الأصحاح ١٣

أسرار الملكوت

يقدّمُ لنا هذا الأصحاح إعلاناً جديداً عن تقديم حق الملكوت. لقد رأينا في الفصل السابق كيف أن قادة الشعب في إسرائيل قد تجاوزوا الخط الأحمر، ورفضوا الملكوت المقدَّم برفضهم المتعمد لتصديق جميع أوراق اعتماد الملك. لقد نسبوا قوته وقدرته (التي ما كانوا يستطيعون إنكارها) إلى بعلزبول، وهكذا ارتكبوا خطيئة ضد الروح القدس لا يمكن أن تُغتفر، سواء في هذا الدهر أم في الدهر الآتي. وهذا ما أدى في نهاية الأمر إلى تنحية إسرائيل في الوقت الراهن، ودخول نظام جديد للأشياء كان الله قد تنبأ عنه منذ الأزل، ولكن ما كان قد أُعلِن حتى ذلك الوقت. واشتمل هذا بامتلائه على إعلان سر الكنيسة كجسد واحد مدعو ليتشكل من اليهود والأمميين، هذا السر الذي ما كان قد كُشِفَ بعد. ولكن تمهيداً لذلك تكلم يسوع عن أسرار أخرى كانت قد بقيت مخفية منذ تأسيس العالم، ألا وهي أسرار ملكوت السموات.

من هذه النقطة فصاعداً، في إنجيل متى، المصطلح "ملكوت السموات" يشير بشكل محدد، ليس إلى التأسيس النهائي لملكوت الله على كل الأرض، بل إلى الشكل الأسراري، أو بالأحرى الروحي الذي سيتجلى فيه ذلك الملكوت بعد أن يكون الملك نفسه قد عاد إلى السماء، وحتى مجيئه الثاني بالقوة والمجد ليستأصل من ملكوته كل الآثام ويُهلِك كل من يصنع الإثم.

ولدينا رؤؤس أقلام أو مخطط عن هذا في الأصحاح الحالي. ففي هذه الأمثال يُبين ربنا الحالة التي رأى فيها الملكوت على الأرض بنتيجة رفضه. كان هذا كله معروفاً مسبقاً لدى الله وكان التدبير قد أُُعِدَّ له. فالمسيح، وقد رفضه قادة الشعب في إسرائيل، صار كفارةً عن الخطية بموته الكفاري على الصليب (أعمال ٢: ٢٣؛ ١ يوحنا ٤: ١٠)، ومن ثم، وكإنسان مرفوض، ترك هذا العلام، وصعد إلى السماء حيث يجلس ممجداً إلى يمين الله. إن ملكوت الأنبياء معطل أم ومعلق إلى حين عودته الموعودة ليقيم خيمة داود المتهدمة (أعمال ١٥: ١٦)؛ ولكن خلال فترة غيابه شخصياً، أتى الروح القدس بشكل جديد كمعزي، ليمكِّن خدَّامه من أن يكرزوا بالكلمة بقوة إقناع شديدة (يوحنا ١٦: ٧- ١١). حيث يُبشر بالإنجيل تكون بذرة الملكوت (لوقا ٨: ١١). وبنتيجة ذلك فإننا في العالم اليوم جسداً (مجموعة) ضخمة من الناس الذين يُقرِّون بالرب يسوع على أنه ملكهم الشرعي، ويقدمون له الولاء. وهناك ملايين يكرمونه بشفاههم ويعترفون ظاهرياً بسلطانه عليهم، رغم أن قلوبهم بعيدةً عنه. هؤلاء جميعاً يشكلون الملكوت بشكله الروحي الأسراري (الآية ١١).

لقد كان الملكوت الذي وعد الأنبياء به إسرائيل يعتمد على اقتبال الشعب المختار للملك. وبرفضهم له خسروا فرصتهم، ولذلك فقد أُخذ الملكوت منهم (متى ٢١: ٤٣). عندما يعودون إلى الرب، سيظهر في المجد، وسيتحقق كل ما كُتِبَ عن الملكوت. خلال هذه الفترة، وبينما تُعلن كلمة الملكوت، ستنشأ مجموعة مختلطة تقرُّ باعترافها بسلطان الرب يسوع. وهذه تشكل الملكوت في شكله الروحي الأسراري. إن مجاله أوسع من الكنيسة، إذ أن الكنيسة تشمل المعترفين الحقيقيين والمزيفين. والفصل بين المجموعتين سيحدث في نهاية الدهر، بعد أن يتأسس ملكوت ابن الإنسان على كل الأرض.

يمكن تحديد الأمثال السبعة كما يلي:

١- بذرة الملكوت مغروسة في الأرض ونتائجها.

٢- التزييف الشيطاني: الزؤام وسط القمح.

٣- الملكوت في كنيسة عظيمة عالمية النطاق تشتمل على الأخيار والأشرار أيضاً.

٤- الكنيسة الزائفة تُقحم خمير التعاليم الفاسدة في طعام شعب الله.

٥- إسرائيل، كنـز الله، مقصياً في العالم ومتلاشياً بين الأمم في الدهر الحاضر.

٦- الكنيسة اللؤلؤة التي أخلى الرب نفسه من أجلها (٢ كورنثوس ٨: ٩).

٧- حالة الأشياء في نهاية الدهر.

إذ نضع رؤوس الأقلام هذه في أذهاننا دعونا نتفحص كل مثل على حدة. لاحظوا أن السلسلة مقسمة إلى أربعة أمثال تكلم بها الرب في الهواء الطلق قرب الشاطئ وثلاثة أمثال أعطاها الرب للتلاميذ وحدهم بعد أن دخلوا إلى البيت.

"فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ. وَالْجَمْعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى الشَّاطِئِ. فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: «هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلَكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع" (الآيات ١- ٩).

إن المثل الأول من هذه السلسة السباعية لا يتم الحديث عنه على أنه شبه للملكوت، كما في حالة الأمثال الستة الأخرى. بل إن الرب عندما شرح المثل لتلاميذه قال أنه قد أُعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، ولذلك فقد طابق تحديداً زرع الكلمة بنشر الملكوت، بشكله الأسراري أو الروحي، في العالم. في الآية ١، تصرّفُ الرب، "خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ"، يبدو قطعياً. وهذا بحد ذاته يبدو وكأنه يشير إلى قطع العلاقة مع إسرائيل التي أشرنا إليها لتونا.

تجمَّع حشد كبير حوله، وهذا ما دفعه باتجاه المياه. فدخل إلى سفينةٍ، هي قارب صيد بطرس على الأرجح، التي يخبرنا لوقا أنها استُخدِمت مرة لهذه الغاية (لوقا ٥: ٣)؛ ومن هذه السفينة التي استخدمها كمنبر، خاطب يسوع الجموع الواقفين على الشاطئ. التلال في تلك البقعة المحددة كانت ترتفع بلطفٍ من الشاطئ، مشكلةً بذلك ميداناً طبيعياً في الهواء الطلق أو شبه مسرح، حيث أمكن للصوت أن ينتقل بسهولة إلى الحشود الكبيرة الواقفة على الشاطئ أو الجالسة على سفح التلة.

"هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ". الزارع في المثل الأول كان الرب يسوع نفسه. لقد كان ينتقل من مكان إلى آخر زارعاً بذرة كلمة الله. لا بد أن يكون مصدر تشجيع لجميع الذين يقومون بنفس العمل المبارك أنه عندما كان الواعظ الإلهي نفسه يخدم الكلمة كانت نسبة الذين تُثمِرُ الكلمة في قلوبهم تبلغ ٢٥%؛ وحتى في ذلك الحين كانت هناك درجات مختلفة في مقدار إثمار هؤلاء.

في الآيات ٤ إلى ٧ نقرأ عن التربة غير المخصبة التي وقع عليها الزرع- الطريق حيث التهمت طيور السماء الزرع حالما بُذِرَ. ثم الأرض المحجرة التي بدت لأول وهلة وكأنها ستأتي بثمار لأن الزرع بدأ يأخذ جذوراً، وطلعت البراعم الخضراء التي سرعان ما أحرقتها الشمس، لخيبة أمل الزارع. وبذار أخرى سقطت وسط الأشواك، التي سرعان ما خنقت الأغصان الغضة الطرية، فلم تأتِ بثمارٍ أبداً.

ذاك الذي وقع في الأرض الجيدة أطلع جذوراً، وأينع، وأعطى ثمراً: بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ. كان هذا هو المثل. لأول وهلة لم يُعطِ الرب تفسيراً تطبيقياً له، بل ترك للسامعين أن يزنوا كلماته وهو يقول: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع".

عندا سنحت الفرصة بعد انصراف الجموع، جاء التلاميذ إلى يسوع طالبين تفسيراً للمثل. وهذا ما أعطاهم إياه.

"فَتَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟» فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: «لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ. فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ. مِنْ أَجْلِ هَذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ القَائِلَة: تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ وَمُبْصِرِينَ تُبْصِرُونَ وَلاَ تَنْظُرُونَ. لأَنَّ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ. وَلَكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا. «فَاسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ الزَّارِعِ: كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هَذَا هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَﭐلْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ. وَﭐلْمَزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَهَمُّ هَذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. وَأَمَّا الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ" (الآيات ١٠- ٢٣).

من أجل أولئك الذين يؤمنون به ويثمنون كلماته كان الرب مستعداً دائماً لأن يفسر ويشرح أي شيء بدا صعب الفهم عليهم. رداً على سؤالهم: "«لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟»"، أجاب يسوع في الحال وقال: "قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ". الكلمة "أسرار" كما تُستَخدم هنا لا تعني بالضرورة شيئاً غامضاً, وبالتالي شيئاً يصعب فهمه، بل بالحري أسرارٌ تُكشَف فقط للأعضاء. لقد كان الرب على الدوام مستعداً ليقتبل ويأتمن الساعين الجادّين وراء الحقيقة. لقد استعمل أسلوب الأمثال لهدف مزدوج. فقد كان يرغب بأن يختبر مستمعيه، إن كانوا يرغبون حقاً في أن يعرفوا فكر الله أم لا، وأيضاً ليزخرف أحاديث. فحيث كان لدى الناس إيمان واقتبلوا شهادته إلى درجة معينة فقد كان مستعداً لأن يعطيهم المزيد؛ ولكن حيث لم يكن هناك إيمان حقيقي برسالته فإنهم كانوا سيرتبكون بأسلوب الأمثال الذي يستخدمه في التعليم أكثر مما لو تكلم بلغة بسيطة واضحة. ماحك البعض في ذلك، مُفترضين أن أسلوب الأمثال كان قد استخدمه الرب يسوع عن نية متعمّدة في أن يعمي عيني ويغلق أذني أولئك الذين كانوا يصغون إلى كلماته. ولكن الواقع أن العكس هو الصحيح. فأولئك الذين كانوا تواقين لمعرفة الحق كانوا سيأتون إليه كالتلاميذ، طالبين استفساراً وشرحاً لما هو وراء فهمهم وإدراكهم. أما أولئك غير المهتمين وغير المُبالين فكانوا سيتنحّون جانباً بدون اكتراث وتزداد لا مبالاتهم، بسبب عدم فهم معنى أمثلته التوضيحية. لقد اقتبس يسوع من نبوءة أشعياء (٦: ٩، ١٠) والتي تم التنبوء فيها عن نفس الطريقة. فلم تكن رغبة الله أبداً أن يقسي قلب أي أحد أو أن يغلق عيني أي أحد تجاه الحقيقة، بل إنه المبدأ الذي يسري في كل كلمة الله وذلك بأن الحقيقة إما أن تُلين أو تُقسّي. الشمس نفسها التي تلين الشمعَ تقسي الصلصال؛ وكذا نفس رسالة الإنجيل التي تخترق القلوب الصادقة وتقود إلى التوبة، تقسي قلوب الأشرار وتثبتهم في طريق عصيانهم.

لقد أعلن يسوع بركة على التلاميذ، لأنه كانت لديهم أعين للنظر وآذان للسمع. لقد كانت لهم مكانة وامتياز خاص. طوال القرون التي مضت أنبياء عديدون ورجال أبرار كانوا يتطلعون بالإيمان إلى مجيء المسيا، ولطالما تاقوا لأن يعاينوا ما كان أتباع يسوع آنذاك يرون ويسمعون من تعليم كذاك الذي كان يعطيه، ولكن لم يُتَح لهم ذلك. ثم شرع الرب بتفسير المثل. "كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ". هذا تفسير الزرع المتبعثر على الطريق الذي إنما تأكله طيور السماء. لاحظوا أن الرسالة تُدعى بشكل واضح "كلمة الملكوت"، فتوضح أنه بزرع الكلمة يشق الملكوت طريقه خلال العالم. وإن الشيطان وزبانيته منشغلون جداً وأبداً في محاولة إبطال تأثير الكرازة بالإنجيل. إن هدفهم الشرير هو أن يملأوا قلوب وأذهان المستمعين بالتحامل والمعارضة غير المعقولة لكيلا يزنوا أو يقدروا الرسالة كما تأتي من شفاه الكارز الواعظ؛ ولذلك فليس من تجاوب حسن من أي نوع. إن الكلمة التي تُسمَع بالأذن الخارجية فقط سرعان ما تُنسى.

في تغاير حيوي تصويري مع هؤلاء اللامبالين لدينا بعد ذلك المُستمعين في الأرض المحجَّرة. فهؤلاء يمثلون أولئك الناس الذين على استعداد دائم لأن يتأثروا بأي نوع من الدعاية الدينية، فيُصغوا إلى إعلانات الإنجيل وإيضاحاته بدون اقتناع عميق أو دليل على التوبة. إنهم يقرّون بالإيمان بالكلمة، ويقتبلونها ظاهرياً بفرح، ولكن بما أنه ليس لديهم عمق في أنفسهم، بل مجرد اعتراف فارغ وحسب، فإنهم سرعان ما يسقطون، وخاصة عندما يجدون أن طريق الحياة المسيحية ينشأ عنها ضيقة واضطهاد.

المستمعون ذووا الأرضية المحجرة هم أولئك الذين يظهرون في البداية وكأنهم يقبلون الرسالة، ولكنهم لم يحسبوا فعلياً تكلفة الإيمان بالمسيح. فتُعوزهم البساطة في الرؤية، ولديهم ازدواج في الذهنية، وهم منشغلون بهموم هذا العالم والسعي وراء الغنى؛ فالمسؤوليات المؤقتة المتعلقة بهذه الأشياء تخنق الكلمة، ولذلك فلا يُؤتون بثمر.

بتضاد مع هؤلاء جميعاً، لدينا المستمعين ذوي الأرض الخصبة، حيث التربة قد جُهِّزت بشفرة محراث الإيمان الراسخ؛ والكلمة التي تقع في القلب الصادق يتم تلقّيها بإيمان، وتُفهم الرسالة كما يكشفها الروح القدس. والنتيجة هي أن النفس تُولد ثانية، والحياة تصبح مثمرة لله. وعلى كل حال، فهناك درجات من الإثمار. فليس الجميع يُظهرون نفس البرهان على التكرس والإخلاص للمسيح ونفس الدرجة من إدراك الحق؛ ولذلك فإن الرب يتحدث عن أولئك الذين يثمر بعضهم مئة ضعف، وآخرون ستين، وآخرون ثلاثين ضعفاً فقط.

المثل الثاني قد تكلم به الرب تحديداً ليكون تشبيهاً لملكوت السماء. ما أشرنا إليه لتونا واضح جداً هنا: ملكوت السماء ليس السماء نفسها، ولا هو، كما اعتيد على فهم هذا الجزء من إنجيل متى، مؤسَّس على الملكوت المجيد الآتي لإلهنا ومسيحه عندما سيخضع كل العالم ليسوع كملك. إنه يدل على حالة مختلطة من الأشياء، كما ساد في العالم المسيحي منذ بدء الدهر الحالي.

الأشواك، والتي هي أولاد الشرير، ممتزجة مع القمح، الذين هم أولاد الله.

"قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضاً. فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى الْحَصَادِ وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي" (الآيات ٢٤- ٣٠).

هذا المثل يتم تفسيره وشرحه مرة أخرى في هذا الفصل. ما نحتاج إليه الآن هو أن نلاحظ حقيقة أن الرب كان يرسم حالة الأشياء عندما سيكون المعترفون والمؤمنون الحقيقيون متواجدين معاً. الفرق الكبير بين الاثنين هو أن أولئك المؤمنين الحقيقيين يؤتون بثمار؛ في حين أن الآخرين هم بلا ثمر، بل حتى أنهم ضارون أكثر منهم نافعون. إن الزؤان نفسه هو في الواقع سام وليس صالحاً للأكل. يقول يسوع: "جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً". ذلك العدو، كما نعرف، هو الشيطان. ولكن عندما جاء خُدَّام الناظر يسألونه إذا كان ينبغي أن يقتلعوا الزؤان، كان الجواب بالنفي. ليس قبل زمان الحصاد يكون الفصل الكبير.

المثل الثالث هو عن حبة الخردل:

"قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا". (الآيات ٣١- ٢٣).

ليس علينا أن نفهم من كلمات ربنا أن حبة الخردل هي الأكثر صغراً من جميع بذار مملكة النبات، بل إنها الأصغر حجماً بين بذار أعشاب الحقل؛ ومع ذلك عندما تنمو تصبح أعظم وأكبر البقوليات، فتعلو فوق كل الباقين، وهكذا تشكل ملجأً. ليس في التدوين الذي لدينا تفسيرٌ للمثل، بل إنه يسهل فهمه على ضوء الكتابات المقدسة الأخرى. إنه يتحدث عن تطور ملكوت السموات إلى سيادة عظيمة فوق العالم. هكذا سطوة كانت تُشبَّه غالباً بأشجار ضخمة ذات أغصان منتشرة ممتدة، كما في حالة بابل (دانيال ٤)؛ وآشور (حزقيال ٣١: ٣)، والسلطات الأخرى المشابهة. وهكذا فالتي بدأت كحقل حنطة تنامت، بمرور القرون، إلى شجرة خردل. كنيسة الله المعترفة صارت قوة يُحسب لها حساب بين الأمم، ولكن أغصانها أوت كل أنواع المعترفين الكاذبين والمعلمين الأشرار. طيور السماء تمثل حشود الأشرار، وهؤلاء يلتجئون إلى أغصان شجرة الخردل. إنها صورة في غاية الحيوية عما تحول إليه العالم المسيحي على مر القرون عندما بدت الكنيسة الزائفة وكأنها ستسيطر على العالم.

مثلٌ آخرٌ تكلم به الرب وهو جالس عند شاطئ البحر. وذلك عن الخميرة المُخبّأة في الدقيق. لعل هذا المثل هو أكثر التعاليم التي تعرضت لسوء الفهم والتي أوردها الرب. لقد قال: "«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ»". الفكرة العامة السائدة بين المسيحيين هي أن المرأة هنا تمثل الكنيسة؛ والأكيال الثلاثة تمثل العالم؛ والخميرة الإنجيلَ: وهذه هي النتيجة التي سيؤول إليها العالم في نهاية الأمر. ما من شيء يمكن أن يكون مناقضاً لكلمة الله أكثر من هذه الفكرة. إنه لمن المحزن، بعد انقضاء حوالي عشرين قرناً من الكرازة بالإنجيل، أن عدد غير المؤمنين في العالم اليوم هو أكثر منه نسبياً عندما فوَّض المسيح التلاميذ بأن يهبوا ليبشروا الأمم. ليس من مكان يؤكد لنا فيه الكتاب المقدس بأن نتوقع رؤية عالم مهتدٍ قبل مجيء ربنا يسوع المسيح ثانية. لكي يفهم المرء هذا المثل، عليه أن يستفسر عن معنى الخميرة. في كل كلمة الله، تُستخدم الخميرة دائماً بمعنى شرير. في القديم كان على شعب إسرائيل أن يضعوا كل الخمير خارج منازلهم خلال موسم الفصح، ويشرح الرسول بولس ذلك عندما يقول: " لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقّ" (١ كورنثوس ٥: ٧، ٨). فالخميرة، إذاً، تدل على المكر والشر، وعلى المسيحي أن يُخرج هذه من حياته. لقد حذَّر الرب يسوع تلاميذه من خمير الفريسيين الذي هو النفاق والبر الذاتي؛ وخمير الصدوقيين الذي هو العقيدة الزائفة والمادية؛ وخمير هيرودس، الذي هو الدنيوية والفساد السياسي. في سفر اللاويين (الأصحاح ٢) لدينا قربان التقدمة، والذي ليس فيه خميرة. هذا يمثل ناسوت ربنا يسوع المسيح الذي كان بلا خطيئة على الإطلاق. في المثل، تُخبِّئ المرأة سراً الخميرة في قربان التقدمة. وإن ثلاثة أكيال الدقيق لا تمثل العالم بالتأكيد، بل حقيقة الله المتعلقة بابنه. ليست المرأة هي الكنيسة بل هي الكنيسة الزائفة- تلك المرأة، إيزابل، التي نقرأ عنها في رؤيا ٢: ٢٠، التي تقول أنها نبية، وتعلّم عبيد الله مبادئ منحرفة تُخرّب الإيمان. أليس هذا هو بالضبط ما كان يحدث خلال الألفيتين الماضيتين من تاريخ الكنيسة؟ لقد بدأ "سر الإثم" بالعمل خلال أيام الرسل، وانتشر طوال القرون حتى اليوم الحاضر، إذ نجد عملياً أنه ليس من عقيدة عظيمة في الكتاب المقدس لم يحرّفها المعلمون الكذبة.

وبهذا المثل الرابع يُنهي الرب ما يمكن أن ندعوه خدمته الجهرية بتلك المناسبة. لقد كشف عن أسرار كان الله قد حجبها أو تركها مخفية حتى ذلك الوقت، كما أعلن عنها نبوياً في المزمور ٧٨: ٢.

" هَذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَالٍ وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (الآيات ٣٤- ٣٥).

وإذ صرف الجموع المتجمهرين أمام الباب، دخل يسوع إلى البيت، وتبعه تلاميذه. في هذا المكان المنعزل، تكلم بثلاثة أمثال أخرى, كما فسّر مثل الحنطة والزؤان أيضاً.

"حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. وَﭐلْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. وَﭐلْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلاَئِكَةُ. فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هَذَا الْعَالَمِ: يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ" (الآيات ٣٦- ٤٣).

جاء إليه التلاميذ مرة ثانية يسألونه عن مزيد من التفسير والشرح. فسألوه عن زؤان الحقل. فأوضح لهم أنه هو نفسه كان زارع الزرع الجيد؛ وأن الحقل هو العالم. من المهم أن نتذكر ذلك بسبب ما سيلي. ليس الحقل هو الكنيسة، بل هو ذلك العالم الذي ستجتمع الكنيسة خارجه في نهاية الأمر. "قال يسوع: "الزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ". لدينا هنا نتيجة الزرع: فأولئك الذين يؤمنون برسالة الإنجيل هم القمح؛ وأولئك الذين يقبلون تعاليم الشيطان هم الزؤان، لأن العدو الذي زرع الزرع الشرير السيِّئ هو الشيطان نفسه. لطالما كان منشغلاً بزرع الزؤان أينما وضع خدام الله البذر الجيد. ولكن ليس لخدام الله أن يحاولوا إتلاف الزؤان خلال هذا الدهر. إن فهمنا محدود للغاية. وقد نرتكب الخطيئة القاتلة التي ارتكبتها روما باستئصالها الصالح لكي تهلك الطالح. ففي نهاية الدهر- والتي ليست هي نهاية العالم في فكر الله بل نهاية الدهر الحالي- سوف "يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ". لاحظوا أن ابن الإنسان يرسل ملائكته. يا له من دليل قاطع على ألوهيته هنا! إنه بآن معاً ابن الله وابن الإنسان في أقنوم واحد مبارك معبود. الملائكة له، وينفّذون أوامره.

ثم لنلاحظ الحالة المختلطة التي تسود في الملكوت حتى نهاية الدهر. الملائكة يطردون من ملكوته كل الأشياء التي تسبب الفعل الشائن. سيكون هناك معترفون كاذبون مختلطون مع حقيقيين في الحقل- أي في العالم، من الآن وإلى انقضاء الدهر. "حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ". هذا هو الجانب السماوي من الملكوت الذي سيجمع فيه الرب خاصته في ذلك اليوم. ومن جديد تأتي الدعوة أن "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ".

لنربط معاً الأمثال الثلاثة التي أعطاها الرب داخل البيت.

" «أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ كَنـزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَى ذَلِكَ الْحَقْلَ. أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا. أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي الْبَحْرِ وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. فَلَمَّا امْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى الشَّاطِئِ وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا الْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ وَأَمَّا الأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً. هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ: يَخْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ الأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ الأَبْرَارِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ»" (الآيات ٤٤- ٥٠).

في المثل الخامس، ليس الكنـز هو الخاطئ الذي يسعى وراء المسيح بل الرب المبارك نفسه الذي جاء من السماء إلى الأرض ليجد ذاك الذي له قيمة لا تُقدَّر بالنسبة له: وتحديداً، شعبه الخاص إسرائيل. لكي يفتدي إسرائيل لنفسه، مات على الصليب، ولكنهم ما كانوا على استعدادٍ بعد ليقتبلوه ملكاً لهم، كما كان الكنـز مُخبَّأً في الحقل، وسيبقى مُحتجَباً إلى أن يعود.

في القديم، كان إسرائيل مميزاً ككنـز الله الخاص (خروج ١٩: ٥). والرب نفسه يمثله ذاك الرجل الذي وجد هذا الكنـز وخبَّأه. وعلى الجلجثة باع كل ما كان يملك واشترى الحقل، الذي هو العالم (الآية ٣٨). في الوقت الحالي يبقى الكنـز مُخبَّأً. وعندما يعود إسرائيل إلى الرب، فإنهم سيتجلّون ككنـز خاص للرب (ملاخي ٣: ١٧)، ومن خلالهم ستأتي بركة إلى الأمميين جميعاً.

" مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" يُشبَّهُ بعدئذٍ بـ "إِنْسَان تَاجِر يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً" . من جديد مَن يطلب (اللآلئ) هو المسيح، الذي نـزل من عرش المجد إلى هذا العالم الفقير البائس، سعياً وراء اللآلئ ليزين تاجه إلى الأبد.

" لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ". تلك هي الكنيسة، التي هي ذات قيمة عظيمة في عينيه، والتي بذل نفسه لأجلها. وعند الصليب "بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا". فهناك أفقر نفسه حرفياً ليشتري الكنيسة كلؤلؤة مُختارة خاصة به (أفسس ٥: ٢٥؛ ٢ كورنثوس ٨: ٩). يعتقد كثيرون أن الخلاص هو اللؤلؤة وأن الخاطئ هو التاجر، ولكن هذا عكس كامل لرسالة الإنجيل.

" يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ شَبَكَةً". إنها حرفياً شبكة للصيد. هذا يرمز إلى العمل الحالي للكنيسة المعترفة عندما يتجمع عدد هائل من المُخلَّصين والضالين من مياه الأمم (رؤيا ١٧: ١٥)، ويُحصَون بين المُعترفين بالإيمان بالمسيح.

" جَمَعُوا الْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ وَأَمَّا الأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً". عندما تمتلئ شبكة الصيد فإنها تُسحَبُ إلى الشاطئ، وتُفصَل الأسماك الجيدة عن الرديئة.

" هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ". ليس الحديث عن نهاية العالم، بل اكتمال دهر النعمة الحالي الذي سيسبق مباشرة إعلان دهر الملكوت في استعلانه الكامل.

" الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ". التعبير الأخير يُظهر أن الدينونة لا تُنتج توبة بالضرورة. عندما يحدث الفصل النهائي سيُطرح المعترفون الكذبة في دينونة، ستؤدي إلى البكاء بسبب معاناتهم، ولكن إلى صرير الأسنان بسبب بغضهم لله ومسيحه (مزمور ٣٥: ١٦؛ مراثي إرميا ٢: ١٦).

أما وقد رسم هذا المنظر الشامل المنوع اللافت، الذي يغطي كل الدهر الحالي، ويصل حتى إلى فترة الضيقة، مُظهراً اكتماله عند المجيء الثاني للرب، فقد سأل يسوع تلاميذه إلى أي درجة قد فهموه حقاً.

" قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَفَهِمْتُمْ هَذَا كُلَّهُ؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنـزهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ». وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَمْثَالَ انْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ" (الآيات ٥١- ٥٣).

رغم أنهم قد أعلنوا أنهم فهموا هذه الأشياء فمن الواضح أنهم لم يدخلوا إليها إلا بشكل ضعيف. ولكن أساساً أو أرضية قد وُضِعت في قلوبهم وأذهانهم أمكنهم أن يبنوا عليها بعد أيام. ولذلك فقد شبّههم الرب بكتبة يتعلمون فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، الذين سيستطيعون في أيام قادمة أن يُخرجوا من كنوزهم أشياء جديدة وعتيقة. وبهذا ختم يسوع تلك الفترة المعينة من خدمته وعاد إلى الناصرة.

"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا: «مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هَذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ كُلُّهَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ». وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (الآيات ٥٤- ٥٨).

" مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟". حتى في وطنه- أي، كما يقول لوقا، في مدينة الناصرة (لوقا ٤: ١٦- ٢٤)، كان هناك بضعة فقط تجاوبوا مع رسالة الملكوت. لقد سمعوا تعليمه ورأوا معجزاته بانذهال، ولكن أخفقوا في أن يدركوا أنه المسيا.

"أَلَيْسَ هَذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟". إن الجواب هو لا. لقد كان ابن الله الأزلي، المولود من عذراء، ولكن تربى بعناية ورعاية يوسف، الذي منه تعلَّم مهنة النجارة.

"فَمِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ كُلُّهَا؟". لقد ارتبكوا واحتاروا. لقد كان يسوع مختلفاً عن الآخرين من أبناء بلدته. حكمته وقدرته كان يتعذر تعليلها من وجهة نظر بشرية مجردة. فبدون تدريب مدرسي، كان أكثر عمقاً ورسوخاً من الكتبة.

"فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ". أي كانوا يتعثرون باتضاعه وينـزعجون عندما يلمّح إلى أن ألفتهم معه في الأيام الماضية، عندما عرفوه كحرفيٍّ بسيط، قد أعمت عيونهم عن حقيقة أنه كان الناطق بلسان الله.

"لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ". حتى الله نفسه يقيده عدم إيمان الإنسان. ذاك الْقَادِرُ " أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ" (أفسس ٣: ٢٠)، قد تعوقه في عمله المعارضةُ المتأتيةُ من القلب المتحجر وعدم الإيمان.

إن الحقيقة العظيمة التي يوضحها هذا الفصل من حياة ربنا على الأرض هي أن الجحود من جهة، أو الإيمان من جهة أخرى، لا يعتمدان على الصعوبات الفكرية أو المجادلات المنطقية. إن سر كليهما هو حالة الوجدان. عندما يكون المرء عازماً على المضي بعكس ما يعرف أنه صواب، فإنه سيستمر في الجحود ويرفض الخضوع لسلطان الرب يسوع المسيح. وعندما يتوب المرء عن خطاياه ويسعى صادقاً للتحرر منها فلن يجد صعوبة في الإيمان بالكلمة التي أعطاها الله لابنه (١ يوحنا ٥: ١١). ولعله يمكننا القول، ودون الخوف من الوقوع في تناقض، أنه إن كان المرء يعترف بوجود صعوبات فكرية في الإيمان بالكتاب المقدس، فإن سبب ذلك هو أنه يعيش في خطيئة ما يدينها الكتاب المقدس، والتي ليس لديه رغبة بأن ينعتق منها، بل إنه مصمم على الاستمرار فيها. إن الخطيئة غير المُدانة هي سبب نقص الإيمان بشهادة الله.

يحسن بنا أن نؤكد على بعض الأفكار التي طرحناها لتونا إذ نأتي إلى ختام دراسة هذا الأصحاح. فدعونا أولاً نلاحظ الفرق بين ملكوت الله وملكوت السموات. إن ملكوت الله يسود على الجميع (مز ١٠٣: ١٩؛ ٢٢: ٢٨) وهو من جيلٍ إلى جيل (دانيال ٤: ٣). هذا يُدعى في العهد الجديد "ملكوت الله". هذا التعبير لا نجده أبداً في الوحي الأسبق. إنه يتّخذُ أشكالاً مختلفة في أزمنة مختلفة. خلال الدهر الحالي يُوصَف في متى، وفي متى فقط، بأنه "ملكوت السموات". فيُرى الملك مرفوضاً من قِبَل البشر وقد عاد إلى السماء، والتي منها يُرشد قديسيه على الأرض، الذين يذهبون ويبشرون بكلمة الملكوت، وبهذا يجعلون عدداً هائلاً من الناس يعترفون به، ظاهرياً على الأقل، على أنه ملكهم الشرعي على الأرض. عندما يعود سيجمع كل ملكوته ويطرد منهم كل من لم يكن صادقاً مخلصاً. فأولئك المؤمنون الحقيقيون سيكون لهم دور في السماء أو في الأرض في ملكوت ابن الإنسان، الذي سيكون الجانب المُتَّخذ من ملكوت الله في الدهر الألفيّ.

غالباً ما يتحدث الناس عن "بناء الملكوت". وهذا تعبيرٌ شائع الاستخدام، ولكن لا أساس له في الكتاب المقدس. لقد فُوِّضْنا أن نكرز بالإنجيل إلى كل مخلوق، وعندما يؤمن البشر بالرسالة فإنهم يصبحون أعضاء في الكنيسة، جسد المسيح. وبما أنهم هكذا فإنهم يكونون في ملكوت السماء أيضاً، ولكن هدفنا الأساسي هو أن نجعلهم يعترفون بيسوع مخلِّصاً ورباً.

ما من أحد يمكن أن يدخل ملكوت الله في الواقع إلا بالولادة الجديدة. ولكن كثيرين يعترفون بالولاء للملك الغائب الذي لم يُخضِعوا قلوبهم له أبداً. فهؤلاء هم في مجال الملكوت، ولكنهم ليسوا فيه حقاً. فلنكن مُتيقّنين من حقيقة إيماننا واعترافنا.