الأصحاح ٤

لقد كان استخدام الرب للأمثال له هدف مضاعف. لقد أوضح عدة حقائق عميقة وهامة بهذا الشكل لكي يختبر صدق واهتمام سامعيه. فإن كانوا فعلاً مهتمين سيسعون ليحصلوا على معنى القصة، وهكذا يصبحون باحثين جديين عن الحقيقة. وإن كانوا لا مبالين فإنهم سوف لن يُبدوا المزيد من الانتباه، وهكذا سيستمرون في حياتهم اللا مبالية المهملة، مقسّين قلوبهم ضد الحق (متى ١٣: ١١- ١٥؛ لوقا ٨: ١٠). ولكن عندما تقلق أو تتحرك ضمائر مستمعيه فإنها ستجد أن هذه الأمثلة التوضيحية الحيوية قد ثبَّتَت في أذهانهم الحقائقَ العظيمة التي كان يسوع يعلّمها، تاركةً انطباعاً يتعذّر محوه عليهم (متى ١٣: ١٦، ١٧). لقد كان ربنا أمير الكارزين والوعّاظ، ونعلم أنه "بِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ" (متى ١٣: ٣٤). إن الفكر البشري مركب بطريقة تجعله يتلقى التعليم بيسر أكثر إذا كان من خلال أمثلة توضيحية ملائمة أكثر منها من مجرد بسط للفرضيات والجدليات والتعاريف. لقد أحسن سبيرجن القول بأن "العظة هي البيت؛ والأمثلة التوضيحية هي النوافذ التي تجعل النور يدخل". أولئك الذين يعتمدون كلياً على الحقيقة المجردة أو النظرية لكي يصلوا إلى قلوب مستمعيهم ويحركوا ضمائرهم هم على الأرجح سيخفقون في تحقيق رغباتهم الجدية أكثر من أولئك الذين يجعلون أحاديثهم وخطبهم تشرق أو تسطع من خلال استخدامهم لحوادث ملائمة منيرة تنزع إلى إيضاح العقائد التي يحاولون إيضاحها أو إرسائها. وفي هذا السياق، كما في كل مكان آخر، نرى أن يسوع المسيح هو المثال الأعظم لنا؛ وأتباعه الأوائل، الذين دُوِّنَت أقوالهم ورسائلهم في العهد الجديد استخدموا نفس الطريقة.

إن أمثال الرب يسوع المسيح كانت لافتة بسبب دقتها وأمانتها إلى الطبيعة والواقع والحياة البشرية. لقد استمد أمثلته التوضيحية من تلك الأشياء التي كان مستمعوه على أُلفة بها بشكل كامل، وبهذا أمكنهم أن يتبعوه بكل طيب خاطر، والحوادث المروية ستتثبت وترسخ في أذهانهم مع العبر التي يوضحها طالما أن هناك رغبة حقيقية في معرفة ذلك الحق الذي يحرر (يوحنا ٨: ٣٢).

"وَﭐبْتَدَأَ أَيْضاً يُعَلِّمُ عِنْدَ الْبَحْرِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ وَالْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ عَلَى الأَرْضِ. فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «ﭐسْمَعُوا. هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلَكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!»" (٤: ١- ٩).

كما لاحظنا سابقاً، لا يتبع مرقس نظام تسلسل زمني مباشر في سرده للأعمال والتعاليم التي أعطاها الرب يسوع أو قام بها. هذا الجزء، الذي يرتبط بـ متى ١٣ يعطينا وصفاً للتعليم بالمثل الذي أعطاه يسوع على شاطئ بحر الجليل في صيف عام ٢٨ م تقريباً بحسب أحدث التقديرات التاريخية.

"دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ". كانت الأرض مرتفعة قليلاً في مكان معين من شاطئ بحر الجليل حيث جرى هذا الحادث؛ وهكذا أمكن للرب يسوع أن يجلس في قارب صيادي السمك ويواجه الجمهور أو الحشد الواقف أمامه والذين كانوا يجلسون بشكل مريح أو يقفون وكأنهم في مدرج طبيعي، وهكذا يتمكن الجميع من سماع صوت المعلم، الذي اجتذبتهم فيه رسالته وشخصيته.

"كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ". هذه الأمثال كانت صورة توضيحية مستمدة من الأشياء التي كان يألفها المستمعون بشكل كامل، وقد استخدمها لكي يستطيعوا أن يتبعوه بيسر وعن طيب نفس إن استمالهم إليه على هذا النحو.

"ﭐسْمَعُوا. هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ". من المحتمل أن الجمهور كان بمقدورهم أن يروا شخصاً مثل هذا الزارع الذي يتحدث عنه يسوع على مقربة منهم أو ربما كانوا يرونه في تلك اللحظة أمام أعينهم. إن الزارع يرسم صورة المسيح نفسه في المقام الأول، رغم أن التطبيق يصح على كل كارز بالكلمة.

"سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ". لا حاجة لأن نُثَبَّط أو نُخيَّب إذا ما كان الكثير من البذار يبدو ضائعاً، إذ حتى عندما كان أعظم الزارعين هنا، كان هناك عديدون لم ينتبهوا إلى كلمات النعمة التي تلفظت بها شفاهه المقدسة. لقد كانت قلوبهم قاسية كلياً وفاقدة الإحساس مثلها مثل قارعة الدروب المطروقة بكثرة.

"وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ". إن التربة في هذا المثال قد تبدو مواتية في الظاهر، ولكن لم يكن لها عمق كبير في الأرض. فثمة طبقة من تربة طينية صلبة كانت هناك مما يدل على النقص أو الحاجة إلى التوبة والتمرس في الخبرة أمام الله.

"وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ". حيث لا يكون هناك إيمان راسخ بالله لن يكون هناك تأثيرات دائمة تتبع أو تلي استثارة العواطف المؤقتة.

"وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ .... فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً". على المزارع الحريص أن يتبع النصيحة التي تقول: "احْرُثُوا لأَنْفُسِكُمْ حَرْثاً وَلاَ تَزْرَعُوا فِي الأَشْوَاكِ" (إرميا ٤: ٣؛ هوشع ١٠: ١٢). هذا يتحقق على أفضل وجه في التعامل مع نفوس الأفراد. عند مخاطبة الناس في الجماعة بالضرورة سيكون هناك كثيرون منشغلين جداً بالقضايا الدنيوية ولذلك لن تجد البذرة الجيدة مكاناً ولو صغيراً لتستقر فيه عندهم.

"وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو". إن الأرض الجيدة تدل على القلوب التي أعدها الله لتتلقى بذرة الإنجيل، رغم أن النفوس لم تكن جميعاً لتثمر على نفس النحو. الكثير يعتمد على كلٍّ من عُمق عمل الروح في الإقناع وزرع الإيمان قبل الاهتداء والزمن الذي تستغرقه حراثة النفس فيما بعد.

"«مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!»". وهكذا بهذه الطريقة الجليلة، يسترعي الرب انتباهنا. من السهل أن نصغي فقط بآذاننا الظاهرة الخارجية وهكذا نخفق في أن إيصال الرسالة إلى القلب. بالنسبة لأولئك الذين لديهم آذان للسمع ويرغبون أن يفهموا مثال يسوع بيسر وسهولة أعطى الرب نفسه شرحاً كاملاً لما قاله.

"وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ فَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَمَا تَعْلَمُونَ هَذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهَؤُلاَءِ كَذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَهُمُومُ هَذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا وَيُثْمِرُونَ وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً»" (٤: ١٠- ٢٠).

على الأرجح أكثر أن ذلك كان في المساء الهادئ بعد انتهاء نشاطات النهار، حيث أن التلاميذ وبعضاً من الآخرين الذين كانوا يتفكرون في قلوبهم بقصة الزارع جاؤوا إلى يسوع على انفراد وسألوه أن يُعطيهم بصيصَ ضوء على معناه. فشرح لهم في الحال المثل مؤكداً لهم أن الرسالة التي كان ليعلنها لم تكن محتجبة عن أولئك الذين أُعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت الله؛ أما بالنسبة لأولئك الذين كانوا راضين وقانعين بأن يبقوا في جهل فهو سيعلّمهم بالأمثال دونما شرح لمعناها لعلهم بذلك يمضون في الطريق الذي اختاروه بأنفسهم من العمى واللامبالاة بالحقائق الروحية. فإن لم تكن لديهم رغبة بالتعليم سوف يُتركون في جهلهم. كانت هذه هي دينونة الله العادلة على أولئك الذين يرفضون أن يتحولوا إليه ويجدون بذلك غفراناً لخطاياهم.

من التعبير "سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ" يجب أن نفهم الأسرار المتعلقة بالأيام الآتية عندما سيعود الملك المرفوض إلى السماء، ولكن بما أن مبادئ مُلكه قد انتشرت في كل أصقاع الأرض فسوف يكون هناك نظام أرضي حيث سيتعرف الجميع على المسيح على أنه الملك الشرعي الحق، وسيتم الإقرار بكلمته على أنها دستور ملكوته. هذا هو عالم الاعتراف أو الإقرار الذي يدعى عامة باسم العالم المسيحي، والذي يعني، حرفياً، ملكوت المسيح. وفيه يوجد أولئك المؤمنون الحقيقيون وغير الحقيقيين، الذين يقرون بالخضوع لسلطته، سواء أكانوا مولدين حقاً من الله أم لا.

إنه يشرح المثل فيقول أن حبة الحنطة تشير إلى الكلمة- أي الحق الذي جاء ليعلنه. المستمعون على قارعة الطريق هم أولئك الذين لم يختبروا أبداً الأمور الروحية. إنهم يسمعون الكلمة بأذنهم الخارجية، ولكنهم تحت سيطرة الشيطان لدرجة أنه يزيلُ كلَّ اعتبار للحبة المزروعة في قلوبهم. أما المستمعون في الأرض الصخرية فيبدو أنهم أظهروا برهاناً على إيمان حقيقي ولكنهم مثل السيد "بليابل" في كتابات "بنيان"، اقتنعوا بسهولة بأن يقدموا اعترافاً مسيحياً ثم تخلوا عن ذلك بسهولة عندما نشأت الصعوبات أمامهم. إنهم يزلون ويتعثرون لأنهم ليس لديهم أصل في أنفسهم.

المستمعون في الأرض ذات الأشواك هم الذين يتلقّون ظاهرياً الكلمة ولو بسرور وفرح، ولكن السعي إلى الثروة والرغبة بالأشياء المادية الدنيوية تخنق الكلمة فتصبح عقيمة الثمر.

المستمعون في الأرض الجيدة هم ليس فقط أولئك الذين يسمعون الكلمة بل أيضاً يتلقونها بإيمان في قلوبهم؛ وهؤلاء يأتون بثمر لله، وبذلك يُظهرون حقيقية اعترافهم. صحيح أنهم ليسوا جميعاً يُثمرون بنفس الدرجة؛ ولكن الجميع يحملون ثمراً إلى حد ما: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً.

في تأملنا لعمل الكرازة بالإنجيل علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هدف الله المبارك في النعمة وحالة قلوب الناس الذين تأتي إليهم الرسالة. بالنسبة للبعض إنها مسألة ليست في محلها. فهم لا مبالين بها من البداية ولن يهتموا بالمسألة أبداً. والبعض يهتمون لفترة من الزمن. فتتحرك عواطفهم ولكن ليس من عمقِ اختبارٍ لديهم. آخرون أيضاً لديهم درجة من الاهتمام، ولكنهم أناس ذوي فكر مزدوج. إنهم يودون أن يستفيدوا على أكمل وجه من كلا العالمين، ولذلك فإنهم لا يعطون الأمور الروحية الأهمية الأولى. آخرون، وقد أعدهم الروح القدس بعلمه الإقناعي الإيماني، يتشوقون لمعرفة طريق الحياة، وبذلك يقتبلون "بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ" (يعقوب ١: ٢١)، ويثمرون لله.

بعد هذا الشرح الذي يقدمه الرب يسوع فإنه يقدم مزيداً من التعليم مؤكداً على ضرورة وأهمية الصدق وحقيقية الإيمان.

"ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ وَلاَ صَارَ مَكْتُوماً إلاَّ لِيُعْلَنَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!». وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐنْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ»" (٤: ٢١- ٢٥).

لعلنا نجد في هذه الآيات جزءاً من العظة على الجبل، ولكننا من جهة أخرى قد نفترض أن يسوع قد استخدم مراراً وتكراراً هذه الاستعارات نفسها ليشدد على الحقيقة في رسائله.

إن الشمعة أو السراج لا تُخفى تحت المكيال (وعلى هذا دلالة على الانشغال بالعمل)، ولا تحت السرير (وهذا يدل على محبة الراحة والطمأنينة)، ولكنها تُوضع على منارة لكي تضيء على كل من في المنزل. المعنى واضح. إن كنا نعترف بانتمائنا وولائنا للمسيح فإننا لا ينبغي أن نسمح لمتطلبات العمل أو الرغبات الأنانية من أي نوع كانت من أن تعرقل أو تعيق شهادتنا الصادقة له ذاك الذي نقر بأنه مخلصنا وربنا.

ما هو غير حقيقي وصادق سيظهر عاجلاً أم آجلاً. ما من شيء يمكن أن يخفى عن عين الرب المقدسة تلك التي ترى كل الأشياء، ولا تبقى سراً عنه ذاك الذي يعرف أعمق أفكارنا ونوايا قلبنا. كل شيء سينكشف تحت ضوء كرسي دينونته أو قضاءه الواضح. فيالسعادتنا إن كنا من بين أولئك الذين لهم آذان للسمع، فنبدي التفاتة إلى كلماته.

هنا يُوجّه إلينا تحذير لأن نكون حريصين ومهتمين بما نسمع وكيف ندين ونحكم ونعقل الأمور، لأننا نحن سوف نُعامل كما نعامِل الآخرين؛ وكما نسمع بالإيمان حق الله، فإن معرفتنا سوف تزداد. إنها شريعة ذلك الملكوت بأنه من يستخدم ما لديه على نحو حسن يُزاد له الكثير وذاك الذي ليس له سوى إقرار فارغ سوف يجرد حتى من ذلك في نهاية الأمر.

ثم نجد تدويناً لمثَلين آخرين نجدهما في متى ١٣ ولكن ليس بنفس الترتيب، إلا أنهما مرتبطان ببعضهما من ناحية المغزى أو المعنى.

"وَقَالَ: «هَكَذَا مَلَكُوتُ اللَّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتاً ثُمَّ سُنْبُلاً ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ». وَقَالَ: «بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلَكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ وَتَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا»" (٤: ٢٦- ٣٢).

"هَكَذَا مَلَكُوتُ اللَّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ". إن الكرازة بالكلمة هي زرع البذار، التي بها ينتشر ملكوت الله، بمعناه الروحي، في كل العالم. "اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ" (١ كورنثوس ١: ٢١).

"الْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ". كما أن سر الحياة في البذرة متعذرٌ فهمه، والذي يؤدي إلى نمو النبات، كذا تماماً هي أعجوبة الولادة الجديدة (يوحنا ٣: ٦- ٨).

"أَوَّلاً نَبَاتاً ثُمَّ سُنْبُلاً ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ". إن قانون النمو في العالم الطبيعي يشكل صورة عن النمو بالنعمة وفي فهم الحقائق الروحية. إن الناس لا يصبحون فجأة قديسين ناضجين. بينما نَخْلص في لحظةٍ عندما نؤمن بالرب يسوع، يأخذ نمونا مدة سنوات. وبمقدار ما نتمثل الحق بدراسة الكلمة، والصلاة، والتكرس للمسيح نأتي بثمار للكمال. "وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ". فالمزارع العظيم إذاً يُعنى بحقوله المحروثة (١كورنثوس ٣: ٩) إلى أن يصير المحصول على أفضل حال- فعندها يجني الثمار التي طالما انتظرها بصبر وأناة (يعقوب ٥: ٧).

"بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟" هنا كان الرب يسوع يوشك على أن يستخدم مثلاً توضيحياً مختلفاً تماماً ليصور وجهة أو مظهراً من الملكوت كما سيكون عليه عندما يكون قد مضى إلى الآب- هذا الجانب المختلف تماماً في الواقع عن الصورة الأولى لحقل الحنطة.

"مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ". ليس الواقع أنه ليس هناك بذور أصغر من حبة الخردل، ولكن في بستانٍ مليءٍ بالأعشاب تكون بذرة الخردل هي الأصغر حجماً على الإطلاق. هذه تصور لنا البداية الصغيرة والتي تبدو ضئيلة وغير هامة لملكوت الله في العالم الذي سيلي صعود ابن الإنسان إلى يمين الآب.

"تَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً". إن شجرة الخردل هي أكبر جميع البقول، وتمثّل على نحو ملائم الملكوت كقوة ينبغي أن يُحسب حسابها على الأرض. بمعنى آخر، إنها تؤسس لذاك الذي رآه الرب مسبقاً على أنه العالم المسيحي الذي سيأتي- ألا وهو مجتمع واسع يشتمل على الجميع حيث "طيور السماء"، كما يخبرنا النص، هي ممثلة لإبليس وزبانيته (متى ١٣: ١٩؛ مرقس ٤: ١٥؛ لوقا ٨: ١٢)، طيور السماء هذه التي تجد فيها ملجأً تختبئ فيه. إن طيور السماء، التي كانت منشغلة جداً في تبديد البذار الجيدة في المثل الأول، هي الآن محتجبة مختبئة في أغصان شجرة الخردل. كم كان الرب عارفاً بالمسار الذي ستسير عليه الأحداث! إن نمو شجرة الخردل التي تمثل الكنيسة المعترفة يبدو حسناً لبعض الوقت، ولكن الطابع السريع الزوال سرعان ما سيظهر أو يتجلى.

آراء متغايرة في الملكوت:

بالكاد يمكن أن يوجد فارق كبير في النظر إلى ملكوت الله في حالته السرية الحالية عنه في التمييز الذي يوضحه ربنا في هذين المثلين. حقل الحنطة فيه آلاف مؤلفة من السيقان، وهي تتشابه مع بعضها بشكل أو بآخر، وتختلف عن بعضها في ثقل رأس البقول. هذا هو ما ينبغي أن تكون عليه كنيسة الله في العالم. شجرة الخردل هنا هي، بمعنى من المعاني، محاكاة لشجرة الأرز في لبنان (حزقيال ٣١:  ٣- ٦) أو شجرة بابل العظيمة، نَبُوخَذْنَصَّرُ (دانيال ٤: ١٠- ١٢). في كلا المثلين، كما في المثلين التوضيحيين الذين أوردهما يسوع، طيور السماء- أي زبانية الشيطان- تجد مسكناً لها في الأغصان. قد يبدو أنه من غير الممكن لملكوت الله أن يصبح على هذا الشكل. ومع ذلك فإن هذا هو ما تنبأ به الرب يسوع وهذا ما تبين أنه كان على مر العصور جميعها منذ ذلك الحين.

"وَبِأَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ" (٤: ٣٣، ٣٤).

لقد كان يسوع يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الأخلاقية والروحية لمستمعيه ويعطي الكلمة المناسبة لكل مجموعة. لقد كان يستخدم أمثلةً توضيحية ذات طابع بسيط وعلى أكبر درجة من الوضوح الممكن. "بِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ". إن أظهروا مزيداً من الاهتمام كان سيسره أن يشرح معنى أي تشبيه رمزي يمكن لمستمعيه أن يستوعبوه. لقد كان يخدم بما فيه حاجات الناس. لم يسعَ أبداً إلى أن يفتن الآخرين أو يبهرهم بـ "كلمات طنانة رنانة"، كما يفعل بعض ممثلي عالم الشر، بل كان يستخدم لغة سهلة للفهم، وكان دائماً على أهبة الاستعداد لأن يعلم أية نفس ساعية وراء المعرفة. وفي كل هذا كان كارزاً ضليعاً، مثالاً عن كل الذين يسعون لخدمته بإعلان كلمته.

"وَقَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ﭐسْكُتْ. ابْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (٤: ٣٥- ٤١).

"«لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ»". كل شيء كان مستقراً في ذهنه. لم يقترح أن يحاولوا أن يصلوا إلى الطرف الآخر من البحيرة، التي كانت كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ (٥: ١)، بل قال بأن يجتازوا إلى الأمام وحسب. لو تذكّروا هذه الكلمات فيما بعد لأدركوا أنه ما من ريح كانت لتغير مخططاته لهم وله.

"وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ". لقد كان يشفي ويعلم طوال النهار. ولا شك أنه كان متعباً جداً جسدياً عندما استقبلوه في القارب الذي كان سيُقلِّه عبر البحيرة. لاحظ القول أنه كَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً "سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ". "فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ". بالنسبة للعين الطبيعية، كانت الأوضاع قد صارت خطيرة جداً. ولكن الرب يسوع المسيح كان نائماً في سلام في حين أن العاصفة كانت هائجة. "«يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟»". في خوفهم التفت التلاميذ غريزياً إلى الرب يسوع وأيقظوه من نومه الخفيف بصراخ قلقهم وانزعاجهم. بالطبع كان يهتم لأمرهم، ولكنهم لو عرفوا ذلك لكانوا سيشعرون بالأمان في العاصفة تماماً كما في الجو الصحو عندما كان في السفينة معهم.

"فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ﭐسْكُتْ. ابْكَمْ»". في كل عرضه لسلطته الخالقة وبهدوء، أمر الريح بأن تهدأ، والأمواج الغاضبة المتلاطمة، التي كانت ترتطم بالمركب ككلاب هائجة، أن "تبكم"، كما ورد في الترجمة، وما لبثت العناصر أن أطاعت سيدها، وخمدت العاصفة. إنه لا يزال يتكلم على هذا النحو إلى القلوب المضطربة والنفوس القلقة المتزعزعة.

"«مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟»". لقد كان الأمر وكأنه كان يود أن يذكّرهم بكلماته قبل أن بدأوا رحلته. لقد قال لهم أن يجتازوا إلى العبر- ولم يقصد أن يغرقوا وسط البحر. كان من المفترض أن يكون هذا كافياً ليُهدّئ مخاوفهم، وكان هذا الواقع، لو أنهم كانوا على إيمان حقيقي بكلماته.

"فََقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»". ومع ذلك لم يفهموا بعد سرَّ شخصه، ولذلك تساءلوا فيما بينهم في حيرة وارتباك عن حقيقة هويته. فكل الطبيعة كانت تعترف بقدرته. أكان من المعقول أن لا يكون هو الله متجسداً؟

من أثار العاصفة؟ هل كان هبوب العاصفة ذلك المساء على بحر الجليل مجرد ظاهرة طبيعية، أم كانت بفعل الشيطان؟ يبدو أنها كانت محاولة من قبل العدو (الشيطان) ليُهلك الرب يسوع المسيح قبل أن يحقق الرسالة التي جاء لأجلها إلى الأرض. ولكن تماماً، وكما حدث عندما حاول سكان الناصرة أن يلقوا به من فوق الجرف ويقتلوه ولكن عجزوا عن أن يحققوا هدفه (لوقا ٤: ٢٨، ٢٩)، هكذا، في هذه الحادثة أيضاً، هُزم الشيطان ثانية. لم تكن لديه قوة أو قدرة على أن يُنهي حياة ابن الله. فتلك الحياة كانت لتُبذل فقط طواعية بإرادة المسيح نفسه بما يتوافق مع مشيئة الآب (يوحنا ١٠: ١٧، ١٨).

الجانب الأعجوبي من حياة وشهادة يسوع المسيح:

العقلانيون ومعلمو المسيحية المتعقلون جميعهم مولعون بمحاولة تفسير الأشياء اللافتة المنسوبة إلى الرب يسوع في الأناجيل على أسس طبيعية مجردة. ومثال عن هذا النوع من التفكير والتحاجج نجده في الكتاب الواسع الانتشار بين القراء، "الناصري". ولكن هدف الروح القدس الواضح من تدوين هذه الأعمال المعجزية هو أن يُظهر لنا أن ذاك الذي كان يعمل على ذلك النحو المعجزي ليشفي وليساعد البشرية المتألمة التي تعاني إنما كان هو الله نفسه وقد نزل إلى الأرض كإنسان. لا حاجة لتفسيرات وتأويلات بعيدة الاحتمال إذا فكّرنا في من كان ذاك الذي قام بهذه الأشياء. إن كل ذلك هو تجليات عادية طبيعية كاملة للقدرة الإلهية التي عملت استجابة لحاجات الناس. فأن ننكر المعجزات يعني أن نقلل من شأن ذاك الذي اجترحها.

يسوع المسيح ربنا هو سيد كل الظروف وهو كفؤٌ ومؤهل لكل حالة طارئة. الرياح والأمواج تطيعه؛ والأرواح الشريرة تهرب أمامه؛ الوباء والمرض والموت تتبدد عندما يظهر. ما من شيء يمكن أن يصمد أمام قدرته. إن له كل السلطة في السماء وعلى الأرض. والأمر العجيب الذي لنا أن نعرفه هو أنه مخلصنا وفادينا. نحن الذين آمنّا به يُطلب إلينا الآن أن نلقي عليه كل همومنا واهتماماتنا لأنه يُعنى بنا. إن الصعوبات ما هي إلا فرص أمامه ليُظهر قدرته. والحالات الطارئة التي تصيبنا تعطينا الامتياز للبرهان على اهتمامه المحب بنا ونحن نثق بنعمته ونتكل على قدرته.