الأصحاح ٨:‏١-‏٩

يختتم الجزء الحالي بالآية ٩ من هذا الأصحاح. ورغم أن الحادثة المروية في هذا المقطع ليس لها علاقة مباشرة بالمجادلات التي كان الرؤساء يرغبون بفرضها على يسوع بدون رغبة منه، إلا أنها توصلنا إلى نهاية أحد مظاهر أو جوانب خدمته.

"فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ». فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ: «مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟» فَسَأَلَهُمْ: «كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ». فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هَذِهِ أَيْضاً. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ" (٨: ١- ٩).

"إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ". لقد كانت الظروف مشابهة لتلك الحادثة التي جرت قبل بضعة أشهر. ومع ذلك فمن الواضح أن التلاميذ كانوا قد نسوا- كما نفعل نحن أيضاً في معظم الأحيان- التجلي اللافت المميز للقدرة الإلهية التي رأوها في ذلك الوقت.

"إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ". لقد تأثر قلب يسوع بحاجة الجمع، وكان قلبه هو الذي يدفعه لتقديم يد العون لهم. لقد كانوا محتشدين حوله "لثلاثة أيام"، وكانوا ينتبهون إلى تعليمه، إلى أن نفذت كل مؤن الطعام لديهم، والآن "لَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ". ولم يستطع أن يحتمل أن يتركهم في هذه الحالة البائسة.

"إِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ". كان كثيرون منهم يقطنون بعيداً جداً عن المكان الذي كانوا فيه. فأن يذهبوا جياعاً إلى منازلهم سيكون أمراً شاقاً حقاً عليهم.

"«مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟»". هذه عبارة دلّت على جحود قلب التلاميذ. سيبدو لنا أمراً لا يُصدق أنهم سرعان ما نسوا الحادثة السابقة، إن لم نعرف شيئاً عن انعدام الثقة وعدم الإيمان في قلوبنا.

"«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ»". لقد كانت هذه الزوادة التي أعدوها لحاجتهم الخاصة، ولكن أمكنهم أن يتمتعوا بامتياز مشاطرة الآخرين بها. لا حظوا أنهم هذه المرة لم يتدبّروا الطعام من شخص آخر.

"أَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى". بإتباعه نفس ما فعل في المرة السابقة، تم ترتيب جلوس الناس على الأرض، وبعد أن شكر، كسر يسوع الخبز وأعطاه لتلاميذه ليوزعوه على الجمع.

"كَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ". لماذا لم تُذكر هذه من قبل؟ هل كان التلاميذ المتشككون قد أبقوها لأنفسهم إلى أن رأوا تضاعف إو تكثير الخبز؟ من الواضح أن الأسماك قد بُورِكت على نحو منفصل ثم وُزِّعَتْ كما الخبز.

"فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ". من جديد كانت هناك وفرة وفضلات كِسَر. فبقايا الخبز والسمك عُهِدَ إليه أن يوزعها، وجمع التلاميذ ما بقي في سبعة سلال من الطعام الزائد- وهذه كمية كافية تدوم لفترة طويلة.

"وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ". ويضيف متى قائلاً: "مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى ١٥: ٣٨).

أنواع السلال:

لقد قيل أن في النص اليوناني الأصلي كلمتين مختلفتين تشيران إلى نوعين مختلفين من السلال واردتين في هاتين الروايتين. في الأصحاح السادس، بعد إطعام الخمسة آلاف، كانت هناك اثنتي عشر سلة يد قد رُفِعَتْ- هذه من النوع الذي كان الجمع يحملها معه خلال ترحاله سيراً على الأقدام. وفي الحادثة الثانية، رُفِعَتْ سبع سلال سبتية. وهذه كانت سلالاً كبيرة من النوع الذي كان يُستخدم غالباً لحمل السمك أو نقل بقية البضائع.

الأرقام في الكتاب المقدس:

إن العدد ١٢ يُستخدم عادة في الكتاب المقدس للإشارة إلى الكمال الإداري، في حين يدل العدد ٧ إلى الكمال الصوفي الباطني أو الروحي. كانت السلال الاثني عشر تدل على التدبير الوافر الذي سيتم التمتع به خلال سيادة حكم المسيا. السلال السبع تدل على كمال البركة الروحية عندما نعلم أننا لا نحيا بالخبز وحده، "بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى ٤: ٤).

إحدى أسماء الله في العهد القديم كان "إيل شدّاي"- أي الإله الكامل الكفاءة. لقد كان الرب يُظهر نفسه كإله متجسّد، بالغ القدرة على سد كل حاجة عندما أطعم الجموع الذين احتشدوا، في هاتين المناسبتين، لسماعه يكرز بإنجيل الملكوت. إن مؤوناته غير محدودة. ما نحتاج إليه هو الإيمان لكي نتّكل على غنى رحمته وأن ندنو من مخزنه الوافر الفيّاض. الخبز الذي كان يعطيه أعطى صورة عن ذاته كخبز الله النازل من السماء، الذي إن أكل الإنسان منه يحيا إلى الأبد (يوحنا ٦: ٣٣).