الأصحاح ٤

اختبار الملك

قبل أن يظهر الربُّ يسوع نفسَه لإسرائيل على أنه الملك الموعود كان لا بدّ أن يمر عبر فترة اختبار, وخضع لها لمدة أربعين يوماً. لقد التقى بالشيطان, الإنسان القوي المسلح, وقيّده قبل أن يبدأ خدمته العلنية ويذهب لينتزع أغراضه (أي أغراض الشيطان).

لماذا تجرّب يسوع؟ وإذ تعرض للتجربة, هل كانت هناك إمكانية لأن يُخطئ, ويعرّض بذلك كلَّ مخطط الفداء للخطر أو يبطلَه؟ هذه أسئلة غالباً ما تُطرح, وتفترض منا أن نكون قادرين على تقديم إجابات كتابية عليها.

إن كنا واضحين في تفكيرنا بالنسبة لهذا الأمر, فعلينا أن نتذكر أنه بينما كان ربنا إلهاً وإنساناً, فهو ليس شخصين, بل شخص واحد. فهو, شخصياً, الله الابن السرمدي الذي اتخذ جسداً بشرياً وحّده بلاهوته لكي يفتدي الخُطاة. ولذلك فإن له طبيعتين, الإلهية والبشرية, ولكنه يبقى شخصاً واحداً. ومن هنا فكإنسان على الأرض لم يكن يستطيع أن يتصرف بمعزلٍ عن لاهوته. أولئك الذين يقولون أنه كان يمكن أن يُخطئ ربما يجب أن يسألوا أنفسهم: "ماذا كانت لتصير النتيجة عندئذٍ؟" فأن نقول أنه كإنسان كان يمكن أن يفشل في مهمته هو اعتراف بالاقتراح التجديفي المذهل بأن طبيعته الإلهية المقدسة كان يمكن أن تنفصل عن طبيعته البشرية المدنسة وهكذا يصبح التجسد مهزلة وسخرية. ولكن إن أدركنا أنه هو الذي كان إلهاً وإنساناً معاً في شخصٍ واحد قد تعرض للتجربة, ليس ليرى إن كان سيخطئ أو يمكن أن يخطئ, بل ليبرهن أنه كان الذي بلا خطيئة, يصبح الأمر واضحاً. لقد كانت التجربة حقيقية, ولكنها كانت كلها من الخارج, كما حالة آدم في البدء. ولكن آدم كان مجرد إنسان بريء؛ في حين أن يسوع, آدم الأخير (آدم الثاني), كان الرب المنحدر من السماء الذي صار إنساناً ولم ينقطع عن الألوهية، لكي يصير أخينا الفادي (لاويين ٢٥: ٤٨). إن التجربة وموقفه منها برهنا أنه لم يكن إنساناً خاطئاً, سواء في طبيعته أو في سلوكه, ولذلك فقد أمكنه أن يأخذ القصاص عنّا وأن يحتمل لعنة الناموس المُنتَهك عن الآخرين, لأنه لم يكن تحت تلك اللعنة بنفسه. يُخبرنا الكتاب المقدس بشكل محدد أنه "لم يعرف خطيئة" (٢ كورنثوس ٥: ٢١)؛ و"لم يفعل خطيئة" (١ بطرس ٢: ٢٢)؛ و"ليس فيه خطيئة" (١ يوحنا ٣: ٥). لقد أمكنه أن يقول: "رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ" (يوحنا ١٤: ٣٠). لم يكن هناك خائن مختبئ في داخله ليتجاوب مع صوت العدو من الخارج. لقد تجرّب مثلنا, بمعزل عن الخطيئة (عبرانيين ٤: ١٥), أي لم تكن فيه خطيئة لتُغويه. منذ لحظة ولادته كان قدوساً, وليس بريئاً وحسب (لوقا ١: ٣٥).

لقد حدثت تجربة يسوع، إن كنا نثق بالتقليد, على جبل كارنتانيا, غرب الأردن, مقابل أريحا, وهي برية وعرة جداّ ومنعزلة. وأتت التجربة بعد اعتماده مباشرة تقريباً, في بداية عام ٢٧ م, قبل عيد الفصح بقليل.

"ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ". كإنسان كامل, كان يسوع خاضعاً تماماً لمشيئة الروح. يخبرنا مرقس أن الروح قاده إلى البرية (مرقس ١: ١٢). لقد كان مُلزماً على أن يذهب, لأنه كان أمر ذلك القدوس وقد أُظهِر من بدء خدمته. إن التجربة هي اختبار فعلياً. لقد جرّبه الشيطان, وهو الشخص الشرير عدوّ الله والإنسان. وكان هو (الشيطان) أيضاً مَن اختبر آدم الأول ووجده ضعيفاً غير كفؤ. والآن لا بدّ أن يتغلّب عليه آدم الأخير, الإنسان الثاني (١ كورنثوس ١٥: ٤٥, ٤٧).

"فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَاعَ أَخِيراً". لقد صام يسوع كل فترة الاختبار- أربعين يوماً. ولم يشعر بالجوع إلى أن انقضت كل هذه الفترة كما يُقال. ومن ثم, في ساعة ضعف الطبيعة, جاء المُجرِّب, محاولاً أن يتغلّب عليه. لقد كانت الاختبارات مثلّثة الجوانب: إغواء الجسد, والنفس, والروح؛ مشتملة على رغبات الجسد, وشهوة العينين, وكبرياء الحياة, أو التباهي, أو المجد الباطل للحياة. إن ترتيب التجارب تختلف بين متى ولوقا. من الواضح أن متى يذكر النقاط الثلاث بحسب تسلسلها التاريخي, آخذاً إياها تماماً كما حدثت. أما لوقا فيعطيها ترتيباً أدبياً أخلاقياً, بما يتناسب مع ١ يوحنا ٢: ١٦. وإذاً الإغواء الأول كان الشهية, رغبة الجسد, الجسد؛ والثاني كان الطبيعة الجمالية, رغبة العينين, النفس؛ والأخير كان الطبيعة الروحية, كبرياء الحياة, أو المجد الباطل في الحياة. لقد كان الرب يسوع منيعاً أمام كل اقتراح قدّمه الشرير. وهذه كانت نفس الإغواءات من ناحية طبيعتها التي عرّض الشيطان حوّاء لها في عدن. لقد رأَتْ أن ثمارَ الشجرة كانت جَيِّدَة لِلأكْلِ (شهوة الجسد),  وَأنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ (شهوة العينيين), وَأنَّها شَهِيَّةٌ لتجعل الإنسان حكيماً (كبرياء الحياة). لقد استسلمت في كل تجربة, وعندما اشترك معها آدم في عصيان الله سقطت الخليقةُ القديمة. لقد تجرَّبا في فردوس السرور والابتهاج, البيئة الأكثر جمالاً. أما يسوع فقد تجرب في برية جافة عطشة وسط الوحوش البرية, ولكنه وقف صامداً كصخرة أمام خدع وإغواءات وتملّقات الشيطان؛ وهكذا أظهر نفسه ملكاً للبر, وبالتالي المؤهَّل ليُتوَّج ملك السلام (عبرانيين ٧: ١, ٢). ذاك الذي انتصر على العدو بعد أن جُرِّب بكل الأشكال مثلنا, ما خلا الخطيئة, هو الآن رئيس كهنتنا العظيم, ويظهر في السماء مؤيداً لنا, ومستعداً لمساعدتنا في كل ساعة ضعف أو تجربة.

"فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً". إن كل اختبار كان اعتداءً مباشر على حق شخصه الإلهي-البشري. لم يكن هناك أي شيء خطأ فطرياً في يسوع إن أشبع جوعه بتحويل الحجارة إلى خبز, ولكنه أخذ مكان الإنسان, من الاتكال على الله الآب الحيّ (يوحنا ٦: ٥٧). وبذلك, فقد سلك فقط في إطاعة لمشيئة الآب, وما كان يمكن أن يفكر بأي اقتراح يأتي من أي شخص آخر أو مصدر معارض. ما كان ليسلك, حتى ولو بهدف إشباع جوعه, استناداً إلى نصيحة العدو.

"فَأَجَابَ وَقَالَ: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ»". لقد قابل يسوع كل تجربة بكلمة محددة من الله- اقتباس من الكتابات المقدسة. وفي هذا المثل اقتبس تثنية ٨: ٣, حيث ذكّر موسى إسرائيل أن هناك ما هو أهم بكثير من الطعام المادي ألا وهو الغذاء الروحي الذي يوجد في كلمة الله. عندما يؤمّن الله الطعام لأولاده فإنه لا يعطيهم حجارة بدل الخبز, ولا يصنع خبزاً من الحجارة؛ ولكن عندما نخرج من اتكالنا على الآب فإننا على الأرجح سنكسر أسناننا بالخبز الحجري القاسي الذي فكّرنا أنه سيكون أفضل من ذاك الذي يأتي من الله.

"ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ". هل كان الشيطان قد فعل ذلك بالحقيقة أم أنه كان مجرد رؤيا لا نعلم, ولا يهم أن نعلم. الفكرة هي أنه حتى المقدس قد يكون مكاناً للتجربة, لأن التكبّر بالنعمة هو أحد أعظم الفخاخ التي نتعرّض لها. من ذلك المكان المرتفع رأى يسوع الحشود متجمعة في الساحات في الأسفل, وكان الشيطان على وشك أن يستخدم هذه كسبب ليُظهر قوّته.

"وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ»". لقد اقتبس الشيطانُ جزءاً فقط من مز ٩١: ١١, ١٢. ولقد حذف الجزء الأهم الأكثر صلة بالموضوع- "لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرْقِكَ". لم يكن جزءاً من الطرق المقدسة لابن الله أن يقفز بشكل استعراضي من أعلى الهيكل لكي يُذهل الجموع المتعبّدة في الأدنى وهم يرونه مُعلَّقاً في الهواء فوقهم, تحفظه أيدي الملائكة. كان هذا ليمكن أن يكون استخداماً مُتجرِّئاً للوعد. عندما يقتبس الشيطان من الكتاب المقدس, انظروا إلى النص وتأكدوا إن كان لم يحذف شيئاً حيوياً أساسياً منه, إذ أن من الممكن للمرء أن يقع في أكبر الأخطاء استناداً إلى نصٍّ من الكتاب المقدس استُخدِم خارج سياقه أو دلالته أو تم التعبير عنه جزئياً.

"قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ»". حيث يأمرُُ اللهُ, يمكن للإيمان أن يسلك بناءً على كلماته, عارفاً- كما قال أوغسطينوس- أن "أوامر الله هي تمكينات الله". ولكن أن يُعرِّض المرء نفسه للخطر بدون حاجة هو تجريب لله وهذا مخالف لمبدأ الإيمان.

"ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا". هذه الأشياء تخص المسيح, وارث كل الأشياء؛ ولكن الشيطان قد اغتصب الميراث. لقد حاول أن يقدم ليسوع ما يمكن أن نسميه "اختصار" إلى سيادة العالم.

"وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي»". في الواقع, ما كان له أن يعطي شيئاً سوى بإرادة الله التي تسمح له بذلك, لأن "الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ" (دانيال ٤: ٢٥). لقد سرق الشيطانُ من آدم السلطان المُعطى له وحكم كمُغتَصب في قلوب الأشرار؛ ولكن لم يكن له حق مطلق بممالك العالم, التي عرض إعطاءها ليسوع إذا ما سجد له, وبذلك يحقق الملكوت بدون الصليب.

"حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ»". بقول آخر من أقوال الله, هُزِم العدو. لم يجادل يسوع كلمة الشيطان من ناحية سيادته على ممالك العالم. فليس بالجدال يُحرَز النصر, بل بالكلمة نفسها.

"ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ". يا له من تحقيق مجيد نتج عن التجربة! فالمهزوم, وهو الشيطان الشرير, قد ولّى هارباً؛ والرسل القديسين من بلاط السماء أتوا بسرور ليخدموا خالقهم, الذي أخذ مكان المخلوق بدافع رحمته ونعمته. عندما نفكر بالملائكة يخدمون يسوع, كما فعلوا في البرية وفي جثسيماني, ندرك كم صار إنسانياً بالفعل, وذلك في أنه, وهو الذي خلق كل تلك الكائنات المجيدة, سيخدمونه هم بأنفسهم.

إن ملك الله يجب أن يملك في البرّ. وإن بديل الخاطئ يجب أن يكون حملاً صحيحاً لا عيب فيه داخلياً أو خارجياً. ولذلك فإن الرب كإنسان يجب أن يكون خاضعاً لأكثر الاختبارات دقة وقسوة, ليُظهر أهليته للعمل العظيم الذي جاء يقوم به. لو كانت التجربة قد أظهرت إلى النور دليلاً على خطيئة فطرية أو فساد أخلاقي من أي نوع, لكانت الدليل على أن يسوع ليس هو قدوس الله, الذي يُزمِع أن يأتي بالبر الأبدي ويصنع كفّارة عن الخطية. ولكن ما من مكان أُظهر فيه كمال المسيح بشكل أكثر وضوحاً منه عندما بذل الشيطان كل جهد ليجد عيباً ما في شخصه, أو أي شكل من السعي الذاتي في قلبه. لقد اختُبر الملك وبرهن أنه تماماً كما أعلن الله الآب عند اعتماده- ذاك الذي وجد فيه كل مسرّته.

نقرأ في عبرانيين ٢: ١٨ أن ربنا يسوع "تَأَلَّمَ مُجَرَّباً". إننا نتألم ونحن نقاوم التجربة, وهكذا نُحفَظ من ارتكاب الخطيئة ضد الله (١ بطرس ٤: ١). وفي هذا نرى التضاد الكبير بين المسيح القدوس ونحن الخطأة ذوي الطبيعة التي تفرح بالإثم والشر. عندما نُولَد لله فإننا نُجعَل شركاء في الطبيعة الإلهية, وهكذا فإننا أيضاً وأيضاً نكره الإثم.

أما وقد جُرِّب الملكُ وبرهن أنه كامل في كل طرقه, فإنه دخل عندئذٍ إلى خدمته العلنية, وتشهد له الآيات العظيمة والعجائب والمعجزات, التي كان يُفترض أنها قد أوضحت لكل إسرائيل أنه كان في الحقيقة المسيّا الموعود.

"وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرِنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: «أَرْضُ زَبُولُونَ وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ طَرِيقُ الْبَحْرِ عَبْرُ الأُرْدُنِّ جَلِيلُ الأُمَمِ- ﭐلشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ». مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ : «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ»" (الآيات ١٢- ١٧).

إن الاقتباس من أشعياء يختلف عما نجده في العهد القديم الذي بين أيدينا, لأنه مأخوذ من الترجمة السبعينية, هذه الترجمة التي كانت شائعة الاستخدام في تلك الفترة, بدلاً من النص العبريّ الأصليّ (أنظر أشعياء ٩: ١, ٢). إذ كان يسوع يجول من مكان إلى آخر كان يكرز قائلاً: "«تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ»". هذه الرسالة كانت نفسها التي نادى بها يوحنا المعمدان. "مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ", كما رأينا هو تعبير يُستخدم فقط في هذا الإنجيل. إنه يشير إلى حكم السماء على الأرض. وهذا كان أُهبة الاستعداد لو كان هناك استعداد من جهة إسرائيل ليقتبلوه. ولكن إقامته كانت تقوم على أساس توبة الشعب, وهذه لم يكن الشعب مُستعِداً لها. سوف لن يقبلوا الملك؛ وبالتالي, خسروا الملكوت, كما تُظهر التتمة. قبل أن يُستردّ ذلك الملكوت لبني إسرائيل (أعمال ١: ٦) كان الله ليُعرّف على برنامج آخر, الذي كان للوقت الراهن مُحتَجَباً عن الفهم البشريّ.

الآيات ١٨- ٢٠ تخبرنا عن دعوة أول الرسل الإثني عشر وتجاوبهم:       

"وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ".

هؤلاء الرجال, كما نعرف, كانوا قد انجذبوا إلى يسوع (يوحنا ١: ٤٠- ٤٢). والآن تركوا كل شيء ليتبعوه, رغم أنهم لا يعرفون إلا القليل عما كان ينتظرهم, من فرح أو ألم.

الآيات ٢١- ٢٢ ترينا دعوة يعقوب ويوحنا:

"ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ".

هما أيضاً, كان سيُعتبران من بين أصدقاء الملك المقرّبين, ليحملوا الشهادة لإسرائيل؛ وفيما بعد, ورغم أن يعقوب سيموت باكراً ميتة الشهداء في بداية الدهر الجديد, فإن يوحنا سيكون مُقدَّراً له أن يعمّر أكثر من كل الإثني عشر المختارين.

إن طبيعة ومجال خدمة يسوع تلخّصها لنا الآيات ٢٣- ٢٥:

"وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْبِ فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ. فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْعَشْرِ الْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ".

أينما ذهب كان يأتي بالبركة والخلاص لأولئك الذين كانوا يطلبون رعايته وتعطفه؛ ولذلك فقد تبعه كثيرون من مكان إلى آخر, وهم يرتقبون, بلا شك, أنه في أية لحظة, سيُعلن سلطانه الملكي, ويقلب السلطة الرومانية, مُعتِقاً بني إسرائيل. ولكن قبل أن يمكن فعل ذلك سيكون هناك عمل آخر وأعظم بكثير يجب إنجازه, حتى تسوية مسألة الخطية: إذ لأجل هذا جاء إلى العالم. يجب على الملك أن يكون الأضحية قبل أن يأخذ سلطته العظيمة ويحكم. وهكذا, ورغم هتاف الحشود له لتوّهم, وإصغاء عامة الناس إليه بسرور, تابع سيره حتى سيراً على الأقدام إلى المكان الذي يُدعى الجلجثة.