الأصحاح ٢

لقد لاحظنا لتونا أن المعجزات قد عملها ربنا ليريح البشر من بؤسهم وتعاستهم وليثبت مسيانيته. سنركّز أيضاً على الحقيقة الثمينة بأن هذه المعجزات قد عُني بها أن تعلنَ للبشر نعمة الله ومحبته الحانية، التي تبدت في المسيح، فكشفت على نحو كامل عمق اهتمامه بأولئك الذين استجلبوا على أنفسهم ذلك المرض الرهيب والبلوى بسبب أنهم أداروا ظهرهم له. إن الجنس البشري برمته كان يعاني بسبب الخطيئة. لقد كان إسرائيل بشكل خاص قد وُعد بمناعة من المرض إذا ما أطاعوا ناموس الله (خروج ٢٣: ٢٥). وكل أعمى أو أصم أو مشلول أو مصاب بالمرض من بينهم كان شاهداً على إخفاقهم في هذه الناحية (تثنية ٢٨: ١٥- ٢٣). بشفائه لذاك المريض، كان يسوع يبطل عمل الشيطان (أعمال ١٠: ٣٨). وبقيامه بذلك فإنه كان يحقق ما سبق أن جاء في النبوءة عن "عبد يهوه"، ملك اسرائيل المسيا المنتظر الموعود (أشعياء ٣٥: ٤- ٦). شفاء الأجساد وغفران الخطايا كانا مرتبطان على نحو وثيق في العهد القديم (مزمور ١٠٣: ٣؛ ٦٧: ٢؛ أشعياء ٥٨: ٨). وكان الأمر يصح أيضاً على نفس المنوال فيما يخص خدمة الرب على الأرض كما سيوضح هذا القسم الذي سنتناوله الآن. وهناك منطق لا يزال صحيحاً حتى ولو كانت بركاتنا الآن روحية (أفسس ١:٣) أكثر منها مؤقتة زائلة. ولكن يوحنا يصلي من أجل غايس لكي ينال صحة الجسد وانتعاش الروح معاً يداً بيد (٣ يوحنا ١: ٢). وكما في مكان آخر يمكننا أن نتيقن أن سبب ذلك هو أن الله أبانا له هدف خفي معين من البركة. إلا أن لنا الحرية في أن نصلّي على الدوام أحدنا للآخر من أجل الشفاء (يعقوب ٥: ١٦). عندما كان يسوع يعلنُ على الأرض إنجيل الملكوت، كان من الملائم أن تتجلى بركات الدهر الآتي، وهكذا يحصل الناس على مثالٍ عما يمكن لإسرائيل والكون بأكمله أن يتمتع به بامتلائه عندما يسود مُلْكُ الله على جبل صهيون وتعم البركةُ جميعَ الأرض.

إن كل شكل من أشكال شفاء المرض قام به ربنا يسوع يبدو وكأنه يرسم جانباً من الخطيئة، التي تشبه الحمى المتقدة في النفس، فتكون مثل برص يدنس الكيان كله، أو شلل يجعل المرء عاجزاً كلياً عن أن يخطو خطوة تجاه الله، أو كمثل ذراعٍ ذاويةٍ عاجزة عن القيام بخدمة حقيقيةٍ. أياً كان الشكل الذي تأخذه الخطيئة، فإن يسوع يستطيع أن يقدم انعتاقاً كاملاً منه.

كل شفاء هو إلهي، سواء أكان قد تم بقوة أو قدرة معجزية، أو بعادات جسدية منضبطة على نحو صحيح، أو حمية أو تدريب، أو بمعالجة طبية مدروسة. الله وحده هو الذي يستطيع أن يقدم صحة و قوة متجددتين. فذاك الذي بقدرته أتينا إلى الوجود، وقد أعطانا كل تلك الأجساد المدهشة، بوظائفها الرائعة، هو الوحيد الذي يستطيع أن يحفظنا على نحو سليم معافى أو يشفينا من المرض.

"ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضاً بَعْدَ أَيَّامٍ فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ. وَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ الْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ. وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هَذَا هَكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ؟» فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللَّهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!»" (٢: ١- ١٢).

خدمة الرب المبكرة في الجليل لا تزال مستمرة مطردة، والأحداث التي ترد في هذا المقطع تلي مباشرة تلك التي مرت في المشهد السابق. كانت كفرناحوم المركز الذي انطلق منه يسوع إلى بقية نواحي الجليل، في أوائل الصيف أو أواخر الربيع من العالم ٢٨ م.

"سُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ". حضور يسوع في أي مكان كان سرعان ما يصبح معروفاً، كما في هذه المناسبة عندما انتشر خبر أن الشافي العظيم هو من جديد في المدينة التي اختارها موطناً له.

"فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ". لقد كان يعلن لتلك الحشود التي ملأت المنزل واكتظت عند الباب الرسالة التي جاء من السماء لكي ينقلها، ألا وهي إنجيل الملكوت. لقد كانت هذه مهمته الرئيسية خلال فترة خدمته التي استمرت ثلاث سنوات ونصف. وكان شفاء المرضى أمراً ثانوياً بالنسبة له، رغم أن ذلك كان الأمر الأهم بالنسبة للناس بلا شك. ولكن مرض النفس أشد خطراً من مرض الجسد، وأن ينقل للبشر رسالة الحياة أهم بكثير من تخليصهم من الأمراض أو العلل الجسدية.

"وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ". هذا المشلول البائس العاجز لم يكن ليستطيع أن يشق طريقه بدون مساعدة ليصل إلى حيث كان يسوع، ولكن كان له أربعة أصدقاء كانوا مقتنعين بشدة على ما يبدو بأن الرب سيعطي قوة لأوصال ذلك المريض المشلولة.

"كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَ... دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ". إذ وجدوا أن كل الطرق العادية المؤدية إلى يسوع كانت مغلقة بسبب الحشد المتدافع عند الباب، فإن هؤلاء الأصدقاء النشطين، وإذ كانوا عازمين على ألا يخفقوا في محاولتهم لإحضار المتألم المصاب مباشرة إلى المخلص المحب صانع المعجزات، فإنهم حملوه إلى أعلى السطح (والذي يمكن الوصول إليه عن طريق سلم خارجي) وهناك، وإذ نزعوا القرميد والقش على السقف، صنعوا فتحة كبيرة بما يكفي ليُنزلوا المريض منها، بأن ربطوا حبالاً إلى السقالة التي كان يضطجع عليها المريض فأوصلوه إلى حيث كان يسوع يعلّم. يمكن للمرء أن يتخيل مدى الاهتياج والإثارة عند الناس وقد رأوا ذلك الرجل المضطجع وهو يُنزل إلى عند قدمي يسوع. بالنسبة له لم يكن في هذا أي تطفل أو اقتحام وقح لا مبرر له، أو مقاطعة، بل دليل صامت على إيمان الخمسة، الذين وثقوا به على أنه قادر على استخدام قدرته لشفاء المريض.

"فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ". إنما الإيمانُ تبرهنه الأعمال. إصرار ومثابرة ونشاط هؤلاء الرجال أظهر حقيقية إيمانهم باستعداده لأن يسد حاجتهم. هذا ما أدركه، وإذ رأى أن المفلوج كان في حاجة إلى ما هو أعظم من شفاء الجسد- أي مغفرة خطاياه، "قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ»". لقد كانت هذه لحظة درامية مؤثرة، ولا بد أن كلماته قد أذهلت المستمعين، إذ لم يسبق لهم أبداً أن عرفوا رجلاً يتحدث على هذا الشكل.

كان المشلول حرفياً "ضعيفاً (لا قوة له)" (رومية ٥: ٦). وبهذه كان يمثل صورة لكل الناس في خطاياهم. لقد أدخلت كلمة المسيح القوة إلى أطرافه المشلولة، كما أن تلك الكلمة ذاتها تعطي حياة جديدة لمن يقتبله بإيمان.

أظهر الأصدقاء الأربعة لذلك الرجل العاجز إيمانهم من خلال أعمالهم. وإذ كانوا متيقنين بأن صديقهم المريض كان في حاجة إلى يسوع، فإنهم كانوا مصممين على ألا يسمحوا لأي شيء بأن يمنعهم من إحضاره إلى مكان وجود المخلص. هل نهتم نحن على تلك الدرجة بأصدقائنا غير المهتدين إلى يسوع كما فعلوا؟ لقد كان مما يبهج المسيح رؤيتُه لإيمان هؤلاء الرجال، لأن الإيمان دائماً يمجد الله. إنه يميز حضوره في كل نفس صادقة ساعية وراءه، وهو سريع الاستجابة في تلبية رغبة القلب المؤمن.

"وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ". هؤلاء كانوا ناموسيين لم يعرفوا شيئاً عن النعمة وكانوا ينكرون ادعاءات يسوع بأنه ابن الآب. إنهم لا يلتجئون إلى الكتابات المقدسة سعياً وراء الاستنارة، بل إنما يفكرون في أنفسهم عن معنى كل ما يجري. وإذ كانوا ممتلئين بالتحامل والإجحاف ومصممين على ألا يؤمنوا بيسوع، فإنهم تشاجروا معه في الحال.

"مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ؟" بالنسبة لهم، كان أسوأ شكل من أشكال التجديف هو أن يدّعي أحدهم، أياً كان، أن لديه سلطة على مغفرة الخطايا. هذا الامتياز كان وقفاً على الله وحده. لم يعرفوا أن الله المتجلي في الجسد كان حاضراً في وسطهم.

"شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ". لم يتكلموا بصوت مرتفع، أو بشكل مسموع معبّرين عن نقمتهم أو اعتراضهم على كلماته، بل إن يسوع عرف أفكارهم (مزمور ٩٤: ١١)، وأجابهم بناء على ذلك. "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟" أن يكون قادراً هكذا على قراءة أعمق الأسرار في تفكيرهم وحياتهم كان دليلاً آخر على ألوهيته، ذلك أن الله وحده هو الذي يعرف أفكارنا من بعيد (مزمور ١٣٩: ٢).

"أَيُّمَا أَيْسَرُ؟": بالنسبة لهم، كانوا عاجزين عن شفاء المريض كما كانوا عاجزين عن الصفح عن الخاطئ. أما يسوع فقد كان قادراً على أن يفعل كلا الأمرين. لقد اختار أن يفعل أولاً الأمر الأهم.

"لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا". كان لينجز معجزة لكي يوضح سلطته وقدرته على تحرير الناس من الخطيئة ومضاعفاتها بآن معاً.

"قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ". لذلك التفت إلى ذلك المشلول الذي كان لا يزال عاجزاً وأمره أن ينهض ويحمل سريره- وهو عبارة عن نقالة يمكن طيّها بسهولة- فعاد صحيحاً معافى إلى منزله. لقد كانت هناك قوة في كلمته. فعندما تكلّم حلّت قوة في تلك الأوصال وقام الرجل، لدهشة جميع من كانوا يتابعون المشهد.

"مَجَّدُوا اللَّهَ". عندما رأى الناس ذلك الرجل الذي كان مفلوجاً في السابق يقف على قدميه يمضي حاملاً سريره، استجابة لأمر من يسوع، أدركوا أن طاقة إلهية كانت فعالة في وسطهم، فأعطوا الله المجد لقيامه بهذه الأعاجيب عن طريق خادمه (وعبده) يسوع. لا شك أن كثيرين تساءلوا فيما إذا لم يكن ذاك هو بالفعل هو المسيا المنتظر، ومن هنا جاء كلامهم أن: "«مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!» ". لقد كان في هذا تجلٍّ مذهل وجديد لنعمة وقدرة الله.

وإذ غادر يسوع المنزل، "خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْبَحْرِ"، وهناك علّمَ الجموعَ التي تبعَتْه، كاشفاً لهم الحقائق العظيمة المتعلقة بملكوت الله الآتي والذي طالما انتظره بنو اسرائيل طويلاً.

"وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ. وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ»" (٢: ١٤- ١٧).

ليس المسيح مخلصنا فحسب، بل هو ربنا أيضاً. والفداء يشتمل على أكثر من الخلاص من إثم الخطيئة والدينونة المستحقة من جرائها. إنه يشمل أيضاً على تحريرنا من قوة وسلطة الشيطان، معبود هذا العالم، وخضوعنا السار لذاك الذي اشترانا بدمه الثمين. ونقرأ: "إنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ.... لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ" (١ كورنثوس ٦: ١٩، ٢٠). بسبب ذلك فإن علينا أن نتمسك بالرب يسوع كمعلّم وسيّد أسمى على حياتنا. وإن الامتنان له على كل ما فعلت نعمته لنا، بحد ذاته، يتطلب منا الإقرار من كل القلب بسيادته علينا. فلسنا مُخَلَّصين بـ "إتّباع يسوع"، بل إننا مطالبون بإتّباع يسوع لأننا مُخَلَّصون. ويتطلّب الولاء للمسيح أن نسلم إرادتنا له وأن نسعى لتمجيده في كل طرقنا. غالباً ما نسمع هذا القول أن إرادتنا يجب أن تُكسر أو تُقهر، ولكن ذلك ما هو إلا أسوأ علم نفس وأسوأ علم لاهوت. الإنسان ذو الإرادة المقهورة أو المكسورة لا يعود قادراً على اتخاذ قرارات محددة. أنشد تينسون يقول:

"إراداتُنا ملكُنا،
وإننا إنما نجعلها لك".

وهذا ما يؤكد عليه الكتاب المقدس. علينا أن نسلم إرادتنا طوعياً لذاك الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي تكون خدمتنا هكذا مرضية سارة، وطاعتنا مقبولة نحن الذين نبتهج بإرادة الله فوق كل شيء آخر. إننا في حاجة لأن نحترس من أن ندعو يسوع "رباً" إن كنا نستخفّ بوصاياه وأوامره. فبالطاعة نبرهن على محبتنا له (يوحنا ١٤: ١٥). إننا نرى في الطاعة الكاملة عند لاوي العشار، الذي يدعى متى في مكان آخر (متى ٩: ٩- ١٣)، مثالاً عن الصفة التي يجب أن تتميز بها قلبُ كل من رُبحوا إلى المسيح.

"رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ". لاوي أو متى، كاتب الإنجيل الأول، كان عضواً في طبقة العشّارين المكروهة المرذولة. لقد كان جابي ضرائب في خدمة روما. وهؤلاء كان اليهود يبغضونهم لأنهم كانوا يقتطعون الضرائب ويسحقون إخوتهم لكي يغتنوا هم أنفسهم. كان هناك مكان جباية ضرائب في كفرناحوم، حيث كان يجب على جميع الصيادين أن يحضروا صيدهم وأن يدفعوا نسبة معينة كضريبة عنه. ولعل لاوي كان مرتبطاً بهذا المنصب. من الواضح أنه كان قد سمع يسوع من قبل واقتنع في قلبه بأنه كان المسيا؛ ولذلك فعندما سمع يسوع يقول له: "«ﭐتْبَعْنِي». قَامَ وَتَبِعَهُ". لقد كانت لديه استجابة سريعة لطلب المسيح.

"وَفِيمَا هُوَ (يسوع) مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ". إذ بدأ لاوي مهنة جديدة أقام وليمةً، دعا إليها الكثير من أصدقائه القدامى، "العشارين والخطاة"، وأيضاً "يسوع وتلاميذه". لقد كانت تلك هي طريقته ليدلي بشهادة تنم عن الولاء الجديد لديه، ولا بد أنها تركت انطباعاً كبيراً لدى زملائه القدامى.

"وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ". في نظر أولئك المتدينين المتعصبين الشكليين، كان ذلك جريمة وإساءة كبيرة. ولكن أظهر هذا كم كان فهمهم ضعيفاً لطبيعة رسالة يسوع.

"لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ". كما أن الطبيب يخدم المرضى أكثر من الأصحاء، كذا المسيح جاء ليقدم رسالة النعمة للخطأة المحتاجين أكثر من سعيه وراء أولئك الذين كانوا يتخيلون أنهم صالحون بما فيه الكفاية أمام الله. وفي الواقع، ليس من أحد بارّ (رومية ٣: ١٠)، ولكن كان هناك كثيرون يفتخرون في أنفسهم ببرّ لم يمتلكوه أبداً. ليس من بركة لهؤلاء. الخاطئ المعترف هو من يجد الرحمة.

ثم طُرِح سؤال يتعلق بالصوم. استغل يسوع المناسبة ليكشف حقيقة هامة في هذا الخصوص.

"وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ»" (٢: ١٨- ٢٢).

لقد كان تلاميذ يوحنا وأولئك الفريسيون، الفئة التقليدية المتزمتة من اليهودية، هم الذين أثاروا هذا السؤال عن سبب عدم إتباع تلاميذ يسوع لنمطهم في الصوم. لقد كانت تلكما الجماعتين تفكران بالإمساك عن الطعام في أوقات معينة على أنها أمر يستحق المكافأة والتقدير، أو على الأقل أمر يفيد في الوصول إلى قداسة القلب والحياة. لذلك بدا لهم أن تلاميذ يسوع، من هذه الناحية على الأقل، قد نزلوا إلى مستوى أدنى منهم؛ لكن يسوع أجابهم بأن طرح سؤالاً: "«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا". والمغزى أنه لم يكن مناسباً لأتباعه أن يتفجّعوا ويندبوا أمام الله وأن يحزنوا في نفوسهم طالما أنه هو نفسه، منبع كل البركة، كان معهم. ولكن يسوع، وقد شبه نفسه بالعريس، أخبر مسبقاً متنبئاً بالوقت الذي سيؤخذ فيه عنهم، فعندها سيصومون بالمعنى الحقيقي للكلمة، إمساكاً عن حماقات وجهالات العالم- ذلك العالم الذي كان سيحتشد ضدهم في معارضة مريرة لتعاليم معلمهم.

علاوة على ذلك، فإن أولئك الذين أثاروا المسألة حول الصوم لم يدركوا أن يسوع كان قد جاء ليقدم نظاماً جديداً بالكلية. ويخبرنا الإنجيل في موضع آخر أن الناموس كان قد أُعطي بموسى، وأنه كانت هناك أشياء كثيرة في الناموس تتعلق بالصوم. ولكن النعمة والحق جاءا بيسوع المسيح. ولم يكن في مخططه أن يدعو الرجال والنساء للخضوع لمبادئ ناموسية تشريعية. فأن يفعل ذلك كان كمن يخيط قطعة قماش جديدة على رداء بالٍ. فهذا سيجعل الشق أسوأ وحسب. أو سيكون كمن يضع خمراً جديدة في زقاق عتيقة. فعندما يبدأ الخمر بالتخمر ستنفجر الزجاجات ويُتلف الخمر. فمن غير الممكن وضع خمر النعمة الجديدة في قوالب وقوانين وتشريعات ناموسية: فأحدهما يبطل الآخر، كما نقرأ في (رومية ١١: ٦): "فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً". بجوابه هذا، ميز ربنا بين ناموسية الماضي والنعمة التي جاء ليكشفها أو ليعلنها. وكان هذا من خلال المقياس الذي أوضحه الحادث الذي تلا ذلك.

"وَﭐجْتَازَ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «ﭐنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إلاَّ لِلْكَهَنَةِ وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟» ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «ﭐلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً»" (٢: ٢٣- ٢٨).

بينما كان التلاميذ يسيرون في حقل ذرة في يوم سبت ابتدأوا يقطفون بعض السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلون الحبوب. وكان هذا يتوافق تماماً مع التدبير الذي وضعه الناموس، لأن الله كان قد قال لموسى: "إِذَا دَخَلتَ زَرْعَ صَاحِبِكَ فَاقْطِفْ سَنَابِل بِيَدِكَ وَلكِنْ مِنْجَلاً لا تَرْفَعْ عَلى زَرْعِ صَاحِبِكَ»" (تثنية ٢٣: ٢٥). ولكن الفريسيين ما لبثوا أن رأوا خطأً في سلوك التلاميذ لأنهم كانوا يستفيدون من هذا التدبير في يوم السبت، ولذلك اعترضوا في الحال، قائلين: "ﭐنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟" لم يكن في الناموس أي شيء يعلن أن هذا التصرف يتناقض مع أي شيء أمر به الله، ولكنهم كانوا قد أضافوا تقاليد كثيرة جداً إلى الناموس حتى أن التلاميذ بدوا وكأنهم يخالفون وصية أو مبدأ إلهياً. رداً عليهم، لفت يسوع انتباههم إلى ما فعله داود عندما كان هو ورجاله جياعاً وجاؤوا إلى بَيْتَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فقد طلب داود طعاماً له ولأتباعه. فأجاب أَخِيمَالِكَ الكاهن، والد أَبِيَاثَارَ، أنه ما كان لديهم خبزٌ سوى خبز التقدمة الذي أُخِذَ من المائدة المُقَدَّسة وكان مخصصاً لإطعام الكهنة (لاويين ٢٤: ٩؛ ١ صموئيل ٢١: ٦). ونزولاً عند طلب داود، على كل حال، أُعطيَ هذا الخبز للرجال الجياع، ولم تحل عليهم أية دينونة من جراء ذلك. عندما رُفِضَ خادم الله الممسوح كان من المهم أن يُصار إلى خدمته وخدمة حاجات أتباعه أكثر من الحفاظ الدقيق والشكلي على نظام خيمة الاجتماع، لأن البشر في نظر الله هم، أولاً وأخيراً، أهم من الطقوس. وكانت هذه هي الحالة هنا. فأعلن يسوع أن ﭐلسَّبْت إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ؛ و"إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً". بهذه الكلمات، إن كانت لهم أذنان للسمع، كانوا ليفهمون أنه إنما يعلن ألوهيته، إذ مراراً وتكراراً يُقال عن السبت أنه "سبت الرب"، وبما أن يسوع يعلن نفسَه رباً لذاك اليوم (السبت) فهو بالتأكيد يقر بأنه إله اسرائيل المتجلي في الجسد.

لا أريد هنا أن أدخل في الموضوع الحاسم المتعلق بالعبارة "فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ". لقد كان هذا مثار جدل وموضع نقاش كبير، ولعلنا لن نفهمه بشكل كامل إلى أن نعرف كما نُعرف. ولكن علينا أن نتذكر أنه كان من الممكن ببساطة لبعض النساخ والكتبة أن يخلطوا بالخطأ بين "أَبِيَاثَار" و"أَخِيمَالِكَ". من جهة أخرى، لعل هناك تعليل إلهي يفسر تنحية الأب جانباً في حين يتم التعريف بالابن على أنه رئيس الكهنة البار في تلك الأيام.