والرجاء والمحبة هي الـ ٣ فضائل المسيحية الأساسية. وأعلن المسيح عن نفسه بـ ٣ صفات، أنه الطريق والحق والحياة. والبركة الإلهية نراها لـ ٣ مرات (عدد ٦: ٢٣، ٢٤). إن العدد ٣ هو إمضاء الله. والعدد ٤ هو إمضاء العالم. فهناك ٤ تقسيمات في الجنس البشري: "الأُمَم وَالْقَبَائل وَالشُّعُوب وَالأَلْسنَة" (رؤيا ٧: ٩). وهناك ٤ عناصر. ٤ رياح. ٤ فصول. ٤ أناجيل تُظهر المسيح. ٤ مخلوقات حية. ٤ أباطرة كونيين (دانيال ٧). ٤ ذبائح عظيمة، وهي المحرقة (لاويين ١)، قربان التقدمة (لاويين ٢)، ذبيحة السلامة (لاويين ٣)، ذبيحة الخطية (لاويين ٤). و٤ دينونات قاسية لله (حزقيال ١٤: ٢١). ٤ نساء في سلسلة نسب الرب البشرية (متى ١). والمذبح النحاسي كان له ٤ جوانب و٤ قرون. والمذبح الذهبي كان فيه ٤ جوانب و٤ قرون. العدد ٤ هو إمضاء الإنسان وغالباً ما يشير إلى الخليقة المادية.

"يؤكد الكتّاب الربّانيون القدماء أن الرايات الـ ٤ لأقباط إسرائيل، التي كان يتوجب عليهم أن يتجمعوا حولها بخيمهم على كل جانب من جوانب خيمة الاجتماع، كما في عدد ٢: ٢، كانت كالتالي: الأسد لسبط يهوذا، والثور لسبط أفرايم، والإنسان لسبط رَاوبَيْنَ، والنسر لسبط دان"- "ملاحظات على الرؤيا"، بقلم F. Brodie .

يقتبس هنغستنبرغ القول اليهودي القديم: "هناك أربع لهم المكانة الأولى في هذا العالم: الإنسان وسط المخلوقات، والنسر من بين الطيور، والثور من بين الماشية، والأسد من بين الوحوش".

٥. - كان هناك دائماً سعي لمطابقة الكروبيم والمخلوقات الحية مع الكنيسة، ولكن هذه الفكرة البعيدة عن الواقع لا يمكن التفكير بها ولو لوهلة، لسببين: الأول، أن الكروبيم كانوا من نفس نوع ذلك الجزء من الذهب الذي يُشكل عرش الرحمة- إذ أن الذهب يرمز إلى المسيح في طبيعته الإلهية، كما أن خشب شجرة السنط يُمثل ناسوته المقدس والذي لا فساد فيه؛ والآن لسنا، ولا يمكن أن نكون متحدين به كإله. لم يكن الكروبيم متحدين بعرش الرحمة، رغم أنهم يشكلون جزءاً منه. والسبب الثاني، أن الطبيعة الإدانية للكروبيم ستمنع التطبيق على الكنيسة، التي هنا لتعرض نعمة الله، وليس طرقه الإدانية.

٦. - "مختصر أسفار الكتاب المقدس"، الجزء ٥، ص ٥٩٥.

٧. - "لا يستغرب القارئ الذكي كثافة المشهد المصوّر في الأصحاح ٤. الرائي القديس كان مستعداً تماماً لتلك الرؤى الجليلة للمكاشفات التي تأتي لاحقاً؛ ولا يمكن لفكر القارئ أن يخفق في الاستعداد للنظر إليها باهتمام عميق. ولا يفوت القارئ إدراك عظمة هذا المشهد الذي يشابه إلى حد كبير الظهورات الإلهية الافتتاحية في أشعياء ٦ وحزقيال ١"، "تعليق على الرؤيا"، بقلم موسى ستيوارت، ص ٥١٤.