الأصحاح ١٣

هذا الأصحاح يجب أن يُقرأ ويدرس بعناية متصلاً مع متى ٢٤ ولوقا ٢١. هذه الأصحاحات الثلاثة تعطيناً تقريراً عن حديث ربنا على جبل الزيتون والذي فيه يتتبع نبوياً الأحوال التي كانت ستسود في فلسطين ووسط شعوب الأمميين بعد رفضه وقيامته، بما في ذلك دمار أورشليم على يد تيطس، وصولاً إلى ذروة الأحداث: المجيء الثاني لابن الإنسان وتأسيس ملكوت الله على الأرض بقوة ومجد متجليين. وعبثاً نبحث عن أي ذكر للكنيسة في الدهر الحالي. عندما نطق يسوع بهذه الكلمات لم يكن قد أُعلن شيءٌ بعد عن جسد المسيح. فهذا السر لم يُعرف إلا بعد أن أُعطي باستنارة خاصة لبولس الرسول وبه إلى الآخرين بعد وقت من بدء دهر النعمة الحالي.

ولذلك ففي قراءتنا لهذا الخطاب النبوي العظيم يحسن بنا أن نميز الطابع اليهودي الكامل فيه. ففي حين يكشف ما كان سراً حتى الآن، ليس فيه إشارة إلى أصل، أو مسير أو مصير الكنيسة، الشعب المقدس المرتبط الآن بالمسيح القائم بالروح القدس.

في حين أن كثير من أولئك الذين سمعوا هذا الخطاب كانوا مندمجين بتلك الكنيسة بفضل معمودية الروح القدس في يوم الخمسين (العنصرة) وما تلا، إلا أنه ينظر إلى الجميع على أنهم البقية اليهودية التي تنتظر تحقيق النبوءة التي في العهد القديم: تأسيس ملكوت المسيا، عندما سيرجع عبد يهوه الذي كان مرفوضاً في الماضي ويحكم جميع الأمم بِقَضِيب حَدِيدٍ من برّ صلب لا ينثني، بحسب الإعلان الذي ورد في المزمور الثاني. فالنخبة الذين هم نصب العين هم أوائل القديسين، من اليهود والأمميين المهتدين في الأيام الأخيرة- الأسبوع السبعين من دانيال ٩- الذين سيتجمعون من كل مكان ليرحبوا بالملك الذي يفترضون أن يؤسس ملكوته على جبل صهيون. أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار في ذهننا يجنبنا الكثير من التشويش والخلط.

مناسبة هذا الحديث تأتي أمامنا:

"وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا مُعَلِّمُ انْظُرْ مَا هَذِهِ الْحِجَارَةُ وَهَذِهِ الأَبْنِيَةُ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَنْظُرُ هَذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ». وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ تُجَاهَ الْهَيْكَلِ سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى انْفِرَادٍ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هَذَا وَمَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هَذَا؟»" (١٣: ١- ٤).

بينما كان يسوع وأتباعه يغادرون المدينة مساء ذلك اليوم الذي جادل فيه يسوع رؤساء الدين غير المؤمنين به فيما يخص مسائل عديدة، شعر التلاميذ بافتخار يمكن الصفح عنه بكونهم يهود، وذلك من خلال لفت انتباهه إلى عظمة أبنية الهيكل والأماكن المجاورة. ولا شك أنهم كانوا يظنون أن يسوع سيستولي على كل هذه، وسيقطنون هذه الأبنية معه لأنهم مرتبطون به ومشاركون في إدارة شؤون الملكوت. ولكنه أعلن، لدهشتهم، أنه لن يبقى حجر على حجر في كل هذه الأبنية العظيمة، إذ لا بد أن تُدمّر كلها.

إذ توقفوا لوهلة خلال سيرهم في الطريق، جلس يسوع عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ ينظر تُجَاهَ الْهَيْكَلِ، وسأله أربعة من تلاميذه- بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ- على انفراد أن يخبرهم عن موعد حصول هذه الأمور، وعن العلامة التي ستدل على وشوك تحقيق ما يقوله.

"فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَابْتَدَأَ يَقُول: «ﭐنْظُرُوا! لاَ يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا لأَنَّهَا لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَاضْطِرَابَاتٌ. هَذِهِ مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ" (١٣: ٥- ٨).

في هذه الآيات يضع الرب الخطوط الرئيسية لسير الأحداث في الدهر الحاضر، ويتحدث عن السمات العامة التي ستسود خلال غيابه. سوف لن يكون هناك تحسن في الأخلاق أو شؤون الأمم. لقد رُفِضَ أميرُ السلام. وبالتالي لن يكون هناك سلام دائم إلى أن يعود ليملك ويزيل كل رجس ودنس.

مسحاء كذبة كثيرون تم التنبؤ بأنهم سيأتون، وتحققت نبوءات كثيرة من هذه، ولكن الخروف الحقيقي في القطيع لن يعرف صوت هؤلاء الغرباء. حروب وإشاعات حروب لا بد أن تحصل، لأن الوحيد الذي كان ليمكنه أن يخلص الأمم من هذه الكوارث والنكبات قد رُفِضَ بازدراء وصُلِبَ. من الواضح أن يسوع قد توقع مسبقاً متنبئاً هذه كلها، ولذلك رسم بالضبط صورة حالة الأشياء التي نرى الآن أنها قد تلت صعوده إلى السماء عندما رفضه العالم.

منذ مغادرته لهذه الأرض، فإن ما ورد في الآية ٨ صار مضرب مثل. فقامت أمة على أمة، ومملكة ضد مملكة. واضطرابات عظيمة ملأت قلب الناس بالخوف، في حين أن مجاعات وقلاقل مؤلمة أخرى جعلت هذا العالم عالماً من الحزن والأسى. إلا أن الشكل الأسوأ للمعاناة لا يزال في المستقبل. فهذه الأمور هي مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ، وإن استمرت حوالي عشرين قرناً.

والأنكى من كل ذلك هو المخاطر التي سيكون الناس معرضين لها عندما يحين أوان النهاية، عندما سيقع قضاء الله ودينوناته الأخيرة على الأرض. ولكن حتى في ذلك الزمان في وقت ضيق يعقوب وعهد التجربة والمحنة التي ستصيب كل العالم لاختبار أولئك الساكنين في الأرض، فإن رسالة الإنجيل سوف تُعلن وسوف تستمر إلى انقضاء الدهر.

"فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ. فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ فَلاَ تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلاَ تَهْتَمُّوا بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذَلِكَ تَكَلَّمُوا لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ. وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ وَالأَبُ وَلَدَهُ وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ" (١٣: ٩- ١٣).

القديسون المتألمون المشار إليهم هنا هم بوضوح أبناء إسرائيل أولئك الذين سيكونون شهود الله الأخيرين بعد الكنيسة، كما نعرفها، وقد اختُطفوا إلى السماء، ويكون الأسبوع السبعون من دانيال ٩ قد بدأ. ثم سيقيم الله حشداً من الحكماء ليشهدوا ويعلنوا إنجيل الملكوت بين جميع الأمم. هؤلاء سيصب الشيطان جام حقده عليهم وسيتعرضون لعذابات مخيفة واضطهاد لا طاقة لهم عليه. ومع ذلك، فلا بد لإعلان الإنجيل إلى كل الأمم إلى أن تأتي النهاية.

قد نطبّق نحن أبناء هذا الدهر الحاضر هذه الكلمات على أنفسنا عندما نجد أنفسنا في ظروف مماثلة، ولكن يجب أن نرى التطبيق الفعلي الحقيقي لها.

بينما تصف الآيات ١١- ١٣ زمن الاضطهاد هذا، إلا أنها أيضاً تقدم تعزية وتشجيعاً لأولئك الذين سيعانون الاعتقال والسجن في تلك الأيام القاتمة. فالروح القدس سيمكّنهم من أن يجيبوا أولئك الذين يتهمونهم ظلماً بطريقة يعجز معها مناوئوهم ومجادلوهم من الرد عليهم أو مقاومتهم. قد يبدو هذا المقطع وكأنه يوحي بأن هذه الكلمات يمكن أن تنطبق فقط على زمن النعمة التدبيري الحالي حيث يسكن الروح القدس كل المؤمنين، إلا أن علينا أن نتذكر أنه حتى عندما يأتي عمله الحالي في الكنيسة إلى نهايته، ولا يعود يسكن شخصياً في القديسين كما هو الحال الآن، فإنه كلي الوجود أبداً وسيكون مع أولئك الذين يهتدون إلى المسيح في تلك الأيام القاتمة كما كان مع قديسي العهد القديم قبل العنصرة (الخمسين).

خيانة المرء أقرباءه، حتى الأولاد العاقّين الذين يسيئون معاملة والديهم الأتقياء، أو العكس، سوف يتطلب صبراً كثيراً وطول أناة من جهة أولئك الذين سيكونون شهداء للملك القادم في وقت الشدة ذاك. مُبْغَضِينَ من قِبَل كل الخانعين لقوة إبليس الذي يعمل في الحكومات الملحدة في تلك الأيام الأخيرة، فإن أولئك الذين يعترفون بالمسيح كملك حق على الأرض سوف يُمتحنون إلى الحد الأقصى، ولكن "الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ". هذا لا يعني أن الخلاص في ساعة الشدة تلك سيعتمد على إيمان الفرد، بل إن ذلك الصبر إلى النهاية هو الدليل أبداً على الصدق. الاعتراف وحسب سينهار عندئذ، كما الآن، ولكن حيث يكون المرء قد تجدد حقاً، فإنه ينال قوةً للاستمرار في طريق التكرس للرب أياً كانت المحن التي يتوجب عليه احتمالها.

من الواضح من الأصحاح التاسع من سفر دانيال أن الأسبوع الأخير سيتألف من قسمين. الفترة كلها تُدعى "زَمَانُ ضِيقٍ" (دانيال ١٢: ١)، و"وَقْتُ ضِيقٍ عَلَى يَعْقُوبَ" (إرميا ٣٠: ٧). ولكن السنوات الثلاث ونصف الأخيرة، التي تبدأ بالاستعلان الكامل لإِنْسَان الْخَطِيَّةِ، هي التي تُعرف بـ " الضِيقة العَظِيمة". وهذه  ستبدأ بإِقَامَةِ رِجْسِ الْمُخَرَّبِ التي تم التنبؤ عنها في دانيال ١٢: ١١.

"فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي - لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ - فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَﭐلَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ إِلَى الْبَيْتِ وَلاَ يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً وَﭐلَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ قَصَّرَ الأَيَّامَ. حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ لِكَيْ يُضِلُّوا - لَوْ أَمْكَنَ - الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. فَانْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ" (١٣: ١٤- ٢٣).

يجب أن نميز بين "الرِّجْس الْمُخَرّب" التي يرد الحديث عنها في (دانيال ١١: ٣١) والتي تشير إلى صورة جوبيتر التي علقها في الهيكل أنطيوخوس إبيفانيس في الماضي السحيق، و"رِجْسِ الْمُخَرَّبِ" الوارد ذكرها في (دانيال ١٢: ١١)، والتي تشير إلى الدمار الذي سيحدث. رِجْسَةَ الْخَرَابِ هذه الأخيرة هي التي كان ربنا يتحدث عنها. سواء كانت تصويراً حرفياً للوحش (رؤيا ١٣: ١٤، ١٥) الذي سيقيمه النبي الكذاب، الوحش شِبْه الخَرُوف (أي المسيح الدجال) في الأيام الأخيرة، أو كانت هذه الصورة بحد ذاتها رمزاً لجماعة غامضة تسلك لأجل مصلحة الرئيس المجدِّف لإمبراطورية العالم الآتي، لا يمكننا أن نحدد بشكل قاطع. ولكن على ضوء كلام الرب فإن القلة الباقية التي تكون على قيد الحياة في ساعة التجربة تلك ستكون قادرة على الفهم وسيعرفون أن قوة الشرير يمكن أن تدوم فقط ١٢٦٠ يوماً بعد ذلك، وعند انقضاء ذلك الزمان سيشيد الملكوت. ومن هنا فإن الضيقة العظيمة ستدوم طوال ثلاث سنوات ونصف بعد استعلان رِجْسَةَ الْخَرَابِ هذه. وهذا سيكون الأوان الذي سيصب فيه الله جام غضبه على العالم المسيحي المرتد واليهودية المرتدة. وبالنسبة للمسيحيين، لقد أُعطيوا الوعد بأن غضب الله لن يصيبهم. إننا نترقب ربنا يسوع لكي يُنْقِذُنَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي (١ تسالونيكي ١: ١٠).

إن التعاليم المعطاة لنا في الآيات ١٤- ١٨ تنطبق بشكل خاص على القلة الباقية من اليهود في فلسطين خلال فترة حكم الوحش والمسيح الدجال. وكما في أيام تيطس، فإن التحذير قد أعطي لتجنب المدينة والهرب إلى البرية حيث ينجون من غضب الشيطان الذي سيستعلن بالمسيح الدجال.

كان دانيال قد تنبّأ عن "زَمَان ضِيقٍ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ". ويستخدم يسوع هنا لغة مشابهة قائلاً: "لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ" (١٣: ١٩).

ستكون الكارثة، التي ستقع على الأمم، فاجعة جداً لدرجة أنه إن "لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ لَن يَخْلُصْ جَسَدٌ". ولكنه يخبرنا أنه لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ- أي البقية التقية من بني إسرائيل وأولئك الذين سينجون من بين الأمم- سوف يقَصّر الأَيَّامَ.

ستمضي ثلاث سنوات ونصف في حوالي ١٢٧٨ يوماً تقريباً. ولكن سطوة الوحش ستكون محدودة ومحصورة في ١٢٦٠ يوماً. فالأيام الـ ١٨ من "التقصير" سوف تسمح بخلاص الكثيرين من الهلاك الفعلي.

على ضوء القوة التدميرية للقنبلة الذرية يمكننا أن نرى كيف يمكن أخذ كلمات يسوع هذه حرفياً.

ففي ذلك الوقت الرهيب من المخادعة وتقسي القلب سيضلل كثيرون على يد مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، وكذلك على يد المسيح الدجال في أورشليم. ولكن النخبة الذين سيختارهم الله سيكونون في منأى عن تأثيرهم المخادع المضلل. ولهؤلاء يقول يسوع: "فَانْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ".

من المؤكد أن هذه النبوءة عن الضيقة العظيمة لا تشير إلى أي حدث قد تحقق، كمثل دمار أورشليم، أو اضطهاد الكنيسة على يد روما الوثنية أو روما البابوية، لأن الآيات التالية تخبرنا عما سيحدث تماماً عندما تأتي فترة الغضب والدينونة هذه إلى الانقضاء.

"«وَأَمَّا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ الضِّيقِ فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ" (١٣: ٢٤- ٢٧).

لاحظوا أن كل هذه الإشارات البشيرية والعودة الفعلية لابن الإنسان ستكون مباشرة "بَعْدَ ذَلِكَ الضِّيقِ". ومن هنا ندرك أن هذه الحالة لم تحدث بعد، لأن المجيء الثاني للرب لا يزال في المستقبل. ولا أحد سوى الله يعرف متى يكون ذلك. ولكنه لا يزال أمراً يترقبه شعب الله، وليس شيئاً ينظرون إليه إلى الوراء أو في الماضي.

مجيئه إلى الأرض سترافقه اضطرابات طبيعية عنيفة عظيمة، حيث سيهتز كل شيء ويتمايل كمثل رجل سكّير يترنح، وحوادث فائقة للطبيعة ستجري وسط الأجرام السماوية. إن عبارة "الْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ" هي الأبلغ تعبيراً إن اعتبرنا العصر الذري الذي دخلنا فيه، إذ أن "اليورانيوم" هو عنصر أخذ اسمه من الكلمة اليونانية التي تعني "سماء".

لاحظوا الفرق بين هذه المرحلة من المجيء الثاني وتلك التي يصورها الأصحاح (١ تسالونيكي ٤). فهنا يأتي ابن الإنسان إلى الأرض بقوة ومجد عظيمين. أما هناك فالرب ينزل من السماء، ولكنه يدعو قديسيه للقائه في الهواء. هنا يرسل ملائكته ليجمع مُخْتَارِيهِ (أي القلة التقية الباقية من بني إسرائيل والأمم الذين سيكونون في انتظاره في ذلك اليوم) مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ. وهناك مختاروه المقدسون، أي قديسوا العصور الماضية والكنيسة، جسد المسيح، سيُختطفون لملاقاته في الهواء، لكي يعودوا معه في مجد عندما يتحقق ما ورد في هذا المقطع من مرقس.

"فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقاً تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ إلاَّ الآبُ. ﭐُنْظُرُوا! اسْهَرُوا وَصَلُّوا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ" (١٣: ٢٨- ٣٣).

في هذا الجزء تُستخدم شجرة التين كرمز إلى يَهُوذَا، أو الشعب اليهودي. إنها تشير إلى بني إسرائيل. عندما تُخرج شجرة التين ورقها يعرف المرء أن الصيف قد اقترب. ولذلك عندما يقترب حدوث هذه الأمور- عندما يحاول اليهود أن يتميزوا كشعب من جديد ويبدأ حدوث تلك العلامات الموصوفة، فالكل سيعرف أن التحقيق، مجيء الملك، قد حان. سيبقى جيل من اليهود غير المؤمنين حتى ذلك الوقت. ولن تهلكهم محاولات الشيطان.

ومهما هزأ غير المؤمنين، فإن كلمة الله سوف تثبت. السماء والأرض قد تزولان، أما كلامه فلا يزول أبداً.

عبثاً نحاول أن نضع مخططاً كرونولوجيّاً (بالترتيب الزمني) لكي نحدد زمن مجيئه. فهذا سر لم يُكشف حتى للملائكة، وكإنسان على الأرض اختار ابن الإنسان ألا يعرف. إنه حق وامتياز خاص بالآب أن يحدد الزمن، كما أعلن يسوع أيضاً في (أعمال ١: ٧). يا لبطء البشر في قبول هذه الحقيقة، وكم يتخبطون ويتحامقون في محاولة حساب وقت عودته!

إن لنا أن ننتبه إلى كلماته، وأن نسهر ونترقب ونصلي، منتظرين تحقيق وعوده.

"كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ وَأَعْطَى عَبِيدَهُ السُّلْطَانَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ. ﭐِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ أَمَسَاءً أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ أَمْ صَبَاحاً. لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً! وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا»" (١٣: ٣٤- ٣٧).

كمثل رجل سافر بعد أن أعطى تعليماته إلى خدامه تتعلق بواجباتهم في غيابه ولكن لم يحدد لهم يوم أو ساعة عودته، هكذا يسوع ربنا صعد إلى السماء، معلناً أنه عندما يحين الأوان سيأتي من جديد ولكن دون أن يحدد لهم الوقت. في هذه الأثناء نكون نحن هنا لخدمته، هو الذي حدد "لِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ" وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ.

بسبب عدم المعرفة الأكيدة بموعد رجوعه إلى الأرض، على جميع خدامه أن يكونوا على أهبة الاستعداد، منتظرين وساهرين في ترقب لئلا يأتي فجأة ويجدهم نياماً. وللجميع تأتي الكلمة التحذيرية أن " اسْهَرُوا".