الأصحاح ٦

مبادئ الملكوت

(الجزء الثاني)

قبل أن نتابع، لننظر بعناية نوعاً ما إلى هذا الجزء الثاني العظيم من خُطبة الرب على الجبل، سأعود لبضعة دقائق إلى بعض الأسئلة التي أشرت إليها في بداية تفحّصنا للأصحاح ٥, وذلك بسبب حقيقة أن مؤمنين جدّيين كثيرين, وفي محاولة لتحاشي صخرة الناموسية التشريعية, يتحطّمون على صخرة اللا ناموسية ١.

هناك سؤالان كثيراً ما يُطرحان. الأول هو: هل كانت العظة على الجبل موجّهة للمسيحيين؟ ما من أحد يمكن أن ندعوه مسيحياً بحقّ إلى أن يكون قد اتّحد بالمسيح بالروح القدس في الزمن التدبيري الحالي من نعمة الله (أفسس ٣: ٢). لقد دُعيَ التلاميذُ مسيحيين أولاً في أنطاكية (أعمال ١١: ٢٦)؛ ولكنهم كانوا تلاميذ, كما جميع المسيحيين كذلك. خلال خدمة ربنا على الأرض, أولئك الذين اقتبلوا كلمته صاروا تلاميذه. ولهم بسط مبادئ الملكوت الذي كان قد جاء ليُعلنه. هذه المبادئ لا تتعارض أبداً مع الإعلان الكامل المُعطى للكنيسة فيما بعد. كما ذكرتُ سابقاً, وكما أن برّ الناموس "يَتِمُّ فِينَا نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية ٨: ٤), كذلك فإن البر الأسمى في هذه العظة الرائعة سيميّز كل أولئك الذين يتجددون ويسود الروح القدس حياتهم.

السؤال الثاني هو: هل تُري هذه العظةُ الناسَ الطريقَ إلى الخلاص؟ لا. فلم يكن يُقصَد بها هذا. إنها تُوضح السلوك الذي يجب أن يُرى في أولئك الذين يخلصون. إن كان الناس يسعون وراء الخلاص بجهود بشرية, فعندها هذه العظة تدينهم وحسب, لأنها تضع مقياساً للبر أعلى بكثير من ناموس موسى, ومن هنا فإنها تكشف عجز الخاطئ عن بلوغه. ولكن مَن يعترف بإثمه ويتحول في الإيمان إلى المسيح ويطيع التعليم المُعطى هنا, فإنه يبني على صخرة لا يمكن أن تهتزّ.

إن تفحُّصاً متأنياً لهذا الأصحاح السادس, على ما أعتقد, سيجعل هذه الأمور أوضح بالنسبة إلى فكر وقلب كل مَن ارتبك واحتار بخصوص التطبيق الدقيق لتعليم ربنا كما يُدوَّن هنا.

في الآيات الـ ١٨ الأولى يُصرّ يسوع على الحقيقة والمصداقية في أمور الله, ويقدم لنا تعليماً هاماً بخصوص الصلاة. لنلاحظ الآن الآيات ١ إلى ٤ المتعلّقة بالصدقات وإبداء المحبة نحو الفقراء والمحتاجين.    "ﭐحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" (الآيات ١- ٤).

"ﭐحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ". إنه برٌّ بمعنى تحقيق التزاماتنا نحو إخوتنا وخاصّة الذين نراهم؛ أي مدّ المعونة لحاجات البشر. وكل شيء يجب أن يُنجَز بدون تفاخر أو تباهٍ.

"إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ". عندما نسعى وراء إطراء الناس لنا ونحصل عليه فلا نحتاج لأن نتوقع مكافأة أبعد من ذلك عندما نقفُ أمام عرش دينونة المسيح.

"مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً". ما من شيء موضع مقاومة أكثر من المحبة المُعلَن عنها. إنه لأمرٌ مُذلٌّ للغاية بالنسبة لذاك الذي يتلقّاها ومؤذٍ للنفس التي تُعطيها.

"أَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ". إن عين الله على جميع أولاده, وسيثمّن بشكل صحيح كل ما يُصنَع لأجل مجده (٢ كورنثوس ١٦: ٩). أن يفعل الإنسان الخير في الخفاء, وهو يعرف أنه ينال رضا الرب وأنه يمنح السعادة للآخرين في محنتهم, لا بدّ أن يُكافَأ كفاية عند الابن الحقيقي لله, ولكن ذاك الذي يرى كل ما يُصنَع باسمه سوف لن يُخفق في أن يرى ذاك الصنيع عندما نراه كما هو.

في الآيات ٥ إلى ١٥ لدينا تعليم ربنا فيما يخص الصلاة. أن نتجاهل هذا وكأنه لا يتماشى مع الحق في زمن النعمة التدبيري الحالي لله سوف ينشأ عنه أن تُسلَب نفوسنا من أحد أعظم التعاليم الثمينة الهامة التي في كلمة الله. لنُفكّر في امتياز الجلوس عند قدمي الشفيع العظيم نفسه ونسمعه يقول لنا كيف نصلي. إنها فرصة لا تُقدَّر بثمن حقّاً علينا أن نغتنمها لا أن نمرّرها إلى تلاميذ من دهرٍ آخر. علينا أن نتذكر من جديد, وبما أننا مباركون بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع, فليس في الكتاب المقدس من تعليم أخلاقي أو روحي لا يكون من إرثنا. فلنفكر إذاً, ببعض الانتباه, في التعليم المُتضمَّن في هذا الجزء من العظة والمُتعلِّق بدنوّنا إلى الله بالصلاة.

"وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ. فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَﭐغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاتِكُمْ" (الآيات ٥- ١٥).

يتم تحذيرنا أولاً ضد الشكلية المجردة في الصلاة, ومن أن نركز  أفكارنا على ما يعتقد الناس الآخرون أنه تقوى مزعومة, ونُدعى إلى التركيز على مجد الله. إنه يطلب منا المصداقية والواقعية. هناك أناس مثلهم مثل الفريسيين (كالمحمدانيين والروميين وآخرين) يعتبرون الصلاة بحد ذاتها واجباً وتعطي درجة معينة من الأهلية والاستحقاق للإنسان. لقد كانت الصلوات الرسمية الشكلية تُتلى في الأماكن العامة, وكلما طالت الصلاة كلما اجتذبت انتباه الحاضرين. وكان هناك ميل إلى الحكم على تقوى الإنسان بحسب مدة صلواته. لقد حذر يسوع تلاميذه ضد سوء استخدام الصلاة. لم يحظر عليهم الصلاة في الأماكن العامة. في ١ تيموثاوس ٢: ٨ يتم التلميح إلى ذلك بشكل مباشر. ولكنه ندد بأن نصلي بغية أن يرانا الآخرون, أو الاشتراك في ممارسات دينية أخرى بهدف التفاخر والتباهي. بالنسبة للفرد, إن المكان المناسب للصلاة هو المُختلى, الحجرة المخفية حيث تكون وحدك مع الله, وحيث لا توجد عين بشرية تراقب أو أذن إنسان تسمع. وإن الله الذي يرى في الخفية سوف يسمع ويجيب بما يتناسب مع مشيئته.

وليس من الضروري أن "أَتْعَبْتُمُ الرَّبَّ بِكَلاَمِكُمْ" (ملا ٢: ١٧). إن التكرار الذي لا طائل تحته, وترديد عبارات جوفاء فارغة أو لا معنى لها بشكل مستمر أمر مُحظّر بشكل واضح صريح. فكم تصبح تلاوة "السبحة الوردية" متضاربة وغير لائقة على ضوء هذا النص الكتابي! إننا لا نُسمع بفضل "كَثْرَةِ كَلاَمِنا". فذاك الذي يعرف كل حاجاتنا أكثر منا أنفسنا يود أن نضعها أمامه ببساطة الأطفال, وليس كأنه سيضطر إلى تلبيتنا عند الحاجة بلجوئنا إلى الالتماس المستمر المتواصل (الآية ٨). صحيح أن ربنا يتحدث في مكان آخر عن الإلحاح في الصلاة, ولكن يجب ألا نخلط بين هذا وبين التكرار الفارغ لعبارات تقوية معينة.

في الآيات ٩- ١٣ لدينا رؤوس أقلام جميلة وموحية تسمى عامةً بـ "الصلاة الربانية". وهذا خطأ في التسمية, اللهم إلا بمعنى أنها هكذا لأن الرب هو الذي أعطانا إياها. ولكنها في الواقع "صلاة التلاميذ". فما كان يمكن ليسوع أن يصليها, لأنها تشتمل على طلب مغفرة الخطايا, بينما هو كان بلا خطيئة على الإطلاق. ولا يبدو أن هناك أي سبب وجيه للافتراض أنه قصد بها أن تُتلى مراراً وتكراراً, أو كجزء من خدمة الصلاة أو العبادة, كما تستخدم اليوم بشكل شائع. وليس هناك من ذكر لاستخدامها في الجماعات المسيحية الأولى في أعمال الرسل وليس هناك إشارة لها في الرسائل. يبدو أن الرب قد أعطاها كرؤوس أقلام أو نموذجاً للصلاة؛ فيوحي بذلك بالأسلوب الذي يجب أن نُخاطب به الله والطلبات التي تُرفع لديه. رغم أنه ليس هناك أي عبارة في هذه الصلاة تتناقض مع الإعلان الوارد لاحقاً, فمع ذلك نجدها محدودة نوعاً ما. أما وقد جاء الروح القدس ليرشدنا في ابتهالاتنا فلا يبدو أن هناك حاجة إلى التزام أو تقيد رسمي باستخدام نفس الكلمات التي لدينا هنا عندما نأتي إلى حضرة الله سواء بالصلوات العامة أو الخاصة.

دعونا نلاحظ ترتيب الطلبات:

"أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ". هذا تعبير عن التسبيح والعبادة من جهة أولئك الذين يقرون بعلاقتهم مع الله. إنهم يعرفونه كآب, وهذا ينطبق فقط على المولودين ثانية.

"لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ", تتطلع إلى المجيء الثاني للمسيح عندما سيتأسس ملكوت الله بقوة على كل هذا العالم.

"لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ". ليس هناك في الأعالي من يسعى لأن يروغ من إرادة الله. أما هنا على الأرض فالإرادة الذاتية قد أدت إلى بؤس لا حد له. عندما يتعلم الناس أن يصنعوا إرادة الله في هذا العالم كما يُسَر القديسون والملائكة بفعلها في السماء فإن العصر الذهبي سيكون قد أتى بالفعل.

"خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ". إنه تعبير عن الاتكال على الله الآب الحي من أجل حاجات كل يوم. إننا لا نستطيع أن نكون واثقين من الغد ما لم يكن الله يمدنا بحاجاتنا.

"وَﭐغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا". نعلم من الرسائل أن علينا أن نغفِرَ كما يُغفَر لنا (أفسس ٤: ٣٢؛ كولوسي ٣: ١٣). وهذا سيكون معيار مغفرتنا عندما يسيء إلينا الآخرون.

"وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ". إنه اعتراف بضعفنا الذي نُقر به؛ إنه صرخة إلى الله لكي يحفظنا من أن نُوضع في ظروف يغلبنا فيها صوت المجرب.

الجزء الأخير من الآية ١٣ لا نجده في أفضل الإصدارات المنقحة. يبدو أنه أُضيف لاحقاً بعد أن صارت هذه الصلاة مألوفةً الاستخدام في الخدمة الطقسية.

في سيادة الله كآب على أولاده تعتمد مغفرة خطايانا اليومية على موقفنا نحو أولئك الذين يُخطئون إلينا. إن رفضنا أن نغفر لإخوتنا المسيئين إلينا, فإن الله لن يمنحنا المغفرة التجديدية المحيية التي نطلبها عندما نُدرك خطيئتنا وإخفاقنا. وهذا بالطبع ليس له علاقة بتلك المغفرة الأبدية التي يتلقاها الخاطئ الذي يؤمن عندما يأتي إلى المسيح. إنها مغفرة الآب نحو الولد الذي يُخطئ, التي تأخذ بعين الاعتبار, بكل تأكيد, الموقف الذي يكون قد اتخذه الذي عثر نحو أعضاء آخرين في العائلة.

في الآيات التي تلي ذلك (١٦- ١٨) يعود الرب لما كان قد قاله قبلاً في الآيات ١- ٤.

"«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" (الآيات ١٦- ١٨).

كل خداع أو رياء يُوبَّخ بصرامة. أن تسعى لتصل على شهرة بأنك تقي من خلال سلوك سوداوي حزين هو أمر غريب كلياً عن الصراحة والمباشرة التي يجب أن تُميز دائماً وأبداً أولئك الذين يقرون بخضوعهم لذاك الذي كان بريئاً صادقاً بكل طرقه, والذي يدعو إلى صدق مطلق في سلوك تلاميذه. إنه لحري بذاك الذي يمتنع عن الطعام أو الأشياء الأخرى, لكي يتسنى له وقت أكثر مع الله, أن يسلك بسرور وفرح إذ يتمتع بشركة مع الآب.

أن الموقف الصحيح من الممتلكات الزمنية المؤقتة يتوضح في الآيات ١٩- ٢٤. فكل شيء يجب أن يكون خاضعاً لله ومُستخدماً بحسب توجيهاته.

"لاَ تَكْنـزوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنـزوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنـزكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ! لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ" (الآيات ١٩- ٢٤).

مَن كان على تواصل مع الحقائق الأبدية يمكن أن يهتم بالممتلكات الأرضية بيدٍ طليقة. إن الثروة الدنيوية سرعان ما تتلاشى وتفارق مالكها, وإذ لا يبقى لديه شيء آخر, فإنه يصير فقيراً بالفعل. أما أولئك الذين يكنـزون كنوزاً سماوية, الذين يصرفون بحسب مشيئة الله, بينما يُعتَبرون بالمصادفة فقراء في هذا العالم, فإنهم يكونون أغنياء بالإيمان؛ وعندما تنتهي الحياة هنا سيجدون كنـزاً لا يفنى محفوظاً لهم في العلاء. كلما وزّعنا لأجل بركة الآخرين, لإرشاد الرب, كلما ازدادت ثروتنا في السماء.

إن شخصياتنا مركّبة بطريقة تجعل قلوبنا تتعلّق بمكان ثرواتنا. الدنيوي لديه كل شيء هنا, ولكنه سيكون فقيراً في الأبدية. والمؤمن السماوي الفكر قد يكون فقيراً بالفعل بأغراض هذا العالم ولكن غنيّ أمام الله.

فما نحتاج إلى أن نركّز عليه, إذاً, هو أن نُبقي أبصارنا متّجهة نحو مجد الله؛ أن تتبيّن أبصارُنا إرادته لكيما نسلك فيها. إن عُدْنا أدراجنا إلى طرق إرادتنا الذاتية فإننا إنما نمضي إلى ظلمة مقيمة وسرعان ما نضلّ طريقنا. علينا أن نختار بأنفسنا أن نخدم الله أو المال- أي الغنى والثروة. لا نستطيع أن نخدم كليهما. فمحبة الواحد تطرد محبة الآخر.

إن إرادة الله أن يعيش أولاده بدون قلق أو اضطراب. وهذا يتضح في القسم الختامي من هذا الأصحاح.

"لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ َلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي اليَوْمَ شَرُّهُ" (٢٥- ٣٤).

عندما قال يسوع: "لاَ تَهْتَمُّوا"، لم يقصد أن على تلاميذه أن يكونوا لا مبالين أو مسرفين. بل عليهم ألا يقلقوا أو يصبحوا معوزين مكروبين أو مرتبكين محتارين في مواجهة المستقبل. إن مَن خلّصنا ويُعنى بنا إلى ذلك الحد يمكن أن نعوّل عليه ليتولّى أمر الاهتمام بنا وأن يعيلنا إلى المُنتهى. إن ربنا يُلفت انتباهنا إلى طيور السماء التي يغذّيها الآب السماوي, وإلى زنابق الحقل التي يُلبِسها الخالقُ المُحسنُ الكريمُ الجمالَ. لا يمكننا أن نـزيد قامتنا بالفكر القلق. فلماذا نفسح المجال إذاً لنهتم بكيفية تلبية متطلبات المستقبل؟ إن الله الذي يُلبس عشب الحقل قد وعد بأن يكسي أولاده. فلماذا نكون إذاً قليلي الإيمان؟

إن أمم العالم يسعون وراء هذه الأشياء الزائلة المؤقتة جاعلين من ذلك هدفاً لحياتهم. علينا ألا نحاكيهم في هذا, بل بالأحرى أن نهتم قبل كل شيء بمرضاة الله, وأن نضبط سلوكنا بما يتوافق مع مبادئ ملكوته البارّة المُحِقّة. يلخّص يسوع مسؤوليتَنا إجمالاًً عندما يقول: "اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ". لا يقول: "ابحثوا عن الملكوت"، بل، بالحري، ليكن الاهتمام بملكوت الله في المقام الأول في حياتكم. إن الرسالة إذاً هي لأولئك الذين هم تلاميذ للمسيح. فلكوننا هكذا, علينا أن نحقق برّه- أي الأشياء الإلزامية المفروضة علينا كأتباع أو رعية لربنا المبارك. وعندها يكون لدينا اليقين بأن كل الرحمات المؤقتة التي يُحتَاج إليها سيقدّمها لنا.

وهكذا يُختَتم الأصحاح بالحثّ على أن نترك الغد بيد الله بينما نسعى لأن نرضيه ونسرّه اليوم. عندما يأتي الغد فإنه سيقدّم لنا كل رحمة ونعمة مهما كانت المشاكل التي علينا مواجهتها. اليوم هو مِلْكُنا فلنمجده فيه.


١. - اللا ناموسية: (Antinomianism ): نبذ الناموس زعماً بأن النعمة تُبطِله [فريق الترجمة].