الأصحاح ٢٧

إدانة وموت الملك

بما أنه ما كان لليهود سلطة، في ظل نظام الحكم الروماني، أن يُنـزلوا عقوبةَ الإعدام بأحد، فما كانوا يستطيعون أن ينفذّوا الناموس اللاوي الذي كان يحكم على المجدّف بالموت (لاويين ٢٤: ١٥، ١٦)، إلا إن أخذوا الأمر على عاتقهم فتصرفوا بخلاف القانون المفروض عليهم من قِبَل الحكومة الرومانية، كما فعلوا فيما بعد في حالة استفانس، حين اتهموه، مثل معلّمه، بالتجديف (أعمال ٧: ٥٤- ٦٠).

في قضية يسوع، كان رؤساء الكهنة وبقية قادة الشعب تواقين لينقلوا مسؤولية موته إلى عاتق الرومان، وذلك خوفاً من أن ينقلب ضدهم في سخط أولئك الناس الذين كانوا قد سمعوا يسوع بسرور. ولذلك، وبعد أن أعلنوا أنه مستحق للموت، كانت خطوتهم التالية هي أن يأتوا به أمام بيلاطس القائم بالأعمال في اليهودية في ذلك الوقت.

"وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي" (الآيات ١- ٢).

ما أن سمحت الظروف حتى اقتيد يسوع، المكبل بالسلاسل، وأُحضِرَ إلى بلاط بيلاطس. ما من شك أن الحاكم كان قد عرف شيئاً عنه وعلى الأرجح أنه ظن أنه من الزيلوت (المتحمسين) غير المؤذيين لطائفة يهودية ما. والآن طُلِبَ إليه أن يصدر إدانة على يسوع لكونه محرضٌ على الفتنة، كان يحاول أن يحرض عامة الشعب على التمرد ضد روما وقبوله كملك عليهم بدلاً من قيصر.

في هذه النقطة المفصلية، ظهر يهوذا الخائن أمام رئيس الكهنة والشيوخ. كان ممتلئاً ندماً لأن الفعل الذي قام به بدأ يُثقل عليه. حاول كثيرون أن يعذروا يهوذا ويبرروا له على أساس أنه كان شديد التوق ليرى ملكوت المسيا مؤسساً، وأنه ظن بأن تسليم معلمه إلى تلك العصبة التي كانت تسعى إلى هلاكه، سيجعله (أي يسوع) يضطر للتصرف، إن صح القول، ويعلن نفسه في الحال ملكاً على اليهود. ولكن ليس من إشارة أو دليل على هذا في الكتاب المقدس؛ لا شيء ما عدا أن يهوذا يوصف بأنه رجل محب للمال، قد باع معلمه وربه لقاءَ ثلاثين من الفضة.

أما الآن وقد بدأ يُدرك المصير المرجح الذي ينتظر يسوع، فقد تملكه الخوف، وفي قلقه واضطرابه الفظيع، حاول، ولكن بعد فوات الأوان، أن يتراجع عن الصنيع المخيف الذي ارتكبه.

"حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ قَائِلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!» فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: «لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ «حَقْلَ الدَّمِ» إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ القَائِل: «وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ»" (الآيات ٣- ١٠).

إن ندم يهوذا لم يكن بفعل إدانة ذاتية حقيقية بسبب الخطيئة التي ارتكبها. الكلمة المستخدمة هنا هي ليست الكلمة العادية التي تعني "تابَ" والتي تشتمل على تغير كامل في الذهن أو الموقف. بل إنها بالأحرى تعني "نادماً"، ولكن ليس كل ندم مرير يكون مترافقاً مع توبة حقيقية.

إذ أعاد الثلاثين من فضة إلى أولئك الذين أخذها منهم، قال يهوذا: "«قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً»". لقد كان يعرف جيداً قداسة وبر المسيح: فقد رافقه خلال نحو ثلاث سنوات أو أكثر، وكان يدرك أنه لم يكن هناك عيب في شخصه، أو أي شر في سلوكه.

فأجاب الكهنة ببرود: "«مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!»". هؤلاء المنافقون المراؤون قساةُ القلبِ أحكموا قبضتهم على فريستهم، كما ظنوا، وما عادوا مهتمين بحقيقة أو بعدم حقيقية التهم التي وجهوها إليه. لقد كانوا مصممين وموطدي العزم على إدانته.

وفي رعبه ويأسه ألقى يهوذا المال في الهيكل، واندفع خارجاً في نوبة جنون ومضى إلى بقعة منعزلة حيث انتحر بشنق نفسه. يذكر بطرس تفاصيل ليست موجودة هنا. فيخبرنا أن "هَذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا" (أعمال ١: ١٨). وإذا وضعنا الروايتين معاً نصل إلى استنتاج بأن ذلك البائس الذي كان على الأرجح بديناً، قد شنق نفسه إلى شجرة ما أو دعامة انكسرت تحت ثقل وزنه، فتمزق جسده من جراء السقوط إلى الأرض بالحالة التي وصفها بطرس بحسب استنتاجه. لقد كانت نهاية فظيعة ومأساوية بالفعل لحياة شخص كان قد وعد بأن يفعل الكثير.

كان الكهنة، وبدافع الحرص الشديد على الشكليات، قد ترددوا في وضع ثمن الدم في خزينة الهيكل، فقرروا بعد بعض التشاور أن يشتروا به حقل الخزاف- أي قطعة الأرض تلك التي كان يُستخرج منها الطين لصنع الآنية الفخارية؛ وهكذا فبهذه الطريقة يكون يهوذا نفسه قد اشترى حقاً الحقل بثمن المكافأة التي تلقاها على إثمه. هذه الأرض المقفرة كانت قد خُصِصت كمقبرة لدفن الغرباء الذين لا يمكن إعداد أي ترتيبات أخرى لدفنهم. وقد دُعِيَت باسم ذي مغزى، ألا وهو "حقل الدم"- تذكير دائم للصفقة الشائنة الشنيعة التي شارك فيها الكهنة ويهوذا.

طُرِحَت أسئلةٌ كثيرة تتعلق بالفهم الصحيح للآية ٩. في زكريا ١١: ١٣ نقرأ: "فَقَالَ لِي الرَّبُّ: [أَلْقِهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ]. فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ. رغم أن المقطع مشابه لما اقتُبِسَ هنا، إلا أنه ليس نفسه: "أَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ»". ربما يكون هناك قد ارتكبه أحد الكتبة أو النُّساخ بالنسبة إلى اسم إرميا فكتبه بدون قصد بدلاً من زكريا، وهو يفكّر بنص كتابي آخر ربما كان ينسخه، يحكي عن زيارة إرميا إلى بيت الفخاري, وأن النساخ فيما بعد، وإذ وجدوا هذا الاسم في النص، اضطروا إلى الالتزام به دون تغييره. من جهة أخرى، قد لا تكون نبوءة زكريا تحديداً هي ما يُشار إليها هنا على الإطلاق، بل بالأحرى شيءٌ تناقله التقليد منسوبٌ لإرميا ولكنه كان شفويَّاً وليس مكتوباً.

يقترح ج. ن. داربي أن سفر زكريا كان يشكل جزءاً من درج يبدأ بنبوءة إرميا، ولذلك يحمل اسمه؛ ولذلك أمكن الحديث عنها كقول موجود في "إرميا". مهما يكن الأمر، لعله يمكننا أن نكون على يقين بأن ما من شيء هنا يُضعف موثوقية ومصداقية الكتابات المقدسة.

إذ نترك قصة يهوذا القذرة نعود من جديد إلى قصر بيلاطس لنرى ما سيؤول إليه مصير الأسير الذي أحضره رؤساء الكهنة أمامه.

"فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلاً: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ». وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟» فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدّاً. وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَاداً فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيراً وَاحِداً مَنْ أَرَادُوهُ. وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً" (الآيات ١١- ١٨).

في رده على سؤال الحاكم: "«أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»" أجاب يسوع في هدوء قائلاً: "«أَنْتَ تَقُولُ»". أي أنت تقول ما أنا. وهكذا  شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ بِالاِعْتِرَافِ الْحَسَنِ (١تبموثاوس ٦: ١٣). بينما لم يجب على الاتهامات الباطلة والحاقدة التي وجَّهها أعداؤه ضده، أعلن بدون تردد الحقيقة عندما خاطبه الوالي نفسه.

اندهش بيلاطس من الثقة الهادئة التي أبداها الرب. فما من اتهام كان ليُقلقه. ولم يحاول أن يدافع عن نفسه. إذ كان (بيلاطس) متأكداً في داخله بأن يسوع كان بريئاً من أي جرم، ومع ذلك يعرف الطبع العنيد الحقود عند مُتَّهميه والمُدَّعين عليه، فإنه حاول البحث عن طريقة ما يمكنه بها أن يطلق سراح يسوع، وفي نفس الوقت لا يُغضِب هؤلاء القادة الدينيين الماكرين عادمي الضمير. لقد كان وقت الفصح، وجرَت العادة منذ سنين- وكنوع من المحاباة لليهود- أن يُطلَق سراحُ أسير بارز ما من شعبهم. لو كانوا صادقين في اتهامهم ليسوع بالتحريض على الفتنة والعصيان، أفما كانوا ليقدّرون التغاضي عن التهمة وإعطاء الحرية للأسير؟ كان هناك متمرد عاصٍ آخر ينتظر حكم الإعدام في ذلك الوقت، وهو باراباس الذي كان قد قاد عصياناً مُسلَّحاً ضد الحكومة. وهكذا وضع بيلاطس الاسمين أمام الشعب المُحتشِد وسألهم: "«مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟»". كان كلاهما مُتَّهمان بنفس الجرم. فلماذا لا يُطلَقُ سراح يسوع إذا وهكذا يرضى الشعب؟

بينما كانت المسألة موضع جدال مُحتدم بين مُتَّهِمي يسوع والحشد الغوغاء الذي كان قد تجمع حولهم، وصلت رسالة إلى الحاكم من زوجته.

"وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً: «إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ». وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. فَأَجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُم: «مَنْ مِنَ الاِثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ». قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: «لِيُصْلَبْ!» فَقَالَ الْوَالِي: «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟» فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخاً قَائِلِينَ: «لِيُصْلَبْ!»" (الآيات ١٩- ٢٣).

جعل تقليدُ الكنيسة من كلوديا بروكيولا، زوجة بيلاطس، قديسةً. تقول الأسطورة أنها كانت مُهتدية يهودية وقد صارت مؤمنة بيسوع. ولكن الكتاب المقدس لا يُخبرنا سوى ما هو مُدوَّن هنا. لقد أرسلت رسالة إلى زوجها المُرتبِك المحتار والأناني، طالبة منه ألا يُسيء إلى ذلك "البار" الذي تألّمت كثيراً من أجله في حُلمٍ.

لا نعلم عن رد فعل بيلاطس تجاه هذه، سوى أننا نجد أنه ظلَّ متردداً مُتفكِّراً في طريقةٍ ما يتخلص منها من الحكم في قضية يسوع, فيجد منفذاً قانونياً وتشريعياً يستطيع به أن يصل إلى تبرئة السجين أو العفو عنه. وهذا كان سيثير السخط الشديد عند المُدَّعين عليه الذين كانوا على الأغلب ومن المؤكد سيسعون بأي شكل من الأشكال وحتى النهاية لإهلاك الحاكم بتشويه موقفه أمام قيصر مُعتبرين إياه خادماً غير موثوق مُؤتَمن لروما، بسبب إخفاقه في القيام بواجبه فيما يتعلق بذاك المُدان بتهمة التحريض على الفتنة والعصيان.

فانتظر بيلاطس الناس أن يتخذوا قرارهم. مَن سيطلقون: يسوع أم باراباس؟ وسرعان ما جاء الجواب. إذ بتحريض من رؤساء الكهنة والشيوخ، أعطى الحشد أصواتهم بصخب لصالح باراباس.

فسأل بيلاطس بضعف: "فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟". هذا سؤال سيواجه كل إنسان آجلاً أم عاجلاً كلما تُنوقِلَتْ قصة يسوع.

صرخ الحشد بصوت واحدٍ: "ليُصلَب". وهكذا، ملك إسرائيل، الممسوح من الرب، قد رُفِضَ بشكلٍ قاطع؛ وبهذا، فللوقت الراهن، كل آمال اليهود قد زالت. فما عادت هناك إمكانية لملكوتٍ لهم لأن حاكمهم الشرعي قد رُفِضَ وقُتِلَ.

إذ أدرك عجزه عن معالجة هذا الحشد من المتديّنين المُحتدّين، طلب بيلاطس ماءً وغسل يديه بطريقة مسرحيةٍ درامية أمام الحشود، قائلاً: "«إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ»". ومع ذلك فقد كان هناك ممثلاً للعرش الإمبراطوري، وكان مسؤولاً عن إدانة المذنب وتبرئة البريء. كم كان إدراكه ضئيلاً عن أن اسمه سيُقدَّر له طوال الأيام أن يكون مُقترِناً بذاك المُتألِّم الصابر الذي أسلمه بدافع ضعفه إلى مُتَّهميه المُجحفين الظالمين. فملايين لا تُحصى لم تولد بعد كانت ستتلو على مر القرون القادمة أن: "أومن بإله..... وبابنه يسوع المسيح.... الذي صُلِبَ على عهد بيلاطس البنطي". ما كان لأي ماءٍ أبداً أن يُزيل لطخة دم ابن الله.

في طيشٍ وتهوّرٍ فظيع استنـزل اليهود لعنةً على أنفسهم إذ صرخوا قائلين: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا". وهكذا وجبَ على ذلك الشعب أن يتحمّل الكثير من الألم والمعاناة على مدى الأيام بسبب الخيار الذي اتّخذوه ذلك اليوم عندما فضّلوا قاتلاً على ذاك الذي جاء بالنعمة ليفتديهم. ولكن بالنسبة لهؤلاء، كما لكل شخصٍ آخر، إن تابوا وعادوا إلى الله فإن اللعنة يمكن تجاهلها بفضل شفاعة المخلِّص: "«يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»" (لوقا ٢٣: ٣٤).

مُستسلماً إلى مطالبهم، سلَّمَ بيلاطسُ يسوعَ إلى مشيئتهم، وحوَّله إلى الجنود، الذين أنـزلوا به المزيد من المعاملات المُهينة.

"حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيَّاً" (الآيات ٢٦- ٢٨).

وفقاً للعادة الفظيعة المُتَّبعة في ذلك الزمان أعطى بيلاطس أمراً بجلد يسوع- هذه الوسيلة التعذيبية القاسية التي كانت تشتمل على تمزيق جسده إلى أشلاء وهو يُجلَد بالسياط على ظهره العاري باستخدام سوط ذي تفرُّعات متعددة ثُبِّتت إلى أطرافها قطع من المعدن، فتحمم جسدُه سريعاً بدمه إن أمكننا القول حرفياً. ومع ذلك فما من كلمة توبيخٍ خرجت من شفتيه المقدستين. إذ كانوا يعلمون بأنه قد دِيْنَ بسبب إعلانه سابقاً بأنه ملك، نـزع الجنود عنه ثيابه الخارجية وألبسوه رداءً قرمزياً، ووضعوا إكليل شوك على رأسه، ثم راحوا ينحنون أمامه ساخرين.

"وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «ﭐلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» وَبَصَقُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ نـزعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً اسْمُهُ سِمْعَانُ فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ." (الآيات ٢٩- ٣٢).

ما كانوا يدرون ما يفعلون، ولكن سلوكهم كان ذا مغزى وهم يضعون حلقة الشوك على جبينه الشاحب. عندما لعن الله الأرض بسبب خطيئة الإنسان جعل بذلك أشواكاً وحسكاً ينبتُ فيها (تكوين ٣: ١٨). الشوك هو ثمرُ اللعنة؛ وكان يسوع على وشك أن يُجعَل لعنةً لأجل أولئك الذين عاملوه على ذلك النحو الشديد من الدناءة ومن أجل كل البشر، وذلك حتى ينال الفداء من لعنة الناموس كلُّ مَن سيؤمن به.

كان الجنود السفهاء ينحنون أمام يسوع، الذي جعلوا في يده قصبةً كصولجان، وكانوا يهتفون بأصوات ساخرةٍ قائلين: "«ﭐلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!»". بالنسبة لهم، كان ذلك عبارة عن نكتة كبيرة، أن ذاك الأسير الحليم الخانع المغلوب على أمره كان ليتخيَّل نفسه أو يسمح لأتباعه بأن يفكّروا به كملك. ففي نظرهم لم يكن هناك شيءٌ من التفخيم الملوكي يحيط به: ولكن في عيني الإيمان لم يكن هناك أكثر منه ملوكيَّةً عندما تحمَّلَ هذه المعاملة السيئة من الخُطاة وقابلها بصبرٍ وخضوع مُقدَّس لمشيئة الآب.

بَصقَ الجنود على وجهه، كما فعل اليهود في بيت قيافا. كان اليهود والأمميون متساوين في رفضهم له.

عندما تعبوا من المعاملة الرديئة الخشنة والبذيئة له، نـزعوا عنه الرداء ووضعوا عليه ثيابه نفسه، ومضوا به ليصلبوه.

يقول التقليد، وليس الكتاب المقدس، أنه سقطَ تحت ثِقَل صليبه، وليس مرةً واحدة بل ثلاث مرات؛ ولكن لا يستند هذا الكلام إلى روايات مُدوَّنة موثوقة. وعلى كل حال، يبدو واضحاً أن قوته الجسدية كانت ضعيفة جداً بسبب فقدانه للدماء والمعاناة المُفرِطة التي بلغت من الشدة درجةً رأى فيها حتى الجنود القساة القلب أنه كان في حاجة إلى المساعدة لحمل الصليب؛ ولذلك فقد أمسكوا بسمعان القيرواني الذي صادف مروره من ذلك الطريق، وأجبروه على تقديم المساعدة. يا للامتياز الذي تمتع به سمعان! إننا ولا بدّ مُتيقِّنون بأنه قد قدَّرَ ذلك. قال المسيحيون الأوائل أن الشخصين ألكسندر وروفوس المذكور اسمهما على أنهما ابناه في مرقس ١٥: ٢١, قد صارا كلاهما من أتباع يسوع المتحمّسين، وأن أباهما أيضاً كان من الرفقة التي تبعته. إننا نرجو أن يكون هذا أكثر من مجرّد تقليد لا أساس له.

وأخيراً وصلوا إلى التلَّة الصغيرة خارج أسوار أورشليم التي كان يسمّيها اليهود "الجلجثة"؛ وفي اللاتينية ترد الكلمة بمعنى "موضع الجمجمة". وهناك تدور أحداث مأساة كل الدهور. هناك التقدمة التي إليها ترمز كل ذبائح العهد القديم تُقدَّمُ إلى الله من أجلنا.

"وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «ﭐقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: «هَذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ». حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ" (الآيات ٣٣- ٣٨).

لقد جرت العادة أن يُعطى المحكوم عليه بالموت صلباً شراباً مُخدِّراً ليُسهِّلَ عليه احتمال التعذيب المُخيف الذي كان سيمرُّ به. هكذا مشروب، والمكوَّن من النبيذ المُتخمِّر (أو الخلّ) الممزوج مع المرارة أو المرّ، قُدِّمَ ليسوع، ولكنِّه رفضه. ما كان ليرضى أن يتناول أي شيء قد يخدّرُ ذهنه أو يخفف الآلام التي كان سيحتملها.

تحت الصليب، قسمَ الجنود، الذين كانوا مسؤولين عن تنفيذ حكم الإعدام به، ثيابَه بينهم وألقوا قرعةً مراهنين عليها، إذ كان رداؤه طويلاً ليس فيه درزاتٌ (يُشد بحزام حول الخصر)، كما جاء في نبوءة داود التي نُطِقَ بها قبل ألفِ سنة (مز ٢٢:١٨). وخلال هذه الساعات الست راحت النبوءات تتحقق الواحدة تلو الأخرى.

إن الآية ٣٦ تمس قلوبَنا جميعاً: "ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ". فهذا الموقف لافت للانتباه. إذ أن هؤلاء الجنود القساة القلوب وغير المكترثين راحوا ينظرون بلا مبالاة إلى ذاك المعلّق على عود الصليب. لعله يمكننا أن نتخيل هذا المنظر الجليل، كيف أن ابن الله القدوس يتألم ألماً لا حد له على يد أناسٍ تعتمدُ حياتهم ذاتها على قوة قدرته. كم نتعلم لو أننا جلسنا هناك ننظر إليه وهو ينـزف دماً ويحتضر موتاً عن خطايا ليست له.

لقد كانت العادة أن يُشار بواسطة إعلان أو لافتة عن الجريمة التي كان يُعاقب عليها المرء. ولذلك فقد كان مع بيلاطس وثيقة مُعدَّة كُتِبَ عليها: "«هَذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ»". أي بمعنى أن (يسوع) قد صُلِبَ لتنصيب نفسه ملكاً في حركة تمرّد ضد قيصر.

صُلِبَ لصَّان مع يسوع، واحدٌ عن كلِّ جهة. وهكذا أُحصيَ مع الأثمة.

"وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانـزلْ عَنِ الصَّلِيبِ!». وَكَذَلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا». إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنـزلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ! قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللَّهِ فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللَّهِ!». وَبِذَلِكَ أَيْضاً كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ" (الآيات ٣٩- ٤٤).

لم تكن قلوب أولئك العابرين تتأثر بألم الرب. لقد استمرّوا في الهزء به، رافعين من جديد الاتهامات القديمة وقائلين: "يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ!". بل حتى تحدُّوه أن ينـزل عن الصليب إن كان حقاً ابن الله.

انضمَّ أصحاب المقامات الرفيعة إلى جوقة المزدرين والهازئين به؛ ومع ذلك فقد أقرُّوا بحقيقة عظيمة هم أنفسهم لم يفهموها عندما نطقوا بها: "خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا". لقد كان شاعرنا المسيحي على حق عندما كتب:

"ذاك الذي ما استطاع أن يخلّص نفسه؛
عليه أن يموت على الصليب،
وإلا فلن تأتي الرحمة،
إلى أولئك الخطاة على الإطلاق".

نظراً إلى معنى موته، فإن هؤلاء الكهنة والشيوخ تحدُّوا يسوع، كما فعلَ الحشد، طالبين منه أن ينـزل عن الصليب إن كان حقاً ملك إسرائيل. وأعلنوا أنهم سيؤمنون به في تلك الحالة. بل حتى اقتبسوا من المزمور ٢٢ وبدا وكأنهم يدركون المعنى بقولهم: "قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللَّهِ فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ!". كان قد قال أنه ابن الله. ودعوه لأن يُظهِر ذلك بأن ينـزل عن الصليب.

يقول اللصان نفس الأشياء، كما نقرأ. لا يُخبرنا متى عن التوبة التالية لأحدهما. ولنعرف عنها يجب أن ننتقل إلى رواية لوقا.

حتى هذا الوقت كانت قد مضت ثلاث ساعات، من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الثانية عشر ظهراً، وفيها تلقَّى يسوع العذاب على يد البشر. لم تكن هذه الآلام هي التي ستزيل الخطيئة. بضعة الآيات التالية تُوجز الأحداث المروّعة التي جرت في الساعات الثلاث الأخيرة، عندما احتمل غضب الله، كذبيحة إثمٍ عظيمة، فأمكنه أن يقول: "أرد الآن ما لم أختطف" (مز ٦٩: ٤).

"وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي» (أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا». وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا: «ﭐتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ»" (الآيات ٤٥- ٤٩).

ما من عقلٍ محدود يمكن أن يسبرَ غور أعماق المحنة والألم الذي غاصت إليهما نفسُ يسوع عندما انتشرت تلك الظلمة المخيفة على كل العالم. لقد كانت رمزاً إلى الظلمة الروحية التي دخلَ فيها كيسوع المسيح الإنسان وقد جُعِلَ خطيئةً لأجلنا لكيما نصبح برَّ الله فيه. فعندها ألقى الله عليه إثم جميعنا- فصارت نفسه ذبيحةً عن الخطيّة.

"سُمِعَ صوتُ العاصفة المدويَّة؛
أيها المسيح لقد هبَّتْ عليك.
قلبكَ المفتوح كان مقصدي؛
لقد احتملَ العاصفة من أجلي".

إن لدينا بعض الفهم لما يعنيه هذا له، عندما كانت العتمة تعبر، إذ نسمعه يصرخ: "إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟". كلُّ مؤمن يمكن أن يجيب: "كان ذلك لئلا أُنسى أبداً". لقد أخذ مكاننا واحتمل غضب الله الذي كانت تستحقه خطايانا. كانت هذه هي الكأس التي انقبضت نفسه بسببها في جثسيماني؛ والآن أُدنيَت إلى فمهِ، فشربها حتى الثمالة:

"كانت كأس مرٍّ ومرارة:
كانت كأس اللعنة؛ فاحتملها كلها؛
وصرخته كانت صرخة ألمٍ مرير،
عندما حملَ خطايانا".

بعضٌ من الذين سمعوا صرخة ألمهِ بالآرامية لم يعرفوا معنى كلماته؛

"إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟"، وظنوا أنه كان ينادي النبي إيليا طالباً منه العون. فهرع أحدهم وملأ إسفنجةً بالخل وقرَّبها إلى شفتيه لكي يشرب. وهذه اقتبلها. فقال آخرون بعدم اكتراث: "ﭐتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ". ولكن لم يكن هناك مَن يمكن أن يخلِّصَه؛ فقد كان لا بد له أن يحتمل آلام الموت لئلا نموت.

" فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ وَﭐلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: «حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ». وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي" (الآيات ٥٠- ٥٦).

عندما تمَّ كل ما أُعطيَ له ليفعله، صرخ يسوع بصوتٍ عظيمٍ. ويخبرنا يوحنا بأنه قال: "قد تمَّ". ثم أسلمَ روحه. لم يمت من الإنهاك، بل بذل حياته طواعية عندما أتمَّ العمل الذي جاء لأجله.

أما حجاب الهيكل، الذي كان يفصل المقدس عن قُدْس الأقداس، فقد تمزَّقَ في الحال إلى نصفين، من الأعلى إلى الأسفل، فيد الله غير المنظورة مزّقت ذلك الستار رمزاً إلى أن الطريق إلى قدس الأقداس قد صارت الآن واضحةً جلية مستعلنة. فما عاد الله يسكن في الظلمة الكثيفة. إذ صار بمقدوره أن يخرج إلى الإنسان في النور؛ والإنسان، المُفتَدى بدم الكفّارة، صار بمقدوره أن يدخل بجرأةٍ إلى حضرة الله ذاته.

وحدثت أيضاً ظاهرة طبيعية معينة يذكرها متى وحده- زلزلة عظيمة، تشقُّق الصخور وانفتاح القبور. فالقديسون الذين كانت أجسادهم راقدة في القبور قد أُقيمت وخرجت من القبور بعد قيامته وظهرت لكثيرين.

قائد المئة الذي أُوكِلَت إليه مع فرقة الجنود مهمة حراسة الضحايا المصلوبين كان قد تأثر بكل ما رآه وسمعه حتى أنه امتلأ بالرهبة، فأعلن قائلاً: "حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ". لم يستخدم أداة تعريف عند ذكره لـ "ابن الله"، ولكنه، كمثل نبوخذ نصَّر في العهد القديم، الذي رأى الشخص الرابع الغامض في الأتون (دانيال ٣: ٢٥)، اقتنع بأن القدوس المتألم الذي مات لتوه على ذلك الصليب المتوسط كان أكثر من مجرد إنسان.

وعلى مبعدة، وبقلوب مليئة بمشاعر الحزن، كانت هناك العديدات من النساء المخلصات، اللواتي كنَّ صادقات في ولائهنَّ ليسوع حتى النهاية، رغم أنهن لم يستطعن أن يفهمن السبب وراء تركه ليتألم ويموت بلا عون. ومن بين هؤلاء كانت مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأيضاً زوجة زبدي، أم يعقوب ويوحنا.

من الجدير بالملاحظة أنه طالما كان ربنا المبارك يأخذ مكان الخاطئ في الذبيحة البدلية التي قدم نفسه فيها لله، سُمِحَ لأعدائه أن يعاملوه بكل أنواع المعاملة السيئة المُخزية. ولكن من لحظة الدم والماء- اللذان كانا، مع الروح القدس، شهوداً على الفداء المُنجَز (١ يوحنا ٥: ٦، ٨)- اللذان سالا من جنبه المطعون، بدا الله وكأنه يقول: "ارفعوا أيديكم". فمن تلك اللحظة ما من يدٍ غير طاهرةٍ تلمس جسد ابنه القدوس. أنـزلَ أصدقاؤه المحبّون جسده عن الصليب، ولفّوه بالكتّان النقيّ الجديد، ووضعوه في فراش الطّيْب الذي كان نيقوديموس قد أرسله (يوحنا ١٩: ٣٩، ٤٠)، في القبر الجديد الذي ليوسف الذي من الرامة. لقد كان هذا دفناً ملوكياً (أنظر أخبار الأيام الثاني ١٦: ١٣، ١٤).

"وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. فَهَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ. فَأَخَذَ يُوسُفُ الْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ وَمَضَى. وَكَانَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى جَالِسَتَيْنِ تُجَاهَ الْقَبْرِ" (الآيات ٥٧- ٦١).

"جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ". لقد كان واحداً من بضعة أولئك الذين كانوا ذوي ثروات وينتظرون الملكوت (متى ١٩: ٢٣، ٢٤؛ مرقس ١٥: ٤٣)، ولكنه ما كان قد أعلن صراحةً وعلانيةً نفسه تابعاً ليسوع، حتى الآن (يوحنا ١٩: ٣٨). لقد كان تلميذاً ليسوع بالسر، ولكنه برهن عن ولاء وشجاعة عندما جاء وقت الاختبار.

"فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ". وهكذا حُفِظَ جسد يسوع من المزيد من سوء المعاملة، وتحقق ما جاء في أشعياء ٥٣: ٩. فلا بد من أن يكون مع الأغنياء في موته.

"وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ". كما كانت عادة اليهود في الدفن، كان الجسد يُلفُّ كلياً بالطول، بقماش كتّاني، ولا يُغطَّى ببساطة بكفن.

"دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ". كان الحجر يغطي كل المدخل وعلى الأرجح أنه كان كمثل حجر الرحى وملائماً للأخدود المشقوق في وجه الجرف الصخريّ.

"مََرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى". مريم المجدلية، التي كان قد أخرج منها سبع شياطين (لوقا ٨: ٢)، ومريم، أم يوسي (مرقس ١٥: ٤٧)، كانتا تنظران وتراقبان كل ما يجري، عسى أن تأتيا إلى القبر بعد أن يكون السبت قد مضى فيضمّخان على نحوٍ لائقٍ جسد ذاك الذي أحبتاه والذي عليه كانت كلُّ آمالهما، ولكنه كان الآن بارداً في الموت.

"وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ" (الآيات ٦٣- ٦٦).

"وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ". كان هذا مساء اليوم الذي مات فيه يسوع، وفق حساباتنا للوقت. ولكن بالنسبة لليهود، كان اليوم الجديد يبدأ بغروب الشمس. وهكذا فبعد الرابع عشر من نيسان مباشرةً، وما أن بدأ المساء الذي يُدخلنا في اليوم الخامس عشر من الشهر، هرعَ الفريسيون والآخرون إلى بيلاطس ليرفعوا إليه مطلبهم.

"قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ". غريبٌ أن هؤلاء، وهم أعداؤه، قد تذكروا ما نسيَ تلاميذهُ أنفسهم. هذا دليلٌ على أن ما تنبَّأ به قد صار معروفاً جيداً.

"فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ". ما كانوا ليتركوا مجالاً للصُدف أو للمخاطرة. لقد كانوا يدركون أنهم ولو تركوا فسحةً صغيرةً لنشر إشاعةٍ بأن يسوع قد حقق وعدهم، فإن محاولاتهم تدمير آثار تعليمه ستكون بلا طائل. إن اختفاء جسده من قبر يوسف الجديد سيكون، في تقديرهم، مأساةً كارثية، وسيقبله كثيرون كدليل على قيامته. ولذلك فقد كانوا يخافون أن يرتب تلاميذه للسطو على القبر وإخفاء جسده؛ ومن هنا كانت أهمية إحباط أي محاولة كهذه فعلياً.

"اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ". لم يكن بيلاطس متملّقاً وحسب، بل حتى مستمتعاً بمخاوفهم وقلقهم. فأعطاهم كتيبة من الجنود الرومان وعيّنهم لحراسة القبر. كانت كلماته الصارمة اللهجة في أن يتأكدوا بأنفسهم من ذلك تبدو ساخرةً تهكّمية. سرعان ما عرفوا كم سيكونوا عاجزين وبلا حولٍ ولا قوة عندما تدق ساعة الله.

"فََمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ". كسر ذلك الختم كان ليكون جريمة من الدرجة الأولى، شعروا أنه ما من أحدٍ من التلاميذ سيجرؤ على محاولة القيام بها، والجنود الحرّاس سيضمنون عدم السماح لأي شخص بأن يسرق الجسد قبل انقضاء الأيام الثلاثة.

من الواضح أن إعلانه بأنه سيقوم ثانية في اليوم الثالث (٢٠: ١٩) قد تركَ انطباعاً قوياً على أذهان أعدائه أكثر منه على قلوب تلاميذه أنفسهم. رغم أنه كان قد ذكر ذلك في عدة مناسبات، فيبدو أنهم لم يفهموا معنى كلماته. وكانوا يتساءلون عما يمكن أن تعني القيامة من بين الأموات (مرقس ٩: ١٠، ٣١، ٣٢؛ لوقا ١٨: ٣٣، ٣٤). ولذلك، وحتى بعد صلبه ما كانوا يتوقعون أو يرتقبون قيامته (يوحنا ٢٠: ٩). ولكن قادة الشعب، الذين كانوا قد قاوموه بشدة فائقة، تذكّروا كلماته؛ وفي حين أنهم لم يتوقعوا أن تتحقق، كانوا يخشون أن يقوم التلاميذ عن طريق الخداع بشكل ما أن يقنعوا عامة الشعب الساذجين السريعي التصديق بأنه قد انتصر فعلاً على الموت؛ ومن هنا كان ذهابهم إلى بيلاطس وطلبهم اتّخاذ كل الحيطة والحذر لمنعهم اختفاء جسده من القبر. ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، فبرغم الختم للحجر، الذي كان يغلق مدخل القبر، ويقظة الحرس الرومان، دُحرِجَ الحجر وقام المخلِّص من بين الأموات وظهر لكثير من الناس المحترمين ذوي السمعة الحسنة، الذين شهدوا على حقيقة قيامته.