تفسير إنجيل مرقس

Henry A. Ironside

هنري أ. آيرونسايد

نبتون، نيوجرسي

Expository Notes on the Gospel of Mark

Henry A. Ironside
Loizeaux Brothers, Inc
Neptune, New Jersey

الطبعة الأولى: كانون الثاني، ١٩٤٨
نقله إلى العربية
فريق الترجمة والتعريب
الآيات الكتابية باللغة العربية
هي من ترجمة سميث وفاندايك-البستاني
(الترجمة البروتستانتية) للكتاب المقدس.

مقدمة بقلم المترجم

عندما نقرأ تدويناً أو قصةً عن إنسانٍ عظيم، كيسوع المسيح الإله والإنسان، كم تكون التفاصيلُ دقيقةً والأوصافُ حميمةً إذا كان الراوي هو أحدُ الذين رافقوه شخصياً، ثم رافقوا أحد أبرز تلاميذه، بطرس، وأحد أكثر رسله تميزاً، بولس! هذا هو إنجيل مرقس، وهذا الراوي هو يوحنا مرقس، الذي إنما بوحي الروح القدس كتب إنجيله.

لقد كان مرقس يركّز على يسوع المسيح مصوراً إياه كعبد يهوه المتألم الذي تحدث عنه أشعياء النبي، فيرينا كيف يخدم يسوع الناس المعوزين الذين يحبهم والذين يلتجئون إليه. ويرينا أيضاً يسوع كنبي عظيم تنبّأ مُسبقاً عن كل ما سيجري له قبل الصلب وأثناءه وبعده وصولاً إلى الحديث عن الأيام الأخروية وعودته في المجد.

وإزاء كل ذلك، يُظهر لنا مرقس في مناسبات كثيرة الرياء والإدعاء وقسوة القلب وجحود الإيمان التي كان يتميز بها رؤساء الكهنة والكتبة الذين ما انفكوا يتربصون ليسوع ليوقعوه في مكيدة ليتخلصوا منه إلى أن سنحت لهم الفرصة المناسبة بسماح من الله الذي كانت هكذا مشيئته.

ويركز مرقس أيضاً على كيفية انتقال رسالة الإنجيل إلى كل الأمم في كل أصقاع الأرض بعد أن كانت وقفاً على بني إسرائيل في بداية الأمر. والمميز في مرقس أيضاً هو أنه يختم إنجيله بإعطائنا صورة حيوية عن يسوع القائم الذي لا يزال يخدم المؤمنين بعد قيامته.

أما مؤلف هذا الكتاب، هنري آيرونسايد، المفسّر الملهم، فيشرح لنا هذا الإنجيل بلغة بسيطة وأفكار عميقة، ويدخلنا إلى فهم تفاصيل كل حادثة بطريقة تجعل كلمة الإنجيل تدخل إلى فكرنا وقلبنا وكأننا من ذلك الجمع الذين كانوا مع يسوع على الدوام، يسمعونه ويرونه ويلمسونه ويأكلون معه، ويؤمنون به، آمين.

فريق الترجمة

الموضوع: يسوع ابن الله كخادم ونبي

المحتويات
    الموضـــوع الصفحة
مدخل إنجيل الخادم المخلص أبداً  
الجزء ١ الخادم النشيط يُعنى بحاجة الناس ومحنتهم (الأصحاحات ١: ١ إلى ٥: ٤٣)  
    القسم (١)— تقديم الخادم (١: ١- ١٣)  
    القسم (٢)— العمل العظيم للخادم الإلهي (١: ١٤ إلى ٥: ٤٣)  
الجزء ٢ الخادم رُفِضَ ولكنه لا يزال يخدم في النعمة (الأصحاحات ٦: ١ إلى ١٠: ٤٥)  
    القسم (١)— الرفض والمعارضة تزداد (الأصحاح ٦)  
    القسم (٢)— التقليد إزاء الوحي أو الإعلان (الأصحاح ٧: ١ إلى ٨: ٩)  
    القسم (٣)— الإعلان عن المجد الآتي (الأصحاح ٨: ١٠ إلى ٩: ٨)  
    القسم (٤)— طريق التلمذة (الأصحاح ٩: ٩ إلى ١٠: ٤٥)  
الجزء ٣ اكتمال رسالة الرب (الأصحاحات ١٠: ٤٦ إلى ١٦: ٢٠)  
    القسم (١)— الملك المرفوض (الأصحاح ١٠: ٤٦ إلى ١٣: ٣٧)  
    القسم (٢)— التقليد إزاء الوحي أو الإعلان (الأصحاحات ١٤ و١٥)  
    القسم (٣)— القيامة: المسيح لا يزال يخدم (الأصحاح ١٦)  

مدخل

إنجيل الخادم المخلص أبداً

من الشيق أن نلاحظ الهدف الخاص الذي كان في فكر الروح القدس في تقديمه لربنا المبارك يسوع المسيح في كلٍّ من الأناجيل الأربعة. ففيها نجد أربع صور قلمية لمخلصنا. لقد أُعطي لمتى أن يُظهره بشكل خاص كملك، مسيا إسرائيل، ومن هنا كانت سلسلة النسب التي تبرهن أنه ابن داود وابن إبراهيم. وهذا هو السبب أو المبرر وراء الإشارات والاقتباسات الكثيرة التي من نصوص العهد القديم. ويصوّره لوقا على أنه إنسان كامل، ابن الإنسان الفريد الذي جاء يطلب ويخلّص الضال. من إحدى سمات إنجيله هي أحاديث يسوع على المائدة. هل هناك أجمل وأوضح من إنسان على سجيته يفاتح أصدقاءه بمكنونات قلبه وهم في حفل عشاء؟ وفي لوقا نجد ربنا في مناسبات كثيرة كهذه. ويرجع لوقا نسب يسوع إلى آدم من خلال هالي، والد مريم وبالتالي حمو يوسف (لوقا ٣: ٢٣). ويخبرنا يوحنا بوضوح عن هدفه في الإنجيل ألا وهو أن يظهر أن يسوع هو المسيح ابن الله، و"لِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ". إن يوحنا يُظهر أن يسوع هو الكلمة الأزلي السرمدي الذي صار إنساناً لفدائنا.

لماذا لا توجد سلسلة نسب في مرقس

انكبّ مرقس بتفويضٍ إلهي على أن يُظهر لنا ابنَ الله يسلك في نعمة وادعة وخضوع مكرس للآب كخادم مثالي ونبي للقدوس. إنه يدخل مباشرة في صلب الموضوع. على مدى قصير من ستة عشر أصحاحاً يصور الخادم المشغول الذي لا يتوقف عن إظهار عمل الرحمة تلو الآخر، ومسرعاً من مكان إلى آخر عاملاً إرادة أبيه. وبما أننا لا نهتم (عادةً) بأصل وفصل الخادم وسلفه بل بقدراته، فإننا لا نجد سلسلة نسب ليسوع على الإطلاق في إنجيل مرقس، بل تدويناً مذهلاً لنشاط يسوع وفعالياته في عمل الخير وتعريف البشر بفكر الله. لقد أُشير كثيراً إلى أن مرقس يستخدم كلمة تترجم بمعانٍ مختلفة مثل "للوقت"، "مباشرة"، "على الفور"، و"حالاً"، أكثر من أربعين مرة، وهذه الكلمة نجدها تتكرر بنفس المقدار تقريباً في كل بقية العهد الجديد. "إن عمل الملك يتطلب السرعة"، وكان يسوع منشغلاً على الدوام في العمل العظيم الذي لأجله جاء إلى العالم.

وذبيحة الصليب يتم تصويرها بشكل متباين أيضاً من إنجيل إلى آخر- وهذا بما يتوافق مع التقدمات اللاوية (لاويين ١ إلى ٧). فيخبرنا يوحنا عن موت الرب كذبيحة محرقة، حيث الابن يبذل حياته لتمجيد الآب في عالم أخزته الخطية. ويصور لوقا تلك الذبيحة العظيمة على أنها ذبيحة سلامية لتحقيق السلام بدم صليبه، وهكذا يتصالح الله والإنسان ويعيشان علاقة شركة مقدسة معاً. أما متى، الذي كان هدفه التعبير عن حكم الله، فيطابق بوضوح بين عمل الصليب وذبيحة الخطية، حيث أمكن للرب أن يقول، كما في المزمور ٦٩: "رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ".

ولكننا في رواية مرقس ننظر في رهبة وعجب إلى القدوس الذي جُعل خطيئة لأجلنا لكي نصير بِرَّ الله فيه. إن ما أمامنا هو ذبيحة الخطيئة العظيمة، فالمسيح يموت ليس لمعاصٍ وتعديات ارتكبها، بل بسبب ما نحن عليه بالطبيعة كخطأة، والذي يظهر واضحاً من خلال ممارساتنا.

إني أسهب في هذه النقاط بسبب الأشياء الحمقاء التي علّمها كثيرون، مثل القول بأن إنجيل مرقس كان أول جهد يحاول أن يعيد إلى الذهن ويعرض قصة يسوع، وأن هذا الإنجيل قد تم التوسع فيه وتغييره من قِبَلِ كُتّاب باقي الأناجيل الذين قد يكونوا، أو لا، هم الأشخاص التي ارتبطت تلك الأناجيل بأسمائهم. إلا أنه يمكننا أن نكون متيقنين أن كل هذه الافتراضات باطلة وفارغة. إن بصمة الفكر الإلهي مطبوعة على كل صفحة من هذه الروايات (الأناجيل)، والاختلافات بينها نفسها (وليس التناقضات بينها) وكذلك النقاط المتفقة بينها ما هي إلا دليل على الوحي الإلهي.

هدف إنجيل مرقس

لقد كان هدف مرقس الأكبر والأهم هو أن يُري العالمَ الأممي محبةَ الله الفاعلة في المسيح يسوع وهو يخدم المعوزين، وساعياً وراء الخطأة ومخلِّصاً جميع الذين آمنوا به. لو لم يكن لدى المرء سوى هذا الإنجيل المختصر، من الكتاب المقدس، لوجد فيه ما يكفي ليرى كل قلب مضطرب وضمير طريقَ الحياة والسلام.

ما من شك في أن مرقس، ومن وجهة نظر إنسانية، يدين لبطرس بالكثير من المعلومات التي ينقلها، ولكن كل ما كُتب رتّبه روح قدس الله وذلك بحسب هدف معين في فكره.

لقد أُعطيت إلى أشعياء النبوءة عن المسيا كعبد يهوه المتألم (أشعياء ٥٢ و٥٣). وتنبأ موسى عن إقامة نبي ستكون كلمته في كل المسائل نهائية حاسمة (تثنية ١٨: ١٥- ١٩). لقد كان مرقس هو الإنجيلي الذي اختاره الروح القدس ليرسم ربنا في هاتين الوظيفتين: كخادم ونبي. ولكن ليس لنا أن نفترض أن هذا يعني تجاهل الجوانب الأخرى من طبيعته وشخصه. فهو لم يكن ملكاً أكثر عندما كان يخدم، ولم يكن إلهياً أكثر عندما قلّص أو حدد نفسَه من تلقاء ذاته.

كان بطرس الكبير قد قرر، بعد أن بنى الإمبراطورية الروسية بثمن باهظ، أن عليه امتلاك أسطول. ولكن لم يكن أحد في روسيا يعرف فن بناء السفن. ولذلك تخلى بطرس عن عرشه لوقتٍ، وعيّنَ زوجته كاثرين وصيةً على العرش، وألقى عنه جانباً كساءه الملكي، وإذ ارتدى ثياب عامل من عامة الناس، سافر إلى هولندا وإنكلترا حيث تعلّم فيها نجارة السفن بالعمل في المسافن الكبيرة جنباً إلى جنب مع رجال ما كان أبداً ليخطر لهم ولو بالنذر اليسير أن هذا الحرفي الغريب ظاهرياً الذي يعمل معهم كادحاً يوماً فيوماً كان ليتمتع بكرامة ومنزلة عظيمة. لم يكن بطرس أقل مكانةً كإمبراطور وهو يعمل بالمطرقة والقدّوم منه عندما عاد إلى عرشه.

في دراستنا لأي سفر من الكتاب المقدس يحسن بنا أن نضع في أذهاننا أقسامه الرئيسية، أو المخطط العام له. المخطط الذي وضعناه هنا قد يساعدنا في هذا الإنجيل.

إن خدمة المسيح النبوية يتم التركيز عليها في كل الإنجيل، ولكن بشكل خاص أكثر في الجزء الثالث، حيث يخبرنا مرقس- في الأصحاح ١٣، كما الحال في متى ٢٤ ولوقا ٢١- عن الأشياء الأخروية، ناظراً بعين المتنبّئ إلى الأحوال التي كان يعرف أنها ستسود إلى أن يعود في مجد ليرسي ملكوته. من الجدير بالملاحظة أنه عندما يتحدث بشخص الخادم كنبي ليهوه، فإنه يعلن عن محدوديته، "وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ إلاَّ الآبُ" (١٣: ٣٢). وكخادم مثالي اختار ألا يعرف ما لم يُسر الآب بأن يكشفه (تثنية ١٨: ١٥، ١٨، ١٩).

خلفية مرقس

كان يوحنا مرقس ابن امرأة ثرية تُدعى مريم، وعلى الأرجح أرملة، والتي كان منزلها كبيراً بما فيه الكفاية لخدمة اجتماعات الكثير من التلاميذ الأولين بعد التدفق إثر العنصرة (أعمال ١٢: ١٢).

لقد رافق مرقس بولس، وبرنابا، الذي كان قريباً له، إلى قبرص، ولكنه عاد لاحقاً إلى أورشليم، هذا الأمر الذي لم يؤيده بولس تماماً (أعمال ١٢: ٢٥؛ ١٣: ١٣؛ ١٥: ٣٧- ٣٩). ولكن مرقس تجدد، فيما بعد، وصار خادماً موثوقاً للمسيح ورفيقاً لبولس وبطرس (٢ تيموثاوس ٤: ١١؛ ١ بطرس ٥: ١٣). لقد كان من عادة الله أن يختار خادماً كان غير مؤمن أو مخلص مرةً كمرقس ليخبر قصة الخادم الأمين أبداً، ألا وهو ابنه المبارك نفسه.

بحسب تقليد يعود للكنيسة الأولى، فإن مرقس إنما كان يشير إلى نفسه عند حديثه عن "الشاب" الذي تبع المسيح وهم يأخذونه إلى بيت رئيس الكهنة، وكيف أن الحراس حاولوا القبض عليه، فترك الإزار الذي كان يلف به جسده في أيديهم وهرب منهم عارياً (مرقس ١٤: ٥١، ٥٢). حقيقة أن مرقس هو الإنجيلي الوحيد الذي ينفرد بذكر هذه الحادثة قد لا تكون أساساً كافياً لاعتبار أن هذا الشخص هو مرقس نفسه؛ ومع ذلك، من جهة أخرى، وبسبب قبول هذه الفكرة كثيراً في الأيام الأولى للكنيسة، قد تكون هذه هي الحقيقة. وفي هذه الحالة يكون الشاب يوحنا مرقس قد سمع تعليم الرب يسوع بينما كان في أورشليم، وأن قلبه قد تعلق به حتى أنه فكر بأنه على استعداد حتى ليكون معه، ولكن في ساعة التجربة هرب، كما فعل بقية التلاميذ. كم من أناس يحبون الرب فعلاً ومع ذلك تعوزهم الشجاعة المعنوية التي تمكّنهم من أن يمضوا معه مهما كلف الأمر! إذ نفكر في هذا الشاب الرقيق الحساس والصعوبات التي واجهها ليبدأ فعلياً في خدمة الرب، ونتذكر كيف أنه فيما بعد قد برهن أنه خادم كفؤ للمسيح، فإننا نتشجع لأن نتجاوز مخاوفنا ونقائصنا وضعفاتنا وأن نتكل على الله ليجعلنا سفراء حقيقيين لإنجيل ابنه. وإذ ندرس إنجيله المدون عن ذاك الذي قال: "أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ" (لوقا ٢٢: ٢٧)، تنحني ركبة قلبنا أمامه في خضوع متواضع، ولعلنا نسلم ذواتنا حقاً له وهو القائم الآن من بين الأموات، لكيما نخدمه بنفس روح التواضع التي كانت تميزه إبان حياته على هذه الأرض، في رضا باستحسان الآب، رغم أننا نعبر هذا العالم مجهولين وغير معروفين نسبياً.

المخطط البسيط التالي لهذا الإنجيل قد يكون موحياً ومفيداً لنا ونحن نحاول تحليل محتوياته.

الموضوع: يسوع ابن الله كخادم ونبي

الجزء ١: الأصحاحات ١- ٥
الخادم النشيط يُعنى بحاجة الناس ومحنتهم
القسم (١)- ١: ١- ١٣: تقديم الخادم
القسم (٢)- ١: ١٤- ٥: ٤٣: العمل العظيم للخادم الإلهي
الجزء ٢: الأصحاحات ٦: ١ إلى ١٠: ٤٥
الخادم رُفِضَ ولكنه لا يزال يخدم في النعمة
القسم (١): الأصحاح ٦: الرفض والمعارضة تزداد
الأصحاح ٧: القسم (٢)- ٧: ١- ٨:٩: التقليد إزاء الوحي أو الإعلان
القسم (٣)- ٨: ١٠- ٩: ٨: الإعلان عن المجد الآتي
القسم (٤)- ٩: ٩- ١٠: ٤٥: طريق التلمذة
الجزء ٣: - ١٠: ٤٦- ١٦: ٢٠
اكتمال رسالة الرب
القسم (١)- ١٠: ٤٦- ١٣: ٣٧: الملك المرفوض
القسم (٢)- الأصحاحات ١٤ و١٥: الذبيحة الأسمى
القسم (٣)- الأصحاح ١٦: القيامة: المسيح لا يزال يخدم