الأصحاح ١٢

هنا يرِدُ مَثَلُ الكرْم. هذا المثل يصور بطريقة حيوية نابضة بالحياة للغاية طرق تعامل الله مع اسرائيل وكيفية تجاوبهم معه وجحودهم طوال القرون الماضية، وكيف أن هذا التواصل كان على وشك أن يبلغ ذروته في رفض الوريث وموته، الذي ستليه قيامته المجيدة.

"وَﭐبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ وَبَنَى بُرْجاً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ فِي الْوَقْتِ عَبْداً لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضاً عَبْداً آخَرَ فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَاناً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً آخَرَ فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً. فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضاً ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ أَرْسَلَهُ أَيْضاً إِلَيْهِمْ أَخِيراً قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي. وَلَكِنَّ أُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ! فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ. فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. أَمَا قَرَأْتُمْ هَذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا!» فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ الْجَمْعِ لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا" (١٢: ١- ١٢).

إن كرْم سيد المضيفين هو بيت إسرائيل، كما نعلم من أشعياء ٥: ٧. فبعد أن أقامهم الله في أرض كنعان كان يُعنى بهم ويرعاهم بطريقة عجيبة، ووضعهم تحت رعاية أولئك الذين كان يفترض فيهم أن يسهروا على نفوسهم ويسعون على تهذيبهم وصقلهم روحياً لكي يجنوا ثمار وافرة له. إلا أن المزارعين أو الكرّامين ما كانوا يفكرون إلا بمصالحهم الأنانية الخاصة وأخفقوا في أن يقدموا للرب الحب والوقار اللائقين به. عندما كان يرسل أنبياءه إليهم كانوا يردونهم فارغين أو يبدون لا مبالاة مريعة نحوهم، أو يضطهدونهم حتى الموت لتجرؤهم على توبيخهم على شرهم. لقد كان هذا موقفهم طوال القرون. والآن أرسل الله ابنه الذي كان بنفسه الاختبار الأخير على محبة وولاء إسرائيل. عندما رآه القادة والرؤساء قاوموا إعلانه بازدراء وسعوا إلى هلاكه، قائلين: "هَذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ!".

الآية ٨ نبوية وتحققت بعد بضعة أيام لاحقة. "فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ". هذا ما كان يسوع قد أخبرهم به عن رفضهم له وموته قبل أن يحدث.

ثم يوجه لهم السؤال: "فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟" وكان الجواب واضحاً: "يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ". كان يجب تنحية إسرائيل جانباً في حين تتدفق النعمة نحو الأمميين.

كان هذا ليتم بحسب ما كُتِبَ في المزمور ١١٨: ٢٢: "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ". ولذلك فهو لم يتحدث فقط عن الموت بل عن القيامة أيضاً، لأن باكورة الراقدين يسوع قد جُعِلَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. "مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا".

لقد أثار المثل وتطبيقه عند الرؤساء مزيداً من الاستياء. لقد أدركوا أنه كان يتحدث عنهم، ولكن في تلك الآونة ما كانوا ليجرؤون على أن يقيموا دعوى عليه علانية لأنهم كانوا يخشون رد فعل الشعب عموماً.

"ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟» فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ايتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ». فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ" (١٢: ١٣- ١٧).

لقد كانت مسألة مال الجزية مطروحة ومثارة في كل أرجاء فلسطين. دفع هذه الجزية كان دلالة اعتراف ضمني بسلطة روما، وكان هذا أمراً بغيضاً للغاية بالنسبة لليهود ذوي المشاعر القوية نحو الشعب. لقد كان الْهِيرُودُسِيِّونَ وغيرهم يدافعون عن هذا الاعتراف بالحكومة الإمبراطورية طمعاً في الحظوة والامتياز الذي كانوا يرجون الحصول عليه من خلال تبعيتهم وخنوعهم.

لم تكن الرغبة في معرفة خطأ أو صوابية المسألة هي ما دفع ممثلي كلتا المدرستين الفكريتين المتضادتين لطرح السؤال على يسوع: "أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" رغم أسلوب التملق في مخاطبتهم له كانوا ينصبون له فخاً، راجين أن يوقعوه في شرك لكي يقول ما يعطيهم فرصةً إما لاتهامه أمام حكامهم الرومان كمحرض على الفتنة والعصيان، أو لجعله يبدو أمام اليهود الميالين بشدة إلى الانفصال عن الرومان على أنه ليس متعاطفاً معهم في تطلعهم إلى الانعتاق من نير الرومان.

لقد رأى ما في قلوبهم وعرف بالضبط السبب الذي حدا بهم إلى المجيء إليه. وكان جوابه أن: "«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ إيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ»".

عندما أعطوه إحدى العملات المعدنية، سألهم: "«لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟»" فأجابوا: "«لِقَيْصَرَ»". فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: "«أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ»". وهكذا وقعوا في الحفرة التي حفروها له، وانذهلوا من جوابه، وأُفحموا.

ولكن آخرين كانوا ينتظرون أن يسألوه حول مسألة أخرى، كما نجد في بضعة الآيات التالية.

"وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَسَأَلُوهُ قَائلِين: «يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَداً أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضاً نَسْلاً. وَهَكَذَا الثَّالِثُ. فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً. فَفِي الْقِيَامَةِ مَتَى قَامُوا لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ»" (١٢: ١٨- ٢٣).

هذه المرة كانت الجماعة من الصدوقيين الذين كانوا يسعون لأن يربكوا يسوع. لقد كانوا يمثلون طائفة من ذوي المذهب المادي الذين كانوا ينكرون القيامة ووجود الملائكة والأرواح. لا يمكننا أن نتكهن فيما إذا كانت القصة التي رووها له حقيقية أم لا. يبدو على الأرجح أنها بعيدة الاحتمال، ولعلها قصة مختلقة متخيلة قد وُضِعت لأجل السخرية من عقيدة القيامة.

بالنسبة لهم القصة تدور حول امرأة معينة قد صارت زوجة على التتالي لسبعة أخوة، وقضت بعدهم جميعاً. بحسب عادة اليهود، إن كان رجل قد توفي دون أن يترك وريثاً فإن على أخي المتوفّى أن يتزوج من هذه الأرملة. والابن الأول الذي يأتي من هذا القران كان ليرث كل ممتلكات الزوج السابق المتوفى. في القصة التي يسردونها، يتم تطبيق الناموس إلى أقصى حد. فالأخوة السبعة يقضون الواحد تلو الآخر مخلفين الأرملة بدون أولاد.

والآن جاء دور ما كان أصحاب الفتوى الماكرون هؤلاء يعتبرونه بوضوح دحضاً قاطعاً لمعقولية فكرة قيامة الموتى. فيسألون، كما هو مدون في الآية ٢٣، "فَفِي الْقِيَامَةِ مَتَى قَامُوا لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ".

لم يكن يسوع قلقاً أو مشوشاً إذ سرعان ما أدرك السفسطة التي لديهم. لقد قال لهم أنهم جميعاً على ضلال، وذلك لسببين: جهلهم بالكتابات المقدسة نفسها التي يقرون بأنهم حافظون لقدسيتها، وأيضاً قوة، أو قدرة الله. لقد كان هؤلاء الصدوقيون يعترفون بالتوراة فقط، أي بالكتب الموسوية. ولذلك فقد استشهد يسوع من سفر الخروج لكي يظهر حماقة موقفهم.

"فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَلَيْسَ لِهَذَا تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ؟ لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَيْفَ كَلَّمَهُ اللَّهُ قَائِلاً: أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذاً تَضِلُّونَ كَثِيراً»" (١٢: ٢٤- ٢٧).

لقد كانوا ينكرون إمكانية القيامة، لأنهم كانوا يعلّمون أن نفس الإنسان تموت مع الجسد. وشرح يسوع أن أولئك الأموات بالجسد هم أحياء لله، وأنه عندما يقوم الأموات فإنهم لا يأخذون نفس الأوضاع والأحوال التي كانوا فيها على الأرض. فلا يستأنفون الحالة الزوجية، بل يكونون مثل الملائكة في السماء: أي بدون جنس. فلن يبقى هناك تمايز بين الرجل والمرأة في تلك الحياة الجديدة.

لجأ ربنا إلى ذكر سببين هامين لقبول حقيقة قيامة الموتى. فقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس، كلمة الله الموحى بها، وتستند إلى قوة الله الكلي القدرة. عندما يتكلم الله، فليس للإنسان أن يفكر، بل أن يقبل إعلانه بإجلال لائق. السؤال عن كيفية حصول أي شيء لأنه يتناقض مع قدرة المخلوقات المحدودة هو تناسٍ لحقيقة أن كل قدرة هي لله، والذي ليس من مستحيل عنده (لوقا ١٨: ٢٧).

"يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ". الملائكة كائنات لا جنس لها وليس لها قدرة على التناسل وتكاثر نوعها. في القيامة ينطبق نفس الحال على البشر. في حالة الأبدية التي تلي القيامة من الموت، لن يكون هناك مكان للزواج. كل إنسان سيكون فرداً منفصلاً مستقلاً عرضة لبركة أبدية أو عقاب لا نهاية له، ولكن العلاقات البشرية كما نعهدها هنا ستنتهي.

"كَلَّمَهُ اللَّهُ قَائِلاً: أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ". فهو لم يقل: "أنا كنتُ إلههم"، بل "أنا إلههم". لقد تحدث عنهم كأشخاص محددين يرتبطون معه بعلاقة بالنعمة رغم أن أجسادهم كان قد مضى زمن بعيد على موتها. في زمنه سيقومون ويُعترف بهم خاصةً له.

"لَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ". إن تلاشى هؤلاء أو غيّبهم أو بددهم الموت، فلا يكون إلهاً لهم من بعد. ولكن الحقيقة هي أنه "إِلَهُ أَحْيَاءٍ" إذ "الجميع يحيون له". رغم أنهم أموات من ناحية الجسد ومحتجبون عن أعين البشر، إلا أنه، وهو إله أرواح كل ذي جسد (عدد ١٦: ٢٢)، يرى ويعرف كل واحد في حالته الراهنة بين الموت والقيامة.

لقد كانت ضربة قاضية لمذهب المادية المتشدد عندهم، ولم يجدوا كلمات يردون بها عليه.

لا يعلّم الكتاب المقدس فقط بقاء الروح بعد موت الجسد (متى ١٠: ٢٨)، بل أيضاً، وبالحرف، القيامةَ بالجسد إلى الحياة، أو القيامة إلى الدينونة (يوحنا ٥: ٢٨، ٢٩). وهذا لا يعني إعادة تجسد بشكل ما آخر، كما في بعض الاعتقادات الصوفية الباطنية الشرقية وأتباعها الغربيين المضللين، بل قيامة فعلية من الموت لنفس الشخص الذي يموت. ربنا نفسه خرج من القبر في نفس جسده الذي كان قد عُلّق على الصليب، وهو حاملٌ لا يزال علامات آلامه (يوحنا ٢٠: ٢٠، ٢٧). على نفس المنوال سيعامل الموتُ أجسادَ كل البشر، حتى أولئك الذين تحللوا إلى عناصرهم الكيميائية منذ زمن بعيد، ذلك لأن إلهنا هو إله القيامة. فذاك الذي خلق هذه الأجساد بكل قدراتها المدهشة العجيبة يمكنه أن يعيد تركيبها وتجميعها ويصنعها من جديد عندما يحين أوان اختطاف المخلّصين لملاقاة الرب (١ تسالونيكي ٤: ١٣- ١٧)، وبعدها يأتي دور الأشرار ليقوموا ويقفوا أمام العرش الأبيض العظيم للدينونة (رؤيا ٢٠: ١١- ١٤). بالتأكيد، ما من شيء يمكن أن يكون له كبير أثر يجعلنا نشعر بالجلالة والمهابة ونحن في هذا العالم أكثر من معرفتنا بأن هذه الحياة ما هي إلا توطئة لما سيأتي، ليُعاش إلى الأبد في فرح السماء أو يُحتمل وسط الأشياء المرعبة الرهيبة المحزنة والكئيبة في الجحيم. لقد صوّر يسوع بأمانة كلا جانبي الحياة وراء القبر بشكل واضح لا يمكن لأحد معه أن يفترض أو ينخدع بالأمل الكاذب بالخلود السعيد إن عاش ومات في الخطيئة. لقد أراد لكل الناس أن يتذكروا أن هناك قيامتين، ويليهما مصيران. ومن هنا تأتي أهمية اقتبال المسيح الآن لنضمن السعادة والهناء في الآخرة.

التالي الذي طرح سؤالاً على يسوع كان رجلاً ذا شخصية مختلفة عن أولئك المحاججين الكثيري الأسئلة الماكرين الذين سبقوه.

"فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: «جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ لأَنَّهُ اللَّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ». فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: «لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ!" (١٢: ٢٨- ٣٤).

 "فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ". يبدو أنه رجل صادقٌ. لقد تأثر بصدقِ يسوع المسيح ووضوح إجاباته على أسئلة الآخرين. فجاء يسأل: "أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟" بالطبع هو لم يقصد الأولى في الترتيب بل الأولى في الأهمية.

"فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: .... الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ". بهذه الكلمات المقتبسة من تثنية ٦: ٤، ٥ لخّص ربنا كل الوصايا المتعلقة بواجب الإنسان نحو الله. فمن يحب الله للغاية سوف لن يخزيه في أي أمر. "وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". هذه الآية هي من لاويين ١٩: ١٨. إنها تلخّص كل الوصايا والتعاليم الأخلاقية المتعلقة بواجب الإنسان نحو باقي الناس. فمن يحب قريبه لن يخطئ نحوه في أي أمر مهما تناهى في الصغر.

"جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ". لقد تأثر الكاتب (الناسخ) بشدة، وأعلن في الحال تقديره الصادق للجواب الذي أعطاه الرب يسوع. وأكد وحدة الألوهية. كل اليهود الذين تعلموا من الكتاب المقدس يؤمنون بهذا كحقيقة أساسية. وتابع يقول: "مَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ .... وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ". لقد أبدى الكاتب فطنة روحية حقيقية. لم يكن أي من الشعائر القربانية الطقسية الناموسية بذي قيمة في نظر الله إن كانت تعوزه المحبة. أن تحب الله وتحب القريب من كل القلب هو ما يسر الله فوق كل شيء.

"«لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ»". مع ذلك، ورغم تقديره لروحانية تعليم الرب يسوع المسيح، إلا أن هذا الكاتب لم يكن قد دخل إلى الملكوت بعد. لقد كان، وكأنه على الباب. أن يدخل يعني أن يقتبل المسيح- أي أن يؤمن به مخلصاً ورباً له.

في المثل الذي يلي ذلك نجد يسوع نفسه هو الذي يطرح السؤال ويدحض خصومه.

"ثُمَّ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ: «كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟» وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَﭐلْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. ﭐلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هَؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ»" (١٢: ٣٥- ٤٠).

لقد كان من بديهيات المعرفة العامة في إسرائيل، يعلّمها الكتبة والربانيون، أن المسيا سيكون ابن داود، بحسب الوعد الذي أعطاه الله إلى الملك صاحب المزامير في ألا يطلب رجلاً يجلس على عرشه (١ ملوك ٢: ٤؛ مزمور ١٣٢: ١١). صحيحٌ أن هذا الوعد كان يستند إلى نسل داود السالك بالطاعة لكلمة الرب، ولكنّ وعداً غير مشروط قُطِعَ أيضاً، كما يتبين من المزمور ٨٩: ١- ٤، ٣٤- ٣٧. من الواضح، إذاً، أن المعلمين في اسرائيل كانوا على صواب في إعلانهم أن المسيح، أي المسيا، (الممسوح) كان ابن داود. ولكن كانت هناك نصوص كتابية أخرى تشير إلى أنه سيكون أيضاً ابن الله، وهذه كانوا يتجاهلونها. ولذلك واجههم يسوع بلفت انتباههم إلى المزمور ١١٠، ومطالباً إياهم بتفسير: "كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ (يهوه) لِرَبِّي (أدوناي): اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ". وينبري لتفسير هذا المقطع بأن يقول أن المسيا هو من تحدث داود عنه، والذي أقر بأنه ربُّه، شخص إلهي كان ليجلس على عرش الأبدية- إلى يمين جلال الله في العلاء. فكيف كان يمكن لهكذا شخص أن يكون ابن داود؟ إننا نعرف الجواب. أما هم فما كانوا يعرفون، وما كانوا ليجرؤون على محاولة تقديم تفسير. لقد كان يسوع ابن داود من ناحية ناسوته، وابن الله من ناحية لاهوته، ولأنه قد حُمِلَ به في أحشاء العذراء من دون زرع رجل. إن سر التجسد كله يكمن في هذا الاقتباس من المزمور.

وفي هذا السياق تأتي الكلمات: "كَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ". بل يبدو أنهم كانوا يستمتعون أيضاً برؤية هزيمة وارتباك الكتبة الذين كانت حياتهم تتناقض للغاية مع مهنتهم.

واستغل يسوع هذه الفرصة ليشير إلى ذلك وليحذّر عامة الناس من التأثير الشرير لقادة الدين هؤلاء.

"تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ". لقد كانوا يحبون أن يكونوا بارزين وموضع تمجيد وثناء وإعجاب على تقواهم الظاهرة. ملابسهم ذاتها كانت تميزهم عن غيرهم كفئة خاصة من المفترض أن تكون موضع تقدير واعتراف لتميزهم عن غيرهم. لقد كانوا يَظهرون مرتدين ملابس طويلة وكانوا يُسرون بأن يكونوا موضع إطراء عامة الشعب. لقد كانوا يحبون ﭐلْمَجَالِسَ الأُولَى في المجامع، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. فهل كان هناك من يخفق في أن يدرك، في كل هذا النفوذ الإكليريكي والإدعاء، وجوب تمييز وتقدير هؤلاء على نحو خاص بسبب منصبهم، أياً كانت الحياة التي يعيشونها؟

ذلك أنهم كانوا جشعين يشتهون ما للغير ويلتهمون بيوت الأرامل- إذ يقرضون المال مقابل رهن للأرامل المعوزات ويصادرون ممتلكاتهن حين تعجز تلك الضحايا البائسات عن إيفاء التزاماتهن في حينها. ومع ذلك فقد كانوا يقومون بكل شيء بشكل قانوني، كأن يرفعوا عنهم تهمة الاحتيال، وكانوا يغطون سلوك الابتزاز عندهم بأن يقيموا صلوات طويلة في الأماكن العامة، مدّعين بذلك مظهر التقوى الشديدة.

ولكن سيأتي يوم حساب عندما تتضح كل خفايا القلب، وينال المراؤون المنافقون كمثل هؤلاء العقاب العادل الذي يستحقون.

من اللافت للانتباه جداً والأمر ذي المغزى أن يسوع، بعد شجبه وتحذيره من أولئك الذين يصنعون ثروات من دون وجه حق، يمتدح سخاء أرملة فقيرة، على الأرجح أنها كانت إحدى هؤلاء الضحايا المسلوبين، كما أشار.

"وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا كُلَّ مَعِيشَتِهَا»" (١٢: ٤١- ٤٤).

"جَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ". إنه يفعل ذلك في هدوء وسكينة. إنه يلاحظ كل ما يُدفع لأجل استمرارية الشهادة لله وتخفيف البؤس البشري. من الواضح أن صندوقاً للتبرعات كان قد وُضِعَ عند أو قرب أحد المداخل المؤدية إلى باحات الهيكل حيث كان المؤمنون يلقون فيه هباتهم لأجل الحفاظ على عبادة الرب وخدمته.

تطلع يسوع وَنَظَرَ "كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ". لقد رأى المبالغ التي كانت تُوضع في الصندوق والطريقة التي كان يتم بها ذلك. مما لا شك فيه أن كثيرين كانوا يتبرعون بتباهٍ وبشكلٍ لافتٍ للأنظار، وهم يتوقون لينالوا الإعجاب من الآخرين على كرمهم وسخائهم العظيم.

وجاءت أرملة فقيرة إلى هناك، وإذ مرت بجوار الصندوق، ألقت فيه "فَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ"، لعلهما كل ما كانت قد كسبته ذلك اليوم بالعمل الشاق في خدمة عائلة غنية ما.

إن طريقة السماء في احتساب القيم تختلف كلياً عن طريقة الأرض في ذلك. نحن معتادون على أن نحكم بحسب الكمية أو المقدار المقدّم. أما الرب فيقدّر قيمة التقدمة بالمقدار الذي تركه المرء. ولذلك شهد يسوع: "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ". وشرع يشرح لهم كيف وصل إلى ذلك الاستنتاج المذهل للغاية. فالأغنياء ألقوا مالاً من وفرتهم. فبعد إلقاء تبرعاتهم في الخزينة بقي لديهم مبالغ كبيرة يستخدمونها كما يشاؤون. وأما الأرملة فلم تترك شيئاً لنفسها. فقد تبرعت بكُلّ مَعِيشَتِهَا: أي كل ما كسبته طوال يومها. هكذا هي طريقة السماء في تقدير العطايا المقدمة لعمل الرب.