الأصحاح ٢

حفظ الملك

لقد تم التنبؤ عن المسيا بأنه سيأتي بالبركة للأمم وأيضاً لإسرائيل. إن سمعان الشيخ لخّص هذه الوعود عندما أعلن أن يسوع يجب أن يكون "نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" (لوقا ٢: ٣٢). إن الحادث المذكور أمامنا هو علامة أو دلالة على ذلك.

هناك أفكار وأساطير غير كتابية ارتبطت مع زيارة هؤلاء الحكماء الثلاثة (المجوس) القادمين من المشرق. خلافاً للصور التي نراها عموماً, فهم لا يُدعَون ملوكاً, بل مجوس, أي حكماء, الذين كرّسوا أنفسهم لدراسة المعارف القديمة. ولا شك أنهم كانوا على معرفة نوعاً ما ببعض النبوءات المحددة, مثل التي لبلعام على الأرجح (الذي كان من الشرق) ولدانيال, الذي كان سفره قد كُتِب جزئياً بالعبرية والجزء الآخر باللغات الكلدانية. علينا أن نتذكر أيضاً أن كل العهد القديم كان قد تُرجم إلى اليونانية منذ حوالي مئتي سنة, وهذه الترجمة, المعروفة باسم الترجمة السبعينية ( LXX ), كانت مُتاحة للدارسين في كل أرجاء العالم وكانت موضع دراسة, ولا شك, من قِبَل كثير من الطلاب الأمميين للمعارف الدينية المقدسة. ليس لنا الحق بأن نقول أنه كان هناك فقط ثلاثة من المجوس. لعلّ هذا تم الاستدلال عليه من خلال التقدمات الثلاث التي ذُكِرت (٢: ١١). وعلى الأرجح أيضاً أن محاولة رؤية زيارة هؤلاء كتحقيق للمزمور ٧٢: ١٠ هي وراء الفكرة بأنهم كانوا ملوكاً مشرقيين. ولكن المزمور ٧٢ من المفترض أن يتحقق في المجيء الثاني للمسيح.

نقرأ:

"وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاء الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ». حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: «ﭐذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ" (الآيات ١- ١٢).

إن الظروف المرتبطة بميلاد ربنا في بيت لحم, مدينة داود, نجدها في تفاصيل كبيرة عند لوقا. يكتفي متى بالقول أنه وُلِد في تلك المدينة في أيام هيرودس الملك. وهذا يعطينا تأريخاً لميلاد المسيح على أنه قبل التدوين المقبول عموماً بعدة سنوات. فقد وُلِد قبل الميلاد بأربع سنوات على الأقل. هذا السؤال, على كل حال, هو أحد الأسئلة التي قدّم لها المؤرخون الكثير من الأفكار والدراسة, ونظراً لأنهم لا يزالون مختلفين في تحديد التاريخ الدقيق بالضبط, فلا حاجة لنا لأن نناقشه هنا.

لقد علِم الرجال الحكماء (المجوس) بميلاد الملك الموعود عن طريق الإعلان الإلهي, ما لم يكونوا قد حسبوا زمن النبوءة العظيمة التي في دانيال ٩, ولذلك شعروا أنه كان حاضراً في إسرائيل. وإذ أرشدهم نجم, فإنهم جاؤوا يستعلمون عن المكان الذي يمكن أن يوجد فيه. كان سؤالهم: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟" وكانوا في غاية الذهول من موقف ذلك البائس الطاعن في السن الذي كان يتربع على العرش في ذلك الزمان- أحد أكثر الملوك شراً الذين حكموا البلاد. لقد دعا إلى اجتماع مع رؤساء الكهنة والكتبة, واستعلم منهم عن جواب لتساؤل الزوار المشرقيين. وبدون تردد دلّوه على النبوءة الواردة في ميخا ٥: ٢ حيث اقتبسوا من الترجمة السبعينية فقرؤوا: "وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ". لقد كانوا يعرفون الكتاب المقدس؛ ومع ذلك فإن الأحداث التي تلت برهنت أنهم كانوا على غير استعداد ليرحبوا بذلك الذي كانت الكتابات المقدسة تتحدث عنه.

أما هيرودس, وقد اعتزم في قلبه أن يُهلك الملك الطفل- إن كان قد ظهر فعلياً للتو- فقد تباحث مع المجوس عن زمن ظهور النجم الغامض للمرة الأولى؛ ثم طلب إليهم أن يذهبوا إلى بيت لحم, وإذا ما وجدوا الطفل, أن يعودوا إليه ويخبروه, لكيما يذهب هو أيضاً فيقدم الاحترام والإكرام له. وفي الواقع, كانت نيته العكس تماماً.

وإذ يقودهم النجم الذي عادوا يرونه من جديد وهم يغادرون أورشليم, لم يجدوا أية صعوبة في تحديد مكان البيت الذي كانت العائلة المقدسة تقيم فيه آنذاك. من الواضح أنه من الخطأ الافتراض أن مريم ويوسف مع الطفل كانوا لا يزالون في الإسطبل حيث وجدهم الرعاة. لقد كانوا الآن في مسكن أكثر ملاءمة. ولا شك أن أسابيع أو حتى أشهر كانت قد انقضت على ولادة يسوع.

وإذ رآه المجوس سجدوا له وقدموا له هداياهم التي كانوا قد انتقوها بعناية: الذهب, الذي يدل على الطبيعة الإلهية والبرّ؛ واللبان, الذي يُوحي بعطر كمال حياته البشرية؛ والمر, الذي يشير مُقدَّماً إلى موته الكفّاري. لقد راودت مريم أفكار كثيرة وهي ترى هؤلاء الحكماء المشرقيين يقدمون الإكرام والإجلال لابنها القدوس. لا يُذكَر يوسف هنا. ولعلّه لم يكن موجوداً خلال أولئك الغرباء. "إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ" أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَف الحكماء الثلاثة فِي طَرِيقٍ أُخْرَى.

منذ بداية طفولته، كان الطفل القدوس المسيح يسوع بطريقة خاصة تحت حماية الله، لأنه, ولو كان الله متجلّياً في الجسد, فإنه لم يكن معفياً من الآلام البشرية. لقد كانت الملائكة ترعاه وتحفظه منذ سنيه الأولى كحرس سماويين. لقد أعلنوا ولادته, تماماً كما تنبأ جبرائيل بتجسده, وكان الله قد أرسلهم ليفسّروا سر حالة مريم ليوسف؛ ومن ثم أعطوه تعليمات بخصوص كل خطوة كان عليه أن يتخذها لحماية مهمته المقدسة من انتقام هيرودس والآخرين الذين قد يَسعون لقتله قبل أن يحين الزمن المحدد. لقد خُلِقت الملائكة بالكلمة الأزلي, الابن, الذي صار إنساناً في ملء الزمان لأجل خلاصنا. لقد كانت مسرتهم أن يعلنوا مجيئه إلى العالم وأن يحرسوه وأن يخدموه في حياة الاتّضاع والخزي هنا على الأرض. لدى مغادرة المجوس كان الملاك هو الذي تحدث إلى يوسف في الحلم (وهذا يذكّرنا بحد ذاته بالطريقة التي كان الله يكشف بها غالباً عن إرادته للناس, كما في أيوب ٣٣: ١٤- ١٧). لقد أُمِر يوسف أن "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ", حيث سيبقى هناك حتى تأتيه تعليمات أخرى, وذلك من أجل حماية الطفل من غضب هيرودس الذي كان عازماً على ألا يسمح لأحد بأن يعيش ممن يمكن أن ينازعوه على حقوق عائلته في سيادة العرش.

بناءً على أمر الملاك "قَامَ (يوسف) وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ". وكان على الله أن يؤمّن ملجأً هناك حيث ينمو الطفل القدوس في سلام وأمان. وبقيت العائلة, مع يوسف, في مصر إلى أن جاء خبر بأن هيرودس قد مات, "لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي»". هذه الكلمات كان قد قالها الرب على لسان هوشع (١١: ١) وكانت تشير بالأصل إلى إسرائيل كشعب. والآن كانت لتتحقق للمرة الثانية في ذاك الذي جاء ليفتدي إسرائيل. لقد نـزل, كما عائلة يعقوب, إلى مصر وأُخرِج منها في الوقت الذي شاءه الله.

إن رد فعل هيرودس على رفض الحكماء (المجوس) العودة إليه بخبر كان رهيباً. ففي حمأة غضبه وحنقه, أمر بذبح كل الأطفال الأبرياء بعمر سنتين وما دون, الذين كانوا في بيت لحم, آملاً بذلك أن يُهلك ذاك الذي وُلِد ليكون ملك اليهود.

"حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ". و"إرميا" هي ترجمة للكلمة اليونانية ( Jeremiah ). النبوءة المُشار إليها توجد في ٣١: ١٥: "«صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا»". بالأساس, هذه الكلمات يبدو أنها تشير إلى محنة الأمهات في اليهودية عندما سيُؤخذ أولادهم إلى السبي. ولكن المقطع يناسب أكثر وعلى نحو أكمل أن يعبر عن حزن أولئك الأمهات في بيت لحم اللواتي ذُبح أطفالُهن الرّضّع بلا رحمة. غالباً ما نجد في الكتاب المقدس هكذا تطبيقات ذات وجهين.

"فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ". ففي الوقت المحدد المعين جاءت كلمة إلى يوسف في حلم كما في السابق عبر زائر إلهي قائلة: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ". لقد كانت الطريق سالكةً الآن أمام الطفل يسوع وأمه ليعودوا إلى أرضهم. فقد مات هيرودس, والآن سيكون عليه أن يقدّم حساباً أمام الله عن حياة الجريمة والقسوة التي عاشها. فقام يوسف, و"أَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ". إن طاعة يوسف لكل رسالة من الملاك لافتة للانتباه وجديرة بالثناء. فقد كان يُذعن, وبدون طرح أسئلة, وفي الحال، لكل أمر كان يُعطى له، بهذه الطريقة الفائقة الطبيعة. لا نعرف إلا القليل عن حياة وخبرة هذا الرجل, الذي كان قد اختير ليكون الأب المربّي ليسوع, ولكن من هذا القليل الذي نعرفه ندرك أنه كان مطيعاً جداً لكلمة الرب. إنه يعطينا مثالاً ثميناً قيّماً أعظم ما يمكن عن الطاعة المطلقة لمشيئة الله, حتى تحت وطأة أشد الظروف صعوبة وتعقيداً وإرباكاً.

"وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ". كان هيرودس قد قتل معظم ذريته أنفسهم, ولكن أرخيلاوس سُمح له بالعيش, وكان يرغب بإعطاء المُلك له. لقد كان يوسف يخشى أن يكون هذا فاسداً شريراً كمثل أبيه الأثيم الرديء؛ ولذلك فقد تردد أن يضع عائلته الصغيرة تحت سلطة ورحمة ذلك الملك. ولكن الله، ومن جديد، وجّهه إلى الطريق السليم، إذ ظهر له في حلم وحذّره من الاستقرار في اليهودية, وحثّه على أن يعيش مُتنحّياً في "نَوَاحِي الْجَلِيلِ", "وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ". من إنجيل لوقا نعلم أن مريم كانت تعيش في الناصرة عندما ظهر لها الملاك جبرائيل لأول مرة (لوقا ١: ٢٦). وكان يوسف أيضاً يعيش هناك, ومن هذه المدينة انطلق كلاهما في الرحلة إلى بيت لحم, حيث وُلد يسوع (لوقا ٢: ٤). لذلك فقد رجعوا إلى بلدتهم الأم السابقة, وهناك نما يسوع وترعرع من الطفولة إلى الرجولية. وبسب إقامته هناك فقد دُعي ناصرياً, هذا الاسم الذي كان وثيق الصلة مع الكلمة العبرية ( Netzer ) , والتي تعني "غصن" كما في زكريا ٦: ١٢, ونصوص كتابية أخرى. من ناحية أخرى قد تعني الكلمة أيضاً "المفروز" أو المنذور, كما في العدد ٦: ٢, لأن يسوع كان المنذور الحقيقي, المفروز لله منذ ولادته. من الواضح أن مدينة الناصرة أخذت اسمها من الكلمة ( Netzer ) , وعلى الأرجح بسبب نوع خاص من الأشجار أو البراعم التي كانت توجد في تلك المنطقة. ومن هنا, فقد كان يسهل ربط اسم "الناصرة" بالنبوءات المتعلقة بيسوع,  غصن أو برعم الرب (أشعياء ٤: ٢), وغصن من أصل داود (أشعياء ١١: ١).  ولكن بما أن هذا الاسم قد أُطلق على يسوع من قِبَل أعدائه, فقد كان تعبيراً يدل على التوبيخ والتحقير- أما المسيحيون الأوائل, فقد تبنّوا هذا المصطلح بيسر وافتخروا به (أعمال ٢٤: ٥).