الأصحاح ٧

مبادئ الملكوت

(الجزء الثالث)

إذ نتابع دراستنا للتعليم المُعطى من قِبَلِ يسوع المسيح إلى تلاميذه على الجبل، دعونا نتذكر من جديد أن الموضوع المطروح هنا، ليس الإنجيل لغير المتجددين، بل المبادئ المقدسة التي يجب أن تسود حياة أولئك الذين يقرّون بالولاء للرب يسوع والذين يعترفون به ملكاً باراً على الأرض، رغم اعتراف غير المخلّصين بالشيطان، المُغتَصِب المزيف، كرئيس لهذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١؛ ١٤: ٣٠). إن الولاء للملك الحقيقي يتطلب طاعةً لكلماته (١ تيموثاوس ٦: ٣- ٥).

إن ملكوته, من ناحية الجانب الظاهر, هو في حالة تعطيل مؤقت. لقد ذهب "إلى بلد بعيد", إلى السماء نفسها, ليأخذ ملكوته, ويعود (لوقا ١٩: ١٢). وعند مجيئه الثاني, ممالك هذا العالم, ستصبح ملكوت إلهنا ومسيحه (رؤيا ١١: ٢٥). ولكن بينما هو غائب شخصياً, رغم حضوره بالروح, وكونه غير منظور للعين البشرية, فإن كل مَن يولدون من جديد هم في ملكوت الله, ورغم أنهم وسط عالم متمرّد, فهم مسؤولون عن الإبقاء على الولاء لذاك الذي يرفضه ذلك العالم. ومن هنا فإنهم يعرفون حقيقة الملكوت, بأنه ليس طعاماً وشراباً (أي أنه لا يهتم الآن بالأمور الزائدة المؤقتة), بل برٌّ وسلامٌ وفرحٌ بالروح القدس (رومية ١٤: ١٧). إن هذا الجانب من الملكوت هو ما كان موضوع التعليم الذي كان يقدّمه ربنا لتلاميذه خلال أربعين يوماً التي انقضت بين قيامته وصعوده (أعمال ١: ٢, ٣). لقد كانت هذه الفكرة الرئيسية في رسالة الرسل, بينما كانوا يدعون الناس للإقرار بربوبية المسيح (أعمال ٢: ٣٦؛ ٢٠: ٢٥). وكان هذا هو موضوع كرازة بولس حتى النهاية (أعمال ٢٨: ٣١). إن المسيح القائم هو ربّ الجميع, وهو يمنح مغفرة الخطايا لكل الذين يؤمنون باسمه. ومن هنا, فإن أولئك الذين أُدخِلوا إلى هذا المكان الجديد أمام الله, وخلصوا بالنعمة وحسب, مدعوّون إلى الإقرار بربوبيته في كل الأشياء. إنهم يُترَكون في هذا العالم ليشهدوا له وليعرّفوا كل الذين لا يزالون ينتمون إلى هذا العالم برحمته. عليهم أن يفعلوا الخير لكل الناس. وبقيامهم بذلك, سوف يُساء فهمهم في معظم الأحيان, وسيكونون خاضعين لاضطهادات قاسية ولمعاملات انتقامية حاقدة. ولكن عليهم ألا يقابلوا الأذى بمثله, بل أن يُظهروا روح المسيح, وبهذا يغلبون الشر بالخير (رومية ١٢: ٢١), ويبرهنون أنهم مواطنون مطيعون للشريعة, ويسعون دائماً وأبداً لبركة إخوتهم البشر.

كلما تأملنا أكثر في الحقائق المبيَّنة لنا في هذا الأصحاح كلما أدركنا كم أننا مقصّرون عن أن نرتفع إلى قامة ذلك التكرّس الغيريّ للمسيح الذي يتم التركيز عليه هنا. وإذ يفتح الروح القدس قلوبنا لإدراك هذه التعاليم سنجد أنفسنا أكثر فأكثر موضع تفحّص بكلماته الجليلة. فذاك الذي يرغب بالحق في الدواخل (مز ٥١: ٦) كان يتحدث من خلال ابنه بطريقة تكشف كل الدوافع الخفية للشخص, وتجعل كل نفس صادقة تدرك كم أننا في حاجة إلى أن ننمو في النعمة وفي معرفة المسيح, لكيما نمثّله بشكل صحيح في هذا العالم حيث لا يزال مرفوضاً منبوذاً.

في الآيات الخمس الأولى من هذا القسم يكشف الرب النفاق والرياء الذي يكاد يكون غير مُدرَك, والذي ينتشر فينا جميعاً, والذي يقودنا إلى إدانة إخوتنا بشدة, في حين نُغفل أو نبرّر خطايانا وكأنها ضئيلة بسيطة. ثم يتابع فيرينا ضرورة أن نكون قائمين على أساس الصلاة إن كنا نودّ أن نتلقّى الاستجابة المتوقَّعة لطلباتنا.

إن الطرق الواسعة والضيقة تُوضَع في صورة تضاد مُفعَمة بالحيوية. فالأولى هي الطريق التي يتبعها كل مَن يتجاهل أو يجهل نعمة الله المُعلَنة في المسيح ومتطلباته من البشر؛ والأخرى هي طريق التكرّس لذاك الذي جاء لا ليُخدَم بل ليَخدِم ويبذل حياته فدية عن كثيرين (متى ٢٠: ٢٨). لاحظوا أن هذه هي الطريق التي تؤدي إلى الحياة, وليس فقط إلى السماء في نهاية الحياة.

"لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَبِ وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ. ﭐِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ. فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ. ﭐُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!" (الآيات ١- ١٤).

"لاَ تَدِينُوا". إنها مسألة دوافع. هناك ظروف يُطلَب من شعب الله أن يحكم فيها أو يدين (١ كورنثوس ٥: ١٢), بمعنى التعامل مع المُذنب الذي أساء إلى المعايير الأخلاقية المسيحية, حتى ولو اضطرّوا لإقصائه من شركة الكنيسة (١ كورنثوس ٥: ٣- ٥, ١٣). ولكن علينا ألا نحاول أن نجلس في كرسي الدينونة ونحكم على الدوافع الخفية للتصرّف. إننا نُجحف بحق الآخرين بسهولة بالغة, وأحكامنا غالباً ما تكون لاذعة. ليس في مقدورنا أن نقرأ ما في القلوب أو نتبين ما في الأذهان. إن هذا حقٌّ مقصور على الله وحده. إن عصينا هذا الأمر فلن نندهش إذاً إذا ما أداننا الآخرون بنفس الطريقة.

"بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ". علينا أن ندين أنفسنا بنفس المعايير الصارمة التي ندين بها الآخرين.

"لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟". هناك سخرية دقيقة هنا وهي صارمة جداً. إن الكلمتان المُستَخدمتان هنا في هذا المقطع توضعان على طرفي نقيض. إن الكلمة التي تُرجِمت إلى "قذى" بالأصل تُشير إلى قطعة من غُصين صغير جاف أو قشّة, وهذه غالباً ما تحملها الريح فتدخل في عين الناس وتسبب لهم غشاوة في البصر ودموعاً إلى أن تُزال من العين. والكلمة التي تُرجِمت إلى "خشبة" تعني قطعة خشب كبيرة, ولكن كانت تُستَخدم في اللهجة العامية في الأحاديث اليونانية في أيام ربنا على الأرض كمرادف لشظية, والتي, ورغم كونها صغيرة في الحجم بحد ذاتها, إلا أنها تبدو كعارضة خشبية كاملة صحيحة بسبب الألم الذي تسببه. في إحدى الملاحظات التي وُجدت على برديّة في مصر قبل بضعة سنوات, يكتب شاب إلى والدته مُخبِراً إياها عن الألم الذي عاناه بسبب "خشبة" دخلت إلى إبهام يده تحت الظفر. هذا يُوضح معنى كلام ربنا. ما من أحد مُؤهّل لتوبيخ آخر عندما يكون في حياته شيءٌ أسوأ من ذاك الذي يجده في الآخر, إذ أن الخشبة أو العارضة الخشبية أكبر بكثير من القذى أو ذرّة القش.

"كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ....". حتى العالم يقول: "يا لتناسقك أيتها الجوهرة". لا يستطيع أحد أن يتوقّع أن يصحح خطأً في آخر إن كان لديه خطأ أكبر منه في حياته.

"يَا مُرَائِي". الكلمة الأصلية كان يستخدمها اليونانيون ليصفوا ممثلاً. وكانت تعني حرفياً "الوجه الثاني", لأن الممثلين في القديم كانوا يضعون أقنعة على وجوههم ليمثّلوا أدوار الشخصيات. ونتحدث عن أن الإنسان "له وجهان". إن الله يطلب صدقاً. ويصرّ ربنا على ذلك. فليس من تديّن ضحل أو فارغ يرضيه. ولا يمكننا أن نعرفه كآب لنا يحبّ أن يلبي حاجاتنا بنعمته ورحمته ما لم نكن صادقين في طلبنا لوجهه. أن نُدين الآخرين بتكبّر, بينما نحن نعيش في حالة خطيئة, هو أمر بغيض في عينيه. إن كنا نطلب معرفته بصدق وعلى استعداد لنصنع مشيئته, فإنه سيقودنا إلى الباب الضيّق- الإذعان إلى مطالب المسيح- المؤدية إلى الطريق الضيّق للتكرّس غير الأناني لله ولمنفعة أولئك الذين ماتَ المسيح من أجلهم. ذلك هو بالفعل طريق الحياة.

"وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ". إنها حماقةٌ أن نحاول تقديم أعزّ وأغلى الأشياء في الإعلان الإلهي لأناس ليست لديهم رغبة في القداسة.

"ﭐِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ". بهذه الكلمات يؤكد ربنا على أهمية الصلاة الجدّية المُلحّة, والتي هي مختلفة عن التكرار غير المبالي أو الذي بدون تفكير لكلمات محددة معينة. إننا مدعوون لأن نطلب؛ أي لنخبر الله بطلباتنا (فيلبي ٤: ٦, ٧), وإن لم نُلبّى في الحال فعلينا أن نحاول أيضاً وأيضاً بالسعي لمعرفةٍ أوضح لفكر الله بخصوص هذه المسألة, وهكذا نصلي بفكرٍ مُستَنير (أشعياء ٢٦: ٩). ثم علينا أن نقرع بإلحاح, ما يعني أن الطلب بإيمان وإخلاص هو الذي يحقق لنا مرادنا (لوقا ١١: ٥- ١٠). إن الله يستجيب فعلاً للصلاة. هذا أحد الأدلّة على الفوق طبيعية لما يسمّى عموماً بـ "الدين المُعلَن", خلافاً للفلسفة البشرية المجرّدة. إن كلمة "دين" واسعةٌ جداً حتى للمسيحية نفسها, ولكنها تُستَخدم هنا لأنها تعبير ملائم للدلالة على كل علاقة الإنسان مع الله كما عُرِفَتْ في العهدين القديم والجديد. في كل الأزمنة التدبيرية السابقة, وأيضاً في الزمن التدبيري الحالي, لقد أُعلن الله على أنه السميع والمُجيب للصلاة (مز ٦٥: ٢؛ أش ٥٦: ٧؛ مت ٢١: ١٣). إنه هو نفسه الذي يدعونا لأن نأتي إليه بطلباتنا وسُؤلنا, ويعدنا بأن يعطينا بحسب حاجتنا (فيلبي ٤: ١٩).

"كُلَّ مَنْ". عندما يتم تحقيق شروط الله, فإن استجابته لنا أكيدة- ليس بالنسبة للبعض فقط, بل بالنسبة لكل الذين يتوجّهون إليه في الصلاة بحسب مشيئته المُعلَنة. ليس صحيحاً بالضرورة أن نتلقى دائماً تماماً كما نسأل. إن الله يحتفظ لنفسه بحق أن يلبّي ما تمليه عليه حكمته. ولكنه لا يتجاهل أبداً صرخات أولاده.

"يُعْطِيهِ حَجَراً؟". إن الحجر قد يشبه رغيف الخبز من الخارج, ولكن لا يمكن أن يُؤكل, وحتى لو أمكن ذلك, فإنه لا يمكن أن يقيت أو يغذّي. إن الآباء الأرضيين يراعون حاجات أولادهم ولا يسخرون منهم عادة بتجاهل طلبهم للطعام, أو إعطائهم شيئاً لا يستطيعون أن يستخدموه عندما يطلبون القوت.

"وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً؟". إن الأولى (السمكة) هي للتقوية والبناء؛ والأخرى (الحية) سامة تسبب الموت. ما من أحد له قلب أب حقيقي يعطي شيئاً مؤذياً لابنه, بل يعطيه ما هو خيرٌ له.

"فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ". إن الأبوّة البشرية هي صورة ضعيفة عن قلب الله الأبوي, الذي يُسرّ بأن يعطي أولاده ما هو لخيرهم. في العائلة, يجب أن يكون الأب مثالاً عن المحبة والتدبير الحكيم الذي يميّز الآب السماوي, الذي يفرح بأن يبارك أولاده بأن يعطيهم ما سيؤول إلى منفعتهم الدائمة. والصلاة هي الوسيلة المحددة التي بها نقتبل هذه الرحمات والخيرات.

"فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ". هذه هي بالفعل القاعدة الذهبية. إنها مرتبطة بالصلاة؛ إذ ما من أحد يمكنه أن يصلي بشكل صحيح ما لم يتصف بالخيرية نحو رفقائه وإخوته (١ يوحنا ٣: ١٧- ٢٢). ليس هذا هو الإنجيل؛ إنه ثمرة الإنجيل. غالباً ما يتحدث الناس بشكل سطحي غير مُروّى فيه عن القاعدة الذهبية, وكأن الحفاظ عليها كان أمراً بسيطاً سهلاً نسبياً, وكما لو كانت تشمل كل المسيحية. وكم نسمع التأكيد أن "القاعدة الذهبية جيدة بما يكفي لي. إنها كل ما يريد المرء من الدين". ولكن مَن يستطيع, وقد دِين بهذا المقياس من الحياة الغيرية, أن يُصدر حكماً أمام محكمة الله المقدسة؟ ما هذه إلا طريقة أخرى للتأكيد على مَطلب الناموس, أن "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". ما من أحد سوى ربنا المبارك قد عاش أبداً هكذا على نحوٍ كامل. وبالتالي, فإن القاعدة الذهبية إنما تضيف إلى دينونتنا, وتؤكد على الحاجة إلى الخلاص بالنعمة. فقط إن اقتبلْنا المسيح وسكن فينا بالروح القدس يمكننا أن نرتقي إلى هذا المستوى الرفيع والمقدس.

لطالما قال مراراً وتكراراً أولئك الذين يستخفون بالرب يسوع وتعليمه, أن القاعدة الذهبية لم تنشأ بمعناها الأصلي معه, بل تبنّاها مما علّمه الآخرون قبله. يُقال أن كنفوشيوس, الحكيم الصيني, قد أعلن هذه قبل المسيح ببضعة مئات من السنين. ولكن الفرق شاسع بين التعليم الإيجابي للرب يسوع المسيح, الذي يأمر تلاميذه بأن يصنعوا للآخرين ما يودّون من الآخرين أن يصنعوه لهم, والتعليم السلبي للمعلم كنفوشيوس الذي قال: "لا تفعلوا للآخرين ما لا تريدون أن يفعلوه لكم". فالقول الأول هو إعلان للحب الإلهي؛ وأما الآخر فما هو إلا نصيحة بشرية عادية.

"وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ". هذا هو طريق الإرادة الذاتية, أو عصيان كلمة الله. فعلى هذا الطريق الواسع يوجد جميع مَن يرفضون الاعتراف بحالتهم البائسة والذين يتجاهلون مطالب المسيح. فهذا الطريق يتم الدخول إليه عبر باب واسع, لأن كل الناس يختارون هذا الطريق بشكل طبيعي.

"مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ". ليس هناك حياة حقيقية بمعزل عن معرفة المسيح (١ يوحنا ٥: ١٢). فعندما نُخضِع إرادتنا له ندخل عبر الباب الضيق ونمرّ إلى الطريق الضيّق. هذا يؤدي إلى الحياة- الحياة بكل غناها, وبكامل معناها- فنقتبلها بسرور إلى حد معيّن هنا على الأرض, ولكن نتمتع بها بكامل امتلائها في الأبدية السعيدة.

في المقطع التالي نُحذَّر من الأنبياء الكذبة الذين سيسعون لتضليل وإقصاء أولئك الذين يسعون وراء طريق الحياة.

"ﭐحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ" (الآيات ١٥- ٢٠).

"الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ". إن التشبيه مُذهلٌ جداً. إنه يوحي بذئب يجوس خلسة وقد وضع عليه صوف خروف ويجول حول أطراف قطيع مُنتظراً الفرصة لينقضّ على حمل أو خروف غير محترس. على نفس المنوال هو أولئك المعلّمون الذين لا تظهر تعاليمهم الكاذبة المزيفة بألوانها الحقيقية في البداية, بل يسعون لإخفاء هويتهم الحقيقية ونواياهم لكي يجتذبوا تلاميذ وراءهم (أعمال ٢٠: ٣٠). الطريق الآمن الوحيد هو أن نتمحّص كل ذلك بالكلمة نفسها, وخاصة بعقيدة المسيح, كما في رسالة يوحنا الثانية.

"مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ". هذا هو الاختبار الذي يجب أن يخضع له كل تعليم عقائدي وأولئك الذين ينشرونه. فما كان من الله سيعطي ثمراً في الحياة لمجده.

"كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً". الشجرتان توضعان على طرفي نقيض بصورة حيوية, فتصف الرجال والنساء الذي يُولدون من الله وأولئك الذين لم يتجددوا بعد. إنهم مَثلٌ من الطبيعة, عُنِيَ به تأكيد الحقيقة العظيمة على أذهاننا بأننا جميعاً كمثل الأشجار, إما أن نكون جيدين أو أردياء, وسلوكنا سيخوننا أو يدل على طبيعتنا الحقيقية. الصلاح والسوء يُستَخدمان هنا, كما في كل سفر الأمثال, بمعنى نسبي (أمثال ١٢: ٢؛ ١٣: ٢٢؛ ١٤: ١٤). وفعلياً ليس من أحد صالح إلى أن يكون قد تغيّر بالتجدد (رومية ٣: ١٢). إن شهادة الشفاه تدل على حالة القلب.

"لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً". القلب الذي في حالة تمرد على الله لا يمكن أن يثمر في الحياة بما فيه إكرامٌ له (لله), وبالمقابل فمنا مَن يخضع لإرادة الله لا يستطيع أن يستمر بالخطيئة فيجلب الخُزي لاسمه المقدس.

"كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ". رغم أن الله طويل الأناة, حتى مع الأشرار (يعقوب ٥: ٧؛ ٢ بطرس ٣: ٩), إلا أن اليوم يقترب بسرعة حيث ستقع الدينونة على كل واحد من أولئك الذين يُصرون على المُضيّ في نهجهم المتمرد غير التائب. وهذا ما كان يوحنا المعمدان أيضاً قد أعلنه (متى ٣: ١٠).

"مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ". مهما كانت الاعترافات التي يقدمها الناس, فإن الحياة هي التي تحدد (الأخيار من الأشرار) (١ تسالونيكي ١: ٥؛ ٢: ١٠). فالأخيار يبتهجون في النقاء والبر. والأشرار يُعفّرون وجوههم في تراب الخطيئة والفساد. حيث تفعل النعمة فعلها في النفس, فإن الثمار الجيدة للروح (غلاطية ٥: ٢٢, ٢٣) سوف تتجلى في الحياة. فمن كان حقاً من الله سوف يُثمر قداسةً عند مُتلقّيه.

وإذ يأتي الرب إلى نهاية خطبته العظيمة فإنه يصورُ، بطريقة فائقة الجلالة والتعبير، النتائجَ الأبدية التي تستند إلى موقفنا نحو الكلمة التي أعلنها.

"لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنـزلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنـزلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!".

"لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". إن الاعتراف بالشفاه وحسب لا فائدة منه إن كان القلب والحياة غير خاضعين لكلمة الله. إننا لا نخلص بأعمالنا, بل الأعمال الصالحة هي مقياس صدقنا وحقيقيتنا. مَن يُولَد من الله سيبتهج بإطاعة إرادة الآب (أفسس ٢: ٨- ١٠).

"كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟". قد يكون هناك الكثير من الخدمة التي تظهر ناجحة خارجياً أو ظاهرياً عند أناس لا يعترفون بالمسيح. ولكن في يوم استعلان الرب, سوف لن يفيد إلا الإيمان الشخصي بذاك الذي نعترف به رباً لنا.

"إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ". سوف لن يقول لأحد في ذلك اليوم: "كنتُ أعرفك في العادة, ولكني لم أعد أعرفك". كلامه إلى الضال سيكون: "إِنِّي لَمْ أَعْرِفْك قَطُّ". وعن خاصّته جميعاً سيقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا" (يوحنا ١٠: ٢٧).

"رَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ". مَن يسمع كلمات المسيح وينتبه إليها يبرهن أنه مؤمن حقيقي؛ وأنه بنى بيته على الصخرة التي هي المسيح نفسه.

"لَمْ يَسْقُطْ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ". ما من عاصفة من الظروف المناوئة, وما من هجمات من رئيس سلطان الهواء يمكن أن تنفع في تدمير البيت المؤسس على صخرة الدهور هذه.

"رَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ". مَن يسمع بأذنه الخارجية, ولا ينتبه لإطاعة الحق, هو كمثل مَن يبني على رمال تغوص.

"سَقَطَ وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً". عندنا يأتي وقت التجربة, من بنى آماله في الأبدية على أي شيء سوى المسيح نفسه سوف يُقبل إلى كارثة. لأن المسيح ربٌ, فإنه يطلب طاعة لا مثيل لها لكلمته. إنه يتحدث كملك ويضع بوضوح وإيجاز المبادئ التي سيؤسس عليها ملكوته, والتي هي مناقضة تماماً للسياسات الأنانية للحكام والأمم الأرضيين. أن نعترف به رباً ونطيع كلمته هو كمثل أن نبني بيتاً سيصمد في "بقايا دمار المادة وحطام العوالم". وأن نُخفق في الانتباه إلى صوته يعني ضياعاً زمانياً وأبدياً.

يُصوَّرُ المسيحُ في عدة نصوص كتابية على أنه الأساس الصخري الذي تُبنى عليه الكنيسة. إنه أيضاً الصخرة التي يؤسس عليها كل فرد مؤمن. من يؤمن به يبني على أساس متين (أشعياء ٢٨: ١٦؛ رومية ٩: ٣٩) لن يسقط أبداً. أن نبني آمالنا على أي شخص أو منظومة أو أي سلوك يُظن أنه أهل للتقدير, هو كأن نبني بيتاً على رمالٍ متحركة. في يوم الدينونة, كل من استندوا على أي شخص سوى المسيح وعمله المُنجز سيجدون أنفسهم ضائعين ضالين وعاجزين من أجل الأبدية.

لم تُسمع أبداً هكذا كلمات في إسرائيل. لقد كان هناك شيء ذو سطوة بالتأكيد فيها حتى أن المستمعين تأثروا بعمق, رغم أننا لا نعلم إلى أية درجة قد انتبهوا إلى الرسالة أو أبدوا ولاءً لذاك الذي أعلنها. موقفهم توجزه الآيتان الختاميتان في هذا الأصحاح:

"فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ" (الآيات ٢٨- ٢٩).

"بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ". رغم أنه كان يخاطب تلاميذه بشكل أساسي ومباشر, دنت الحشود منه لتصغي إليه, وإذ وصلت الخطبة العظيمة إلى خاتمتها الدراماتيكية انذهلوا من وضوح وعمق تعليمه.

"كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ". كان الكتبة والمعلمون الآخرون في إسرائيل يسندون في العادة كل شيء يذكرونه إل سلطة ربانيين بارزين مرموقين كانوا قد سبقوهم. ولكن يسوع كان يتحدث بشكل مباشر فيعطي الكلمة الأخيرة والقاطعة بخصوص كل موضوع طَرَحَه. وهذا ما أذهل مستمعيه. هذه العظة كانت كمثل الفادن ١, تسبر كل ادّعاءاتهم بالبر. هل واجهوها بصدق أمام الله وأدركوا إثمهم وحاجتهم إلى مخلّص؟ لا يُقال لنا في النص, ولكن يمكن أن نكون متأكدين بأن كثيرين ذهبوا إلى بيوتهم يفكرون ملياً بالحقائق العظيمة التي بُسطت أمامهم.

عندما يعود ربنا ويُعلَن ملكوت الله بالكامل على الأرض, فإن المبادئ المُعلَن عنها في هذه العظة ستسود في كل مكان, إذ عندئذٍ سيصعد البر والتسبيح من بين كل الأمم (أشعياء ١٦: ١١). سيكون ذلك وقت تجدد الأرض (متى ١٩: ٢٨). إن الفرد عندما يتجدد (تيطس ٣: ٥), فإنه يُعطى قوة ليسلك أمام الله في القداسة والبر (١ يوحنا ٣: ٧- ١٠).

هل أقصى يسوعُ جانباً الناموسَ الأخلاقي أم انتقص من قيمته؟ لا لم يفعل. لقد أشار إلى ما كان يُقال في القديم والذي كان من مصدر إلهي وذا مصداقية وسلطان. ولكنه أضاف إليه أو فسَّره بأعمق معنى روحي له, لكي يفهم الناس تطبيقه الحقيقي. إن المبادئ الأخلاقية لا تتغير ولا تتبدل. إنها نفسها في كل زمان تدبيري. ولكن أولاد الله اليوم يُرفعون فوق الطاعة الناموسية المجردة من خلال المحبة للمسيح وتأثير الروح القدس الضابط.


١. - الفادن: (plumb-line ). أداة (مؤلفة من خيط في طرفه قطعة رصاص) يُسْبَر بها غور المياه أو تمتحن استقامة الجدار [فريق الترجمة] .