القسم (٢)- الأصحاحات ١٤ و١٥

الأصحاح ١٤

الذبيحة الأسمى

تتسارع الأحداث الآن إلى النهاية، حيث سيموت ربنا المبارك على الصليب كتقدمة كفارية عظيمة عن الخطية. في متى رأيناه ذبيحة فصحية، مستعيداً الَّذِين لَمْ يخْطَفْهُم (مز ٦٩: ٤). وهنا يسلم ذاته للموت لكي يوفي كل التبعات الناجمة عن الخطيئة في نظر الله، فيكون بذلك، ليس فصحاً حقيقياً وحسب، بل أيضاً العنصر المميِّز المتأصّل في قلب الإنسان الساقط، العداء نحو الله المتبدي في أفعال التمرد ضده. إن الخطوات المؤدية مباشرة إلى الصليب جليلة مهيبة بشدة ومنورة بعمق للغاية.

نلاحظ العداء المطَّرد أبداً عند رؤساء الكهنة والكتبة في الآيات ١ و ٢.

"وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ»" (١٤: ١، ٢).

هؤلاء المراءون الماكرون الذين كانوا يخدمون الشيطان في بزّة السماء كانوا أكثر براعة ومكراً من أن يجازفوا باعتقال يسوع علانية في يوم العيد، إذ سيكون هناك الكثير من عامة الشعب في أورشليم سيتوجب عليهم مواجهتهم في ذلك الوقت. ولذلك تآمروا سراً منتظرين الساعة المناسبة لينفذوا خططهم الشائنة.

في هذه الأثناء شاءت مجموعة صغيرة من الذين أحبوه أن يكرّموه بطريقة خاصة. كان المنزل في بيت عنيا، حيث تعيش مريم ومرتا ولعازر، أحد أجمل الأماكن في الأرض المحببة على قلب ربنا المبارك. لقد كان أحد الأماكن التي كان الرب فيها موضع ترحيب على الدوام والتي كانت تُفهم فيه رسالته على أفضل وجه. ولعل مريم دخلت إلى فكره أكثر من الباقين لأنها كانت تتعلم عند قدميه ما خفي على أختها الأكثر انشغالاً منها بأعباء المنزل والضيافة، بل حتى كانت في ذلك أفضل من لعازر. أمام هؤلاء الثلاثة كان الرب يسوع يسمح لانفعالاته بأن تظهر وتتدفق أكثر من الآخرين. ونقرأ أن يسوع كان "يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ" (يوحنا ١١: ٥)، ومن الواضح جداً أنهم كانوا يقدّرون تلك المحبة ويبادلونه إياها، إذ عندما كان الأخ مريضاً، فكرت الأختان أنه كان يكفي أن يبعثا رسولاً إلى يسوع ليقول له: "هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ" (يوحنا ١١: ٣).

أعرف أن البعض يسلّم بوجود امرأتين في قصتين مختلفتين عن دهن الرب يسوع بالطيب في بيت عنيا، ولكن يبدو لي أن هذا محال تماماً نظراً إلى حقيقة أن نفس الحوار قد دار عملياً في كلتا الروايتين. في كلتا الحادثتين يعترض التلاميذ على تَلَف الطِّيبِ على أساس أنه كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ. وفي كل حالة منهما، يدافع الرب عن المرأة فيما بدا لهما تلفاً ويعبّر عن تقديره الشخصي لهذا العمل الذي قامت به المرأة. أرى شخصياً أن هذه الكلمات تبرهن حصرياً على أن هذه المرأة هي مريم التي من بيت عنيا، أخت مرتا ولعازر، وقد مسحت الرب بالطيب، وليس من سواها.

من اللافت والممتع أن نلاحظ كيف أن الروح القدس يتحدث عن بيت عنيا على أنها " قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا". لا بد أن كثير من الناس المهمين كانوا يسكنون تلك الضاحية القريبة جداً من أورشليم، وكان ليمكن للمرء أن يربط بينها وبينهم بشكل طبيعي أكثر منه بهذه العائلة الهادئة المتواضعة. ولكن بالنسبة لله، كانت هذه "قريتهم"، لأنهم أحبوا ابنه وآمنوا به. لعل في هذا مجرد إشارة ولو بسيطة إلى الطريقة التي ينظر فيها الرب إلى مدننا وقرانا اليوم، مقدراً إياها، ليس لأنها أماكن إقامة أولئك العظماء في نظر العالم- ذوي الأسماء اللامعة في السياسة والعلوم والأعمال- بل لأنها أماكن سكن بعض قديسيه الذين يعتبرون من "الْهَادِئِينَ فِي الأَرْضِ" (مز ٣٥: ٢٠)، فقراء هذا العالم، الأغنياء في الإيمان (يعقوب ٢: ٥)، الَمَجْهُولِونَ للناس، ولكن المَعْرُوفُونَ عند الله (٢ كور ٦: ٩).

"وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: «لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هَذَا؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «ﭐتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً. لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْراً. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا»" (١١٤: ٣- ٩).

"فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ". لا نعرف شيئاً عن هذا الرجل، ولكن الافتراض هو أنه كان أبرص وأن يسوع طهّره. افترض البعض أنه كان زوج مرتا، وآخرون افترضوا أنه كان والد الثلاثة الذين كانوا أصدقاء مقربين ليسوع. الـ "امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ" هي مريم، الذي نقرأ عن عملها هذا الدال على التكرس في يوحنا ١٢. فما كانت لتعتبر أن أي شيء غالٍ على يسوع، ولذلك سكبت على رأسه، وأيضاً على قدميه (كما يقول يوحنا) الطِيب نَارِدِين وهو متكيء إلى المائدة. لقد كانت تقدمة جميلة لذاك الذي كانت ترى فيه المسيا الموعود.

سأل البعض: "لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هَذَا؟" ونعرف، من رواية يوحنا، أن يهوذا كان أصل اللغط والتذمر والاستياء. وهذا يدل على مدى ضعف فهمه هو والباقين للأحداث الوشيكة الحصول، رغم أن يسوع قد تنبأ عنها مراراً وتكراراً. لقد سَبَقَتْ مريم وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِه لِلتَّكْفِينِ (الآية ٨).

"كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ". الدينار الروماني كان عملة نقدية من الفضة قيمته أقل من الـ ٢٥ سنتاً حالياً، ولكن كان لها قيمة شرائية أكبر منها بكثير، فقد كانت الأجر اليومي العادي للعامل الكادح في ذلك الزمان. وبالتالي، بحسب تقديرات يهوذا، كانت قارورة الطيب تعادل أجور سنة كاملة، مع حذف أيام السبوت وأيام الأعياد الخاصة. لقد بدا هذا تبذيراً أُنْفِقَ بدون حساب على يسوع، ولكن المحبة الحقيقية لا تعرف حدوداً لما تُسر بأن تقدم أو تفعل للمحبوب. الاقتراح بأن ثمن الطيب كان يمكن تقديمه صدقةً لا يعني، بالضرورة، أن يهوذا كان ليهتم بالفقراء. نعلم أن ذلك كان لأنه كان سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ (يوحنا ١٢: ٦).

" ﭐتْرُكُوهَا! .... قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً". لقد كان يسوع دائماً يقدّر كل دلالة على المحبة الحقيقية، وأعطى قيمة كبيرة لفعل المحبة المتفانية الذي قامت به مريم. ما من شيء يضيع إذا قُدِّمَ ليسوع ربنا. إنه يستحق أفضل ما لدينا. فعل التكرس العبادي الذي تبديه مريم كان خير مثال على ما نقرأه في نشيد الأنشاد (١: ١٢). فقد عرفت في يسوع ملك إسرائيل الحقيقي.

"الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ ..... وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ". من الملائم والواجب أبداً أن نخدم المحتاجين، الذين يمكن أن نجدهم دائماً إن رغبنا في مساعدتهم. هذه الخدمة مطلوبة وواجبة في كل حين. ولكن يسوع كان على وشك أن يغادرهم، وبدا أن مريم أدركت ذلك.

"عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا". ليس من إطراء أعظم من هذا. في مقدور الجميع أن يفعلوا أشياء عظيمة للمسيح، ولكن حسنٌ أن يفعل كل واحد ما يستطيع كما لو كان يفعل ذلك للرب نفسه.

"حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ .... يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا". لم تفكر مريم ذلك اليوم بأن تعبيرها عن محبتها للملك المرفوض سيجعل اسمها معروفاً في كل أرجاء العالم؛ وهذا ما حصل فعلاً لأن قصتها قد روتها ثلاثة أناجيل ونُقلت إلى كل صقعٍ في الأرض يُكرز فيه بالمسيح.

في هؤلاء الأصدقاء الثلاثة ليسوع نجد مواصفات يجب أن يتميز بها كل من يؤمن به. ففي مرتا نجد الخدمة، والتي تبلغ ذروتها عندما تكون خالية من الهم والقلق ويُقام بها كما للرب نفسه. وفي مريم نجد التلمذة والتعبد. لقد كانت تُسر بأن تأخذ دور التلميذ عند أقدام يسوع وأن تسكب أفضل ما عندها عليه. ولعازر الذي كان يجلس معه إلى المائدة (يوحنا ١٢: ٢)، يتميز بالشركة أو الصداقة (الصحبة). مغبوطٌ من تجتمع فيه كل هذه الصفات!

إن الخيانة، والمحاكمة الهازئة، والحكم بالموت على ربنا المبارك تشكل معاً أكبر إخفاق للعدالة في كل التاريخ. ومع ذلك فإن كل شيء كان معروفاً مسبقاً عند الله، وكل شيء كان متوافقاً مع الكلمة النبوية الأكيدة. أولئك الذين اشتركوا في تلك الجريمة الشائنة كانوا جميعاً يلعبون الدور الذي تم التنبّؤ عنه منذ القدم، رغم أنهم ما كانوا يعرفون ذلك. ليس الأمر أنه قُدِّرَ لهم مسبقاً أن يسلكوا كما فعلوا. فقد كانت لديهم الحرية الأخلاقية ليفعلوا ما يشاؤون، بمعنى من المعاني، ذلك لأنهم تصرفوا على ذلك النحو عن عمد بمحض إرادتهم. ولكنهم كانوا عبيد الشيطان، العدو الرئيسي لله والإنسان، الذي قادهم لأن يفعلوا ما كان الله نفسه قد أعلن أنه سيُصنع. هناك فرق بين معرفته السابقة وتقديره (بقضاء وقَدَر) حدوث الأمور- هذا الفرق قد ميزه بطرس عندما أعلن، في يوم العنصرة (الخمسين) قائلاً (عن المسيح): "أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أع ٢: ٢٣). كل مناوئيه في تلك الدراما التاريخية المريعة كان مسؤولاً شخصياً عن سلوكه نحو المخلص القدوس، حتى وإن كان قد جاء بطرقهم إلى الصليب حيث قدّم نفسه كفّارة استرضائية عن خطايانا.

"ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ" (١٤: ١٠، ١١).

"يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". لقد كان أمين الصُّنْدُوق لجماعة الرسل (يوحنا ١٢: ٦)، وموضع ثقة الآخرين، ولكنه لم يكن متجدداً أبداً في قلبه وحياته (يوحنا ٦: ٧٠). إذ كان معدوداً ابناً لله (أع ١: ١٧) فإنه كان حقاً ابن الهلاك (يوحنا ١٧: ١٢)، مقدراً له، بسبب خطاياه الخاصة به، مصير الأبدية الضالة في العقاب الأبدي. لقد كان هذا "مَكَانه" (أع ١: ٢٥). رغم أنه كان له امتياز كبير، إلا أنه كان خيراً له لو لم يُولد (متى ٢٦: ٢٤). من الواضح أنه كان الوحيد من بين الاثني عشر الذي لم يكن جليلياً. الاسخريوطي تعني "رجل من قَرْيُوتَ"، وهي مدينة في يَهُوذَا.

"وَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً". الجشع، محبة المال، هو أصل كل الشرور (١ تيموثاوس ٦: ١٠). لقد دُفع يهوذا لخيانة معلمه وتسليمه إلى أولئك الذين كانوا يسعون لقتله.

لقد قال سمعان عن الرب يسوع المسيح عندما أخذ الطفل الإلهي بين ذراعيه عند تقديمه إلى الهيكل ما يخطر في قلب كثيرين (لوقا ٢: ٣٥). يسوع المسيح هو مِحكّ كل القلوب. كل شيء يعتمد على موقفنا نحوه. يهوذا، الذي رافقه لحوالي ثلاث سنوات، خانه بدناءة على نحو مخزٍ. وبطرس، الصادق في قلبه، امتلأ بروح الجبن، وأنكر أي صلة له به. في حين أن بيلاطس، المقتنع ببراءته، استسلم بضعف لأولئك الذين كانوا يصرخون طالبين قتله، وحكم عليه بالصلب. هؤلاء جميعاً يمثلون البشر، ويظهرون الطرق المختلفة التي لا يزال الناس يسلكون بها نحو مسيح الله.

"وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «ﭐذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اتْبَعَاهُ. وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ" (١٤: ١٢- ١٦).

عندما جاء اليوم الذي كان يجب تقريب حمل الفصح فيه سأل التلاميذ عن المكان الذي سيأكلون فيه الفصح مع معلمهم. لكونهم زائرون في أورشليم فلم يكن لهم منزل خاص بهم يقيمون فيه شعائر هذا العيد المقدس. ولكن جرت العادة أن يقدم العديد من العائلات غرفة للضيوف يستطيع الغرباء عن أورشليم أن يستخدموها بحرية ليحتفلوا بالعيد بحسب التعاليم الناموسية المتعلقة بهذه الخدمة.

كان يسوع قد توقع مسبقاً كل ذلك، وأرسل اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إلى المدينة مع تعليمات محددة بأن يبحثوا عن رجل معين ينبغي أن يلاقيهم، وهو يحمل جَرَّةَ مَاءٍ. لقد كان في هذا تحديد أدق بكثير مما نتصور، إذ عادة ما تحمل النساء الماء في جرار خزفية أو أكواز على رؤوسهن أو أكتافهن. فرؤية رجل يفعل ذلك سيكون بلا ريب أمراً غريباً. عندما سيقابلهما الرجل، عليهما أن يتبعاه إلى أي منزل يدخله، وكان عليهما أن يقولا لصاحب ذلك البيت: "إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟" وسيريهما المضيف في الحال حجرة علوية كبيرة مفروشة ومعدة وفيها سيعدّان وليمة الفصح.

وإذ اتبع التلميذان التعليمات المعطاة، مضى الاثنان إلى المدينة ووجدا كل شيء تماماً كما قال يسوع، فَأَعَدَّا الْفِصْحَ.

"وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ قَالَ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي!» فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِداً فَوَاحِداً: «هَلْ أَنَا؟» وَآخَرُ: «هَلْ أَنَا؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!»" (١٤: ١٧- ٢١).

في المساء، الذي كان في بداية الرابع عشر من نيسان (نفس اليوم الذي كان يسوع سيموت فيه لأنه المرموز إليه بالحمل الفصحي)، جاء مع تلاميذه الاثني عشر، بمن فيهم يهوذا الخائن، وجلس أو اتكأ معهم جميعاً إلى المائدة التي وضعوا عليها مختلف الأطباق كما حدد الناموس، إضافة إلى كؤوس معينة من الخمر الذي كان شيئاً مألوفاً معتاداً.

وإذ راحوا يحتفلون بالعيد بصمت وإجلال تكلم يسوع فقال: "ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي".

أجفل التلاميذ لسماعهم ما كان من الممكن أبداً أن يعقل أو يصدق، وسأله الأحد عشر بقلوب صادقة: "هَلْ أَنَا؟" وطرح يهوذا المنافق نفس السؤال. فأجاب يسوع وَقَالَ لَهُمْ: "هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ". ثم أضاف قائلاً ما يعتقد المرء أنه كان ليمس أقسى القلوب، عندما أعلن: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!".

ماذا كان شعور يهوذا وهو يسمع هذه الكلمات؟ لا نعلم، ولا فائدة من التفكير في ذلك. ولكن بعد قليل، وكما يخبرنا يوحنا، التفت يسوع إليه وقال له: "«مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ»" (يوحنا ١٣: ٢٧)، فنهض وخرج في الحال تحت جنح الظلام.

يبدو واضحاً أنه بعد خروج يهوذا مباشرة تأسس عشاء الرب.

"وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي». ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ»" (١٤: ٢٢- ٢٥).

إذ يوشك عيد الفصح، التذكار السنوي لتحرير بني إسرائيل من عبودية مصر، على أن ينتهي، يدشّن يسوع عيداً آخر ليكون تذكاراً طوال العصر المسيحي ابتداء من موته والفداء الذي أُنجز بفضل ذلك.

فقد أخذ إحدى أرغفة الفصح المسطحة الفطير، وبعد الشكر، كسره وأعطاه للتلاميذ ليشارك الجميع في تناوله، قائلاً: "«خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي»". بالتأكيد لم يخطر في ذهن أحد منهم آنذاك ولو لوهلة أنه يحيل الخبز إلى جسده الفعلي. ورغم أنهم لم يفهموا كل ما عناه بذلك الفعل البسيط، إلا أنهم على الأقل عرفوا أنه يرمز بالخبز إلى جسده.

ثم أخذ الكأس الذي كان من ثمر الكرمة، عصارة العنب، وبعد الشكر على ذلك أيضاً، مرره على الأحد عشر، وشرب الجميع منه. وشرح معنى ذلك بقوله: "هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ". وأضاف قائلاً: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ". لم يستطيعوا فهم معنى هذا القول آنذاك، ولكن كل شيء سيصبح واضحاً فيما بعد.

الكلمة اليونانية المستخدمة هنا بمعنى "عهد" تعني أيضاً "وعد وميثاق". لقد كانوا يعرفون أن الله قد وعد أن يقيم عهداً جديداً مع إسرائيل ويهوذا- عهداً من النعمة الخالصة. العهد الأول في سيناء كان قد تم تصديقه برش الدم. الكأس التي اشترك التلاميذ في الشرب منه كان يرمز إلى الدم الذي كان ليُختمَ به العهد الجديد.

عندما انتهى كل شيء غادرت الجماعة الصغيرة العلية واتخذوا سبيلهم إلى جَثْسَيْمَانِي.

"ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ». وَهَكَذَا قَالَ أَيْضاً الْجَمِيعُ. وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! امْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا»" (١٤: ٢٦- ٣٤).

"ثُمَّ سَبَّحُوا". على الأرجح أن هذا التسبيح هو ما كان يعرف آنذاك باسم "التهليلة الصغرى" المؤلفة من المزامير ١١٣- ١١٨. لنفكر في يسوع، والصليب على مقربة، بل وحتى منظور ليسوع، وهو يؤمُّ التسابيح مع الجماعة الصغيرة.

وبينما هم يسيرون في تؤدة على طول الطريق من البيت الذي تناولوا فيه الفصح، خارجين من بوابة المدينة عبر الجسر إلى جبل الزيتون، حذّر يسوع التلاميذ من الارتداد القادم. فهو، الراعي، سيُضرب، كما تنبّأ زكريا (١٣: ٧). وأما هم، خِرَافُ قطيعه، فسوف يتبددون، لأنهم سيترددون ويرتبكون من جراء ما سيصيبه.

إلا أنه أعطاهم من جديد الوعد بقيامته، وذكّرهم أنه بعدئذ سيسبقهم إلى الجليل ليلقاهم هناك.

إذ كان واثقاً من نفسه ويجهل ضعفه، أعلن بطرس قائلاً: "وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ (ترددوا) فَأَنَا لاَ أَشُكُّ". فقال له يسوع أنه وقبل أن يصيح الديك مرتين سوف ينكر ثلاث مرات أية معرفة بذاك الذي كان يعترف به معلماً له. في أناجيل أخرى يرد القول أن "قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ". ليس من تناقض في هذا. فصياح الديك كان في وقت محدد- الساعة الثالثة صباحاً. من هنا نعلم أنه كان يشير أيضاً إلى صياح ديك معين مرتين.

وإذ كان لا يزال منفعلاً قال بطرس باحتدام: "وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ". وأكد العشرة الآخرون نفس الأمر.

وأخيراً وصلوا إلى ضَيْعَة جَثْسَيْمَانِي، البستان الذي كان يسوع غالباً ما يذهب إليه ليصلي ويتواصل مع أبيه. فترك ثمانية تلاميذ قرب المدخل وأمرهم أن يمكثوا هناك بينما ذهب هو إلى الصلاة. ولكنه الآن أخذ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا مَعَهُ إلى البستان، وإذ نظروا رأوا تغيراً كبيراً يطرأ عليه. فهدوء نفسه المعتاد استحال إلى اضطراب في الروح، فأدركوا أنه كان يمر بمحنة شديدة. ولكنهم لم يستطيعوا أن يفهموا حتى عندما أعلن لهم قائلاً: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ". لقد طلب إليهم أن يبقوا في مكانهم وأن يسهروا في حين أنه توغل في بستان الزيتون.

"ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا لِنَذْهَبَ. هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ»" (١٤: ٣٥- ٤٢).

في استباق لشرب كأس الغضب الذي ملأتْه خطايانا صلى يسوع وهو في كرب أن تجوز عنه تلك الكأس في تلك الساعة. لقد انقبضت النفس المقدسة من رهبة وخشية أنه جُعِل خطيئة على عود الصليب. لم يكن الموت، بل الغضب الإلهي ضد الخطيئة، إلصاق كل تعدياتنا به هو ما ملأ نفسه بالرعب. لم يكن هناك صراع إرادات. لقد كان في حالة خضوع تام (لله) في كل الأشياء وهو يصلي قائلاً: "يَا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ".

في هذا الامتحان، وهو الامتحان الأصعب والأهم لخضوعه لإرادة الآب، أثبت أنه، كما دائماً، الابن المطيع الذي يقوم بكل تلك الأشياء التي ترضي أبيه. ولكنه ما كان ليمكن أن يكون ذلك الإنسان القدوس لو كان فكر بالصليب وكأس الدينونة المر على الخطيئة برباطة جأش. فالأكثر قداسة هو من يتحمل أكثر تبعات حمله لخطيئة الآخرين.

 إذ رجع إلى الثلاثة وجدهم نياماً. وفي حديثه إلى بطرس الذي كان قد أبدى كل تأكيدات الولاء تلك، وبّخه بلطف، سائلاً إياه: "أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟" ثم طلب منهم جميعاً أن يسهروا ويصلوا لئلا يدخلوا في تجربة، إذ بينما الرُّوحُ نَشِيطٌ، أو مستعدٌ، كان الْجَسَدُ ضَعِيفاً.

ومن جديد عاد إلى الظلمة وصلى كما في السابق، ورجع أيضاً للمرة الثانية إلى الثلاثة لوحدهم ليجدهم نياماً من جديد. وفي المرة الثالثة صلى وجاء إليهم من جديد، وكانت المحنة قد زالت عنه، وإذ نظر بحزن إلى التلاميذ قال: "نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا!". ثم أضاف: "يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ". ثم قال لهم أن ينهضوا لأن الَّذِي يُسَلِّمُه قَدِ اقْتَرَبَ.

وفي الحال ظهر جمعٌ غفيرٌ يشقون طريقهم بين أشجار البستان يبحثون عنه.

"وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: «ﭐلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ». فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً: «يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. فَاسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ السَّيْفَ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلَكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ». فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِساً إِزَاراً عَلَى عُرْيِهِ فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً" (١٤: ٤٣- ٥٢).

إن السلوك الشائن ليهوذا في تسليمه يسوع إلى القادة في إسرائيل يملؤنا بالسخط لأن شخصاً كان يتمتع بحظوة أمكنه أن يتصرف على ذلك النحو الرديء. ولكن ذلك لم يكن سوى مثال عما هو في قلوبنا دون كبح من النعمة الإلهية. لقد احتمل يسوع ذلك السلوك بوقار هادئ وبدون أي غضب أو ضغينة نحو ذاك الذي كان يعامله بذلك الشكل السيئ للغاية.

وإذ جاء يهوذا وهو يقود الجمع إلى مكان اللقاء الذي كان يعرفه جيداً، قال لهم بأنه سيدلهم على من يسعون وراءه بأن يحييه بقبلة. وإذ اقترب من المكان الذي كان ينتظرهم فيه يسوع بهدوء، وثب يهوذا متقدماً نحو يسوع وقال: "يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي"، أي "يا معلّم يا معلّم"، وقبّله تكراراً، كما يشير النص الأصلي.

وهنا وضع الجنود أيديهم على يسوع وقيدوه لكي يأخذوه بعيداً معهم. لدى رؤية معلمه يتعرض للخيانة هكذا ويُعامل بهذا الشكل السيئ، ثارت ثائرة بطرس، وراح يشرط من حوله بسيفه، ولكن لم ينجح إلا في قطع أذن مالكوس، عبد رئيس الكهنة- هذا الفعل الذي قد يكلف بطرس حياته فيما بعد. ونعلم أن يسوع، في موضع آخر من الكتاب، (لوقا ٢٢: ٥١)، قد مد يده وشفى الرجل الجريح.

والتفت يسوع نحو الحشد المسلّح وسألهم: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي؟" وذكّرهم أنه كان يعلّم علانيةً في الهيكل. فلماذا لم يقبضوا عليه في إحدى تلك المناسبات؟ ولكن كل شيء كان بسماح من الله لكي تتحقق النبوءات في الكتاب المقدس.

إذ استشعر التلاميذ بخطورة الموقف لاذوا بالفرار جميعاً وقد أصابهم الذعر، وتركوا يسوع وحده مع معتقليه.

وكان هناك شاب لا يُذكر اسمه تبع الجموع عن كثب، وكان مئتزرا بقطعة قماش قد لفّها على جسده. وإذ حاول البعض من الحشد أن يمسكوا به أيضاً، فرَّ هارباً، تاركاً الإزار، ومختفياً وهو عارٍ بين أشجار البستان. من كان هذا الشاب؟ أكان يوحنا مرقس نفسه، كاتب هذا الإنجيل؟ اعتقد كثيرون ذلك لأن مرقس هو الوحيد الذي يذكر هذه الحادثة ودون أن يحدد هوية هذا الشاب. سوف لن نستطيع معرفة ذلك بشكل مؤكد إلى أن نقف عند كرسي الدينونة أمام المسيح.

"فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ" (١٤: ٥٣، ٥٤).

تلاشى الذعر الأول، وتلميذان على الأقل- يوحنا وبطرس- رجعا فتبعا الحشد إلى بيت رئيس الكهنة، حيث كان أمام يسوع أول جلسة استماع، إذا صح تسميتها هكذا. مرقس الإنجيلي لا يذكر يوحنا الذي كان من أقارب عائلة قيافا، والذي تجرأ على دخول البيت. أما بطرس فقد تبع الجمع عن بُعد إلى أن صاروا داخل القصر أو في الرواق.

"مَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ". القبض على الرب يسوع المسيح ليلاً، وجره إلى دار رئيس الكهنة قبل الفجر كان غير قانوني، ولكن هؤلاء الرجال، الذين هم في العادة دقيقون للغاية في إتباع تقاليد الشيوخ، أمكنهم أن يتناسوا هكذا تفاصيل لرغبتهم في التخلص من يسوع المسيح.

"كَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ .... وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ". امتعاض بطرس المهذب كان قد بدأ قبل أشهر، عندما تجرأ على لوم الرب يسوع (متى ١٦: ٢٢). لعله بدأ يشعر بالرفعة والتعظيم بسبب إطراء يسوع الشديد لهم قبل قليل (متى ١٦: ١٧، ١٨). منذ ذلك الوقت وصاعداً نرى دليلاً تلو الآخر على خذلانه وإخفاقه. والآن، ذاك الذي تبجح بأنه لن يتخلى عن ربه تبعهم على مبعدة، وجلس مع حفنة الأشرار.

ومع ذلك، فقد كانت محبته للرب هي التي أعادته ودفعته لإتباع الحشد، ولو من بعيد، لكيما يرى نهاية المسألة التي كانت بعكس آماله وتوقعاته.

"وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَجِدُوا لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً قَائِلِينَ: «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». وَلاَ بِهَذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسَطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قَائِلاً: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟» أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتاً وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: «تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ" (١٤: ٥٥- ٦٥).

عبثاً حاول الرؤساء إيجاد دليل على أية مكيدة عند يسوع. ورغم أنه كان لديهم شهود كاذبون يشهدون زوراً وبدون ضمير لاتهامه، إلا أن شهادتهم كانت متناقضة جداً لدرجة أنه ما كان يمكن استخدامها لتكذيبه وإضعاف الثقة به.

وأخيراً سأل قيافا يسوع معترضاً عن السبب في أنه لم يردّ أو يحاول أن يبرر نفسه من تلك التهم الزائفة، ولكن لم يلقَ جواباً.

وبارتباك، ولكن بتصميم على إيجاد سببٍ ما يدينون به أسيرهم، سأل رئيس الكهنة: "«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟»" فأجاب يسوع على هذا السؤال قائلاً في منتهى الهدوء: "أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ". ودلّ هذا ضمناً على أنه كان ابن الإنسان الذي تحدث عنه دانيال ٧، الذي سيتلقى الملكوت من الْقَدِيم الأَيَّامِ.

ممتلئاً سخطاً، وقد أصابه الذعر، على ما يبدو، نسي قيافا الناموس الذي كان يحظر على رئيس الكهنة أن يشق ثوبه، ومزّق رداءه وهو يعلن أنه ما من حاجة إلى مزيد من الشهود، لأن الجميع سمعوا التجديف الذي نطقته شفتا يسوع. فما الذي يستحقه مثل هكذا شخص؟ لقد حكموا عليه بالموت بالإجماع.

تلا ذلك مشهدٌ مخزٍ كان ليلحق العار بأي محكمة يكون فيها السجين مداناً للغاية. لقد بصق البعض على سيمائه المقدسة. وآخرون عصبوا عينيه، ثم، وهم يلطمونه بإهانة براحة يدهم، راحوا يصرخون به هازئين: "«تَنَبَّأْ»"، وهم يطلبون منه أن يحدد اسم أولئك الذين كانوا يسيئون معاملته. ولكن فمه المقدس لم ينبس ببنت شفة.

في هذه الأثناء، كان بطرس يواجه اختباره العظيم وفشل فيه، كما حذّره يسوع مسبقاً قبل ساعات فقط من ذلك.

"وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجاً إِلَى الدِّهْلِيزِ فَصَاحَ الدِّيكُ. فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضاً وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هَذَا مِنْهُمْ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: «حَقّاً أَنْتَ مِنْهُمْ لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ». فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى" (١٤: ٦٦- ٧٢).

 "كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ". مكانه الحق كان يجب أن يكون وسط الجماعة مع الرب، ولكن الخوف أبعده عن أن يطابق نفسه بالمخلص علانيةً في ساعة الامتحان تلك.

"أَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ". كانت هذه إحدى الجواري أو الخادمات التي اتهمته على هذا النحو. من الواضح أنها رأته وسط جماعة الرب يسوع في مناسبة ما سابقة.

"فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!»". لقد كان هذا إنكاراً كاملاً لأي معرفة له بالرب يسوع المسيح، وخرج هذا النكران من شفاه ذاك الذي أبدى إعلانات تأكيدية عظيمة بالإخلاص والولاء.

"فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضاً وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هَذَا مِنْهُمْ!»". إذ عرفته جارية أخرى، دلت الآخرين عليه في الحال على أنه أحد أتباع يسوع.

"فَأَنْكَرَ أَيْضاً". وها هي المرة الثانية التي ينكر فيها التلميذ الخائف كل معرفة له بالمسيح. ثم اتهمه الآخرون، وقد قادهم أحد أقارب مالكوس، الذي قطع بطرس أذنه وهو يشرط بالسيف (يوحنا ١٨: ٢٦)، بأنه واحدٌ من الجماعة التي كانت تُعرف بأنها جماعة تلاميذ المسيح.

"فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!»". بدافع الخوف والذعر، ارتد بطرس إلى لغة أيامه قبل اهتدائه وحلف بأغلظ الأيمان بأنه لم يعرف الرب يسوع المسيح على الإطلاق. يا للدركات التي يمكن للمؤمن أن يسقط إليها إذا ما قطع الشركة مع الرب.

"فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ". صياح الديك (للمرة الثانية في ذلك الصباح الباكر) قد أعاد بطرس إلى رشده، وتذكر بحزنٍ كلمات الرب يسوع، الذي كان قد نبهه مسبقاً إلى هذا الإخفاق.

الفرق بين الارتداد وفتور الإيمان:

لاحظ أن الفرق قد أُظهر بشكل واضح في الروايات المتعلقة بيهوذا وسمعان بطرس. الارتداد هو رفض كامل للحق، وبالتالي لذاك الذي جاء ليعلنه والذي هو نفسه الطريق والحق والحياة. قد يقر المرء بالإيمان بالمسيح ويبدي التزاماً خارجياً ظاهرياً لتعليمه دون أن يولد من جديد. وفي ساعة التجربة المريرة، إذ قد يرتد المرء، فإنه يتبرأ كلياً من كل ما كان قد أقر بأنه يؤمن به سابقاً. هذا معنى أن يصبح المرء مرتداً، ولأجل هكذا شخص ليس من وعد بالتجديد أو الاستعادة. فتور الإيمان، من جهة أخرى، هو ضعف في خبرة المرء الروحية يودي به في ساعة التجربة والامتحان إلى أن يفقد القدرة على الصمود والثبات، وهكذا يأتي الإخفاق فيشوه شهادة المرء. إلا أن الرب يقول أنه مقترن بالعاصي، وسوف يسترجعه في نهاية الأمر (إرميا ٣: ١٤). كان بطرس فاتر الإيمان. ورغم أنه وقع في خطيئة فاحشة ثقيلة الوطأة، إلا أنه أدرك سريعاً حالته المأساوية البائسة وعاد إلى الرب الذي كان قد أنكره في توبة عميقة.

نأتي الآن إلى المحنة الكبيرة التي لم يتعرض فكر ربنا لمثلها منذ بداية إقامته المؤقتة هنا على الأرض، والتي نقلته في الواقع من المجد الذي كان له مع الآب قبل إنشاء العالم إلى هذه الدنيا حيث كانت الخطيئة قد شوهت الخليقة الجميلة قبل زمن طويل.

هناك تفاصيل واردة في الأناجيل الأخرى غفل عنها هذا الإنجيل. ونجد المشهد يتحرك سريعاً من مجلس رؤساء اليهود إلى قاعة محكمة بيلاطس ثم إلى الصليب. ليس من ذكر لبلاط هيرودس، ولا للأمور الأخرى التي قاد روح الله بقية الكُتَّاب إلى أن يتوسعوا فيها.