الأصحاح ١٥

الجامات السبع لغضب الله

مقدمة:

المشهدان الختاميان في الأصحاح السابق هما عن الحصاد والكرمة. ولكن كلاهما يفترض أن الرب قد أتى. السحابة البيضاء التي يجلس عليها الحاصد الإلهي تدل على حضور الله (١٤: ١٤). ثم في يوئيل، حيث الحصاد والكرمة يتحدان (٣: ١٣)، يقيم الربّ كرسي دينونته في وادي يهوشافاط (الآية ١٢). في متى ١٣: ٣٦- ٤٢ الأحداث أكثر تمايزاً ووضوحاً، ولكن كلاهما يفترضان حضور الرب الفعلي. لقد جاء ليعالج الشر على الأرض. ليس بابل، النظام الديني المنظم في معارضة مباشرة لله، هي التي تقع تحت الدينونة متمثلة بالحصاد والكرم، ولكن العالم بمجمله هو المدان والديان هو الرب نفسه، دينونة بابل تسبق الحصاد والكرمة، وفي الواقع لابد من ذلك. مصير بابل هو تحت الجام السابع (١٦: ١٩)، والأحداث المتزامنة بثلث سلسلة الأحداث نلاحظها في الأصحاح ١٤: ٨. ومن هنا، فإن مصير عبدة الوحش (الآية ٩)، وبركة الموتى الأبرار (الآية ١٣)، ودينونة الحصاد الحصيفة (الآية ١٤)، والانتقام القاسي من الكرم (الآية ١٧)، هي أحداث تجري بعد صب جامات الغضب. سكب الجام السابع يتم غضب الله، ليتبعه غضب الحمل. الجام السابع لا يُدخل الحضور الشخصي للرب في المشهد. هناك فاصل زمني، ولاشك فاصل قصير، بين نهاية دينونات الجام ومجيء الرب. في الجامات لدينا غضب الله على العالم الأثيم- على أشياء أو أشخاص محددين للدينونة. في هذه لا يظهر الرب. ولكنه يأتي بعد الجامات ليحصد الحصاد على الأرض وليطأ بانتقام معصرة الغضب، ليس فقط في أدوم (أشعياء ٦٣: ١- ٦)- مركز العدائية المرة السابقة نحو إسرائيل (مز ١٣٧: ٧)- ولكن العالم بمجمله (رؤية ١٩: ١٥؛ صفنيا ٣: ٨). الحصاد والكرمة يأتيان بعد سقوط بابل.

الأصحاحان يجب قراءتهما ودراستهما معاً. جامات الغضب هذه هي فعلياً ذكر بالتفاصيل لما ورد بشكل عام في كلمات الآية ١٨ من الأصحاح ١١. ليس هناك دينونات محددة تحت البوق السابع، بل تحت الجام السابع. انتهاء الجامات يُتم غضب الله. غضب الحمل يأتي بعد ذلك- ويُنفذ الدينونة شخصياً.

آيَة أُخْرَى: الأصحاح ١٥.

١- "ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى في السَّمَاء عَظيمَةً وَعَجيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخيرَةُ، لأَنْ بهَا أُكْملَ غَضَبُ الله".

كنا قد رأينا الـ "آية عظيمة" للمرأة، إسرائيل (١٢: ١)، ثم "آية أخرى" تلك التي للتنين (الآية ٣)، والآن لدينا "آية أخرى" يُقال أنها "عَظيمَة وَعَجيبَة". هذه العلامات الثلاث تُرى كل واحدة منها في السماء- مسكن الله والملائكة. الذي يجعل الثالثة ذات مغزى جليل، وحتى أكثر من السابقتين لها، هو، وبالتوافق مع الويل الثالثة، اكتمال غضب الله الذي يُصبُ على الوحش، المضطهد الشيطاني للمرأة. الآية الأولى تُوجه الانتباه إلى إسرائيل، والثانية إلى المحرض الحقيقي على الشر، وهو التنين، والثالثة إلى السلطة المدنية الجاحدة المتمردة، التي تجدف على الله بتأثير الشيطان وتضطهد إسرائيل.

"سَبْعَةَ مَلاَئكَة" هناك ثلاث مجموعات ملائكية معدودة: واحدة مؤلفة من أربعة (٧: ١)، وواحدة من سبعة (٨: ١٢؛ ١٦: ١) وواحدة من اثني عشر (٢١: ١٢). في بؤس الدينونة تحت الأبواق وتحت الجامات هناك مجموعتان متمايزتان من سبعة ملائكة. هؤلاء المرتبطون بالأبواق من الواضح أنهم جماعة ذات كرامة ومكانة عالية، ويتم الحديث عنهم كمثل الحديث عن أولئك "الذين يقفون أمام الله"، ويتم الإشارة إليهم على نفس باستخدام أداة التعريف: "السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةَ" (٨: ٢). ولكن ليس هكذا أن ملائكة الجامات.

"مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخيرَةُ". دينونات الختم تلتها سلسلة الأبواق، والآن ضربات الجام السبعة على وشك أن تُسكب، والتي فيها تعبير كامل عن غضب الله المكظوم والمركز. دينونات التداخل الإلهي هي الأخيرة. التركيز هو على تعبير النهائية هذا؛ ليست الجامات هي من تنهي قصة الغضب الإلهي، ولكنها تنهي دينونات الله العنائية. ضربات أخرى من الانتقام الإلهي ستحل بما لاشك فيه، ولكن هذه هي من قِبل الخروف في شخصه ولدى مجيئه (رؤيا ١٩؛ متى ٢٥: ٣١- ٤٦).

"لأَنْ بهَا أُكْملَ غَضَبُ الله". هنا نعلم السبب في أن هذه الضربات السبعة هي الأخيرة. فذلك "لأَنْ" فيها غضب الله، أي تعامل الله العنائي بادينونة مع الأشرار والعالم المرتد. في خاتم الجامات، غضب الحمل، يكون أفظع بكثير من غضب الله، ويتم التعبير عنه صراحة وعلانية في موضوعات الانتقام. "التفويض بالعمل يُعطى للمسيح حالما تنتهي خدمة أو مهمة الجامات". تعاملات الله العنائية السرية تأتي إلى نهايتها للجامات، أو لجامات الغضب، والتي يستلم بعدها الخروف شخصياً وعلانية حكم العالم. ولكن كما أن الأمم لدى مجيئه تكون متمردة ومسلحة- مرتدة وشريرة أكثر من كل البشر- فإن غضب الخروف يتقد بشدته. غضب الله ينتهي بالجامات، ليتبعه غضب الخروف.

جماعة يهوذا المستشهدة الظافرة:

٢- ٤- "وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ منْ زُجَاجٍ مُخْتَلطٍ بنَارٍ، وَالْغَالبينَ عَلَى الْوَحْش وَصُورَته وَعَلَى سمَته وَعَدَد اسْمه وَاقفينَ عَلَى الْبَحْر الزُّجَاجيّ، مَعَهُمْ قيثَارَاتُ الله، وَهُمْ يُرَتّلُونَ تَرْنيمَةَ مُوسَى عَبْد الله وَتَرْنيمَةَ الْخَرُوف قَائلينَ: «عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ هيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ. عَادلَةٌ وَحَقٌّ هيَ طُرُقُكَ يَا مَلكَ الْقدّيسينَ. مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجّدُ اسْمَكَ، لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَميعَ الأُمَم سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهرَتْ»". في الرؤيا الأبكر (الآية ١) رأينا إعلاناً جليلاً عما سيأتي على الأنظمة السياسية المنتظمة (١٦: ١٠) والدينية (الآية ١٣) التي تكون مسيطرة على الأرض آنذاك، كما مع أولئك المرتبطين معها. على هذه غضب الله وبقوة لا تقاوم يمتد فيصيب الجميع، بينما القادة المدنيون والكنسيون يُحفظون لعقاب خاص تحت غضب خروف الحمل التي سيُصب لدى مجيئه بقوة وسلطان. رؤيا الدينونة في الآية ١ تُستأنف في الآية ٥. في المقطع الاعتراضي بين رؤيتي الغضب يُدخلنا الرائي إلى مشهد عظيم وجليل من النصر والتسبيح (الآيات ٢- ٤). فظاعة الجامات (الآية ١) مناسبة أمام الله ليعبر عن فكره بشكل صريح ومذهل، تلك المتعلقة بشعبه المتألم، وذلك قبل أن يضرب العدو. إنهم يُشاهدون هنا في رؤيا اعتراضية ثانوية بعد إعلان الغضب، وقبل تنفيذه. تاريخياً انتصر الوحش (١٣: ٧) على القديسين في الضيقة العظيمة. لم يُحفظوا من قوته الوحشية. والآن نرى الحالة تنعكس. القديسون الذين استُشهدوا هم هنا المنتصرون في الأعالي، والوحش على الأرض يقع عليه انتقام الله الكامل.

بحر زجاج:

٢- "كبَحْرٍ منْ زُجَاجٍ مُخْتَلطٍ بنَارٍ". مثله في المظهر. في أول هذه الرؤى الإلهية (الأصحاح ٤) رأى الرائي بحراً من زجاج يشبه الكريستال ممتداً أمام عرش الله الأبدي دالاً على حالة ثابتة من النقاء تتأتى من المحافظة على الطابع القدسي للعرش. بحر الزجاج هو كالكريستال ويرمز إلى الهدوء  الراسخ في ذلك المشهد من النور الساطع. ولكن في الرؤيا التي أمامنا تُحذف كلمة كريستال. في توافق جميل مع الطبيعة الإلهية في المشهد المفصل مع الأصحاح ٤ سيكون افتراضياً في غير مكانه في أصحاحنا. هنا البحر "مُخْتَلط بنَار"، وفي هذا إشارة واضحة إلى الاضطهاد العنيف تحت الوحش، محنة تفوق كثيراً في عذابها كل ما سبق أن اختبره المؤمنون (مرقس ١٣: ١٩). الاضطهادات الوثنية في الأيام الأولى، والتعذيبات الدقيقة والمنتقاة بعناية تحت روما البابوية، أقل فظاعة من الضيقة العظيمة.

انتصار الجماعة الغازية التي تقف على بحر الزجاج مؤكد. الوحش ركز قوته وطاقاته ليهزم إيمان الشهداء. قد يكون هناك فارق في هذه العبارة، ولكن صحيح القول أنهم بالموت ينتصرون. في انتصار الوحش نرى انتصار القديسين. لقد كانوا "الْغَالبينَ عَلَى الْوَحْش وَصُورَته وَعَلَى سمَته وَعَدَد اسْمه". لقد كان الانتصار كاملاً مكتملاً.

٢- "وَاقفينَ عَلَى الْبَحْر الزُّجَاجيّ". وقوفهم بتناسب مع مكانتهم الجديدة كغزاة منتصرين وعباد لله؛ الشيوخ يجلسون ما عدا خلال التسبيح أو الخدمة الأخرى. بحر الزجاج هو رؤية باكرة مفرحة؛ هنا نشاهد الجماعة السعيدة والظافرة والمسبحة تقف عليه.

قيثارات:

٢- "مَعَهُمْ قيثَارَاتُ الله". قيثارات الله وليس القيثارات الإلهية. هناك جماعتان سماويتان يتم الحديث على أن لديهما قيثارات، وهي الأداة الموسيقية الوحيدة التي يذكرها سفر الرؤيا. الأولى، هي جماعة القديسين الممجدين الذين يكونون قد ارتفعوا إلى السماء لدى المجيء في الهواء (٥: ٨)؛ والمجموعة الثانية هم الشهداء تحت الوحش، وهم الجماعة الغالبة على بحر الزجاج (١٤: ٢؛ ١٥: ٢). ونستنتج أن عازفي القيثارة والمغنين في الأصحاح ١٤ و١٥ هم نفس المجموعة. ويجب أن نلاحظ على نفس المنوال أن القيثارة والنشيد مترابطان معاً في كل ذكر لها من بين الأمثلة الثلاثة. الكلمات "التي لله" تدل على أنهم يتكلون على تدبيره الإلهي فيسبحونه ويعبدونه- قيثارات الله؛ وكل ما يتعلق بالأدوات والموسيقيين تخص الله.

كل عضو في الفرقة المبتهجة هو موسيقي ماهر وكل واحد مغنٍ فرح. القيثارة والأغنية منسجمان؛ لا نشاز ولا تنافر يشوه تجانس ألحان الجند السماوي والغالب. ولا من صوت أو قلب يمكن أن يكون خارج النغمة عندما يكون قائد التسبيح هو يسوع، المخلص والرب (عب ٢: ١٢). هناك موازاة مذهلة نوعاً ما بين الجماعة الغالبة وإسرائيل القديم في يوم انعتاقهم وسرورهم. مصر، المتعدية، تصاب بالضربات؛ وإسرائيل يعبر البحر الأحمر، مخلصون ومعتقون، وينشدون على الضفة الشرقية من البحر، وهذه أول أغنية أو ترنيمة في الكتاب المقدس (خر ١٥)؛ كل هذا له نسخة روحية مطابقة له في الوحش، مستعبد قديسي الله الذي يُبتلى بسلسلة من الضربات؛ البقية التقية وراء حقد الوحش، مخلصة وغالبة، وترنم ترنيمة موسى على بحر الزجاج، آخر ترنيمة مدونة في الكتاب المقدس (رؤ ١٥).

الترنيمة:

٣- "وَهُمْ يُرَتّلُونَ تَرْنيمَةَ مُوسَى عَبْد الله وَتَرْنيمَةَ الْخَرُوف". الأغاني متناغمة. أغنية أو نشيد موسى يحتفل بتحرير الله القدير لشعبه، وبأعمال قدرته، وطرق نعمته مع ولأجل إسرائيل من بدء تاريخه إلى حين انتصارهم النهائي. النعمة والمجد يُحتفل بهما بالأغنية العظيمة التي تُغنى على الضفة الشرقية من البحر الأحمر (خر ١٥). نشيد موسى الجليل ١. ولكنه كان انعتاقاً أرضياً ورُبح بقوة على العدو المقتدر. نشيد الخروف يير إلى موضوعين رئيسيين: الأول هو ابتداء من الإثم وتبعات الخطية بدم حمل الله؛ والثاني تمجيد الخروف الذي يحمل هذا السفر شهادة عظيمة له.

نشيد الغالبين المستشهدين، وعازفي القيثارة في الأصحاح ٢، ٣، وأخوة البقية المحفوظة من اليهود على جبل صهيون (١٤: ١). ليست سامية أو مرموقة أو متسمة بالعمق كما ذلك النشيد الذي للشيوخ (الأصحاح ٥). عبادة الشيوخ أكثر عمقاً ورسوخاً، وكلا الجماعتين متشاركتان في الدعوة السماوية ٢.

مواضيع الترنيمة:

٣- "عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ هيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ. عَادلَةٌ وَحَقٌّ هيَ طُرُقُكَ يَا مَلكَ الْقدّيسينَ". الكلمات الافتتاحية في النشيد "عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ" ترد أيضاً في الآية ١. الارتباط، بالطبع، مختلف، ولكن لا يستطيع المرء أن يتجاهل تكرار العبارة في مشهد من الواضح أنه خاتمة لغضب الله المتجلي على الشر العلني. علامة الدينونة الختامية "عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ" الآية ١، وكذلك أعمال الله (الآية ٣). وقت سكب جامات غضب الله سيكون قصيراً وجيزاً، ولكن أعمال ذات قدرة مذهلة وعجيبة ستميزها.

لابد من ملاحظة أن الأعمال تُنسب إلى يهوه، الذاتي الوجود، وذي السيادة، والمستقل بذاته؛ إيلوهيم، الخالق، إله الآلهة؛ وشاداي، القدير، المقتدر بقدرته ووسائله، القدير الذي يؤازر ويمد بأسباب الحياة، لقد عرفه إسرائيل كيهوه (خر ٦: ٣). وكإله فهو يرتبط بالخلق (تك ١). وكقدير أعلن عن نفسه إلى الآباء (تك ١٧: ١). الترتيب الذي تأتي به أسماء الله وألقابه هنا تختلف عنها في الكشف. الله، يهوه ٣، والقدير هو التسلسل التاريخي. ولكن إسرائيل الحقيقي أمام الله في الجماعة الغالبة على بحر الزجاج، ولذلك فإن ممثلي الشعب يستخدمون اللقب الإلهي الملائم أولاً. كم هو أمين الله لكلمته ولاسمه! يهوه من أيام خروج ٦ لا يزال يقف مرتبطاً بعلاقة مع إسرائيل. يهوه وإسرائيل! وبالتالي فإن الشعب لا يمكن أن يهلك، ولا يُنسى. يا لها من قوة يدل عليها هذا الدمج للألقاب الإلهية! كم هو معز للنفس تطبيقها على المؤمنين في جميع العصور! كم من خشوع نشعر به عندما نتأمل في تطبيقها على أعداء الله وعلى قديسيه!

لكن "طرق" الله أيضاً تُشكل جزءاً من الترنيمة. حنوه، ونعمته، ومحبته، وحكمته، وكل صفة سمحة ومعنوية تتجلى في تعامله مع قديسيه تمر أمام ناظري الظافرين. قداسة الله ورحمته على قديسيه تفوق الوصف. أعمال الله الواضحة الجليلة تبدت أمام أعين إسرائيل. أعمال الاقتدار هذه لم تكون لديهم معرفة عميقة بأعمال الله. لقد كانت هذه أدلة واضحة بحد نفسها للجميع. ولكن طرق الله- تعاملات تلك التي تنبع من ماهيته- كان يمكن إدراكها فقط روحياً، ومن هنا نقرأ: "عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ" (مزمور ١٠٣: ٧). ولكن طرقه هنا هي طرق دينونة، وتلك الدينونة يتم التعبير عنها بطرق متنوعة، وهي "عَادلَةٌ وَحَقٌّ". طرق الله في تعامله مع شعبه هي دائماً وأبداً عادلة وحق، ويعادلها تأديبه لأعدائه؛ وهذا موضوع نجده بشكل خاص في المقطع الذي أمامنا.

٣- "مَلكَ الْقدّيسينَ". في ترجمة أخرى تأتي "الأمم" بدل "القديسين" وهذه هي الأصح. فالمسيح هو ملك الملوك، ملك الأرض، ملك إسرائيل، ملك الأمم، ولكن لا يُقال أنه "ملكنا"، أو "ملك القديسين". المؤمنون في الدهر التدبيري الحالي لديهم سلطة ملكية ممنوحة لهم (١ كور ٤: ٨؛ ٦: ٢، ٣؛ رؤيا ١: ٦)؛ ولكن تطبيقها يكون في المستقبل. سنملك مع المسيح (٢ تيم ٢: ١٢). الأمم المتحالفة مع الأرض الرومية على وشك أن تقع تحت الدينونة، ومن هنا كان لائقاً استعمال اللقب "ملك الأمم" (انظر إرميا ١٠: ٧). ونستنتج أنه في هذا النشيد التسبيحي الله والمسيح كلاهما موضوع العبادة، الأول في عظمة كينونته ولكن في العلاقة مع إسرائيل، والأخير في طرق دينونته مع الأمميين.

٤- ثم يطرح الغالبون في نشيدهم سؤالاً كونياً: "مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجّدُ اسْمَكَ؟". التكرار المثلث الجوانب لـ "أنت" هو لثلاث أسباب، كل واحد منها يقوم على أساس شخص الله، فتفسر وجوب إذعان الجميع للتساؤل عن الخوف من الرب وتمجيد اسمه. (١) "لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ". الكلمة التي تُرجمت "قدوس" ليست الكلمة التي تُطلق عادة على الله في الإشارة إلى طبيعته المقدسة. إنها تُستخدم هنا وفي ١٦: ٥ للإشارة إليه، بينما تُستخدم للإشارة إلى البشر الذين يتمتعون بموصفات أخلاقية ذات طبيعة مقدسة. ولكن في المثالين اللذين يردان في الرؤيا تشير الكلمة إلى مجموعة المزايا في الله- التي تخوله حق العبادة الحصرية من قِبل المخلوقات. لذا فإن كلمة "قدوس" كما تُستخدم هنا تدل على كل ما في الله والذي يستوجب العبادة له وحده. في الترجمة السبعينية لدينا نفس الكلمة في "مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ" (أشعياء ٥٥: ٣). كم هو ملائم تطبيق هذه الكلمة على الرب أحياناً عندما يضل العالم وعبد الوحش، العبادة والمبايعة التي تليق بالله وحده، والتي تلائمها هذه الكلمة "قدوس". (٢) "لأَنَّ جَميعَ الأُمَم سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ". نبوءات السفر تكون عادة على الزمن الحاضر، ولكن التي أمامنا هي استثناء. فالإشارة هنا هي للمستقبل. وبنتيجة هذه الطرق من الدينونة على يد "ملك الأمم" فإن الإرادة الحديدية للشعوب تتحطم، ويتحولون من الاتكال على أساس بشري وثقة ذاتية إلى الله ويعبدونه في حضوره. سيكون هذا وقت تحقيق نصوص كتابية مثل مز ١٠٠؛ ١٤٨؛ أش ٢: ٢- ٤؛ ٥٦: ٦، ٧؛ زكريا ١٤: ١٦، ١٧، الخ. (٣) "لأَنَّ أَحْكَامَكَ ٤ قَدْ أُظْهرَتْ". إظهار بر الله الإداني يُشار إليه في الجمع "أحكام". إعلان الله لنفسه في الدينونة هو سبب قوي يستوجب أن يتمجد اسمه.

خدام تنفيذ غضب الله وقد استعدوا للإدانة:

٥- ٨- "ثُمَّ بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإذَا قَد انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَة الشَّهَادَة في السَّمَاء، وَخَرَجَت السَّبْعَةُ الْمَلاَئكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ منَ الْهَيْكَل، وَهُمْ مُتَسَرْبلُونَ بكَتَّانٍ نَقيٍّ وَبَهيٍّ، وَمُتَمَنْطقُونَ عنْدَ صُدُورهمْ بمَنَاطقَ منْ ذَهَبٍ. وَوَاحدٌ منَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ سَبْعَةَ جَامَاتٍ منْ ذَهَبٍ، مَمْلُوَّةٍ منْ غَضَب الله الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ. وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَاناً منْ مَجْد الله وَمنْ قُدْرَته، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدرُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ حَتَّى كَملَتْ سَبْعُ ضَرَبَات السَّبْعَة الْمَلاَئكَة". الكلمات الافتتاحية في هذه الرؤيا تشكل تعبيراً تقنياً يشير إلى توقف كامل، وبدء موضوع جديد كلياً (انظر الأصحاح ٤: ١). ومن هنا فإن ضربات الجامات لا مثيل لها إجمالاً ،وتُشكل مجموعة من دينونات خاصة بحد ذاتها. هناك ناحيتان هامتان يختلفان بهما عن تأديبات الختم والبوق: العرش في "السماء" هو مصدر وسلطة هذه الأخيرة، بينما الهيكل هو المشهد الذي منه يخرج غضب الجامات. حقيقة أن الهيكل يأخذ مكان العرش يغير الحال كلياً، ويقدم مساراً من التعامل الأشد والأقصى، مسار يتدفق من ماهية الله في بره وقداسته. ومن هنا فإن الفرق الآخر المميز للجامات عن الدينونات السابقة هو أن فيها غضب الله ضد الأنظمة المنظمة للشر تنتهي أو تكتمل. "بَعْدَ هَذَا" هو صيغة تقنية تتكرر عدة مرات في سفر الرؤيا.

٥- "انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَة الشَّهَادَة في السَّمَاء". قد لاحظنا للتو الحقيقة الشيقة أنه في كل هذا الجزء من الرؤيا، من ١١: ١٩ إلى الأصحاح ١٩، الهيكل، وليس العرش، كما في القسم السابق من السفر، هو المصدر الذي منه يأتي الفعل على الأرض. هنا وأيضاً في ١١: ١٩ ٥ الهيكل مفتوح في السماء، مسكن الله والملائكة. ولكن في ما قبل يُرى تابوت العهد، العلامة على حضور الله باهتمام في شعبه، كما عهد وشهادة غايته ونعمته. هنا لدينا خيمة الشهادة، أو الشهادة. وهذه كانت شهادة حقاً على حقوق الله التي كانت قد أُنكرت آنذاك علانية. السابق، أي العهد، كان علامة اليقين والضمان لبني إسرائيل. والأخير، أي شهادة الدينونة، بحسب طبيعة الله على أعدائه وشعبه. الهيكل أو بيت خيمة الشهادة هو تعبير فريد، ولا يرد إلا هنا. ونفهم من كلمة "مسكن (naos)" أنه المبنى نفسه، ما يستبعد الباحة، الخ، مسكن الله حيث يُدنى إليه ويُسجد له. والآن داخل الأثاث الذهبي والطاولات الحجرية نجد الشهادة كما كانت داخل الهيكل أو البيت، وهذا يمكن الحديث عنه على أنه خيمة الشهادة وحسب (أع ٧: ٤٤). لقد كان "هَيْكَلُ خَيْمَة الشَّهَادَة".

يا له من منظر غريب أمام ناظري الرائي! من هم هناك ليس الكهنة الذين يخدمون في المقدس ولا الكاهن العظيم في قدس الأقداس، بل "السَّبْعَةُ الْمَلاَئكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ منَ الْهَيْكَل". ليس هؤلاء هم الكهنة خدام النعمة بل الملائكة خدام الدينونة. لقد فوضهم الله وجهّزهم لخدمة معينة، فخرجوا من حضرته المباشرة وهم يتمتعون بقوة كاملة تصون حقوق الله وتحفظ طبيعة إله إسرائيل في الدينونة. الهيكل في القديم كان شاهداً على النعمة، أما هنا فهو مفتوح للدينونة. شر البشر كان يستحق ذلك، وقداسة الله تتطلبه.

طبيعة العدل والبر في مهمتهم يدل عليها الكتان اللامع النقي الذي يرتدونه (قارن مع ١٩: ٨)،  بينما المناطق الذهبية عند صدورهم تمثل البر الإلهي والأمانة التي تميز سلوكهم (انظر أشعياء ١١: ٥؛ رؤيا ١: ١٣). لماذا يتمنطقون بها عند الصدر وليس عند الحقوين كما في العادة؟ لأن الغضب الذي على وشك أن يُسكب يُقاس بمدى طبيعة الله المقدسة.

٧- "وَوَاحدٌ منَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ سَبْعَةَ جَامَاتٍ ٦ منْ ذَهَبٍ ٧، مَمْلُوَّةٍ منْ غَضَب الله الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ". المخلوقات الحية هم المنفذون لحكم الله الإداني. هناك ثلاثة خطوات واضحة في عمل الدينونة هذا. أولاً، يفوض الملائكة ويُجهزون في المقدس (الآية ٦). ثانياً، يتلقون بعد ذلك جامات ذهبية مليئة بغضب الله من أحد المخلوقات الحية (الآية ٧). ثالثاً، ما من خطوة في عمل الدينونة يمكن أن تُتخذ إلى أن يسمح الله بذلك أو يأمر به (١٦: ١). يا لها من طرق مدروسة وموزونة تلك التي لله في الدينونة! الله، الحي أبداً، والأبدي، هو إله الدينونة. من ذاك الذي على وشك أن يضرب الأرض ويفتقدها بغضبه الشديد؟ إنه "الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ".

لقد أظلم الهيكل بدخان من غضب الله- ليس من البخور بل الدخان الذي ملأ الهيكل. لا يمكن رؤية أي شيء وما من أحد يمكنه الدخول. غضب الله تحول إلى عمل مكثف. الشفاعة ما عادت تنفع. لا البخور ولا الدم كان يمكن أن يوقف العاصفة الآتية من الدينونة الإلهية. لقد سُلم الهيكل، ليس للعبادة أو الشفاعة بل إلى غضب الله المتقد العنيف. والدخان هنا ليس من البخور بل من النار، رمز دينونة الله التي تحرق (أش ٦: ٤؛ خروج ١٩: ١٨). كان المسكن ممتلئاً بالدخان ٨ ما يدل على أنه ما من أحد كان هناك في حاجة لأن يبحث عنه في النعمة. ما كان ليمكن أن يراه أو يجده أحد في الهيكل. العمل الإداني كان يجري آنذاك، وإلى أن أكمل الملائكة السبعة العمل المناط بهم في تنفيذ الدينونة كان الله حتى ذلك الوقت محتجباً في العتمة الكثيفة لمجده الذاتي وقدرته في انتقام عادل من الجموع الفاسدة على الأرض.


١. - نشيد موسى النبوي (تثنية ٣١: ٣٠؛ ٣٢)، إذ كان يبلغ من العمر ١٢٠ سنة، فلا يمكن إعطاء الأغنية هذا اللقب "نشيد وسى". إن المقصود بوضوح هو نشيد الخروج وليس نشيد تثنية الاشتراع وهذا يتضح من الاعتبارات التالية: الإشارات الرؤيوية إلى زوار البحر الذي يقفون عليه؛ انتصارهم الواضح على أعدائه؛ عبارة "ضربة" المألوفة للدينونات الموسوية والرؤيوية على مصر والوحش، كما أيضاً طبيعة الضربات المتشابهة في كلتيهما. هذه، إضافة إلى اعتبارات أخرى، تقدم دليلاً حصرياً على أن "نشيد موسى" هو ذاك الذي في خروج ١٥، وليس التالي في ليلة أو في عشية موته.

٢. - أغنيتهم مميزة جداًَ. نشيد موسى هو انتصار على قوة الشر بفضل دينونات الله. نشيد الخروف هو تمجيد للمسيا المرفوض، المتألم، ومثل أولئك الذين كانوا قد تألموا؛ إذ أن البقية المذبوحة وسط إسرائيل المرتد وغير الأمين هم الذين نجدهم هنا.

٣. - "وَأمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ اعْرَفْ عِنْدَهُمْ"- أي إسرائيل (خروج ٦: ٣)، يعني أنه لم يكن معروفاً كلقب يدل على علاقة عادية. بالنسبة لإسرائيل، بالطبع، كان الاسم مألوفاً أكثر، ولكن غير معروف رسمياً في علاقته الخاصة بهم كشعب.

٤. - نفس الكلمة في ١٩: ٨. فقط في نصنا تنطبق على الدينونات التي تقع على الشرير في حين أنها في أماكن أخرى من الكتاب المقدس تُستخدم للدلالة على البر أو الأحكام التي تصدر على القديسين. في حاشيةٍ على رؤيا ١٩: ٨ في إحدى ترجمات الكتاب المقدس يقول المترجم الضليع: "في اللغة العبرية جمع الأفعال التي تعبر عن صفة تُستخدم لأجل الصفة المجردة نفسها. وقد تكون هذه هي الحالة في التناظر الوظيفي هنا (أيضاً في ١٥: ٤). وكذلك الحال مع المزمور ١١: ٧ حيث نجد "البر" أو "الأحكام" في النص العبري، ولكنها فعلية وليست منسوبة.

٥. - في القسم السابق من الأصحاح ١١ الهيكل في أورشليم هو الذي يُشار إليه (الآية ١). "هيكل الله في السماء" يجب أن لا يُفهم منه على أنه هيكل حرفي. بل هنا الإشارة رمزية.

٦. - الكلمة تعني طاسات أو كؤوس؛ ومأخوذة من الآنية التي كانت تُستخدم لصب أو سكب المشروبات أمام الرب"- "محاضرات على سفر الرؤيا"- وليام كيلي.

٧. - الذهب، والنحاس، والكتّان هي رموز تشير إلى حقيقة البر. الذهب حقيقي، يمثل البر الإلهي (١: ١٢، ١٣؛ ٣: ١٨؛ ٢١: ١٨- ٢١). النحاس هو دينونة البر، أو كما قال أحدهم "البر في التعامل مع الإنسان في مسؤوليته" (١: ١٥؛ ٢: ١٨). الكتان، يُمثل أعمال البر؛ البر الإنساني (١٥: ٦؛ ١٩: ٨).

٨. - في تكريس خيمة الاجتماع لم يستطع موسى أن يدخل إلى خيمة الشهادة (خر ٤٠: ٣٤، ٣٥) وعندما تم تدشين الهيكل وخدماته (الملوك الأول ٨: ١٠، ١١) لم يستطع الكهنة أن يدخلوا. في كلا الحالتين ملأ مجد الرب المكان. ولكن هنا ليس المجد بل دخانه، أي مجد الله في الدينونة.