الأصحاح ١١

من الممتع والشيق والمفيد أن نلاحظ كيف أن الأحداث البارزة المتعددة في حياة ربنا قد تنبّأ بها تماماً الأنبياء، وهم رجال أتقياء موحى لهم من الله (٢ بطرس ١: ٢١)، الذين عاشوا قبل مئات السنين من بدء تحقق أقوالهم النبوئية. زكريا كان أحد الأنبياء بعد النفي الذي تحدث عن آلام المسيح والمجد الذي سيلي ذلك (١ بطرس ١: ١١ قارنها مع ٥: ١). لقد صوّر ملك اسرائيل البار الذي يدخل عاصمته الأرضية في حالة وضيعة، راكباً على حمارٍ (زكريا ٩: ٩). ولكن بين هذه الآية والآية التي تليها مباشرة هناك ما يدل على انقضاء فترة طويلة من النبذ والرفض له من قِبَلِ شعبه المختار. كان يفترض تعاقب قرون قبل أن يبدأ تحقيق الكلمات التي تقول: "يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ". ذات يوم سيأتي كل شيء إلى تحقق في الوقت الذي يعيّنه الله.

وحده الروح القدس كان ليرى مسبقاً الصلبَ كخطوة تالية مباشرة لذاك الحدث الذي يُدعى غالباً "دخول الظفر". في الواقع، لم يكن ذاك الشعب هو الذي هتف له رسمياً على أنه الملك الموعود في يوم أحد سعف النخيل التاريخي ذاك. لقد استاء الرؤساء بحنق شديد من المبايعة والتكريم الملكي الذي قدّمه الناس له (في ذلك اليوم) وأطلقوا صوت اعتراضهم على غير هوادة. ولكن هذا الترحيب الذي لقيه يسوع من قبل "الصغار" كان كمثل كأس ماء بارد لروحه بعد البغضاء المريرة التي تعرض لها. كان قد شكر الله على أن هذه "الأشياء الصغيرة"- أي أسرار الملكوت- كانت محتجبة عن الحكماء ومكشوفة للأطفال (متى ١١: ٢٥). هذا ما أكده الاستقبال الذي قُدّم له وهو يدخل مدينة أورشليم (ممتطياً جحشاً).

"وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «ﭐذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا فَلِلْوَقْتِ وَأَنْتُمَا دَاخِلاَنِ إِلَيْهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَفْعَلاَنِ هَذَا؟ فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُ إِلَى هُنَا». فَمَضَيَا وَوَجَدَا الْجَحْشَ مَرْبُوطاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً عَلَى الطَّرِيقِ فَحَلاَّهُ. فَقَالَ لَهُمَا قَوْمٌ مِنَ الْقِيَامِ هُنَاكَ: «مَاذَا تَفْعَلاَنِ تَحُلاَّنِ الْجَحْشَ؟» فَقَالاَ لَهُمْ كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ. فَتَرَكُوهُمَا. فَأَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. وَﭐلَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلَ وَلَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذْ كَانَ الْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ" (١: ١- ١١).

لقد اختتم آخر رحلة له في بيرية، وصعد يسوع وتلاميذه في الطريق المتعرج من أريحا إلى بيت عنيا على منحدر جبل الزيتون. ومن هنا استعد لدخول المدينة حيث أطلق الرب (يهوه) اسمه، وهو عارفٌ تماماً أن الصليب كان في انتظاره. ولكنه إنما لهذه الغاية قد جاء إلى العالم. وكان ذلك قرب عيد الفصح في ربيع عام ٣٠ ميلادية. وكان عمره حوالي الثلاث والثلاثين سنة وستة أشهر- أي شاب نضرٌ نسبياً، قُدّر له أن يقضي وهو في منتصف العمر (مزمور ٣:٢٤).

"لَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ". كانت المدينة المقدسة تظهر بوضوح من جبل الزيتون عندما يدور المرء حول الانحناء الذي بين بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا. هنا مكث يسوع وتريث إلى أن يأتوه بالجحش الذي كان سيمتطيه داخلاً إلى المدينة كما جاء في النبوءة.

"جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ". ما كان ليَهمُّ يسوعَ إذا ما كان هذا الجحش غير مروَّض. فهو الخالق وقد جاء إلى هذا العالم كإنسان، ولكونه هكذا فإن كل المخلوقات الأدنى ستخضع له (مزمور ٨: ٦- ٨). وحده الإنسان، الذي خلق على صورة الله، هو الذي تمرّد ضده. أما بقية المخلوقات فقد عرفوه مالكاً شرعياً لهم (أشعياء ١: ٣).

"الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ". هكذا كان يفترض في التلاميذ أن يجيبوا إن سألهم أحد عما إذا كان لهم الحق في فك الجحش. من الواضح أن صاحب الدابة كان يعرف يسوع ويدرك الأقوال السابقة التي تشير إليه.

"وَجَدَا الْجَحْشَ مَرْبُوطاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً عَلَى الطَّرِيقِ فَحَلاَّهُ". وجد كثير من المفسرين القدماء في هذا إشارة إلى الإنسان ذاته، وقد وصل إلى مفترق طرق عليه أن يأخذ قراره عنده. لم يجد المرسَلان صعوبةً في إيجاد الجحش. كان كل شيء كما ذكر يسوع تماماً.

"متأكدين منهما"، تساءل القوم هناك فيما إذا كان يحق للتلاميذ أن يأخذوا الجحش كما كان يسوع قد توقع. من الواضح أن هؤلاء لم يكونوا مالكي الدابة، بل مجرد عابري سبيل خشوا أن يقوم التلميذان بأي فعل غير مناسب. "كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ". لم يكن هناك أي اعتراض عندما أوضح التلميذان المرسلان الأمر كما أوصى الرب.

"أَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا". مرتجلين شكلاً من السرج بثيابهم المتدلية المتهدلة، أعدوا الجحش ليحمل يسوع إلى المدينة.

"كَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ....وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ". في غمرة حماستهم التقوية حاولت تلك الجموع المتواضعة تقديم ترحيب ملكي فخم للملك.

"«أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!". بإرشاد إلهي رنموا كلمات المزمور ١١٨: ٢٦، مدركين انطباقها على المسيا الموعود لبني إسرائيل. "أُوصَنَّا" تعني "خلّص الآن"، أو "نلتمس أن تحررنا"، رداً على "«لِيَحْيَ الْمَلِكُ!»". وهذه تحية إجلال اعتيادية توجه إلى السلطة الملكية (أخبار الأيام الثاني ٢٣: ١١).

"مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ". لدقيقة كاد يُعترف بيسوع كوريث شرعي لعرش داود (لوقا ١: ٣٢). ولكن لم يكن الأوان قد حان له بعد ليرتقي ذلك العرش. سوف يعيد بناء خيمة الاجتماع لداود الملقاة أرضاً ولكن ليس قبل أن يعود في المجد (أعمال ١٥: ١٦؛ عاموس ٩: ١١، ١٢).

"فَدَخَلَ يَسُوعُ ....الْهَيْكَلَ"، كما تنبأ ملاخي (٣: ١). ظاهرياً، اكتفى يسوع بإلقاء نظرة على الهيكل في هذا اليوم الأول من أسبوعه الأخير؛ رغم أنه ليس من السهل التأكد من ذلك. ولكن على الأرجح أن الأحداث المدونة في متى ٢١: ١٢، ١٣ قد جرت في زيارته الثانية للمدينة. "لَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذْ كَانَ الْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". لقد فرض يسوع على نفسه ومن تلقاء ذاته ألا يمضي ليلة في المدينة المقدسة خلال أسبوع الآلام. لقد كان يعرف مسبقاً أنه سيتألم خَارِجَ الْبَابِ (عب ١٣: ١٢، ١٣). لم يكن له مكان في "مدينة الملك العظيم" (متى ٥: ٣٥). لقد وجد ملتجأ بين الفقراء والمتضعين، ومع أولئك الذين كانوا ينتظرون تعزية اسرائيل.

"وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً إلاَّ وَرَقاً لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ». وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَسْمَعُونَ" (١١: ١٢- ١٤).

في اليوم التالي وإذ كان يسوع وتلاميذه ذاهبين من بيت عنيا إلى أورشليم، كان يسوع جائعاً. بما أنه كان إنساناً بالتمام والكمال فقد كان عرضة لكل الأحوال المعصومة التي يعيشها البشر. شجرة تين مورقة على جانب الطريق تبدو وكأنها لتقدم تصوراً عن وليمة تين، ولكن عندما جاء يسوع إليها لم يجد فيها سوى الأوراق، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ.

فقال يسوع: "«لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ»"- أو أبد الدهر. شجرة التين هذه كانت رمزاً لإسرائيل كشعب، وحالتها غير المثمرة كانت تمثل صورةً عن حالة الشعب- تديّنٌ كثير ولكن لا ثمار لله. ولذلك بقي عقيماً غير مثمر طوال كل تلك القرون منذ رفضه للمسيح.

"وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». وَسَمِعَ الْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ لأَنَّهُمْ خَافُوهُ إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ خَرَجَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ. وَفِي الصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوُا التِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ الأُصُولِ فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدِي انْظُرْ التِّينَةُ الَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!»" (١١: ١٥- ٢١).

هذه هي المرة الثانية التي يطهر فيها يسوع الهيكل من أولئك الذين يتاجرون بالإلهيات. في (يوحنا ٢: ١٣- ١٦) نقرأ عن أول مناسبة، وذلك بعد برهة قصيرة من بدء خدمته العلنية. ولكن أولئك المسيئين استغلوا فرصة غيابه ليعيدوا الوضع إلى سابق عهده. ما من شك أن أصل بيع الحمام والحيوانات في ساحات الهيكل من البدء كانت غايته مجرد تأمين الطعام لزوار أورشليم الذين كانوا يأتون من أماكن بعيدة ليشاركوا في الأعياد السنوية. ونفس الحال ينطبق على الصّرّافين. فقد كانوا هناك لتسهيل حصول الغرباء على النقود التي كانت تُستخدم في فلسطين، بدل العملات التي كانت في البلدان الأخرى. ولكن ما بدأ بهدف بريء تطور إلى نظام ربح ابتزازي يستفيد منه هؤلاء القائمون عليه. أما أولئك الذين كانوا يأتون من الشتات لعبادة إله آبائهم فكانوا يتعرضون لسرقة مدخراتهم بشكل منظم- وذلك باسم الرب.

تعامل يسوع بقسوة مع هؤلاء التجار الجشعين المخادعين، فَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ، وطرد بَاعَة الْحَمَامِ وحملان الذبائح وبقية الماشية.

يمكن للمرء أن يتخيله وقد وقف أمام سواد الناس المنذهلين والمنذعرين، وعيناه المقدستان تلتمعان بالسخط المبرر الحق وهو يقول: "«أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ»".

من الطبيعي أن هذا الموقف أثار حقد مناوئيه الفاسدين، وخاصة أولئك الذين كانوا يدعمون ويستفيدون من الاتجار بالأشياء المقدسة؛ وهؤلاء الكتبة ورؤساء الكهنة كانوا يشكلون عصبة تهدف بشكل واضح إلى إلقاء القبض على يسوع وإهلاكه. ولكنهم ما كانوا ليتجرأوا على أن يفعلوا ذلك أمام الملأ بعد، لأن الناس كانوا متأثرين بتعاليم وأعمال يسوع وميالين إلى التفكير فيه على أنه المسيا الموعود. ولذلك، فقد سُمِحَ له بأن يستمر في إلقاء تعليمه في ذلك اليوم في ساحات الهيكل دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض أو التدخل.

وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ غادر وتلاميذه المدينة من جديد، ورجعوا إلى بستان الزيتون، على الأرجح إلى بيت عنيا. وفي الصباح، وإذ رجعوا إلى المدينة لاحظوا شجرة التين غير المثمرة وقد يبست من أصولها. وعندما استرعى بطرس الانتباه إليها استغل يسوع الموقف ليشدد على قوة الإيمان.

"فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِاللَّهِ. لأَنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهَذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ وَلاَ يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ. لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ فَيَكُونَ لَكُمْ. وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَلاَّتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لاَ يَغْفِرْ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ»" (١١: ٢٢- ٢٦).

الإيمان من الائتمان أو الثقة. هكذا ثقة يجب أن تكون بالله، وليس بأي وسيلة بشرية. يمكننا أن نملك إيماناً به فقط ونحن نتكل على كلمته ونثق بها. في إجابته على سؤال معلم مدرسة الأحد: "ما هو الإيمان؟"، كان الطفل الصغير مصيباً عندما قال: "من فضلك، يا أستاذ، أعتقد أنه الإيمان بالله وعدم طرح أية أسئلة".

عندما يتحدث الله فإن لنا أن نثق بكلمته. ولذلك، إن أوضح أن إرادته هي أن ينقل جبلاً من مكان راسخ وأن يلقي به في البحر، فإن الإيمان الحقيقي يجعلنا نثق بقدرته على الفعل، وسنجرؤ على أن نأمر الجبل أن يختفي. مما لا شك فيه أن الرب في ذهنه، وراء الهيئة الطبيعية للجبال، جبال المصاعب، كتلك التي واجهها زَرُبَّابِلُ في فلسطين عندما لاقت البقية العائدة هكذا معارضة قوية عنيفة في أيام إعادة بناء الهيكل (زكريا ٤: ٧). لا شيء مستحيل عند الله، ومن هو في حياة شركة مع الله يمكنه أن يسلك بإيمان وهو على يقين بأن مطلبه سوف يتحقق.

"لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ فَيَكُونَ لَكُمْ". الإيمان لا يستند إلى ظاهر الأمور. ولكن علينا أن نتذكر أن هذه الكلمات تنطبق فقط عندما نبتهج في الرب، وهكذا تكون رغبات قلبنا بحسب إرادته المقدسة (مز ٣٧: ٤).

إن لحالة النفس علاقة كبيرة بالإمكانية في صلاة الإيمان. ومن هنا جاء التعليم كمثل ذاك الوارد في الآيتين ٢٥، ٢٦ عن المغفرة. لم يعِد الله أبداً بأنه يستجيب لصلاة القلب غير الغافر. هذا الموقف تجاه الآخرين يسد سبيل الصلاة تماماً فلا تبقى ممكنة أية استجابة. في حكمه العائلي يغفر الله لنا كما نغفر نحن لإخوتنا. ليست هذه مغفرة نحو خاطئ بل مغفرة القديس (المسيحي المؤمن) الذي أخفق. ما لم نغفر، فإن أبانا السماوي لا يغفر لنا عندما نأتي إليه مقرين بخطايانا من يوم لآخر.

هذا التعليم عن الصلاة أعطاه الرب يسوع للجماعة الصغيرة وهم يسيرون متجهين نحو المدينة. حالما دخلوها، فعندها مباشرة تقريباً اعترض الكتبة ورؤساء الكهنة الساخطين على يسوع من جراء ما كان قد فعله في اليوم السابق.

"وَجَاءُوا أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي فِي الْهَيْكَلِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ وَقَالُوا لَهُ: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا وَمَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَجِيبُونِي فَأَقُولَ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟ أَجِيبُونِي». فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا مِنَ النَّاسِ». فَخَافُوا الشَّعْبَ. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ نَبِيٌّ. فَأَجَابُوا وَقَالُوا لِيَسُوعَ: «لاَ نَعْلَمُ». فَاَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»" (١١: ٢٧- ٣٣).

في هذا اليوم لاقى يسوع معارضة بأشكال شتى من قِبَل القادة الدينيين، ولكن في كل مرة كان يفحمهم بأجوبته.

فاعترضوا أولاً متسائلين عن مصدر سلطانه في تطهير الهيكل بالطريقة التي قام بها. ولكنه رفض الإجابة، وبدلاً من ذلك طرح عليهم السؤال: "مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟" الإجابة الصحيحة على هذا السؤال ستكون هي الإجابة على سؤالهم. فإن أقروا أن يوحنا قد أرسله الله يؤكدون بذلك ادعاءات وتصاريح يسوع، لأن يوحنا كان قد أعلن أنه الموعود الذي كان سيعمّد بالروح القدس والنار- وهذا ما لا يستطيع أحد سوى المسيا أن يفعله.

هؤلاء الناموسيون التشريعيون الماكرون كانوا يتجادلون فيما بينهم حول الجواب الذي يجب أن يقدموه. فإن قالوا أن يوحنا كان مُرسلاً من الله إلى بني اسرائيل فسيواجهون السؤال أن: "لِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟" وإن أنكروا تفويضه الإلهي فإنهم كانوا يخافون الشعب الذين كان يؤمن بقوة أن يوحنا كان نبياً. ولذلك تملصوا من السؤال الحقيقي بأن أجابوا: "«لاَ نَعْلَمُ»". وهنا أجاب يسوع قائلاً: "«وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»".

لقد كان دائماً على أهبة الاستعداد ليساعد المستفسرين الصادقين. ولكن هؤلاء الرجال هنا كانوا معارضين مرائين لشهادته، وكانوا مصممين على ألا يصدقوه عندما كانت أعماله تشهد على مسيانيته وتعلن أنه عبد يهوه الذي كتب عنه أشعياء والذي طالما انتظره شعب إسرائيل.