الأصحاح ٥

يأتي القسم الأول من هذا الإنجيل إلى خاتمته مع هذا الأصحاح الخامس. طوال هذا الإصحاح نجد عبد يهوه يخدم بالنعمة حاجات البشر، كاشفاً عن محبة ذاك الذي أرسله، ولكنه كان يلاقي معارضة مطّردة ورفضاً متزايداً باستمرار من جهة رؤساء اسرائيل رغم أن عامة الشعب كانوا يصغون إليه بسرور. ولكن حتى بين أولئك لم يكن هناك كثيرون ممن اقتبلوا الرب بالإيمان واعترفوا بيسوع رباً حقاً لهم.

في هذا الإصحاح نراه يُظهر قدرته وقوته على الأرواح الشريرة، والأمراض، والموت. نراه أولاً في كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ على الضفة الغربية من البحيرة، أو بحر الجليل.

"وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. وَكَانَ دَائِماً لَيْلاً وَنَهَاراً فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَال: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ الْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!» لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «ﭐخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ». وَسَأَلَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ قَائِلاً: «ﭐسْمِي لَجِئُونُ لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ. وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: «أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ - وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ. وَأَمَّا رُعَاةُ الْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا الْمَجْنُونَ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّجِئُونُ جَالِساً وَلاَبِساً وَعَاقِلاً فَخَافُوا. فَحَدَّثَهُمُ الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ الْخَنَازِيرِ. فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ" (٥: ١- ١٧).

بعبوره البحر، دخل يسوع وتلاميذه إلى منطقة جدارة المحظورة، حيث يعيش عدد وفير مختلط من الناس؛ الكثيرون منهم كانوا منشغلين بما كان اليهود المتزمتون يعتبرونه عملاً غير شرعي أو ناموسي، ألا وهو تربية الخنازير لولائم الأمميين.

قرب المكان الذي أرسى فيه القارب، وعلى النجد المرتفع أعلى الشاطئ، كانت هناك مقبرة، أو مكان فيه قبور عديدة محفورة في الصخر. في هذه المقبرة وبين القبور كان يعيش شخص تلبَّسَه شيطان وكان ذا شخصية عنيفة، بربرية، لا يمكن ترويضها، قد جعلتْها قوى الشيطان التي تملَّكتهُ هكذا. لقد كان يرعب كل منطقة الريف لفترة طويلة؛ ورغم أنه كان غالباً ما يُمسك ويُقيد بالقيود والأغلال إلا أنه كان يكسر قيوده كما لو بقوة فائقة الطبيعة والبشر، وهكذا كان يحرّر نفسه من كل ضبطٍ. نهاراً وليلاً كانت صرخته الغريبة وغير الاعتيادية تُسمع بينما كان يزأر على الجبال مجرّحاً نفسه بالحجارة وهو يصرخ في نوباته المخيفة. إنها صورة مرعبة لإنسان سيطر عليه الشيطان بشكل كامل.

ولكنه سرعان ما عرف قوة يسوع التي تحرر. فعندما رأى الرب وعلى بعدٍ كبير جاء إليه راكضاً وطرح نفسه أمامه، صارخاً بصوت مرتفع: "«مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ الْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!»" رغم أن شفتي الرجل هما اللتان تلفظتا بهذه الكلمات لكن الصوت كان صوت الشياطين التي فيه. هذه الأرواح الشريرة عرفت يسوع في الحال وما كانت في حاجة لأن تعرف سر طبيعته. لقد أَمَرَ الربُّ أن تخرج الروحُ النجسة من الرجل. ثم أمره بأن يعترف باسمه. وكان الجواب مدهشاً: "«ﭐسْمِي لَجِئُونُ لأَنَّنَا كَثِيرُونَ»". كان في هذا إشارة إلى أنه لم يكن هناك روح شريرة واحدة فقط بل عدد كبير من الأرواح تسكن هذا الإنسان البائس المسكين الذي كان قد أرعب الحي لدرجة كبيرة.

ثم يأتي الطلب الغريب من الروح النجسة واستجابة الرب لهذا المطلب، هذا الأمر الذي كان أكثر غرابة. فالأرواح النجسة (التي كانت تخشى أن تتحرر من الأجساد بشكل كامل)، هذه الأرواح النجسة طلبت أن تدخل إلى قطيع من الخنازير التي كانت ترعى على مقربة. وإذ تركت جسد الرجل دخلت إلى الخنازير. وهذه المخلوقات المرتعبة، وقد جُنت وفقدت السيطرة، اندفعت بعنف من على تلة عالية شديدة الانحدار إلى البحر وغرقت. لسنا في حاجة لأن نحاول أن نشرح هذه الظاهرة الغريبة، ولكن لا يمكننا إلا أن نفكر في إمكانيات الشر عندما ندرك أن شخصاً واحداً كان فيه أرواح شريرة أكثر من ألفي خنزير نجس.

أما الرجل وقد تحرّر، وبعد أن كان متوحشاً وعنيفاً، أصبح الآن لطيفاً وهادئاً. وإذ اهتدى فقد غطى جسده العاري سابقاً وأخذ مكانته في المحبة المتعبدة والامتنان عند أقدام يسوع: لم يعد مخبولاً مجنوناً بل صار هادئاً ساكناً الآن وفي كامل قدراته العقلية.

أما وقد أُعلموا من الرعاة (رعاة القطيع) بما حدث، فإن أصحاب الخنازير خرجوا ليروا ما جرى بأنفسهم. وبدلاً من أن يبتهجوا بشفاء الرجل الممسوس بالروح، كانوا غاضبين بسبب خسارتهم للحيوانات النجسة التي كانت تشكل ثروة بالنسبة لهم. وإذ نظروا إلى يسوع على أنه سبب هذه الكارثة، التمسوا منه أن يغادر شواطئهم.

"وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ بَلْ قَالَ لَهُ: «ﭐذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ" (٥: ١٨- ٢٠).

"طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ". ذاك الذي تحرر بطريقة رائعة عجيبة من حالة العبودية والمحنة، في موقف امتنان صادر من قلبه تطلع إلى أن يترك كل شيء ويمضي مع الرب يسوع كما فعل الآخرون. لقد كان هو من أخذ المبادرة.

"فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ بَلْ قَالَ لَهُ: «ﭐذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ»". لم تكن مشيئة الرب أن يُحصى هذا الرجل من بين الاثني عشر أو حتى السبعين، لقد كان مجال خدمته هو أن يكون في موطنه في المكان حيث كان معروفاً جداً فشهادته للمسيح هناك سوف يكون لها أثر أكبر مما لو سافر خارج دياره.

"فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ". إن "الْعَشْر الْمُدُنِ" هي اسم كان يُطلق على مجموعة من القرى على الجانب الشرقي من بحر الجليل، وهي نفس المنطقة التي خرج منها أولئك القوم الذين رجوا يسوع أن يغادر شواطيهم. بفضل شهادة هذا الرجل تغير موقف أولئك الناس عندما زار يسوع تلك المنطقة مرة ثانية. لقد استُقبل عندئذ بحفاوة بالغة مميزة (٧: ٣١).

"وَلَمَّا اجْتَازَ يَسُوعُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضاً إِلَى الْعَبْرِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: «ﭐبْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا». فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ. وَﭐمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ - لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». َلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِراً فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ وَقَالَ: «مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟» فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ وَتَقُولُ مَنْ لَمَسَنِي؟» وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هَذَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ. فَقَالَ لَهَا: «يَا ابْنَةُ إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ»" (٥: ٢١- ٣٤).

عبر الرب وتلاميذه المياه من جدارة إلى كفرناحوم. وكان كثيرون ينتظرونه هنا. ما إن بدأ يعلّمهم حتى تقدم إليه وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ، اسْمُهُ يَايِرُسُ، وخَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْ يسوع، وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أن يأتي معه إلى منزله ليشفي ابنته الصغيرة التي تكاد تفارق الحياة. ونزولاً عند مطلب الأب المضطرب القلق رافقه الرب إلى بيته حيث تبعه جمعٌ كثيرٌ في الطريق.

وفيما هم يسيرون التحقت بالجمع امرأةٌ لديها بلوى. لقد كانت تعاني من نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة. ويخبرنا مرقس أنها عانت الأمرّين من أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا لتحصل على الشفاء، وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ. من يعرف جيداً القيمة الباهظة للعقاقير الدوائية لمعالجة هكذا حالةٍ مَرَضية يفهم تماماً عبارة مرقس المليئة بالتهكم. ما كان أحدٌ ليستطيع أن يستخدم تلك العقاقير المستخلصة المقيتة دون أن يتألم، ومع ذلك لم تكن لها قدرة على أن تشفي أو حتى أن تقدم ولو بعض الارتياح المؤقت للمريض.

إذ سمعت بيسوع، انبعث الأمل في قلب تلك المرأة المريضة، فقالت: "«إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ»". لقد جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ ومدّتْ يداً تواقة مرتجفة مِنْ وَرَاءٍ، وفي اللحظة التي مَسَّتْ هدبَ ثَوْبَه الأزرق أدركت أن الأمر قد تمّ. فقد عَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ.

وللحال وقف يَسُوعُ، والْتَفَتَ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَسألَ: "«مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟»" لقد كان يرغب أن تعترف تلك المرأة أمام الجميع بالأعجوبة التي صُنِعت لأجل إيمانها. فانبرى التلاميذ لاستنكار سؤال معلمهم مُذكِّرين إياه بأن حشداً كبيراً كان يزحمه؛ فلماذا يسأل عمن لمسه؟ لم يميزوا الفرق بين أن يزحمه الناس وأن يلمسه أحدهم في إيمان.

وإذ شعرت أنه ليس في مقدورها أن تحتجب، تقدمت المرأة إليه وخَرَّتْ أمامه، وأخبرته عن سبب ما فعلته بجرأة كبيرة وعن نتيجة ما حدث. وإذ ابتهج من إيمانها بنعمته وقدرته، فإنه قال لها معزياً ومشدداً: "«يَا ابْنَةُ إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ»". ثم تابع طريقه إلى منزل رئيس المجمع.

"وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: «ﭐبْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي قِيلَتْ فَقَالَ لِرَئِيسِ الْمَجْمَعِ: «لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ». وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً. فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ أَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَالَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ الصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا قُومِي». (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً. فَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ" (٥: ٣٥- ٤٣).

قبل وصولهم إلى البيت جاء رسولٌ يطلب من يايرس أن يكفَّ عن إزعاج المعلّم. قالوا أنه قد فات الأوان على شفاء الصبية، لأنها توفيت لتوها. ولكن يسوع طمأن قلب الوالد الجزع قائلاً: "«لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ»". يا لها من كلمات معزية جاءت في وقتها آنذاك! من كان ليمكنه، سواه نفسه، رب الحياة، أن ينطق بهكذا كلمات في وقت بات فيه الأمل مفقوداً وقد تدخل الموت؟ عندما تنضب كل الموارد الطبيعية من بين أيدينا تدخل هذه الكلمات المباركة نفسها إلى أعماق قلبنا فتعطينا حتى في يومنا هذا السلام والطمأنينة والثقة.

"وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ". هؤلاء الثلاثة يشكلون الحلقة الداخلية من بين مختاريه. سنراهم لاحقاً معه على الجبل، عندما سيتجلى أمامهم (٩: ٢)، ونراهم ثانيةً في بستان الجَثْسَيْمَانِي (١٤: ٣٢، ٣٣).

"فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً". لقد لاحظ الرب يسوع المسيح كل ذلك. إن الكثير من الندب والنحيب كان احترافياً رياءً ونفاقاً وتزلّفاً، وهذا ما يزدريه الرب. أما حزن قلب الوالدين فهذا ما كان له وقع شديد على مشاعر يسوع الحانية، وسرعان ما حوَّل حزنَهم إلى فرح.

"لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟" قال ذلك تقريعاً وتوبيخاً للنادبين المأجورين، الذين ما كانت صرخاتهم وعويلهم يدل على أي إحساس لديهم بالخسران. وبما أن كل حياة هي له، فقد أمكنه أن يعلن بثقة مطلقة: "لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ". وتقدم ليوقظها من رقادها.

"فَضَحِكُوا عَلَيْهِ". بالنسبة لهم، لم يكن سوى دجال مشعوذ يدّعي امتلاك قدرات ليست لديه. ولكنه لا يلبث أن يظهر النقيض. فطرد الجميعَ خارجاً من المنزل ما عدا الوالدين والتلاميذ الثلاثة المختارين، ودخل حجرة الموت لينتشل الضحية من براثنه.

"وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا قُومِي»". لقد تكلم بالآرامية، لغة طفولته في الناصرة. وقد فُسِّرتْ كلماته لنا بمعنى: "يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي"، وحرفياً: "أيها الحمل الصغير، استيقظي".

"وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ". لقد كانت الاستجابة سريعة وفورية. ولدهشة الوالدين وفرحهما، رأيا اللون يعود إلى وجنتيها الشاحبتين، ونهضت ابنتهما الحبيبة من مضجعها وأتت إلى ذراعيهما. لقد كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وتحررها من قبضة الموت أذهل كل من رآها.

"أَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ". ما كان يرغب أن يحيونه كمجترح عجائب عظيم. فما قام به كان كرمى ليايرس وزوجته. لم يكن أمراً غايته أن يُذاع. كانت الفتاة التي نهضت تواً من رقادها بحاجة لانتعاش، ولذلك أمر "أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ". ما من شيء كان ليدل أكثر أو يقدم برهاناً أوضح من ذلك على حقيقية المعجزة التي تمت في جسدها.

إن الحوادث الأربع الواضحة المميزة في خدمة ربنا يسوع المباركة والمدونة في الجزء الأخير من الأصحاح ٤ والأصحاح ٥، كلها تحمل شهادة على ألوهيته ذاك الذي تنازل بالنعمة ليأخذ مكانة خادم (عبد). في الحادثة الأولى (٤: ٣٥- ٤١)، نرى قوته وقدرته التي تسود على الطبيعة، منتزعاً صرخة انذهال من تلاميذه، "مَنْ هُوَ هَذَا الإنسان؟" والمشهد الثاني يصور قوته وسلطته التي تفوق الشيطان، التي تبدت في تحريره لذاك الإنسان الممسوس بالشياطين، الذي كان ليبقى بسرور في صحبته، ولكن أُرسل لينقل الشهادة إلى وسط شعبه عن التحرر الذي عمله الرب يسوع المسيح فيه. بينما كان سكان تلك المنطقة في ذاك الوقت منزعجين من خسران خنازيرهم، ورَجَوا الرب يسوع أن يغادر شواطئهم، نعلم في مقطع لاحق أنهم اقتبلوه واستقبلوه بسرور عندما جاء في المرة الثانية إلى تلك المنطقة (قارن ٥: ٢٠ مع ٧: ٣١- ٣٧). لا يمكن لأحد أن يشك في أن شهادة ذلك الرجل الذي افتُدي قد ساعدت على تغيير موقفهم.

إن قصص شفاء المرأة التي كان فيها نزف دم وإحياء ابنة يايروس تردان بالتتالي في الآيات ٢١ إلى ٤٣، وهما تدلان على قوة المخلص وقدرته على المرض والموت. المرأة المسكينة المريضة التي "تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِين"، والتي كانت حالتها بعد العلاج أردأ من ذي قبل، وجدت في هذا الطبيب العظيم شخصاً فهم حالتها كلياً وشفاها في الحال عندما لمست هدب ثوبه الأزرق بإيمان (عدد ١٥: ٣٨). من غير شك، أطاع يسوع، كإسرائيلي حقيقي، حرفية هذه الوصية المخصصة لإظهار الصفة الإلهية عند أولئك الذين لهم علاقة بالرب (يهوه).

الصبيّةُ الفتيةُ الميتة كانت ميئوساً من حالتها وما كان لإنسان أبداً أن يقدر على أن يساعدها، ولكن عندما دخل، ذاك الذي هو القيامة والحياة (يوحنا ١١: ٢٥)، إلى الغرفة حيث كان جسد الصبية مضطجعاً استعداداً لمراسم الدفن، فإن الموت لاذ بالفرار أمامه وأُعيدت الفتاة إلى والديها.

هذا التجلي لقدرة ربنا على الموت سببت اهتياجاً وسط الناس، ولكن يسوع أمرهم ألا يذيعوا ذلك. لقد كانت رسالته أكثر أهمية من المعجزات التي كان يقوم بها، وما كان ليريد أن يُلفت الانتباه إلى هذه المعجزات على حساب الرسالة التي جاء لأجلها.

إن الحوادث الثلاثة المدونة والتي فيها أقام الأموات هي أيضاً موحية. الجميع ميتون في الخطيئة، وهو وحده من يستطيع أن يعطي الحياة. سواء أكان الميت طفلاً ببراءة لا نظير لها، أو شاباً في ريعان الصبا، كما في حالة ابن أرملة نائين، أو إنسان ناضج راشد، مثل لعازر الذي كان قد أقامه من بين الأموات قبل أربعة أيام، والذي كان جسده قد دخل مرحلة الفساد، جميعهم كانوا يحتاجون إلى ما كان المسيح وحده يستطيع أن يعطيه، وقد برهن أنه كُفؤ لكل حالة من هذه الحالات.