الأصحاح ٣

خطاب الروح القدس إلى ساردس

(٣: ١- ٦).

الرسائل إلى ساردس وثياتيرا:

في هذه الرسالة إلى الملاك لدينا الحالة العامة للكنيسة بعد الإصلاح، كما أننا وجدنا في الرسالة السابقة صورة بالكلمات والرموز عن الكنيسة قبل الإصلاح. في ساردس نرى البروتستانتية؛ وفي ثياتيرا نرى البابوية. هاتان تتشابكان معاً بينما تتزامنان إلى النهاية، إلى مجيء الرب. في الرسائل الثلاثة الأولى نجد وصفاً لحالات الكنيسة المتعاقبة ككل. كانت الإصلاح نقطة تحول في تاريخ المسيحية الغربية. فرض البابوية لإدعاءات متغطرسة وغير تقية في القرن السابع كان بلوة من الشيطان للغرب في حين أن تطور الإسلام في نفس الفترة أصاب الشرق بآفة. كان الإصلاح شفاءً أو استعادة جزئية في الغرب، ولكن لم يكن هناك شيء في الشرق، إنها حالة ارتداد عن الله وعن الحق.

سَبْعَةُ أَرْوَاح الله وَالسَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ:

١- "الَّذي لَهُ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله وَالسَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ". إن "سَبْعَةُ أَرْوَاح الله" تعبير محير للبعض. في رسائل بولس نجده يتحدث عن وحدة الروح كحقيقة أساسية جوهرية فيقول: "روح واحدة". ولكن في عبارة الرؤيا القائلة بـ "سبعة أرواح"، نجد تعليماً عن كمال واكتمال المواصفات والأعمال المتنوعة للروح القدس الواحد. إن الإشارة إلى عمل الروح القدس السيادي كأقنوم متميز، ومع ذلك في ارتباط مع الله ويسوع المسيح، يبدو أنها مقصودة في (١: ٤)؛ بينما في (٥: ٦) كمال القوة وامتلاء الذكاء الروحي، الذي يتمتع به الحمل بشكل كامل، هو ما يتم التأكيد عليه. إن ملئ الروح هي في المسيح، وهو يستخدم قوة الروح القدس سواء نحو الكنيسة (٣: ١) أو نحو العالم (٥: ٦). أياً كانت حالة الكنيسة آنذاك- ساقطة، منهارة، فاسدة، أو ميتة- تكمن فيه هو الذي في وسط المناير الذهبية القوة الروحية على نحو كافٍ وافٍ.

المدينة القديمة من ساردس

١- "الَّذي لَهُ ....السَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ". الكواكب هي حاملة النور إلى الكنائس، المسؤولة عن الإنارة لأجل المسيح وتعكس نور السماوات على الظلمة المحيطة. المسيح له "الأرواح السبعة" و"الكواكب السبعة"، مع أن الأخيرة لا يُقال أنها في يمينه، كما في (١: ١٦). إنها تقول ببساطة أنه يملكها. الترتيب الكنسي في الكنيسة حُفظ في أفسس، بينما في ساردس كانت الخدمة بشكل عام وتنظيم الكنيسة وفق ترتيب الروح القدس. فالقول "في يمينه" يعني أن الخدمة مؤسسة حسب الكتاب المقدس وكل شيء في مكانه، وكل ما يمنحه الروح القدس كان تحت ربوبية المسيح. ولكن بعد الإصلاح تشكلت الكنائس بسرعة وفق مشيئة أو هوى أو فكر قادة معينين. حقائق معينة، وليس "الحق"، صارت نقطة المحور أو المركز الذي تتجمع حوله عقول متجانسة تجمعت مشكّلة نظام الحكم الكنسي، ومؤسسة خدمة يُدفع لها وتُنظّم بحسب القدرة والموهبة والقوة بغاية زيادة عددها وتثبيته. ومن هنا يأتي القول: "لَهُ الْكَوَاكبُ". مهما يكن من أمر، إن الخدمة مهما كان نوعها تبزغ عن المسيح. "لَهُ الْكَوَاكبُ". خدمة الكنيسة بجملتها هي بالمسيح، ولكن يجب أن نتذكر أن لا نفصل بين "أرواح" و"الكواكب"؛ فيجب أن نراها معاً وإن بتمايز. إن الخدمة الباردة، الدنيوية، الفكرية التي يُنظمها البشر هي خدمة منفصلة عن الروح. الكواكب تشرق بفعل نور الروح. والفكرة هنا هي اتحادهما معاً. أهلية الكنيسة للقوة الداخلية والروحية وللتنظيم الخارجي للسلطة والخدمة هي بالمسيح دائماً وأبداً. وهنا تكمن قوة وضعف الإيمان المسيحي في البروتستانتية. إن الاتكال على إرشاد الروح القدس هو قوة حقيقية وإن الخدمة والهيئات التي تتجاهل الروح عملياً أو نظرياً عقيمة عاجزة والموت الروحي هو مصيرها بالتأكيد.

اعتراف لا حياة فيه:

١- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّ لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيّتٌ". إن المعرفة الكلية بالرب يتم التأكيد عليها مجدداً في هذه الكلمات: "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ". ولذلك فأن ذاك الذي يسير وسط الكنائس يفحص ساردس ويعلن هذا الحكم. "لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيّتٌ". كانت هكذا هي الحال ولا تزال في البروتستانتية. كان الإصلاح نتيجة نشاط روح الله. تاريخياً نتتبع أثر ذلك التدخل القدير من الله من خلال أدواته البشرية، لوثر، ميلانكتون، الخ. والأسباب المتنوعة التي ساهمت في الوصول إلى تلك النتيجة العظيمة، كاختراع الكتابة، الخ، ولكن وراء كل هذه هناك العامل المحرّك الكبير ألا وهو الروح القدس. إننا نعتبر البابوية أكبر نعمة والإصلاح أعظم بركة منذ بدء المسيحية. إننا نميز بين الإصلاح والبروتستانتية، فالأول كان عملاً إلهياً، والأخيرة كانت نظاماً بشرياً.

عندما نجحت قوة المصلحين في تحطيم قيود وأغلال أسوأ حكم استبدادي سجّله التاريخ، ظهر السؤال الحاسم: هل سيُمكن المحافظة على النشاط والحماسة عند المصلحين؟ هل سيأتي نصر بعد نصر؟ للأسف، فإن الإصلاح، كمثل كل حركة، بدأت في الروح، ثم انتقلت إلى أمر بارد شكلي لا حياة فيه. لقد بدأ المصلحون، وكذلك الذين تبعوهم، نظام تأسيس كنائس بدل البحث في الكتاب المقدس، الذي منه فقط يمكنهم أن يتعلموا كيف تكون كنيسة الله. وكادت قوة الروح تتلاشى؛ ربما كنا نستطيع أن نجدها في الأفراد هنا وهناك، ولكن في حالة الكنيسة العامة بعد الإصلاح، الحضور الشخصي للروح القدس في الكنيسة (١ كور ٣: ١٧) وفي المؤمنين الأفراد (١ كور ٦: ١٩) لم يعد موجوداً أو موضع تجاهل عندما كان شعاع الحق يخترق الظلمة. بدت الأمور جميلة ولكن لم تكن كذلك في القوة والحياة. وهنا نشير إلى الحالة العامة. لم يكن في البروتستانتية مخاوف أو فساد كبير في العصور الوسطى، بل رقاد الموت. هناك اسم يحيا، ولكنه مجرد اسم. التحول من البابوية إلى البروتستانتية، من ثياتيرا إلى ساردس، يمكن وصفه كخطوة خروج من "غرفة الرعب" إلى "زنزانة الموت". هناك ما يشبه الحياة في الظاهر، ولكن من يفحص كل الأشياء ويخترق بنظره الإلهي كل غطاء يقول: "أَنْتَ مَيّتٌ".

الأعمال الناقصة:

٢- "كُنْ سَاهراً وَشَدّدْ مَا بَقيَ، الَّذي هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَمُوتَ، لأَنّي لَمْ أَجدْ أَعْمَالَكَ كَاملَةً أَمَامَ الله". إن الحالة العامة هي حالة موت، ولذلك فعلى ممثلي الكنيسة الروحيين أن يتشددوا. ليس عليهم السهر واليقظة فقط إزاء الحالة المفروضة آنذاك، ولكن كان عليهم أن يكونوا ساهرين بثبات. "السهر" والصلاة مترافقان دائماً (مرقس ١٣: ٣٣) على ضوء عودة الرب. "الصلاة" و"السهر" مرتبطان لحفظ المسيحيين في جهادهم الروحي( أفسس ٦: ١٨). إن كان الموت الروحي داخلياً قد ميز الكنيسة البروتستانتية المعترفة، فإن المظاهر الخدّاعة كانت في الظاهر بعكس ذلك، فكم نحن بحاجة إلى حضّ وحثّ على الاستمرار في حالة اليقظة والسهر وعدم الاستسلام إلى النوم في الجماعة.

ولكن بينما تُفرض حالة سهر دائمة لإيقاف المزيد من الشلل والعجز (إذ أن الموت، وليس الحياة، سرعان ما صار سيد الموقف)، فإن الطاقة على الحب كانت هناك حاجة ماسة إليه.

٢- "شَدّدْ مَا بَقيَ، الَّذي هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَمُوتَ". إن ثمر الروح لا يزال موجوداً (غلاطية ٥: ٢٢، ٢٣)، رغم أنه ضعيف ومحدود التأثير؛ مع ذلك فإنه ومهما بقي من حياة ونعمة، كان يجب الاستمرار في البناء والبقاء والتشديد. إن العلاقة مع الله تتطلب ثباتاً بقوة، وإلا فإن الدين يُحتضر عملياً في هذه الأراضي المسيحية. لم يكن هناك حاجة إلى حث وتحذير أكثر مما هو الحال عليه الآن. السيف والمالج مطلوبان دائماً، ولكن الاستخدام الحكيم والدقيق في الأخير هو الحاجة الماسة للكنيسة.

٢- "لَمْ أَجدْ أَعْمَالَكَ كَاملَةً أَمَامَ الله". تشكل هذه التهمة أساس التوبيخ أو اللوم الموجه إلى الملاك. أعمال الإيمان والطاعة لم تكن كاملة، أي بمعنى لم تكن مكتملة. علاقات الروح العملية مع الله كانت شبه مهملة خلال النزاع العام مع روما. التقوى الفردية وحياة الكنيسة كانت في أخفض مستويات الانحدار. البروتستانتية التي تشير إلى أولئك الذين انسحبوا من كنيسة روما ١ تدل بشكل بائس على ما يجب أن يكون عليه المسيحي. الحقائق العظيمة المحتواة في رسائل أفسس وكولوسي كان يجهلها تماماً جماعة المصلحين. كانت محاولاتهم تتركز بشكل رئيسي على الصراع العظيم لاستعادة أنفسهم وأبنائهم والتأكيد على حقيقة التبرير الإيمان التي وردت في رسائل بولس، رغم أنها لم ترد في كتاباتهم ٢. لقد كانوا دفاعياً للغاية في أفكارهم المتعلقة بشخصية الروح القدس وسكناه على الأرض، وعن الكنيسة كجسد المسيح، وعن علاقاتنا الفردية والجماعية مع المسيح في السماء.

لذلك لم تكن أعمالهم كاملة أو مكتملة أمام "إلهي". وبالتالي، فقد كانت هذه نقطة العيب الكبيرة في البروتستانتية، ومن هذه الناحية فإنها تشابه التكرس بالأعمال الذي امتُدحت ثياتيرا عليه (٢: ١٩). وعلى جميع الأحوال، علينا أن نميز بين الإصلاح والحالة التي جاءت لاحقاً والتي تسمى البروتستانتية. لاشك أن البروتستانت كانت حركة إلهية، ولكن البروتستانتية كانت مركزاً عاماً معارضاً للبابوية رغم أنها ما كنت تخلو من كثير من الأتقياء بينما النظام نفسه له طبيعة الموت الأخلاقي.

مهددون:

٣- "اذْكُرْ كَيْفَ أَخَذْتَ وَسَمعْتَ وَاحْفَظْ وَتُبْ، فَإنّي إنْ لَمْ تَسْهَرْ أُقْدمْ عَلَيْكَ كَلصٍّ، وَلاَ تَعْلَمُ أَيَّةَ سَاعَةٍ أُقْدمُ عَلَيْكَ". كلمة "اذكر" الواردة في الرسائل إلى أفسس (٢: ٥)، كانت ضمن الحقيقة المعلنة والنعمة المعطاة، اللتان انحرفت الكنيسة عنهما. بينما كلمة "اذكر" هنا هي على ضوء ما استعاده الله للمتجددين من خلال عملية الإصلاح، أي الإنجيل، كلمة الله وحرية الضمير، وذلك موجود لدرجة أو أخرى لأنه يتدفق مما أعطاه الله. كلاهما "تلقيا" و"سمِعا". البروتستانتية كانت تعيش على الشهرة المكتسبة من خلال صراعها الناجح مع البابوية؛ كانت تعيش على "اسمها". الحقائق المستعادة والإنجيل المسموع، ولمسرّة الآلاف، كانت تذوي من ذاكرتهم وضمائرهم؛ ومن هنا كان الأمر بأن "احفظ" و"تُبْ"- للمحافظة على ما كان لديهم، وللتوبة عن الاستخدام البائس الذي كان لهم من البركات.

لقد نُصحوا أن يكونوا ساهرين (الآية ٢)، وما لم يفعلوا ذلك فإن الدينونة في انتظارهم. الطابع  الذي سيأتي عليه المسيح إليهم هو "كلص في الليل" (١ تسا ٥). سيأتي كقاض، في ساعة غير متوقعة، وغير معروفة، وغير منتظرة. البروتستانتية والعالم هم في راحة بال. المنشقون عن الكنيسة الأنغليكانية هم في منبر الوعظ، والصحافة، وساحات الكنائس وهم سياسيون نشطون. الكنائس التي ستدعمها الدولة ستكون سياسية بشكل كبير في المبدأ والممارسة. ولذلك، فإن طابقت البروتستانتية نفسها مع العالم، وشاركت ثرواته، فإنها ستشاركه نفس المصير من كل بد. يأتي المسيح إلى الكنيسة كنجم الصباح، ولليهود كشمس البر، وللعالم والدين المعترف بشكل مفاجئ كـ "لص في الليل". البابوية (ثياتيرا) والبروتستانتية (ساردس) يركضان معاً، ولكن في خطين متعارضين. وتُبذل جهود جبارة لدرء الصدع الحاصل مع البابوية. وتُقلّص الفوارق بينهما. وها هي الساعة تقترب عندما ستندمج الطوائف الـ ١٣٠٠ في العالم المسيحي معاً، يترأسهم ضد المسيح شخصياً، ولكن نهاية كل تحالف لا يعمل فيه الروح القدس لا يؤدي إلا الدينونة.

الوعد لغير المنجسين:

٤- "عنْدَكَ أَسْمَاءٌ قَليلَةٌ في سَارْدسَ لَمْ يُنَجّسُوا ثيَابَهُمْ، فَسَيَمْشُونَ مَعي في ثيَابٍ بيضٍ لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ". في ثياتيرا، "البقية" أو "البقية التقية"، وفي ساردس "بضعة أسماء" لم تتنجس، يشكّلون جماعة كانت تسر الله. في المبدأ والممارسة كانوا منفصلين عن الشر الذي استنكروه؛ فقد ساروا في معزل عنه بعيدين عنه. ثقل التأثير والأعداد كانت مع الجانب الأعم. "بضعة أسماء في ساردس" لم يُنجسوا ثيابهم. الجماعة كان لها اسم في العالم و"القلة" كانوا غير معروفين، ولم يكن لهم وجود لافت، بل كل من كان في الجماعة كان يعرفه شخصياً ذاك الذي "يُنادي خرافه باسمها". يا لوفرة العزاء السمح الكريم: "سَيَمْشُونَ مَعي في ثيَابٍ بيضٍ". لقد صانوا استقامتهم هنا، وسيمشون معه هناك في ثياب جُعلت بيضاء بدم الحمل. سنتمتع بسير مبهج وحديث مع مخلّصنا وربنا الممجد (قارن مع لوقا ٩: ٣٠- ٣٢). في ذلك اليوم الذي سيأتي المتميز بالمكافأة الوفيرة، وبالرفقة المقدسة لربنا المبارك أبداً، لن يفكروا أبداً في عدم استحقاق شخصي كما يحدث الآن، لأن الرب يعتبر أنهم، وبوافر رحمته ونعمته، "مُسْتَحقُّونَ". حق هو تقدير النعمة، لأن كل فرد مميز ومكرم يأخذ ما يستحق من اعتبار لأنه يكون "شُعْلَةً مُنْتَشَلَةً مِنَ النَّارِ"، إذ يكون قد نجا من دينونة هائلة كان ليستحقها بعدل.

مكافآت للغالب:

٥- "مَنْ يَغْلبُ فَذَلكَ سَيَلْبَسُ ثيَاباً بيضاً، وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ منْ سفْر الْحَيَاة، وَسَأَعْتَرفُ باسْمه أَمَامَ أَبي وَأَمَامَ مَلاَئكَته". ها هنا ثلاثة وعود. (١) الغالب الذي مشى هنا في نقاوة، في استقامة شخصية أمام الله، سيُبرر بوفرة في المشهد المجيد خارج هذا العالم. سيُلبَس رداءً أبيض لا لطخة فيه ولا بقعة. (٢) ذاك الذي ثابر وواظب في طريق الحياة إلى النهاية سوف لن يُمحَ اسمه من سجل الاعتراف المسيحي. كثيرون يحتلون مراكز عالية في الكنيسة، تُعتبر أسماءهم من أهل البيت، كثير من هؤلاء ستُمحى أسماءهم في يوم مراجعة سجلات الحياة تحت ناظري عين الرب الفاحصة في كل الكنائس. (٣) ذاك الذي لم يتراجع عن اعترافه باسم المسيح- وغالباً ما يكون غير مشهور في المجتمع الديني وبالتالي في العالم- سيظهر متميزاً في الحضور المهيب للآب وملائكته وسيُعترف باسمه أمام تلك الكنيسة العظيمة.

٥- "سِفْر الْحَيَاة" هنا هو ليس نفسه الوارد ذكره في الأصحاح ١٣: ٨. في (٣: ٥) إنه اعتراف قد يكون حقيقياً أو لا. النهاية سوف تظهر ذلك. بعض الأسماء ستبقى، والبعض الآخر ستُمحى. ولكن تلك التي في (١٣: ٨) كل اسم مسجّل هو لمؤمن حقيقي، لأن الأسماء قد كُتبت منذ تأسيس العالم ٣، وبالتالي قبل بدء مسؤولية الإنسان. إن الله يعرف النهاية من البدء، ولذلك كتب كل اسم بأحرف لا تُمحى. في (٣: ٥) "سفر الحياة" هو سجل أسماء المسيحيين المعترفين؛ وفي (١٣: ٨) "سفر الحياة" هو سجل الواقع الحقيقي. في السابق نجد أسماء المؤمنين الحقيقيين والزائفين؛ وأما في الأخير فنجد أسماء المؤمنين الحقيقيين فقط.

خطاب الروح القدس إلى فيلادلفيا

(٣: ٧- ١٣).

فيلادلفيا: معناها ومغزاها العملي:

كانت فيلادلفيا آخر مدينة مسيحية خضعت للأتراك، وقد استمرت أطول فترة بين الكنائس السبعة المذكورة في هذه الخطابات؛ إضافة إلى ذلك، إنها الوحيدة بين السبعة التي لا يزال اسمها محفوظاً في العصر الحديث- إذ تحمل اسمها حالياً مدينة فيلادلفيا الأمريكية المعروفة التي أسسها ويليام بين.

ترمز فيلادلفيا إلى "المحبة الأخوية"، ومن الواضح أنها تشير إلى ميزة واضحة في عمل الله في أيامنا. نشعر بالرضى لأن فيلادلفيا نهضت، وهي تتمتع بشخصية فريدة، وقد تطورت مع باقي الكنائس التي رأيناها أمامنا. لماذا نجد فيلادلفيا، المدينة المميزة، لا أصل تاريخي لها؟ إننا نعتقد بوجود ذلك. ففي نهاية القرن الثامن عشر استقر العالم المسيحي في سبات الموت. البروتستانتية كانت تعيش منتعشة باسمها. كان ذلك القرن هو أسوأ قرن يمر على المسيحية، وأيضاً كان فيه أسوأ مشهد للحالة الأخلاقية أمام الله. نعتقد أن عهد كنيسة فيلادلفيا وإطلاق صرخة منتصف الليل (متى ٢٥: ٦) حدثان مترابطان؛ هذا إن لم يكن الأخير جزءاً أو قسماً من حركة فيلادلفيا. لقد كان هذا انتعاشاً حقيقياً، إصلاحاً روحياً. كان عملاً ليس له طابع عمومي كالإصلاح، بل يتميز بحركة تشابهه وتعادله. إن إحياء الحقائق التي غطّاها غبار النسيان لزمن طويل، وانطباقها على نفوس وحياة قديسي الله، كان العمل الفيلادلفي لثمانين سنة مضت. الكثير من عقائد وتعاليم وحقائق العهد الجديد هي ذات أهمية أساسية بالنسبة إلى موقف وحالة القديسين والذين سرعان ما نُسيوا بعد موت الرسل. نشكر الله على انتعاشهم في يومنا. جماهير وافرة العدد من أولئك الذين خطوا ظاهرياً إلى داخل النعمة المباركة الممنوحة لهم ولنا بروح قدس الله قد تخلُّوا عنها الآن. فما الذي سيلي ذلك؟ ماذا بعد؟ لاودكية، النقية والبسيطة. في فيلادلفيا يُختطف القديسون الحقيقيون إلى الهواء لملاقاة المسيح. في لاودكية الذين يكتفون بالاعتراف فقط يتقيؤهم فمه. في الأولى تُحفظ الكنيسة، وفي الأخيرة تُرفض الجماعة.

"المحبة الأخوية" ٤ تشير إلى جماعة معينة محددة. المحبة الإلهية بكل جوانبها هي محبة مقدسة، لا تحتمل الشر، لأن الله محبة. ولذلك فإن "المحبة الأخوية" يجب أن يكون فيها شيء من طبع مصدرها، الذي هو الله نفسه. بهذا المعنى تقف فيلادلفيا متمايزة في تضاد مع ساردس. فهذه الأخيرة تمثّل جماعة المسيحيين المعترفين، بينما تميز بقية تقية. والأولى ترفع شأن جماعة مخلصة من قلبها، قد يتبعثر أعضاؤها في كل أرجاء الأرض ولكنها تتميز بالمحبة، المحبة المقدسة والحقيقية في طابعها، محبة لا تنقص عن الدائرة الإلهية، "أَهْلِ بَيْتِ اللهِ" (أفسس ٢: ١٩).

المواصفات الشخصية والسلطة الإدارية:

٧- "اكْتُبْ إلَى مَلاَك الْكَنيسَة الَّتي في فيلاَدَلْفيَا: هَذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذي لَهُ مفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلقُ، وَيُغْلقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ". إن هذا الظرف يجب أن نلاحظه بعناية إذ أن الشخصية التي يقدم المسيح نفسه فيها لا تشكل جزءاً من مجده كما يُرى في الأصحاح الأول. إنه يتخذ موقفاً أخلاقياً نحو كنيسة فيلادلفيا، يناسب تماماً حالة الضعف المتجلية فيها. وهنا إذاً، لدينا المسيح في شخصه الحقيقي، بجوهره. إنه القدوس، إنه الحق. والبقية قد تكون على نفس الدرجة، فنادراً ما تعطي قوة الكلمات: "الْقُدُّوسُ الْحَقُّ". إنهما كلاهما في شخصه. هو على الدوام تجسيد للقداسة والحق. شخصياً وجوهراً بآن معاً هو "الْقُدُّوسُ" و"الْحَقُّ". وهذه صفات نراها بشكل أساسي كمواصفات إلهية (هوشع ١١: ٩؛ إرميا ١٠: ١٠؛ رؤيا ٤: ٨؛ ١ تسا ١: ٩؛ أشعياء٦: ٣؛ ١ يوحنا ٥: ٢٠). نتكلم عن الأشخاص والأشياء على أنها مقدسة وحقيقية، ولكن ما من مخلوق كان له المجد الأخلاقي الجوهري ليكون الْقُدُّوسُ والْحَقُّ. وكما نراها في نصنا هنا إنها ألقاب إلهية حقاً.

٧- "الَّذي لَهُ مفْتَاحُ دَاوُدَ". في هذه الكلمات وفي ما يليها هناك إشارة إلى أشعياء ٢٢: ٢٢. يُعزل شِبْنَةُ ويُهان. خازن بيت داود الملكي استخدم منصبه الرفيع ليخلّد نفسه (الآية ١٦). وعندها أعلن النبي تقليد أَلِيَاقِيمَ إدارة السلطة الملكية. إن بنود النبوءة في العمق والاكتمال هي مسيانية بامتياز، تتجاوز الظروف التاريخية لأيام حزقيال. الإعلان النبوي لأشعياء (٢٢: ٢٢) وكلمات الرائي (الآية ٧)، هما متطابقان تقريباً من ناحية الألفاظ، وتدلان ضمناً على معنى السلطة الإدراية؛ الأولى مرتبطة بالملكية في مملكة يهوذا، والأخيرة مرتبطة بالنعمة بالكنيسة. إن "المفتاح" هو رمز يشير إلى الحق الذي لا جدال حوله في الدخول إلى أي سلطة مطلوبة وممارستها.

البعض يربط، وللغرابة، "مفْتَاح بيت دَاوُد" بـ "مفاتيح الموت والجحيم". ولكنهما ليسا متطابقين. فالأول يشير إلى سيادة المسيح في الزمن، والأخير إلى حكمه على العالم غير المرئي في كل ما يتعلق بأجساد وأرواح الناس. "مفاتيح الملكوت والسماء" (متى ١٦: ١٩) وحدها قد عُهد بها إلى بطرس وهذه ترمز إلى السلطة المفوّضة، والتي من الضرورة أن تتوقف عندما ينتهي عمله. فتح بطرس بكرازته مفتاح الملكوت لليهود في أعمال ٢ ودخول الأمميين في أعمال ١٠. إن المفاتيح التي تُستخدم، والأبواب التي تُفتح، وهي حقٌ موروث ومكتسب، هي مسألة غامضة في "مفاتيح القديس بطرس". لقد ترك بطرس الباب مفتوحاً؛ ومن هنا فلا حاجة إلى استخدام مستقبلي للمفتاح.

٧- "الَّذي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلقُ، وَيُغْلقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ"، يفعل ذلك بفضل امتلاكه "مفتاح داود"، أي السيادة المطلقة. ولكن الإشارة هنا ليست إلى القبول أو الرفض المتعلق بأي كنيسة أو مملكة. إنه "باب" خدمة وشهادة هو الذي يُفتح أو يُغلق حسب مسرة المسيح (قارن مع أعمال ١٤: ٢٧؛ ١ كور ١٦: ٩؛ ٢ كور ٢: ١٢؛ وأيضاً مع الكلمات التالية: "هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً"). إن كنوز النعمة والبركة هي تحت سيادة المسيح المطلقة، "إن لديه مِفْتَاح"، ولن يمرره لأحد. ومن هنا فعندما يفتح أو يغلق الباب، من سيستطيع أن يغلق أو يفتح بعده؟ إن حقه في توجيه خدامه لا يقبل الشك أو الجدال، وسلطته غير محدودة وما من يقاومها.

الأمر الوحيد الذي يتجاوب مع فكر المسيح:

إن حماسة وغيرة البعض غير محدودة، والبعض الآخر إيمانهم المستقيم لا شائبة فيه، وهناك عدة كنائس قد اتخذت موقفاً كنسياً كتابياً، ومع ذلك فإن كثيرين لا يستطيعون أن يقدموا جواباً حقيقياً له، وهو القدوس، والحق. يستحيل علينا أن نشير إلى أي مجموعة من القديسين على الأرض وأن نقول: "هذه الجماعة هي كجماعة فيلادلفيا" التي في رؤيا ٣: ٧- ١٣. ما يروق لفكر الرب (والذي لا يجب أن يُعوز المؤمن الحقيقي) هو الحالة الأخلاقية، انعكاس ماهية الرب في الشخصية الأخلاقية الجوهرية. إن الله يختم شعبه بالقداسة والحق، وهكذا يربطهم أخلاقياً بابنه الحبيب. ولكن العمل يجب أن يبدأ وأن يُتابع في الداخل، داخل النفس، وهذا سينجم عنه أشياء ظاهرة تتبدى أمام عيني الرب سيُسر بها. ساردس هي صورة عن العالم؛ وفيلادلفيا صورة للرب. ومع ذلك وإذ ندرك فقر جوابنا له وهو القدوس الحق، نشعر بضرورة أن نعتنق الفكر المقوي ونشدد في أن سلطة الإدارة الكاملة للملكوت هي فيه. باستطاعته أن يخلق فينا التوق إلى القداسة والتوافق الأخلاقي معه. لا نستطيع أن نقبل بوجود أي ظل أو صدى غير حقيقي في حياتنا مع المسيح. إنه يرفع فينا كمال الإنسان الجديد لكي نرغب في الحق فقط. إن لديه، وسيبقى لديه، مفتاح داود، وسيفتح كنوز القوة والبركة أمام شعبه المحبوب. ولكن يجب أن نعرف أن كل ادعاءاتنا وتبجحنا وتفاخرنا بأخلاقنا وارتباطنا الكنسي يعارض الحالة الأخلاقية التي تلائم الرب. إن الشعب الذي يشبه المسيح لا ينشغل بحالته أو تقدمه. إن عملية التحول (٢ كور ٣: ٤) تتوقف عندما نواجه ذاتنا، أي ما نحن عليه وما فعلناه، بالنفس.

مشجَّعون وممتدحون:

٨- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ. هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً وَلاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلقَهُ، لأَنَّ لَكَ قُوَّةً يَسيرَةً، وَقَدْ حَفظْتَ كَلمَتي وَلَمْ تُنْكر اسْمي". لقد سارت كنيسة ساردس يداً بيد مع العالم، ولذلك فإنها تستحق أن تشاركه نفس المصير المشؤوم (انظر رؤيا ٣: ٣ مع ١ تسا ٥: ٢). ولكن ليس الحال هكذا مع الكنيسة في فيلادلفيا. لقد نأت بنفسها عن العالم، ولذلك فإنها ستلاقي نهاية سعيدة (الآية ١٢). الحالة العامة للأولى، مع الآلية الدينية الوافرة والأعمال على مقياس كبير، هي في تضاد واضح مع الأخيرة، التي لا تهتم بالدنيويات، وليس لها تنظيم كنسي، أو أعمال يُعجب بها العالم أو يمتدحها لأجلها. إن أعمال فيلادلفيا لا تجتذب إعجاب العالم ولا تمنحها مجد العالم. يكفي للمؤمن هذا، "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ". إن من هو في فيلادلفيا، الذي يتمتع بهذا الطابع يزدهر روحياً في الظل. فهناك، وليس في هذا العالم الذي يمتدحه أو يرعاه، سيمضي أجمل لحظات الشركة مع الرب. "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ"، ولو كانت ضئيلة وضعيفة في أعلى مستوياته، كافية لتبقى قوية ومبهجة إلى أن يحين يوم التعويض.

ولكن ضعف فيلادلفيا لا يعيق الخدمة والشهادة، ولا يمنعهم من أن يكونوا صادقين في إيمانهم. بالنسبة ليسوع على الأرض، الذي كان همه الوحيد هو أن يصنع مشيئة أبيه مهما كلف الأمر، فتح البواب الباب وما من أحد يمكن أن يغلقه. وهكذا هنا للمسيح الحق الذي لا ينازعه فيه أحد بأن يستخدم المفتاح، فكل سلطان في السماء وعلى الأرض قد مُنح له (متى ٢٨: ١٨). لقد جعل أمام الملاك "باباً مفتوحاً". الخدمة بالنسبة له والشهادة له كانتا العمل السعيد الذي يرضيه في حياة الكنيسة. ليسوا في حاجة لأن يخافوا، إذ ما من مخلوق يمكن أن يغلق ذلك الباب المفتوح. "لاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلقَهُ". فيا لها من قوة إذاً! في الأفراد أو الجمعيات، القدرة المخلوقة تقف عاجزة عن منع الخدمة أو إيقاف شهادة أولئك المدعوين إلى اتحاد شخصي مع المسيح. إن دفاعنا الوحيد هو ضعفنا. هل ندرك ذلك؟ لدينا باب مغلق في أعمال ١٦: ٦، ٧، وباب مفتوح في ١ كورنثوس ١٦: ٩.

ومن ثم، وبعد هذا التشجيع الكريم والسموح والكبير يبدأ الرب في لحن الإطراء الذي لا ينقطع. وما من كلمة توبيخ. كنيسة سميرنا كانت في معاناة، وكنيسة فيلادلفيا كانت في ضعف، ولا لوم يوجَّه لأي منهما؛ هاتان هما الكنيستان الوحيدتان المستثنيتان من التوبيخ من بين الكنائس السبعة.

٨- "لَكَ قُوَّة يَسيرَة". لقد عمل الروح القدس بقوة لا متناهية وغير محدودة في الشهادة والكرازة في مستهل المسيحية، وجعل الكنيسة تستمر في حياة الطاعة والاتكال على قوة الروح القدس باكتمالها.

لقد سُرَّ الرب بأن يجعل تمام قوته الروحية موضع اتكال يستند إليها الأفراد والجماعات المخلصة، ولكن ليس هذا حضور الروح القدس في الكنيسة؛ فهذا الأخير هو حقيقة ثابتة دائمة عهدت بها كلمة الرب نفسه (يوحنا ١٤: ١٦). لم يكن هناك الكثير لإظهاره، ولا طاقة روحية مميزة، ولكن كانت هناك بعض القوة. الكنيسة في اعترافها هي كحطام سفينة غارقة وسيكون نكراناً للفساد والدمار أن يتوقع من الروح القدس قوة بولسية أو بطرسية. لا يستطيع الله أن يعمل بقدرة هائلة في حالة نكران اسم ابنه، القدوس، الحق. إن كمية القدرة كانت ضئيلة، ولكن كانت موظفة بشكل فعال، وليست كشيء من الممتلكات الفاقدة النشاط. النشاط في الخدمة والأمانة لكلمة واسم المسيح كانت تميز الملاك.

٨- شهادة المسيح كانت ذات طابع إيجابي وسلبي. لقد "حَفظْتَ كَلمَتي" ٥- إيجابية، و"وَلَمْ تُنْكر اسْمي"- سلبية. الأولى تتضمن خضوعاً كاملاً للنفس والوجدان للكلمة المكتوبة. لكي "يحفظ" الكلمة يجب أن تكون الطاعة جاهزة. قراءة الكتاب المقدس بلا مبالاة أو بإهمال كنوع من الواجب، أو حتى دراستها لأجل الفكر والتزود منها بما يلزم لخدمة أفضل لا تجعل المرء فاعلاً للكلمة. لحفظ كلمة المسيح مهما كلّف الثمن يتطلب الأمر التخلي عن التميز الاجتماعي والمدني وترك المكانة في  الكنيسة المعترفة وفي العالم.

بالتأكيد أيضاً، في عالم التصق المقت الديني باسم الرب المقدس لا يمكن للمرء أن يقف مبتعداً أو أن يرفض الارتباط بالآخرين من أناس أخيار ومتعلمين، إلا إن كان هذا يخزي المسيح. إيليا في يومه، وبولس في عصره، ولوثر في آخر فترة كانوا شهوداً متميزين لله. خلال تلك الفترات الحاسمة وغيرها كان في رفقة الله عدد من الشهود السلبيين. إنه لأمر منعش روحياً أن نتتبع خطوات أناس حاربوا لله والحق بشجاعة، خاصة ونحن نلاحظ مدى القوة المعارضة لهم؛ ولكن دعونا لا نتغافل، كما فعل إيليا، عن الـ ٧٠٠٠ الذين لم يحنوا ركبتهم للبعل (الملوك الأول ١٩: ١٨). شهادته كانت أكبر من الأخريين بلا شك، ولكن الرب كان أيضاً يقدّر شهادتهما.

الاسم يمثّل شخصاً، ويفترض غيابه بالضرورة. قيمة ماهية الشخص لها قوة في الاسم. الصلاة باسم المسيح هي الناجحة (يوحنا ١٤: ١٣، ١٤)؛ ولاسم المسيح وحده سيجمع الله قديسيه (متى ١٨: ٢٠)؛ وبفضل هذا الاسم غُفرت خطايانا (١ يوحنا ٢: ١٢)؛ وبسببه يقود الله شعبه التقي في طرق البر (مز ٢٣: ٣). فليس قليلاً إذاً أن نحفظ اسم المسيح ولا ننكره في الأيام التي تتكاثر فيها الآثام. إن كنا لا نستطيع أن نقدم شهادة جريئة واضحة ثابتة صلبة كما شهد إيليا، فلنتمسك إذاً بشهادة صامتة على الأقل، ولكن دون أن ننكر اسم الرب المبارك.

دينونة اليهودية المعاصرة:

٩- "هَئَنَذَا أَجْعَلُ الَّذينَ منْ مَجْمَع الشَّيْطَان، منَ الْقَائلينَ إنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ يَكْذبُونَ: هَئَنَذَا أُصَيّرُهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَ رجْلَيْكَ، وَيَعْرفُونَ أَنّي أَنَا أَحْبَبْتُكَ". نلتقي بنفس الجماعة هنا كما في الرسالة إلى سميرنا. طابع المعارضة قد لا يكون نفسه في كلتا فترتي الكنيسة، لأن تكتيكات الشيطان مختلفة، ولكن في كلتا الحالتين توسم المعارضة بأنها "مَجْمَع الشَّيْطَان". تبدو الجماعة منظمة أكثر وموحدة في فترة فيلادلفيا من الكنيسة؛ ولذلك فهنا "مَجْمَع الشَّيْطَان". هؤلاء المشار إليهم هنا هم من اليهود، فكما أن اليهود ادعوا أنهم شعب الله على الأرض وأقصوا الآخرين، كذا نشأ نظام كنسي فيه خلافة تقليدية. طابعها الحقيقي يكشفه رب الكنائس. إن هذا المجمع هو تحت إمرة الشيطان، وكلما ازداد شراً ازدادت إساءتهم إلى اسم الرب القدوس والحقيقي. إن الإدعاء بأنهم الكنيسة، أو أنهم شعب الله زائف، "كذبة". إن نفوسنا وضمائرنا صارت متبلدة إلى أن وسلنا إلى حالة فظيعة تشوش فيها الكثيرون من المؤمنين الحقيقيين. إن جمعيات الكنيسة-الدولة اليوم قد تطورت عن اليهودية، مع شعائر وعقائد مسيحية معينة أُضيفت إليها منذ ذلك الحين. المخلّصون وغير المخلّصين يُخاطبون معاً بالقول "إخوة". يمكن إثبات التهمة بيُسرٍ وببراهين كثيرة. يكفي أن نقرأ العهد الجديد ونقارن تعاليمه مع البروتستانتية ككل، ثم نسأل: أليس في وسطنا وحولنا نظام كبير من اليهودية في مبادئها وتقاليدها وممارساتها وطابعها؟ إن اليهودية المعاصرة تقع عليها دينونة الرب المهلكة. الشعبية، والكمية، والثروة، والتأثير هي إلى جانبه. قديسوا فيلادلفيا قليلون، وضعفاء، وليس لهم كبير اعتبار. هناك مظاهر زائفة من المسيحية في كل مكان، وينتشر خطر الانحراف عن الحق والقداسة. هناك جماعة كبيرة ومتزايدة في الكنيسة المعترفة يوصفون هنا بأنهم "مَجْمَع الشَّيْطَان". فماذا يكونون إذاً غير ذلك؟ هناك محبة بشرية متعاظمة، ولكن ليس هناك محبة إلهية في الوسط. الأولى تقول "في الاتحاد قوة"، والأخيرة تقول "الاتحاد في الطاعة والقوة". ولكن المناصب النسبية لهؤلاء الذين يشكلون "مَجْمَع الشَّيْطَان" وكنيسة فيلادلفيا سرعان ما تنقلب وتتعاكس. الأولى ستُقهر والأخيرة ستُمجَّد. كم سينعكس نظام الأشياء الحاضرة! ولكن، فوق ذلك، هؤلاء المدعون في الكنيسة سيعرفون أن أولئك الذين احتقروهم هم موضع المحبة الإلهية الخاصة. سوف "يَعْرفُونَ أَنّي أَنَا أَحْبَبْتُكَ".

الإعفاء من ساعة التجربة العتيدة:

١٠، ١١- "لأَنَّكَ حَفظْتَ كَلمَةَ صَبْري، أَنَا أَيْضاً سَأَحْفَظُكَ منْ سَاعَة التَّجْربَة الْعَتيدَة أَنْ تَأْتيَ عَلَى الْعَالَم كُلّه لتُجَرّبَ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض. هَا أَنَا آتي سَريعاً. تَمَسَّكْ بمَا عنْدَكَ لئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إكْليلَكَ". إن صبر المسيح أو تحمله قد اختُبر إلى الحد الأقصى، ولكن أتت التجربة وليس من نفاذ صبر أو نكد، كما الحال معنا غالباً، وإنما كمال في هكذا نوع من تصاعد إلى الله كرائحة الرضا. "كَلمَةَ صَبْري"، لا تُذكّر بماضيه- عطرٌ إذ تتعلق بالجمال الأخلاقي- بل تشير إلى موقف ربنا الحالي. إنه يجلس إلى يمين الله صابراً منتظراً إلى أن يجعل الله أعداءه عند موطئ قدميه (قارن مز ١١٠مع عب ١٠: ١٢، ١٣)، أو بمعنى آخر، ينتظر تأسيس الملكوت الألفي بقوة ومجد. لأجل ذلك الملكوت ينتظر المسيح بصبر في السماء. عندما يأتي وقت الله يجتمع الورثة، وقد تبدلوا وتمجدوا (١ تسا ٤: ١٧؛ ١ كور ١٥: ٥١- ٥٥)؛ وعندها يجلب الله إلى العالم باكورته، يُرافقها جميع قديسيه السماويين (يهوذا ١٤) والملائكة القديسين (متى ٢٥: ٣١). "فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (دانيال ٧: ١٤). يا له من منظر مجيد يُفتح أمامنا! هذا المشهد عظيم بالنسبة لنا، ولكن الرب سيكون في غاية السرور وهو ينتظر في صبر في عرش أبيه. قدَّم قديسوا فيلادلفيا شهادة حية وحافظوا عليها؛ وهنا نسمع "كَلمَةَ صَبْري"؛ لقد حافظوا عليها وسط ازدراء وتعجرف الجماعة المدَّعية الدنيوية المتعجرفة المتكبرة في الكنيسة المعترفة، الذين جعلت ادعاءاتهم المتعجرفة بالتقليد والوراثة في الخدمة، والكهنوت والحق الوحيد في منح الأسرار، القديسين خارجاً وتطلبت صبراً يفوق الاحتمال الطبيعي. "لأَنَّكَ حَفظْتَ كَلمَةَ صَبْري، أَنَا أَيْضاً سَأَحْفَظُكَ منْ سَاعَة التَّجْربَة"، يا لها من مكافأة وافرة بالنظر إلى الأمانة التي حافظت عليها كنيسة فيلادلفيا! لم يكن الصراع صغيراً أو خفيفاً. لقد كان صراع سميرنا مع العالم الوثني. وكان صراع فيلادلفيا مع قوة التدين. لقد احتملت الكنيسة وهي ترى الرب الذي لا يُرى، وانتظرت في صبر كما فعل الرب الذي كان ينتظر تدخل الله.

التعبير بالألفاظ عن الوعد دقيق ولبق ويحسم فعلياً أمر النظرية التي اقترحها البعض، والتي ترعب المؤمنين، في أن الكنيسة أو جزء منها يجب أن يمر عبر الضيقة القادمة ليتطهر من عدم الأمانة. لا، الضمانة هي، "أَنَا أَيْضاً سَأَحْفَظُكَ منْ سَاعَة التَّجْربَة"، وليس "خلالها" أو "فيها"، بل أستثنيك كلياً منها. ما من جزء م الكنيسة سيكون في ضيقة. اليهود بشكل خاص سيكونون أكثر من سيعاني، لأن ذلك سيكون بشكل بارز "وَقْتُ ضِيقٍ عَلَى يَعْقُوبَ" (إرميا ٣٠: ٧). الأمميون، أيضاً، مشتملون فيه (رؤيا ٧: ٩- ١٧). لوط ونوح حُفظا خلال الضيقات الخاصة بكل منهما في أيامهما؛ ومن جهة أخرى، إبراهيم وحَنُوك حفظهما الله من نفس فترات التجربة تلك. وهذا ما سيميز الكنيسة. ساعة التجربة "عتيدة". إنها تقترب يوماً فيوم، ولا يمكن تأجيلها أكثر بطبيعة الأشياء.

"الْعَالَم كُلّه"، أو القسم المأهول بالسكان من الأرض. الكلمة هنا هي نفسها الموجودة في لوقا ٢: ١، والتي تشير إلى الإمبراطورية الرومانية. كل من كان منفصلاً عن الإمبراطورية أو خارج حدودها كان يعتبر وكأنه خارج نطاق الحضارة. المجال الجغرافي للمالك الكونية الأممية الأربعة (دانيال ٢)، عالم النور والامتياز الخاصين، سيخضع لفترة من التجربة قصيرة ولكن فظيعة. هذه الأزمة في تاريخ العالم ستحدث خلال الأسبوع الأخير من نبوءة دانيال الشهيرة عن سبع سنوات (دانيال ٩: ٢٧). وعلى العالم المسيحي أن يجيب الله أو يُحاسَب أمام الله على سوء استخدام النور الممنوح له والامتياز المعطى له. المسيحية سوف تدين العالم المسيحي. الضمير وشهادة الخليقة ستدينان الوثنيين. ولكن هناك جماعة واحدة، متميزة، توصف بعبارة ذات مغزى تقول: "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". هذا التعبير له معناه العميق المتجذِّر في فيلبي ٣: ١٨، ١٩. أعداء الصليب هؤلاء استقروا في الأرض، وجعلوا منها منزلهم، وأمور الأرض واهتماماتها تحصر أفقهم. كجماعة متميزة هكذا يُشار إليهم بين الحين والآخر في سفر الرؤيا (٦: ١٠؛ ١١: ١٠؛ ١٤: ٦، الخ.). بما أنهم اختاروا عن عمد الأرض بدلاً من السماء، فإنهم يُمتحنون في تلك الساعة الآتية عندما سيُمارس المسيح حقوقه على الأرض، بحسب الشهادة النبوية لهذا السفر، فيقيم الدينونة في فلسطين بشكل خاص.

"آتي سَريعاً" فيها إعلان يعبّر عن عودة الرب السريعة من السماء. تتكرر ثلاث مرات في الأصحاح الأخير من السفر (الآيات ٧، ١٢، ٢٠). كيف يمكن أن تتوافق هذه الـ "سريعاً" مع التأجيل المطول لحوالي ألفي سنة؟ آهٍ. علينا أن نؤقلم طرق حسباننا للأمور، ونقيس الزمن بطريقة الله. "وَلَكِنْ لاَ يَخْفَ عَلَيْكُمْ هَذَا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ" (٢ بطرس ٣: ٨). وبالتالي فالفترة بين المجيئين، الأول والثاني، ستكون حوالي يومين.

"تَمَسَّكْ بمَا عنْدَكَ". ما كانت فيلادلفيا تمتلكه بشكل خاص كان كلمة المسيح، واسم المسيح، وصبر المسيح، ومجيء المسيح. هذه كان يجب حفظها. الموت، والابتعاد عن الكنيسة، والتسويات قد تضعف الجماعة وتقلل عددها وتجعلها واهنة جداً. ولكن الحاجة الأكبر هي أن "يتمسكوا" بالإيمان، وأن لا يتخلوا عن أي ذرة من الحق. طابع الأوقات يتطلب ولاءً كاملاً بالإيمان وتكرساً لا انتقاص فيه للمسيح ولكل من عُهِد إلينا أن نعتني بهم. "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلَكِنَّ وَاحِداً يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا" (١ كور ٩: ٢٤). ليس البداية، بل النهاية هي التي تحدد الملاءمة لوضع الإكليل. الفيلادلفي الحقيقي هو الذي يتابع صراعه حتى النهاية. كم الحاجة شديدة إلى كلمات تذكيرية يسمعها القادة والأتباع على حد سواء: "تَمَسَّكْ بمَا عنْدَكَ لئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إكْليلَكَ". إن تخلينا عن الحق، نخسر الإكليل. ويا لها من خسارة لا تُعوَض.

مكافآت فيلادلفية:

١٢- "مَنْ يَغْلبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُوداً في هَيْكَل إلَهي، وَلاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إلَى خَارجٍ، وَأَكْتُبُ عَلَيْه اسْمَ إلَهي، وَاسْمَ مَدينَة إلَهي أُورُشَليمَ الْجَديدَة النَّازلَة منَ السَّمَاء منْ عنْد إلَهي، وَاسْمي الْجَديدَ". الغالب ٦ في فيلادلفيا هو الذي، ورغم ضعفه، يتمسك بإيمانه ويثابر في طريقه. هذا التقدم لا يتميز بإنجازات مميزة، بل إنه يصارع بالحصول عليها. النزاع العميق يُقوِّي الإيمان، ويقود إلى أمانة متزايدة. المؤمن الحقيقي يتمسك بثبات وقبضة مشدودة بكلمة المسيح، واسمه، وصبره، ومجيئه. قد يفقد حياته، ولكن ليس الأشياء التي تشكل إكليل شهادته. ضعف الأرض سيُستبدل بثبات السماء. "سَأَجْعَلُهُ عَمُوداً في هَيْكَل إلَهي". سوف لن يكون هناك هيكل مادي في السماء (رؤ ٢١: ٢٢)؛ سيكون هناك واحداً على الأرض في زمن الدينونات التي يتحدث عنها سفر الرؤيا (١١: ١، ٢). "هَيْكَل إلَهي" تشير إلى المقدس في الأعالي. نصب سليمان عمودين ضخمين من النحاس في رواق الهيكل دلالة القوة والصلابة (الملوك الأول ٧: ٢١). اسم هذين العمودين كان "يَاكِينَ"، ويعني "يُثبِّت"، و"بُوعَزَ" ويعني "القوة". والتلميح الذي في نصنا هو إلى هذين العمودين. المؤمن الفيلادلفي الضعيف والمجرب، المطرود خارج الجماعة العامة التي تدعي استقامة الإيمان على الأرض، سوف "يُثبَّت" ويُجعل "قوياً" في البركة الأبدية السماوية. وهذا المنصب الرفيع هو حالة أبدية ثابتة: "لاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إلَى خَارجٍ".

١٢- "أَكْتُبُ عَلَيْه اسْمَ إلَهي". بركة معرفة الله أيضاً، ستكون نصيب الغالب السعيد. ولكن حكاية النعمة لن تنتهي بعد. مدينة إلهي، أورشليم الجديدة التي مكانها الصحيح هو في السماء (٢١: ٩، ١٠)، تصب ثروة بركتها على إكليل الغالب. وأخيراً وليس آخراً، اسم المسيح الجديد سيُنقش إلى الأبد على كل واحد من جماعة الغالبين. اسمه الجديد يشير إلى علاقته الخاصة مع العالم بأجمله ويُوجز البركات السماوية. وبينما يفوق في كل الأشياء، مع ذلك نقرأ هذه الوعود الكاملة والغنية بشكل خاص كارتباط حميمي وشخصي مع المسيح في مشهد المجد المستقبلي. كم يحب المسيح أن يربطنا بنفسه بهذه القائمة من المكافآت! إلهي، اسمي، الخ. تتكرر خمس مرات.

الخطاب إلى ملاك الكنيسة في فيلادلفيا ينتهي بالدعوة المعتادة إلى السماع. ألا ليت الله يمنح أذناً مصغية لكل قارئ!

خطاب الروح القدس إلى لاودكية

(٣: ١٤- ٢٢).

ملامح عامة:

في الكنائس الأربعة الأولى يقدم المسيح نفسه في جزء من الشخصية التي يراه فيها الرائي في الأصحاح ١: ١٢- ١٦، ولكن في كل من الكنائس الثلاثة الأخيرة يقدم إعلانات جديدة عن نفسه. الظروف في هذه الكنائس الأخيرة مختلفة كلياً عن تلك التي قبلها. ومن هنا فإن تقديم يسوع لنفسه متطابق تماماً مع ما تصوره عليه الكنائس العديدة المنغلقة.

مهما كانت الحالة العامة للكنيسة في أي فترة، لا يهجر المسيح الكنيسة أبداً. وعندما لا تعود آنية شهادة لله، وحاملة النور في الظلام، فعندها يأتي الحكم بالاستئصال (٣: ١٦) الذي يُنفذ بشكل كامل. ولكن ذلك اليوم، رغم انه قريب، إلا أنه لم يأتِ بعد. إن الكنيسة في شهادتها الخارجية لله يُعترف بها وهي مميزة، ويمكن أن تُخاطب من منطلق موقفها الكنسي. لم يرفض الله بعد الكنيسة المعترفة، ولا ينبغي أن نفعل ذلك نحن. إننا نتأسف على الشرور فيها، ونرفض الاشتراك في الآثام التي تُمارس في ظلها، ولكنها لا تزال الشاهد لله على الأرض، عمود وأساس الحق (١ تيموثاوس ٣: ١٥) وشجرة زيتون الشهادة (رومية ١١). إن التهديد غير المشروط وتنفيذه أمران مختلفان. الأول قد أُعلن؛ والأخير هو في المستقبل. لاودكية، التي تمثل الطور الأخير من الكنيسة المعترفة، لم يتبرأ الله منها بعد علانية (الآية ١٦). موقفها الكنسي واقعي وإيجابي كما كل الكنائس السابقة. لربما ابتعدت لاودكية في الحياة والممارسة أكثر من الكنائس الأخرى، ولكن مكانتها أمام الله لا يُشك فيها، وعلى ذلك الأساس تُخاطب.

الكنيسة في هذين الأصحاحين يتم الحديث عنها في طابعها العام والمعترف كبيت الله حيث يتمتع المؤمنون بأعلى امتيازات؛ ومن هنا فإنها مشهد المسؤولية الأكبر والموضوع الأول للدينونة الإلهية (١ بطرس ٤: ١٧). إن الكنيسة، عندما تُرى على أنها الجسد السري للمسيح، إذ أنها مجموع كل المؤمنين الحقيقيين على الأرض، معفاة بالتأكيد من الدينونة. الإدارة البشرية تدخل في الأولى بشكل كبير؛ بينما الأخيرة هي ثمرة روح قدس الله. الحقيقي والزائف قد يدخلان إلى "البيت". ولكن المؤمن الحقيقي فقط هو الذي يستطيع أن يدخل إلى "الجسد". لا داع لأن يخاف المؤمن الحقيقي من أن يكون معنياً بالتهديد بالدينونة على النحو البات أو القاطع الذي نراه في الآية ١٦. "اختُطفت" و"أتقيأ" تعلن صراحة المصير الخاص للمؤمن الحقيقي الزائف، للمؤمنين ومجرد المعترفين. هذا الأخير الذي يمقته المسيح حتى أن يُضطر لرفضه لأنها الطريقة الوحيدة لتُصان قداسته علانية.

في الخطاب إلى فيلادلفيا ليس هناك توبيخ. وهنا ليس من مديح.

ألقاب المتكلم الإلهي:

١٤- "وَاكْتُبْ إلَى مَلاَك كَنيسَة اللاَّوُدكيّينَ: «هَذَا يَقُولُهُ الآمينُ، الشَّاهدُ الأَمينُ الصَّادقُ، بَدَاءَةُ خَليقَة الله". يقول البعض أن الأصح هو القول أن "الملاك الذي في لاودكية" وليس "مَلاَك كَنيسَة اللاَّوُدكيّينَ". إن الألقاب تلائم الكنيسة في أيامها الأخيرة؛ إنها تلائم حالة لاودكية الحالية من الأشياء. وكالمعتاد، الخطاب موجه إلى الملاك. موقف الكنيسة بتلك الوسيلة مميز وملاحظ. الحالة الروحية لهذه الكنيسة وحتى في أيام بولس، قبل ثلاثين سنة خلت، سبب للرسول صراعاً فكرياً كبيراً (كولوسي ٢: ١). أسباب متنوعة ساهمت في دمار الكنيسة، في مقدمتها الكبرياء، الثراء المادي، والرضى عن الذات. وفي هذه تفاخرت. فكم تناسبها إذاً هذه الألقاب!

(١)- "هَذَا يَقُولُهُ الآمينُ". هذه كلمة عبرية تعني ما هو ثابت، وحقيقي، وغير متبدل. قوة الكلمة يمكن أن نجدها في أشعياء ٧: ٩ و٦٥: ١٦، بينما كلمات "يؤمن" و"الحق" تعني حرفياً "آمين". وهذه مرادفة في اللغة اليونانية للكلمة التي نعرفها جيداً أن "الحق"، التي تتكرر مرتين في إنجيل يوحنا، وفقط هناك ترد حوالي ٢٥ مرة. إنها تدل ضمناً على التأكيد الإلهي. وهنا لا توظف كما في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس كظرف، بل إن استخدامها مع أداة التعريف "الآمين" يشير إلى مجد آخر، ولقب وصفي آخر لربنا الممجد. لقد أخفقت الكنيسة كلياً من الاستفادة من وعود وحق الله. في المسيح كلاهما مضمون ومأمون. في شخصه لدينا الضمانة بأن كل وعد وكل حق سيكون آمين (انظر أيضاً ٢ كور ١: ٢٠).

(٢)- "الشَّاهدُ الأَمينُ الصَّادقُ". إن طريق الأجيال يغطيه الحطام. كل شاهد لله، فرداً كان أم جماعة، أخفق ما عدا واحد. الكنيسة، التي منحها الله بسخاء الحق والامتياز، هي أسوأ مدافع عن أي جماعة شاهدة منذ آدم وحتى الآن. هل كانت عبداً أميناً لكنوز النعمة الإلهية؟ هل هي شهادة حقيقية لشخص الله؟ هل هي التعبير الحي على الأرض عن يسوع المسيح، عما كان وعما هو؟ للأسف لا! لقد أغلقت عليه الكنيسة خارجاً. اسمعوا لحنها المتهلل: "إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ"، ولا حتى إلى المسيح، وحياة الكنيسة والمجد. وهكذا فقد طُرد يسوع خارجاً، ومع ذلك فإنه واقف على الباب، ماكثاً في الخارج ويقول: "هَئَنَذَا وَاقفٌ عَلَى الْبَاب وَأَقْرَعُ". هذا هو عجب العجب، ولا يزال موقف يسوع هو هكذا حتى الآن. الكنيسة هي الشاهد صاحب أكبر مسؤولية الذي ظهر على الأرض، وهي الآن حطام كبير. لقد تدمرت أخلاقياً، ليس على يد أعداء صريحين، بل عن طريق الأصدقاء المعترفين. متبجحة، متكبرة، مثقلة بالثروة، وقانعة ببقاء المسيح خارجاً! هكذا كانت كنيسة لاودكية، هكذا هي الكنيسة اليوم. لم تكن مخلصة أو أمينة ولا شاهداً حقيقياً. أما المسيح فهو كذلك، وهذا يريح القلب من جديد إذ أننا نتناسى الحطام والدمار الذي يحيط بالمسيح. يا لها من راحة للنفس! فها هنا أساس ثابت راسخ بالإيمان وسط الاضطرابات الكنسية في كل مكان. المسيح هو شاهد الله.

(٣)- "بَدَاءَةُ خَليقَة الله". لقد جُعلت الخليقة تحت قيادة آدم، سواء كان من الناحية الكنسية أو الاجتماعية أو السيادية، وانتقلت من سيء إلى أسوأ. "فساد الأفضل"، أي الكنيسة، "هو أسوأ الفساد". يبدو العالم مستعداً لأن يدخل إلى آخر غوصة له في دوامة الإثم والفساد. الطقسية تعمل متجهة نحو البابوية، والمذهب العقلاني ينحو إلى الإلحاد. الأولى سيرأسه، ليس البابا، بل ضد المسيح؛ والأخير سيمثّله إنسان لا اسم له في الكلمة الإلهية، ولكن يُشار إليه بـ "الوحش"، الذي يتميز بقوة متوحشة، وشخصية مجدّفة مضطهدة قاتلة، تعمل بإلهام الشيطان. لا نعرف إن كان هذان الرجلان على قيد الحياة الآن بالتأكيد ولا نبالي، وكما كان اليهود والأمميون متحدون في صلب ربنا، فهل من المستبعد أن تتحد قوى الطقسية والمذهب العقلاني التي تدمّر الكنيسة، عندما تُزال التأثيرات الكادحة وتتطور الأشياء على نحو كامل، فعندها ألا يعقل أن يترأس كل هذا يهودي وأممي؟ لاودكية اسم مركَّب من كلمتين يونانيتين ترمزان إلى "الناس" و"الأبرار"، وتمثّل الصراع الذي يُشنُّ حالياً بقوة في كل أرض من قِبل الشعوب لتحصل على حقوقها، سواء كانت حقيقية أم مزعومة. قوى الفوضى والنظام تتجابهان ضد بعضهما البعض، وسرعان ما نرى في أوربا، إن لم يكن في مكان أوسع، مشهداً شرساً من الدمار لكل السلطات، مع فوضى تترافق مع انتصار الشعوب القصير الأجل، والذي سيُحوِّل الأرض إلى جحيم (رؤيا ٦: ١٢- ١٧)، عندما ستقبض على الدفة يدٌ قاسية تمتد من وسط الفوضى الأخلاقية والاجتماعية والسياسية- حكم استبدادي يتلوه آخر- وتصبح الخليقة أخيراً ومن جديد تحت سيادة المسيح، بَدَاءَةُ خَليقَة الله (مز ٨؛ أفسس ١: ١٠- ٢٢، الخ). "لذلك، فإن هذا اللقب نفسه، يعلن دمار الخليقة التي صار عمرها الآن حوالي ٦٠٠٠ سنة، والتي كانت فيها الكنيسة آخر شاهد. وهنا الحديث عن نظام مكثف ورائع من الأشياء، السماوية والأرضية، الحيّة وغير الحيّة، التي يُوصَف المسيح كإنسان هنا بأنه الـ "بَدَاءَةُ"، للخليقة التي يتكلم عنها نصنا. إن الملكوت الألفي يُشار إليه هنا. في الألقاب السابقة للمتكلم الإلهي، إن تحوَّلنا عن الكنيسة إلى المسيح، عن شهادتها المدمرة إلى ذاك الضامن للحقيقة والوعد، والشاهد الأمين والحقيقي، فإن قلوبنا هنا تستقر في عبادتها على مشهد من بركة لا تُوصَف، على خليقة يكون المسيح فيها الـ "بَدَاءَةُ" ٧.

حالة الكنيسة المغثَّة:

١٥، ١٦- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارداً وَلاَ حَارّاً. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارداً أَوْ حَارّاً. هَكَذَا لأَنَّكَ فَاترٌ، وَلَسْتَ بَارداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ منْ فَمي". "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ" تتكرر سبع مرات في هذه الرسائل. في الحديث إلى ملاك أفسس وثياتيرا هناك أشياء أخرى تضاف إلى الأعمال التي يقول عنها الرب "أنا عارف"، بينما في حالة ساردس وفيلادلفيا ولاودكية، تأتي العبارة "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ" مشيرة إلى الحالة العامة والوضع العام لهذه الكنائس. الجملة حافلة بالمعاني، "أَنَا عَارفٌ"، تتكرر سبع مرات، وتوجَّه إلى ملاك كل كنيسة. العلم الكليّ، وهي صفة إلهية، تُؤكَّد سبع مرات عن ربنا. بالنسبة إلى ضعف فيلادلفيا، هذا التأكيد من قِبل الرب على معرفته المطلقة بما هو غير معروف للبشر، بل له فقط، هو حقيقة قوية. وبالنسبة للاودكية في فتورها، مع تبجحها وانتفاخها، وثرائها، عين الرب النافذة البصر والفاحصة لأعماق القلوب ستكون فكرة لا تُحتمل. ما يلاحظه الرب هنا بشكل خاص هو الحالة الفاترة للملاك. الطور الأخير من الكنيسة هو الأسوأ. الناس يجدون شراً أكبر في ثياتيرا. يعلن الرب عن وجود الحالة المغثّة المقرفة بأبشع صورها التي تغوص فيها لاودكية، هذه الحالة التي يُمتدح فيها الملاك بشكل إيجابي. المفردات المستعملة هي "بارد" و"حار" وليس "ميت" و"حي". لو كانت العبارات الأخيرة مستخدمة لكان التساؤل هو عن حقيقة أن يكونوا مخلّصين أم هالكين، ولكن "لَسْتَ بَارداً وَلاَ حَارّاً" تستند إلى حالتهم بالنسبة للرب. اللامبالاة الكاملة تجاه المسيح، وليس البغضاء، هي ما تدل عليه كلمة "فاتر" ٨.

لا نتفق في الرأي مع البعض الذي يقول بأن حالة الفتور في لاودكية تنشأ عن حالة فيلادلفيا في الكنيسة. هكذا تفسير تواجهه صعوبة لا تُذلَّل، ولكن، وبلا شك، برودة وموت ساردس، مع الضعف ودفء فيلادلفيا، ترك تأثيراً خفيفاً على الحالة العامة للاودكية. نعتقد أن الناموسية في ثياتيرا، وانعدام الحس الأخلاقي في ساردس، ورفض الحق ومكانة فيلادلفيا، مع أسباب أخرى، قد ساهمت في نشوء حالة لاودكية في تلك الكنيسة، أي اللامبالاة المطلقة بالمسيح. ما الذي يمكن للرب أن يفعله بها؟ لو كانت باردة، لاتخذ موقفاً نشيطاً- ولو كانت حارّة- مُبدية بعضاً من النشاط الروحي- فعندها يمكن القيام بأمر ما. ولكن موقفها الفاتر، والمحيِّر نحو المسيح والحق بغيض جداً لدرجة أنه يجب التخلص منه دونما إبطاء. الطور الأخير من الكنيسة هو أسوأها. فيلادلفيا ابتهجت وتشجعت بالوعد. "هَا أَنَا آتي سَريعاً". لاودكية مهددة بالدينونة: "أَنَا مُزْمعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ منْ فَمي". الوعد والتهديد كلاهما مقدمان على أنهما في متناول اليد. لاحظنا أكثر من مرة أن الأطوار الأربعة الأخيرة من الكنيسة تسير بشكل متزامن نحو النهاية. الجماعة في ثياتيرا وساردس مشتكون في نفس القدر المحتوم المخصص للاودكية، بينما البقية في هذه الكنائس تتشارك في بركة مميزة لفيلادلفيا- "اختُطفت". مجيء الرب لا يُشار إليه في الرسالة إلى لاودكية. إنكارها العلني لشهادة الله ستكون له نتائجه بانتقال القديسين السماويين. بمعنى آخر، انتقال فيلادلفيا ورفض لاودكية حادثان متزامنان، الخير يعتمد على الأول. العالم المسيحي، الذي بدأ تاريخه تحت أسطع التكهنات، سينتهي تحت أحلك السحب التي حلّت على مسار المسؤولية الإنسانية.

التبجح المتكبر ودينونة الرب:

١٧- "أَنَّكَ تَقُولُ: إنّي أَنَا غَنيٌّ وَقَد اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لي إلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقيُّ وَالْبَائسُ وَفَقيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ". فيلادلفيا ليس لديها كلمة تقولها عن نفسها. لاودكية لها ما تقوله. وفي الواقع، من كل الجوانب تقريباً هاتان الكنيستان تقفان على النقيض إزاء بعضهما البعض. "إنَّكَ تَقُولُ". لم تكن هناك حالة رضى عن النفس فقط في الكنيسة، ولكن التبجح المتكبر فيها يُدوَن هنا: "إنَّكَ تَقُولُ: إنّي أَنَا غَنيٌّ". كان يمكن للمدينة أن تتبجح بثرائها المادي، والكنيسة بدورها يمكن أن تتبجح بثرواتها. وإضافة إلى ذلك، فقد أُضيف، إلى ثروتها: "قَد اسْتَغْنَيْتُ". لاشك أن الكنيسة في لاودكية كان لها تأثير، وأعداد، ومواهب، ومكتسبات رائعة، ومنجزات فكرية، ومواصفات جذابة أخرى، ومن ضمنها الكبرياء نفسه. يا للأسف! هذه الأشياء كانت على حساب الروحانية، على حساب المحبة الحقيقية والمتقدة نحو المسيح، وهذه لا تُعتبر إلا لعنة، ويجب عاجلاً أم آجلاً أن تتوب عنها، وأن تنتهي إلى دينونة. في تقديرهم "لاَ حَاجَةَ لهم إلَى شَيْءٍ". لم يكن لديهم قلب يميل إلى المسيح ولا رغبة في حضوره. لقد استطاعوا أن يتبجحوا بينما كانت الدينونة تُعلن في ذلك الحين (الآية ١٦)، والمسيح حياة الكنيسة ومجدها كان قد وُضع خارجاً (الآية ٢٠). حالة لاودكية هي الخطر الخاص الذي نجده محدقاً في هذه الأيام.

ما تقدير الرب لحالتها؟ ما هو حاصل جمع وطابع ثروة لاودكية في عينيه؟ "أَنْتَ الشَّقيُّ وَالْبَائسُ"، إضافةً إلى كونك "فَقيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ". إن أداة التعريف محذوفة قبل هذه الصفات الثلاثة الأخيرة، وهذا ما يزيد عنصر قوة إلى دينونة الرب على لاودكية. "الشَّقيُّ وَالْبَائسُ" أو "الجدير بالشفقة" فيها تركيز على شدة التعاسة والبؤس، ويستحق إشفاقاً لا حدّ له. لقد كانوا فقراء، أو معدمين من الغنى الحقيقي؛ عميان عن حالتهم وعن مجد الرب؛ وعُراة، لأنهم معوزون إلى البر الإلهي. هناك صفة أخرى تكمل الصورة المرعبة المقدمة في هذه الكنيسة التي لا مسيح فيها: "وَلَسْتَ تَعْلَمُ". حالتها الحقيقية أمام الرب كانت مجهولة تماماً بالنسبة لها. لو كان لديها أدنى درجة من الإدراك لحاجتها لكان يمكن أن يكون هناك أمل أو رجاء. ولكنها كانت في حالة لامبالاة كاملة. ولذلك لم يبقَ هناك سوى الرفض المقيت.

حالة لاودكية المثلثة الجوانب ونعمة الله المثلثة الجوانب:

١٨- "أُشيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَريَ منّي ذَهَباً مُصَفًّى بالنَّار لكَيْ تَسْتَغْنيَ، وَثيَاباً بيضاً لكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خزْيُ عُرْيَتكَ. وَكَحّلْ عَيْنَيْكَ بكُحْلٍ لكَيْ تُبْصرَ". الملامح الثلاث الرئيسية المميزة للاودكية كانت فقرها، وعريها، وعماها؛ وهذه هي ما كان الرب، الرحوم دائماً وأبداً، ليقدِّم حلاً لها هنا. لعله كان يستطيع أن يأمر، ولكن لا، لقد استشار، "تَشْتَريَ منّي ذَهَباً مُصَفًّى بالنَّار". "تَشْتَريَ" ليس فيها مشكلة أو صعوبة. فالمسيح لديه كنوز النعمة، وكنوز السماء تحت تصرفه. إنه يحدد المواد التي يبيعها: "أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْراً وَلَبَناً" (أشعياء ٥٥: ١). حقك في أن تأتي، وأن تشتري، هو حاجتك وبسبب فقرك. "الذهب" المنقى أو المصفى بالنار يشير إلى البر الإلهي، وقد اختُبر وجُرِّب؛ وبدونه، كم نكون بائسين فقراء! وبه كم نكون أغنياء! "الثيَاب البيض" تدل على بر القديسين، أي أفعال البر (رؤيا ١٩: ٨)، التي ستُغطي عريهم الروحي والخزي في أنفسهم. "كحل العينين" هو لأجل التمييز الروحي.

المطلب الأخير للرب:

١٩- "إنّي كُلُّ مَنْ أُحبُّهُ أُوَبّخُهُ وَأُؤَدّبُهُ. فَكُنْ غَيُوراً وَتُبْ". لا يتكلم الرب، كما يفترض البعض، في القسم الأول من النص عن القديسين في لاودكية. بل إنه يشير إلى حقيقة مشتركة في كلا العهدين (أمثال ٣: ١١، ١٢ وعبرانيين ١٢: ٥، ٦). النص هنا لا يفرض تطبيقه على أي مجموعة خاصة من القديسين. لقد كان الرب يتكلم حتى الآن بلهجة صارمة غير عادية. لقد استدعت الضرورة ذلك. التوبيخات الصارمة التي توجَّه إلى الملاك كان يجب أن يتبعها فعل دينونة لا سبيل إلى التخلص منها- "أَتَقَيَّأَكَ". ولكن بالنسبة للمسيحيين، آنذاك والآن، كان عليهم أن يعرفوا أن توبيخات الرب، وتأديبه الأقسى، كانت ثمرة المحبة، وليس بدافع التعامل الاستبدادي كما يحدث مع الوالدين الأرضيين. "كُنْ غَيُوراً وَتُبْ". الرب يوقظهم من السبات واللا مبالاة التي غاصوا فيها. سيضرم من جديد اهتمامهم. هل وصل هذا الحض لأن يكون كل منهم "غيوراً ويتوب" ضمير كنيسة لاودكية؟ إنها الخطوة الأولى نحو الشفاء. هل اتخذوها؟ كجماعة، لا. ولكن الحمد لله، فإن الأفراد أبدوا اهتماماً، وأصغوا إلى نداء الدعوة للتوبة. ولكن الجماعة عموماً لا تزال منجرفة مع التيار، وقد ظهرت لاودكية الآن تحمل صفات حالة الكنيسة الدولة اليوم. إن دينونة الجسد المسيحي المعترف، كما أُعلِنت في الآية ١٦، محتومة ووشيكة الحدوث.

المسيح يقف ويقرع ويتكلم:

٢٠- "هَئَنَذَا وَاقفٌ عَلَى الْبَاب وَأَقْرَعُ. إنْ سَمعَ أَحَدٌ صَوْتي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إلَيْه وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعي". هذه الدعوة المؤثرة والحانية المستمرة منذ قرون كانت أساس الترنم والوعظ المسيحي. المطلب الأخير الذي يطلبه الرب من الجماعة كجسد يستمر في الآية ١٩؛ وهذا يُوجّه للأفراد فقط. بين التهديد بالرفض (الآية ١٦) وتنفيذه، يأخذ الرب مسافة يبقى فيها خارج المكان: "هَئَنَذَا وَاقفٌ عَلَى الْبَاب"، وهكذا يتبرّأ من جسد الكنيسة المعترفة. إن الرب يقرع ويتكلم بآن معاً. يا له من عرض كريم وسمح للنعمة في أسوأ الظروف! إن الرب لا يأمر بالشراء (الآية ٨) ولا يجبر على الدخول. إنه يشاور في حالة ويقرع في الثانية. "وَاقفٌ... وَأَقْرَعُ". إنه فعل حاضر ومستمر. استمرارية كلا الفعلين مؤكدة: إنه يقف، وإنه يقرع. الرب لن يفرض حضوره حيث وعندما لا يكون مرغوباً به. عندما التقى بالتلميذين المحزونين المسافرين إلى عمواس، "تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ" (لوقا ٢٤: ٢٨). فأصرّا عليه ليدخل، قائلين: "«امْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا". في حضور يسوع القائم كل شيء يتبدل، فهو يصبح المضيف وهم يصبحون ضيوفه (الآية ٣٠). "إنْ سَمعَ أَحَدٌ صَوْتي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إلَيْه وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعي". إنها آخر فرصة للشركة قبل أن يحل ليل الدينونة، إنه أمر فردي بشكل أساسي. مع نكران شركة الكنيسة، كم سيكون الوعد فائق الحلاوة! إن الصوت هنا هو ليس صوت المسيح في قوته المحيَّة، ولا هو الخلاص الذي يقرع على قلب الخاطئ. إن الكلمة الموجهة إلى الخطاة هي: "أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ" (يوحنا ١٠: ٩). ليس عليهم أن يقرعوا، لأن الباب مفتوح دائماً وأبداً، وما عليهم سوى أن يدخلوا إليه. وبالنسبة إلى المؤمنين الكلمة الموجهة لهم هي: "اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ" (لوقا ١١: ٩). ولكن في نصنا يستمر الرب واقفاً ويستمر في قرع الباب. إنه يريد مكاناً في قلوب خاصته، سيقيم وليمة لنا حتى منذ الآن؛ كلنا معه نفرح ونبتهج، ولكنه هو الذي يمنح الفرح.

الوعد للغالب:

٢١- "مَنْ يَغْلبُ فَسَأُعْطيه أَنْ يَجْلسَ مَعي في عَرْشي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبي في عَرْشه". سيادة "العرش" هي العلامة والرمز على السلطة الملكية وكيف وصل يسوع إلى عرش أبيه ويتربع عليه معه في ذلك المجلس الرفيع الممجد؟ ليس بالحق المتأصل فقط. بل بحياة الصبر لديه والموت لأجل مجد أبيه. طريق الغالب منبسط مفتوح أمامنا. مثاله يُشجّعنا. آثار أقدامه تدلنا على الطريق. مكافأة الغالب مجيدة بلا شك، ولكن لا يمكن أن تفوق تلك المقدمة إلى الغالبين في فيلادلفيا. الاتحاد مع المسيح كابن الإنسان في ملكوته هو البركة الموعود بها هنا. الملكوت سيكون كونياً في امتداده (مز ٧٢: ٨؛ زكريا ١٤: ٩؛ مز ٨)؛ والإدارة صالحة قويمة (مز ٧٢: ١- ٧؛ مز ٤٥: ٧؛ أشعياء ٣٢: ١)؛ ويدوم إلى الأبد (دانيال ٢: ٢٧؛ ٢ بطرس ١: ١١؛ دانيال ٤: ٣٤). أورشليم العلوية ستكون الكرسي الرئيسي للقسم السماوي في الملكوت (الآية ٢١). وستكون هناك عاصمة رئيسية للملكوت هنا على الأرض (إرميا ٣: ١٧). الغالب في لاودكية موعود بالاتحاد مع المسيح في ملكوته ومجده. وبالتأكيد فإن مكافأة غنية وكبيرة ولو لفترة قصيرة الأمد ستكون هناك رغم الصراع القاسي الذي ستمر به لاودكية ويكتنفنا بقوة. ولكن النضال يجب أن يستمر حتى النهاية.

ثم تأتي الدعوة غير العادية إلى الإصغاء، والتي تأتي في مكانها المناسب هنا لإنهاء الرسائل إلى الكنائس.

مدخل إلى الجزء الثالث أو النبوي في سفر الرؤيا

سبع رسائل كنسية:

تُشكل الرسائل الموجهة إلى الكنائس القسم الثاني من سفر الرؤيا.: "مَا هُوَ كَائنٌ". كانت الكنيسة موجودة على الأرض في أيام يوحنا، ولا تزال مستمرة حتى الآن. هذا هو أبسط شرح لما رآه الرائي بالرمز (١: ٢٠). ثم الحالة الأخلاقية للكنيسة، والتي كانت عبارة عن مراحل من التاريخ متتالية ومتزامنة جزئياً، تتبين ملامحها من خلال سبع رسائل (٢: ٣). الصورة المصغرة عن تاريخ الكنيسة المستمرة في هذين الأصحاحين لا تُثمَّن. لكي نحصل على نور السموات مشرقاً على الأشياء خلال كل هذه الفترة من حياة الكنيسة التي استمرت حوالي ألفي سنة هي أمر بالغ الصعوبة. يا لها من دروس نستنتجها من هنا! وكم الحاجة ماسة إلى تحذيرات في يوم التراخي الأخلاقي! وكم هي مشددة تلك الوعود في فترات الضعف!

رسائل هذه الكنائس كانت للتطبيق المحلي في البداية، ولكن المجال الضيق والمحصور لما انطبقت عليه ما كان ليناسب سعة التعليم فيها. إن الحقائق والمبادئ التي تُكشف فيها لها تطبيقها على كل كنيسة معترفة. إنها مبادئ قابلة للتطبيق على الأفراد وعلى الكنائس على حد سواء.

القوام، والترتيب، والتأديب في الكنيسة كان يُشكّل ملامح خاصة من خدمة بولس. يكشف لوقا في "أعمال الرسل" تاريخها على مدى حوالي ٣٠ سنة، من العنصرة وحتى سجن بولس في روما. ولكن أُبقي للرائي في بطمس أن يكشف المزيد من ذلك التاريخ الفاصل بين نهاية الفترة الرسولية وحتى رفض المسيح للكنيسة.

التطبيق المستقبلي والتاريخي:

يبدأ الجزء النبوي من السفر بالأصحاح ٤ وينتهي بالأصحاح ٢٢: ٥، ويشكّل القسم الثالث: "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". العمل النبوي، على كل حال، لا يبدأ حتى الأصحاح ٦، حيث أن المشاهد السماوية المدونة في الأصحاحين ٤ و٥ كانت تمهيدية واضحة لسلسلة الإدانات الأولى المفصلة في الأصحاح ٦ لقد كان هناك بين الخير والشر، بين النور والظلمة، وهذه المبادئ الكبيرة تحكمها قوى معارضة، وروح قدس الله والشيطان. ومن هنا يمكننا أن نفهم بسهولة تحقيقاً جزئياً لها في الأوقات الحاضرة والماضية. ولكن وإذ نسمح بذلك بصراحة، وأيضاً مع التشابه بين الماضي والحاضر في أحداث عديدة في الجزء النبوي من الرؤيا، مع ذلك فإننا نلح على تحقيقها بشكل تام وشامل وكامل في الأزمة القادمة التي ستستمر سبع سنوات على الأقل. إن التطبيق المستقبلي هو الأصح بلا شك. إن التطبيق التاريخي يبقى دائماً حدسياً نوعاً ما، وبالكاد يتفق مفسران عليه. إن مبدأه في التفسير متعذر الدفاع عنه. لقد جُعل التاريخ هو مفسّر النبوءة. هذا الحدث أو ذاك يُفترض أن يُبين تحت الختم، أو البوق، أو الجام. لدينا اعتراضان هامان على الرؤيا الآنية للنبوءات المحتواة في هذا السفر: الأول، لأن هناك عدد كبير جداً من شعب الله فقراء وجاهلين، وسيُحظَّر عليهم عملياً فهمها إن كانت المعرفة بالتاريخ ضرورية وأساسية. والثاني، النبوءة حسب هذا النظام قد سُلبت من قيمتها الأخلاقية الحالية الآنية الحاضرة، إذ كيف يمكن لذاك أن يفعل فعله في النفس التي لا يمكن فهمها حتى تحقيقها؟

القديسون يُختطفون قبل الدينونات الرؤيوية:

والآن بين خاتمة الأصحاح وبداية الأصحاح ٤، أي بين القسمين الثاني والثالث من السفر، الغالبون "يُختطفون" والجمع "يتقأه" الرب، ولكن الرائي لا يدون هذه الأحداث: إنه يأخذها كأمر مُسلّم به. يكشف بولس بالوحي، وبأدق التفاصيل، انتقال قديسي العهدين القديم والجديد (١ تسا ٤: ١٥- ١٧). ونورد ثلاثة أدلة لا تقبل الجدل للدلالة على أن قديسي الرب الأموات والأحياء يُختطفون قبل بدء القسم النبوي من سفر الرؤيا (الأصحاح ٤).

(١) الكنيسة ليست على الأرض خلال فترة الدينونات التي يذكرها سفر الرؤيا، والتي نجد فيها جسداً مكوناً من اليهود والأمميين، ولكن ليس الكنيسة، المكونة من كليهما. الكلمة "كنيسة" أو الجمع منها ترد حوالي ٢٠ مرة في أول ثلاثة أصحاحات، وهي لا تُسمى ولا يُشار إليها في بقية السفر حتى الأصحاح ٢٢: ١٧، والذي هو بالطبع، استكمال للحالة الحاضرة من الأشياء، وهو ليس بأي شكل من الأشكال جزءاً من الرؤى النبوية. ما هو الاستنتاج الأكيد والمفهوم إذاً من حقيقة أن الكنيسة ليست على الأرض من الأصحاح ٤ حتى الأصحاح ٢٢: ٥؟ وإن لم تكن في السماء، فأين يمكن أن تكون؟

(٢) الأقسام الثلاثة من سفر الرؤيا لا تتداخل مع بعضها، وهي ليست متزامنة. ترتيب الكلمات في الآية ١٩ من الأصحاح الأول بسيط جداً. "فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ"، أي الرؤيا التي رآها الرائي لتوه، "مَا هُوَ كَائنٌ"، أي الكنائس السبع الموجودة آنذاك، و"مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا"، عندما تُرفع الكنيسة فيتم الحديث عن حكومة العالم. إن الروح القدس بنفسه ثبّت تقسيمات السفر إلى ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا" ترمز إلى "مَا هُوَ كَائنٌ" الذي سيكون قد توقف. التقسيمات متتابعة. والقسم الثالث يبدأ في ٤: ١، "أُريَكَ"، رؤى نبوية، "مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصيرَ بَعْدَ هَذَا"، أي تعامل الرب مع الكنائس على الأرض. ثم تأتي مجموعة متتالية من الأشياء.

(٣) الوضع بمجمله متغير. فليس الرب في وسط المناير أو الكنائس على الأرض، بل إن العرش مؤسس في السماء. هناك حقيقة عظيمة ذات أهمية بالغة لابد منها لفهم السفر ألا وهي أن قديسي الله يُشاهدون في السماء في الأصحاح ٤ وهم هناك حتى الأصحاح ١٩، عندما يرافقون الرب خارجين من السماء لإدانة العالم (الآيات ١١- ١٤). طوال فترة الدينونات الرؤيوية، وقبل أن تبدأ، الجسد السماوي من القديسين يُشاهدون في السماء. كيف وصلوا إلى هناك؟ لا يمكن تفسير ذلك بشكل مقبول إلا بالافتراض أن الاختطاف الذي يتكلم عنه ١ تسالونيكي ٤ يكون قد حدث. ذلك الحدث سيختم بالضرورة تعاملات الله مع الكنيسة، فينهي "مَا هُوَ كَائنٌ"، ويشق الطريق إلى الحالة الجديدة والنبوية والتي فيها "عَرْشٌ مَوْضُوعٌ في السَّمَاء" هو رمز مناسب. كل هذا بسيط ومتناغم ويبدو محفوراً على سطح السفر.


١. - في المجلس التشريعي الشهير في سبيرس، عام ١٥٢٩، وفي ١٩ نيسان منها، احتجَ (protested ) أمراء ألمانيا وآخرون كثيرون على اغتصاب البابوية بعهد كليمنت السابع. ومرة أخرى يوم السبت، في الرابع والعشرين من الشهر، وكان اليوم الأخير من هذا المجلس، جددوا احتجاجهم وبقوة. ولذلك فمنذ ذلك اليوم كل المصلحين الذين وقفوا موقف معارضة في البابوية صاروا يُسمون "البروتستانت".

٢. - تكلم لوثر باستخفاف عن الرسالة إلى يعقوب، لأنه كان يعتقد عن جهل أن الرسالة اليهودية تتعارض مع بولس في عرض عقيدة التبرير.

٣. - تأتي قراءة بديلة في أحد الهوامش في ترجمة للكتاب المقدس تقول "فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْحَمَلِ الَّذِي ذُبِحَ". انظر أيضاً (Tregelles, Darby, Kelly )، الخ.

٤. - هناك تعليمات كتابية كثيرة تتعلق بمعنى الأشخاص والأشياء يجهلها معظم القراء للكتاب المقدس بسبب إهمال هذا الجانب من الدراسات. من جهة أخرى، هناك خطر، وخاصة بالنسبة إلى الأشخاص ذي الطابع الصوفي في ذهنهم، في سماحهم للمخيلة بأن نحلّق بهم وتجنح وتنفلت عن إطار الحقيقة الموحى بها. وضع المصلح أرسينيوس، مؤلف التعليم المسيحي لهايدلبيرغ، عبارة "السقوط والفداء" من المغزى المعزوم لأسماء البطاركة العشر الأوائل الذين سبقوا عهد الطوفان؛ وتبعه آخرون في نفس الاتجاه الخيالي. إن كنا نسعى لتأسيس حقيقة أو عقيدة بناءً فقط على القيمة الحقيقية أو المفترضة لعدد ما أو لمغزى اسم معين، فإننا بذلك ندخل مبدأً خطيراً إلى التفسير الكتابي. إن قيمة الأعداد، ومغزى الأسماء تلقي الكثير من الأضواء الجانبية على تعاليم الكتاب المقدس. إن أصل الكثير من المفردات ضائع، ولكن لو أمكن معرفة أصل ومعنى الأسماء للأشياء والأشخاص في التاريخ المبكّر، وبشكل مؤكد فإننا سنكتشف أنها تعبر عن ملامح مميزة أو صفات معينة مرتبطة بظروف خاصة أو أحداث خاصة. تسمية آدم للحيوانات بلا شك لها علاقة بمواصفاتها العديدة أو عاداتها. في كتابه "علم اللغات" يقول البروفسور ماكس مولر: "حلل أي كلمة تريد وستجد أنها تعبر عن فكرة عامة تميز الفرد الذي تخصه. ما معنى القمر؟ المقياس. ما معنى الشمس؟ المُنجب. ما معنى الأرض؟ المحروثة".

٥. - "الكلمة" يعني بها فكر الرب بالإجمال، "كلمات" تفاصيل؛ و"الوصايا" تعبير عن سلطته (انظر يوحنا ١٤. "كلمات"، في الآية ٢٣، يجب أن تُقرأ "كلمة"؛ "أقوال" في الآية ٢٤، "كلمات").

٦. - تأتي "شهود" في عبرانيين ١١، بينما "غالبون" في رؤيا ٢، ٣. الأولى تشير إلى الجديرين بالاعتبار في العهد القديم، والأخيرة تشير إلى قديسي العهد الجديد.

٧. - هناك على الأقل أربعة مناصب رئاسية تُنسب إلى المسيح: (١) رئيس الجسد (كول ٢: ١٩). (٢) رئيس النسل (١ كور ١٥: ٢٢، ٤٥- ٤٩؛ أي أولئك الذين في المسيح، غلاطية ٣: ٢٨، ٢ كور ٥: ١٧). (٣) رئيس الخليقة (كول ١: ١٥- ١٧؛ ٢: ١٠). (٤) رئيس كل إنسان (١ كور ١١: ٣). "متحدون به" تعطي فكرة الأولية؛ "فيه" مشتملة ضمناً في الثانية؛ الوقار متبدٍ في الثالث؛ والربوبية في الرابع. " بَدَاءَةُ خَليقَة الله" هو لقب يشتمل على رئاسته.

٨. - "يتكلم الرب هنا فقط عن حالة أولئك الذين يكونون في علاقة معه"- هنغستينبرغ. ليست المسألة متعلقة في ما إذا كان الملاك حياً أو ميتاً روحياً، مهتدٍ أو غير مهتدٍ، بل الحالة الأخلاقية لشخص له علاقة محددة معينة مع الرب.