الأصحاح ٢٢

الملك ومناوئيه

في هذا المَثَل المدهش اللافت الذي تحدّث فيه ربُنا إلى أهل أورشليم مع دنو نهاية خدمته، قبيل خروجه إلى بستان جثسيماني ومن هناك إلى قاعة المحكمة والصليب، أعطى رؤوس أقلام تدبيرية عن طريقة تعامل الله مع الناس في هذا العالم. إنه مَثَلٌ آخر عن ملكوت السموات. إنه يتعلق بموضوع الاعتراف، ويخبرنا عما سيجري خلال فترة غياب الرب.

"وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لاِبْنِهِ وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ! وَلَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ وَﭐلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَامْتَلأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لاَبِساً لِبَاسَ الْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ»" (الآيات ١- ١٤).

"يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لاِبْنِهِ". إن "الانسان الملك" هو الله؛ والابن هو المسيح نفسه؛ والعرس هو اتحاد المؤمنين بالمسيح, أولئك الذين يضعون إيمانهم فيه ولذلك فهم متحدون معه. إن عشاء العرس هو وليمة الإنجيل بالفعل- وليمة الأشياء السارة التي أعدَّها الله لكل الذين يقبلون دعوته الكريمة. ولكن لاحظوا, الوليمة أعدّها الله لأجل مسرّة ومجد ابنه المحبوب. الفكرة كانت في قلب الله, وعبّر عنها بأن أرسل الرب يسوع المسيح إلى العالم ليخلّصنا من خطايانا. نقرأ أن الملك "أَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا". هذه الدعوة الأولى كانت للخراف الضالة من بيت إسرائيل, داعيةً إياهم إلى وليمة العرس التي كان الملك قد أعدَّها. وقد رفضوا الدعوة الكريمة. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يوحنا ١: ١١).

لطالما طرح يهودٌ السؤال التالي: "إن كان يسوع هو المسيح حقاً, كما تقولون أنه هو, فلماذا كان بنو إسرائيل يتألمون طوال تلك السنوات بدلاً من أن يُبارَكوا؟" والجواب هو: لقد جاء ليخلّص بني إسرائيل, ولكن عندما رفضوه امتدّت الدعوة إلى الأمميين, لقد أرسل الملك خدامه ليدعوا شعب إسرائيل؛ لقد تلقوا دعوةً إلى العرس, ولكنهم أبَوا أن يأتوا. قال يسوع: "لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ" (يوحنا ٥: ٤٠). سوف لن يدخلوا ولن يشاركوا في الوليمة التي بُسِطَت. أن يقبَلَ المرء الدعوة يعني أن يضع ثقته ورجاءَه في المسيح نفسه.

في الآية التالية نقرأ: "فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ!". لاحظوا الآن, هذه الدعوة الثانية, وهي دعوةٌ ملحّةٌ جداً موجهة إلى نفس الناس, تقول لهم أن الأمر وجِّه إليهم بأن الوليمة قد أُعِدَّت. ومع ذلك يظلّون رافضين لأن يأتوا. فقال الملك: "اذهبوا ثانيةً وادعوهم". بعد أن صَعِد الرب يسوع إلى السماء نجد بطرس والتلاميذ الآخرين, في الأصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل, يناشدون بني إسرائيل ليتوبوا عن رفضهم للمسيح ويعودوا إليه ويؤمنوا به, معترفين به مخلِّصاً لهم. لقد قبِلَه البعض, ولكن الغالبية العظمى رفضوه بازدراء, واضطهدوا خدّامه فعلياً. ونقرأ: "لَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ". هل هناك خطأ في أن يمتلك المرء مزرعةً؟ وهل من خطب في أن يكون تاجراً؟ لا أبداً على الاطلاق؛ ما لم تُبقيك خارج السماء. إن كنت منشغلاً جداً بمزرعتك, أو مأخوذاً جداً بتجارتك حتى أنك لا تستطيع أن ترفع ناظريك عن الأرض, فعندها يكون هناك شيء خطأ فادح في ذلك. إن الأشياء التي تكون ملائمة بحد ذاتها قد تصبح خاطئة إن وضعناها في مكان المسيح أو الإنجيل. هؤلاء الناس الذين أتت إليهم الرسالة قالوا: "لدينا أشياء أخرى كثيرة علينا أن نهتم بها: لدينا مزارعنا لنعمل بها, وبضاعتنا لنتاجر بها. لا نستطيع أن نلبي دعوة الملك". ونقرأ: "ﭐلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ". كان هناك بعض الناس الذين كانوا غير مبالين, وآخرون كانوا مخاصمين تماماً. وهؤلاء قتلوا فعلياً الخدام. حتى في تلك الأيام الباكرة قُتِلَ مئات من شعب الله العزيز على يد أولئك الذين رفضوا رسالته.

قد يقول قارئ وهو يرى هذا: "حسناً. أنا لست ضد المسيح؛ ليس لديَّ شيء ضد الكنيسة, ولا شيء ضد المسيحية. المسألة فقط هي أنني غيرُ مهتمٍ في الواقع. لديَّ أشياء كثيرة أخرى تشغل فكري". إنك في الواقع كمثل الفئة الأولى- أولئك الذين "مَضَوْا وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ". وآخرون قد يكونون مُعادين للمسيح. ولكن لاحظوا هذا: كلا الفئتين أخفقتا في تلبية الدعوة إلى وليمة العرس. سواء كان المرء غير مبالٍ ببساطة أو ضد المسيح فعلياً أو ضد إنجيل الله, فإن النهاية ستكون نفسها. السؤال نجده في (عبرانيين ٢: ٣): "فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هَذَا مِقْدَارُهُ"، ولا نجد جواباً عليه. ليس من الضروري أن تكون معارضاً أو مقاوماً للمسيح حتى تكون ضالاً خاسراً إلى الأبد. وليس من الضروري أن تقول بشكل قاطع محدد: "أنا أرفض يسوع". مجرد إهمالك أو تجاهلك له سيمنعك من الحضور إلى الوليمة. "إن طريق التواني يقود إلى بيت الرفض". قد تقول: "يوماً ما عندما تكون الظروف مختلفة سوف أفكر بنفسي". ولكن للأسف بينما أنت تنتظر فرصة ملائمة أكثر، تأتي نهايةُ الحياة, وتجد نفسك مُغلَقاً عليك في الظلمة إلى الأبد.

في الآية التي تلي نقرأ: "فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ". بعد أن رُفِضَ المسيح وصُلِبَ, بقي الله منتظراً لمدة أربعين سنة على شعب إسرائيل ليتوبوا, ولكنهم لم يفعلوا. ثم أرسل جنوده. جنوده؟ نعم. إنه رب الجنود؛ وهو إله الجنود. وعندما كانت أمةٌ تُخطئ تجاهه إلى درجة أن يتعامل معهم بدينونة, كان يرسل جيوشه من أناس آخرين لِيُنـزل حكم قضائه عليهم. في هذا المثال، كانت الجيوش الرومانية هي التي سمح الله لها أن تغزوا الأرض وتدمّر أورشليم. الدمار النهائي لتلك المدينة كان تحقيقاً لكلمات الرب يسوع: "لاَ يُتْرَكُ هَهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!" (متى ٢٤: ٢).

إن الآب يفكر كثيراً بابنه حتى أن الناس عندما يرفضونه متعمدين ويرتدون ويزدرون به, فإن سُخط الله يُثار. في تعاملاته مع إسرائيل هو الذي جعل أورشليم تُدمَّر, وبعثرَ الناس منذ ذلك الحين في كل أرجاء الدنيا. لقد أظهروا أنهم غير مستحقين للحياة الأبدية.

هل ستكون قاعة الطعام فارغة عند الله؟ ألن يكون هناك أحد يَقبَل دعوته ويكون حاضراً لأجل مجد ابنه؟ لا. إن الله سيرى أن وليمة العرس لابنه قد امتلأت بالضيوف, وسيجدهم في الأماكن غير المحتملة. ونقرأ: "ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ". والآن نرى الإنجيل يخرج إلى الأمميين. لقد حَظِيَ بنو إسرائيل بفرصتهم؛ لقد تلقوا دعوة إلى الوليمة, ولكنهم رفضوا قبولها. ولذلك يقول الله لخدّامه: "اخرجوا إلى التخوم والطرقات؛ اخرجوا وسط كل الفئات في كل مكان. مهما كانت حالة الناس, ومهما كانت نجاستهم, ومهما كانت درجة إثمهم وخطيئتهم, ادعوهم إلى وليمة العرس؛ ادعوهم ليأتوا". وهكذا نقرأ أن "خَرَجَ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَامْتَلأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ". إنها صورة حيوية موحية تدل على ما حدث بعد خراب أورشليم. لقد مضى خدّام الله من مكان إلى آخر من أرض إلى أخرى من مدينة إلى أخرى، وذهبوا إلى أقصى أرجاء الأرض. لقد ذهبوا إلى كل مكان, يدعون الناس، الفقراء والبؤساء والضالين ليأتوا إلى وليمة العرس التي أعدَّها الله لابنه. كثيرون قَبِلوا الدعوة ولكن ما أكثر الأمميين الذين رفضوا المسيح وأبَوا أن يأتوا! هل أنت أحد هؤلاء؟ لعلّك وُلِدتَ في عائلة مسيحية وسمِعتَ الرسالة طوال حياتك. ولعلَّ الاسم الأول الذي تعلّمتَ أن تلفظه بعد أن تعلّمت أن تقول "بابا" و"ماما",كان اسم يسوع؛ ومع ذلك فأنت لا تزال غير مخَلَّص, ولا تزال في الخطيئة وبدون المسيح. يا لَلخطر الجسيم الذي أنت قابعٌ فيه, لأنه مكتوب في كلمة الله: "اَلْكَثِيرُ التَّوَبُّخِ الْمُقَسِّي عُنُقَهُ بَغْتَةً يُكَسَّرُ وَلاَ شِفَاءَ" (أمثال ٢٩: ١). والآن, إن الله ينتظر في رحمة ونعمة أن يُخلِّصكَ. الدعوة قائمة. أفلا تأتي؟ ألا تتخذ المسيح لأجلك؟ غداً قد يكون الباب مغلقاً.

بعض الناس يقرّون بأنهم قَبِلوا دعوة الإنجيل ومع ذلك فإنهم لا يؤمنون حقاً بالمسيح كمخلِّص لهم. ونقرأ: "فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لاَبِساً لِبَاسَ الْعُرْسِ". والآن بحسب العادات الشرقية تعلم أنه عندما يُقيم رجل عظيم وليمة زفاف لأحد أبناء عائلته, فإنه كان يمنح ثياباً خاصةً للضيوف ليلبسوها عندما كانوا يجلسون إلى مائدة الطعام. كان للجميع فرصة لأن يرتدوا لباس عرس. ولذلك اليوم يؤمِّن الله ثوب برٍ الجميع ملزمون بقبوله وارتدائه. لعلّك تقول : "لستُ مؤهلاً له وللسماء, ولستُ مؤهلاً لأن أُحصى بين المفديين". يا صديقي العزيز, لأنك غير مؤهل؛ لأنك خاطئ فإنك مدعو لأن تأتي وهو الذي يجعلك مؤهلاً. فهل تضع إيمانك بالمسيح مخلّصاً لك؟ "كل الأهلية التي يطلبها هي أن تشعر بحاجتك إليه". ولذلك فإن نقص الأهلية أو الاستحقاق لا مبرر له. عندما يأتي الخطاة في توبة, ويؤمنون بالمسيح, فعندها يُلبسهم رداء الخلاص, مع ثوب البر. هذا هو لباس العرس الذي يجعل المرءَ حسن الهندام واللباس في عشاء العرس.

كان هناك رجل واحد في هذه الوليمة أقرَّ بقبوله الدعوة, ولكنه لم يستفِد من لباس العرس. هذا الرجل كان مثل كثيرين من الذين يقولون اليوم: "لا أعتقد أني سيء جداً. أنا لست بحاجة إلى مخلّص؛ فأنا صالح بما فيه الكفاية كما أنا"- وهؤلاء أناس يثقون ببرهم الذاتي. نقرأ في رومية ١٠: ٣: "لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ اللهِ".

أستطيع أن أتصور هذا الرجل داخلاً. وكان هناك خدّام الملك يسلّمون ثياباً إلى الضيوف ما أن يدخلوا من الباب. ولكن عندما دخل هذا الرجل بالذات قال: "لا أعتقد أنني في حاجة إلى أن أزعج نفسي بهذا الثوب. فقد اشتريتُ لي ثوباً خاصاً ولا أعتقد أني في حاجة إلى شيء آخر؛ إني حسَن المظهر كما أنا". "ولكن الملك نفسه قد قدَّم هذا الثوب وهو يريد من الجميع أن يرتدوه". هذا ما قاله أحد الخدّام. فيصرُّ الرجل قائلاً: "آه, أنا لا أظن أن هذا سيشكل فارقاً في حالتي؛ الملك سيكون راضياً عني كما أنا". فيسمح له الخادم بأن يدخل. ويأتي الوقت عندما يتجمع الضيوف إلى المائدة. فيدخل الملك, وينظر إلى الضيوف. فيرى هذا الرجل بدون لباس العرس، ويسأله: "يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ". لقد قبِلَ الدعوة إلى الوليمة, ولكنه رفض رداء العرس الذي قُدِّمَ له بروح سمحة. إنه يشبه كثيرين ممن ينضمون إلى الكنيسة ولكن لا يقتبلون المسيح مخلِّصاً شخصياً لهم. هذا يُظهر ما سيحدث يوماً ما عندما ينظر الملك إلى الضيوف. سوف يسأله: "يا صاح, لماذا لست مرتدياً لباس العرس؟ كيف تجرأت على أن تأخذ مكانك بين هؤلاء الذين يعترفون بالإيمان بابني بينما أنت لم تُولد ثانيةً بالفعل؟ كيف تجرؤ على أن تنضم إلى جماعة مسيحية وأنت لم تخلُص بعد؟" هذا ما يعنيه المثل. وفي ذلك اليوم ما من أحد سوف يجرؤ على أن ينطق بكلمة اعتذار. آه, إني أتخيَّل قليلاً هذا الرجل كيف كان قبل قليل على استعداد تام بأن يشرح الأمور لخدّام الملك. لقد دافع عن نفسه حسناً, ولكن عندما جاء إلى مواجهة الملك كان صامتاً أخرس. لعلّك تستند إلى أعمالك الصالحة لخلاص نفسك؛ ولعلّك تطمئن إلى حقيقة أنك قد انضممت إلى كنيسة ما, وربما في طفولتك, وتعتقد أنك ستمضي إلى السماء؛ أو لعلّك تكون مستنداً إلى حقيقة أنك قد اعتمدت وأنك تشارك في سر العشاء الرباني, كما نسميه, أو أنك قد أصلحت حياتك, وما عدت تعيش بالطريقة التي اعتدت أن تعيش عليها؛ ولكن "لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤: ١٢)، سوى اسم يسوع.

لقد رفض شاول الطرسوسي في أحد الأيام لباس العرس. لقد كان يعتقد أنه كان مؤهلاً لله بدونه, وفكر أنه لم يكن في حاجة إلى المسيح؛ لقد كان لديه برٌ في ذاته. ولكن على طريق دمشق اكتشف أن كل برِّه كان مجرَّد أسمال رديئة بالية. لقد أمكنه أن يرى المسيح في المجد يجلس إلى يمين العزة الإلهية في السماء، فهتف قائلاً: "مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ". ذلك هو لباس العرس- بِرُّ الله بالإيمان, الذي يُقدَّم للجميع؛ ولكنه يُوضَع فقط على أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. هل أنت مُرتدٍ لباس العرس؟ إذا ما دخل الملك ليرى ضيوفه الليلة, هل سيقول لك: "يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟". عندها لن يكون لديك ما تقوله؛ وستكون ساكتاً. آهٍ, أليس من الأفضل لو أخذت مكانتك الحقيقية, في التوبة أمام الله واقتبال المسيح مخلّصاً لك؟ فلتعترفْ له الآن وقل "لمْ أُولَد من جديد". لا زلتُ في خطاياي رغم كل إقراري الديني؛ إني خاطئ ضائع ضال في حاجة إلى مخلّص". إن قمتَ بهذا الاعتراف والتجأتَ إليه, فإنه على استعداد لأن يخلِّصَكَ.

"حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ". هل تقول: "قد لا أكون من بين هؤلاء المُنتخبين"؟ إنك لن تكون كذلك ما لم تُلبّي النداء. إن الدعوة هي النداء. كم عدد المختارين؟ أولئك الذين يستجيبون للدعوة, أولئك الذين يقبلون عطيّة البر, أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. ملايين يُدعَون, ولكن آلافاً فقط يُختارون لأن الغالبية العظمى ترفض أن تأخذ الله بكلمته.

هل ستتخذ المسيح مخلِّصاً لك الآن؟ إنك مدعو؛ وستكون من بين المختارين المنتخبين؟ فهلا سلّمتَ قلبَك له؟ إنه ينتظر جوابك. إن ترفض فإنك تبقى البائس التعيس الذي لن يتوقع سوى الظلمة البرانية ليترقبها. هذا يعني أن تُبعدَ عن حضور الله في عقاب أبدي.

يبدو أن هذا المثل لم يؤثر على قلوب الكثير من الذين سمعوا الرب يسوع من ذوي القلوب التي قسّتها الخطيئة, وهذا أمر واضح مما يلي ذلك مباشرة.

"حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ». فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا" (الآيات ١٥- ٢٢).

إذ نقرأ هذه الآيات فإننا نتعجّب من الطريقة التي كشف فيها الرب رياء وخداع القادة والزعماء في يهوذا, الذين كانوامدققين في الشكليات ومهتمين بأدق تفاصيل العبادة, ولكنهم لم يعرفوا شيئاً من المحبة الإلهية التي تتدفق إلى نفوسهم. إن ذاك الذي هو الحق متجسداً كان في وسطهم؛ ومع ذلك فكل ما فعلوه هو أن يحاولوا أن يبقوه خارجاً, إن أمكن, معتبرين إياه منتهكاً لناموس الله, وتقاليدهم الخاصة, لكيما يُضعِفوا ثقة الناس به, وهكذا يجدون سوء معاملتهم له برفضهم إياه مبررةً. ولكنه أدار النور موجهاً إياه إليهم, مُظهِراً الشر الذي كانوا يحاولون أن يغطونه بعباءة أو قناع التديّن.

لقد فكروا في أنفسهم "كيف يصطادونه بكلمة". لم يكن هناك صدق عند هؤلاء القادة المتدينين. لقد حاولوا أن ينصبوا فخاً ليسوع, آملين أن يتهموه بجرمٍ ما بطريقة ما تجعل الناس يحتقرونه أو يشكونه إلى الحاكم على أنه متمرد على السلطة الرومانية.

"الهيرودوسيين". هؤلاء كانوا يشكلون حزباً مؤيّداً للرومان ضمن اليهودية, وكانوا مرتشين وفاسدين وذوي فكر دنيوي بالكلية. هؤلاء كانوا قد انضموا إلى الفريسيين المُدّعين للتقوى, وجاؤوا ليوقعوا بيسوع. "يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ". لقد كانت محاولة ماكرة للإطراء على الرب يسوع ولإغوائه إلى قول شيء يمكن أن يستخدموه ضده.

"أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟". كان هذا السؤال موضع نقاش طويل في يهوذا. وكان الفريسيون يجيبون عليه عموماً بالنفي, والهيرودوسيين بالإيجاب, رغم أنهما كليهما كانا مطيعين للناموس.

"فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ". لقد "كان يعرف ما في الإنسان" (يوحنا ٢: ٢٥؛ ١٦: ٣٠)، فاشتمَّ في الحال رائحة النفاق والرياء عند هؤلاء السائلين الماكرين المخادعين.

"أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ". ما كانت تُستَخدم العملات الفلسطينية اليهودية لأجل هذه الغاية، بل عملة رومانية خاصّة كانت أعظم قيمة بكثير.

"«لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟»". هذه العملات كانت تحمل صورة الإمبراطور واسمه ومقامه الرفيع محفورين باللغة اللاتينية.

"أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ". في هذه الكلمات أجاب يسوع بشكل محدد عن سؤالهم بأن أظهر لهم أن شعب الله مسؤولٌ أمامه في الأمور الروحية, ولكن يجب أن يطيعوا السلطات في الأمور المدنية والوطنية.

"فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا". لقد أدركوا الصواب والحكمة في جوابه, ولكنهم لم يضمروا أية رغبة لأن يصبحوا تلاميذ له. لقد ابتعدوا عنه متعمدين وذلك سعياً منهم لتحقيق مكائدهم.

أن نشدّد على الجزء الأول من كلمات يسوع: "أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ"، بينما ننسى الجزء الأخير القائل: "مَا لِلَّهِ لِلَّهِ"، هو أن نُضِلَّ الحقيقة التي كان يؤكد عليها كلياً. هل نحن مهتمّون لموضوع الولاء لله على نفس مقدار اهتمامنا بالولاء للبلاد التي ننتمي إليها والحكومة التي نعيش تحت كنفها؟

أما الذين يأتون بعد ذلك فهم الصدوقيّون الماديون الذين يحاولون أن يضعوا يسوع في موقف معارض لناموس موسى، وأن يوقعوه في شرك النقاش حول إمكانية قيامة الأموات بالجسد.

"فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَاءَ إِلَيْهِ صَدُّوقِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ فَسَأَلُوهُ قَائِلين: «يَا مُعَلِّمُ قَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ أَحَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَوْلاَدٌ يَتَزَوَّجْ أَخُوهُ بِامْرَأَتِهِ وَيُقِمْ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ عِنْدَنَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ وَتَزَوَّجَ الأَوَّلُ وَمَاتَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ تَرَكَ امْرَأَتَهُ لأَخِيهِ. وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إِلَى السَّبْعَةِ. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً. فَفِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنَ السَّبْعَةِ تَكُونُ زَوْجَةً؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ. لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ القَائِل: أَنَا إِلَهُ إِبْراهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ. لَيْسَ اللَّهُ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ». فَلَمَّا سَمِعَ الْجُمُوعُ بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ" (الآيات: ٢٣- ٣٣).

هناك تساؤلات حول إذا ما كان هناك حادث, أو سلسلة من الأحداث, قد حدثت فعلاً على الشكل الذي ظهر فيه هؤلاء الرجال أمام يسوع. قد تكون القصة بأكملها مُتخيَّلة, وقد وضِعَت للسخرية من عقيدة القيامة. فبحسب ما ذكروه، امرأة كانت زوجة على التتالي مع سبعة إخوة. كل واحد كان يقترن بها بعد موت أخيه الأكبر سناً منه. وأخيراً يُقال أن المرأة قد ماتت, بعد أن عمَّرت بعدهم. والسؤال الذي طرحوه هو عمن سيكون زوجاً لها في القيامة؟ لا شك أن هذا بدا سؤالاً لا جواب له بالنسبة لأولئك الناكرين الماكرين لحقيقة الحياة بعد الموت والقيامة الأخيرة. لقد وضعوا هذا السؤال ليُظهِروا تفاهة عقيدة الفريسيين التي كانوا يحسبون في أنفسهم أنهم أعلنوا أنها صحيحة فيما يتعلّق بهذا الموضوع المطروح (القيامة).

ولكن الرب أجابهم بطريقة ليُسكِتَ اعتراضاتهم, وذلك مقطع من الكتاب المقدس الذي كان يعترفون به على أنه موحى به, ألا وهو التوراة, أو الأسفار الموسوية الخمسة. لقد أعلن أن سؤالهم يستند إلى جهلهم بالكتابات المقدسة وبقدرة الخالق الكاملة غير المحدودة.

ثم أوردَ كلمات الرب (يهوه) لموسى عندما أعلن عن نفسه في العلّيقة التي كانت تلتهب ولا تحترق: فقد قال الله آنذاك: "ثُمَّ قَالَ: «أنَا إلَهُ أبِيكَ إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَاقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ»" (خروج ٣: ٦). فهو لم يَقُل: "أنا كنت إله هؤلاء البطاركة (الآباء) بينما كانوا يعيشون على الأرض". بل كان إلههم في الوقت الذي تحدث فيه إلى موسى، بعد قرون. إنه ليس إله أموات (أي, أناس اندثروا كلياً بالموت) بل إله الأحياء, لأن الجميع (وحتى لو كانوا قد ماتوا بالجسد) يعيشون له. وهذا يشمل بالضرورة قيامةً مستقبلية, لأن الله كان قد قطع وعوداً لإبراهيم واسحق ويعقوب الذين لم يُنفذ الوعد لهم خلال حياتهم على الأرض, ولكنه سوف يحقق وعده عندما يقومون ثانيةً من الأموات.

وعلى هذا لم يكن لدى الصدوقيين أي جواب, وبُهِتَت الجموع المحتشدة التي كانت تستمع إلى الطريقة التي أبكم بها يسوع أولئك الذين يُفترض أن يكونوا لاهوتيين أذكياء ماهرين.

والآن جاء دور الفريسيين ليستجوبوا يسوع. والسؤال الذي طرحه الناطق بلسانهم كان عدائياً في طابعه. لقد كان قد طُرِحَ لاستجرار الرب لكي يروا كم تتقاطع تعاليمه مع تلك التي في ناموس موسى, أو فيما إذا كانت تتعارض معه. 

"أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ أَبْكَمَ الصَّدُّوقِيِّينَ اجْتَمَعُوا مَعاً وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ نَامُوسِيٌّ لِيُجَرِّبَهُ قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَﭐلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ»" (الآيات: ٣٤- ٤٠).

"أَبْكَمَ الصَّدُّوقِيِّينَ". لقد أخرس يسوع هؤلاء الماديين بتعليمه عن قيامة الموتى التي كان الصدوقيون ينكرونها والفريسيون يؤمنون بها.

"سَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ نَامُوسِيٌّ لِيُجَرِّبَهُ". من الواضح أن هذا الرجل كان خبيراً بناموس موسى, وكان يسعى إلى تشويش وإرباك يسوع بطرح سؤال لطالما تجادل حوله الكثير من المسؤولين اليهود لقرون, بالنسبة إلى الأهمية النسبية لكل وصية من الوصايا العشر.

"تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ". لقد أجاب يسوع بأن اقتبس من تثنية ٦: ٥. إن كان الله محبوباً للغاية فما من أحد سوف ينتهك أياً من وصاياه. وهذا يشمل بشكل خاص اللوح الأول من الناموس, الذي يحدد واجب الإنسان تجاه الله.

"الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى". أن تنتهك هذه, إذاً, في التدبير الناموسي, هو أعظم من كل الخطايا.

"تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". لقد كان هذا اقتباساً من تثنية ١٩: ١٨، ويغطي كل اللوح الثاني، لأن "اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ" (رومية ١٣: ١٠). فمن يحب البشر على هذا النحو سوف لن ينتهك أي ناموس أو قانون له علاقة بحقوق الآخرين (رومية ١٣: ٨، ٩).

"بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ". حيث تسود المحبة فكل شيء آخر سيكون كما يجب, لأنه ما من أحد يحب الله حقاً وقريبه سوف يُسيء عن عمد لأي منهما (متى ٧: ١٢). إن كل الناموس والأنبياء يتعلقان بهاتين الوصيتين اللتين ذكرهما يسوع, لأن كل خطيئة قد نرتكبها هي إما خطأ بحق الله نفسه أو بحق إخوتنا البشر. إن الخلاص المُقدَّم لنا هو كفّارة بالدرجة الأولى, أو ذبيحة استرضائية, للتعويض عن كل خطايانا, ثم يُمكّننا التجديد من أن نحب الله وقريبنا لدرجة نتوقف معها عن ارتكاب الخطيئة.

عندما يكون القلب في وضع سليم مع الله, ويكون الله موضع محبة فائقة, فإن الإنسان نفسه سوف يكون محبوباً بطريقة لا أنانية فيها, وهكذا تصبح كل الحياة مرتّبة في طاعة للكلمة الإلهية. المحبة تبتهج بخدمة المحبوب, وبالتالي تحفظ من كل ما يُحزن الله أو يؤذي قريب المرء. ولكن ما من إنسان طبيعي قد حقق الناموس على هذا النحو. إن الأنانية المتأصِّلة في طبيعتنا نفسها تجعل هذا الأمر مستحيلاً. عندما نتجدد بالنعمة الإلهية, فإن محبة الله تشرق في القلب بالروح القدس (رومية ٥: ٥). إن تعليم ربنا كان بغاية أن يُدين الخطيئة وأن يُظهر الحاجة إلى التجدد. لقد صار الإنسان مقصيّاً عن الله من خلال السقوط. وعندما يُولَدُ من جديد بالكلمة والروح القدس, فإنه يتلقى حياةً أبدية. إن طبيعة هذه الحياة الجديدة هي أن تحب, لأنها من الله (٢ بطرس ١: ٤). ولذلك فإن المحبة تصبح المبدأ المسيطر على حياة الإنسان في المسيح. وإذ نسلك ليس بحسب الجسد بل بحسب الروح, فإن بر الناموس يصل إلى تحقيقه فيه (أي في المسيح) (رومية ٨: ٤), ويجد أنه من السهل أن يحب المرء الله وقريبه كما كان يجد سابقاً أنه من السهل أن يُحب بدافع الأنانية والإرادة الرديئة نحو الآخرين. إن قوة جديدة تسيطر عليه. وهذا هو الدليل الإيجابي على الولادة الجديدة (١ يوحنا ٣: ١٤؛ ٥: ١, ٢).

إذ أجاب يسوع على كل الأسئلة المطروحة عليه, فإنه قلَبَ السحر على الساحر, فأربك خصومه عندما سأل طرفين منهم:

"وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ﭐبْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً" (الآيات: ٤١- ٤٦).

"«مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟»". هذان السؤالان لن يموتا أبداً. فبعد حوالي عشرين قرناً منذ طرَحَهُما يسوع لا يزالان يُقلقان الناس, ولا يزالان يتطلبان إجابات صادقة من كل إنسان تأتي إليه رسالة الإنجيل. لأن ذلك الإنجيل يتعلق بذاك الذي هو ابن الله وابن داود (رومية ١: ١- ٤). بحسب الكتابات المقدسة, المسيح- أي المسيا, ملك إسرائيل الموعود- كان أكثر من مجرد إنسان. "مَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ". هكذا أعلن ميخا عندما تنبأ عن المكان الذي سيُولَد فيه (المسيح) (ميخا ٥: ٢). بحسب المزمور الثاني يعترف به (يهوه الرب) على أنه ابنه. نصوص كتابية كثيرة تشهد على نفس الأمر- وهي الكتابات المقدسة التي كانت معروفة لأولئك الفريسيين. إن الفريسيين, متجاهلين المقاطع التي تشير إلى أبوته الإلهية, أجابوا قائلين: "ابن داود".

لقد كان هذا حقيقياً, ولكن لم يكن هو كل الحقيقة. ولذلك لفَتَ يسوع انتباههم إلى المزمور ١١٠ حيث يتحدث داود نفسه عن المسيا على أنه ربه (قائلاً): "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ". من المعروف جيداً أن كلمة "الرب" في العهد الجديد هي من كلمة "يهوه" التي في العهد القديم، وأن الكلمة الأخرى التي تشير إلى الرب تعني "المعلم". وهكذا فإن داود, وإذ كان ينظر مسبقاً بالروح إلى تمجيد وتعظيم ابنه يراه جالساً على يمين الله (يهوه), ويعترف به رباً له. كيف يمكن تفسير ذلك؟ لم يكن لدى الفريسيين أي جواب, ولم يجرؤ أحد بعد ذلك أن يسأل يسوع أية أسئلة أخرى.

إنه أمر رهيب أن يكون المرء مصمماً للغاية على أن يسلك الطريق التي يرفض القلب فيها أن ينحني أمام أوضح كلمات واردة في الكتاب المقدس.