الفصل ٣

المجيئان

"إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا" (١ بطرس ١: ١١).

كل من يتمعن في نبوءات العهد القديم بانتباه سينذهل بخطَّي التنبؤ المتغايرين والمتضادين في الظاهر المتعلقين بمجيء المسيّا. بعض النبوءات تتكلم عنه على أنه آت في ضعف وإذلال، رجل أوجاع ومعتاد على الأسى، كجذر شجرة في أرض جافة، ليس فيه هيئة ولا جاذبية، ولا جمال يُرتجى. ملامحه مُشوهة، يداه وقدماه مثقوبتان، ومنسيٌ من الإنسان والله، وسيُدفن مع الأشرار.

انظر: أشعياء ٥٣ (الأصحاح كاملاً)؛ أشعياء ٧: ١٤؛ مزمور ٢٢: ١- ١٨؛ دانيال ٩: ٢٦؛ زكريا ١٣: ٦، ٧؛ مرقس ١٤: ٢٧.

الخط الآخر في النبوءة يُخبر مسبقاً عن ملك عظيم لا يُقاوم، يُلقي على الأرض وابل دينونات رهيبة، ويجمع بني إسرائيل المشتتين، ويسترجع عرش داود إلى درجة أعظم وأسمى من سليمان، ويبدأ عهداً من الحكم يتميز بالسلام الراسخ والبر الكامل.

انظر، على سبيل المثال: أشعياء ١١: ١، ٢، ١٠- ١٢؛ التثنية ٣٠: ١- ٧؛ أشعياء ٩: ٦، ٧؛ أشعياء ٢٤: ٢١- ٢٣؛ أشعياء ٤٠: ٩- ١١؛ إرميا ٢٣: ٥- ٨؛ دانيال ٧: ١٣، ١٤؛ ميخا ٥: ٢؛ متى ١: ١؛ متى ٢: ٢؛ لوقا ١: ٣١- ٣٩.

وعندما حان الزمان بدأت النبوءة المسيّانية تتحقق بميلاد ابن من عذراء بحسب أشعياء، وفي بيت لحم بحسب ميخا، ويحقق بشكل كامل وبدقة كاملة كل النبوءات المتعلقة باتضاع المسيا؛ فالخطيئة يجب أن تُزال أولاً، قبل أن يتم تأسيس الملكوت، ولكن اليهود ما كانوا ليقتبلوا ملكهم بالصورة التي ظهر عليها كونه "وَدِيعاً رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ"؛ فقاموا بصلبه.

انظر: زكريا ٩: ٩؛ متى ٢١: ١- ٥؛ يوحنا ١٢: ١٣- ١٥.

ولكن يجب أن لا نستنتج أن شر الإنسان قد أوقف هدف الله المعين، لأن مشوراته تتضمن مجيئاً ثانياً لابنه، عندما ستُلاقي النبوءات المتعلقة بمجد المسيح الأرضي نفس التحقيق الدقيق والأمين كما تلك النبوءات التي كانت تتعلق بآلامه الأرضية.

انظر: هوشع ٣: ٤، ٥؛ لوقا ١: ٣١- ٣٣ (الآية ٣١ تمت حرفياً)؛ أعمال ١: ٦، ٧؛ أعمال ١٥: ١٤- ١٧؛ متى ٢٤: ٢٧- ٣٠.

كان اليهود بطيئوا الفهم والقلب إلى الإيمان بكل ما كتبه الأنبياء المتعلق بآلام المسيّا الذي كان سيأتي؛ ونحن بطيئوا الفهم والقلب إلى الإيمان بكل ما كتبوه والمتعلق بمجده. بالتأكيد التوبيخ الأكبر يوجه لنا، إذ يجب أن يكون أسهل للفهم والإيمان أن يأتي ابن الله "فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ"، من أنه كان ليأتي كطفل إلى بيت لحم ويصير نجاراً في الناصرة. في الواقع، إننا نؤمن بهذه الحقائق الأخيرة لأنها حدثت، وليس لأن الأنبياء تنبأوا عنها، وآن الأوان لنتوقف عن لوم اليهود على عدم إيمانهم. لو طُرح السؤال أنه كيف أمكن لهم أن يكونوا عمياناً عن المعنى الواضح لهكذا نبوءات واضحة لا لَبس فيها، فسيكون الجواب هو أنهم كانوا عميان عن فهم ذلك بنفس الطريقة التي نجد فيها بعض المسيحيين عمياناً عن إدراك المعنى الواضح تماماً لعدد كبير جداً من النبوءات التي تتكلم عن مجده الأرضي، وأقصد بذلك بسبب عملية "روحنة" الكتاب المقدس. بمعنى آخر الكتبة القدماء أخبروا الناس بأن النبوءات المتعلقة بآلام المسيا يجب ألا تُفسر حرفياً، تماماً كما أن بعض المعلمين المعاصرين يُخبرون الناس بأن النبوءات المتعلقة بالمجد الأرضي للمسيح يجب أن لا تؤخذ حرفياً.

ولكن المجيء الثاني للمسيح فيه وعد للكنيسة كما لليهود. فمن بين الكلمات الأخيرة من العزاء والتشجيع التي قالها ربنا لتلاميذه المتألمين الحزانى المرتبكين المحتارين بخصوص الذبيحة التي أنجزها على الصليب نقرأ ما يلي:

"لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً" (يوحنا ١٤: ١- ٣).

هنا يتكلم الرب عن مجيئه ثانية تماماً بنفس الشكل الذي غادرهم فيه. لقد كان صعوده، كما نعلم، بشخصه وجسده. ومجيئه المستقبلي سيكون بشخصه وجسده.

ولكن لم نُترك للشك في هذه النقطة الأساسية، ولا للاستنتاجات العقلية، ولو كانت لا تُقاوم.

"رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالاَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ»" (أعمال ١: ١٠، ١١).

وإلى نفس الفكرة تشير ١ تسالونيكي ٤: ١٦، ١٧: "لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ".

"مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (تيطس ٢: ١٣).

"فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ" (فيلبي ٣: ٢٠، ٢١).

"أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (١ يوحنا ٣: ٢).

"وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لِأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ" (رؤيا ٢٢: ١٢).

من أجل هذا "الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ" تعلمنا أن "نراقب بحذر" (مرقس ١٣: ٣٣، ٣٥، ٣٧؛ متى ٢٤: ٤٢؛ ٢٥: ١٣)؛ وأن "ننتظر" (١ تسا ١: ١٠)؛ وأن نكون "مُسْتَعِدِّينَ" (متى ٢٤: ٤٤). إن آخر صلاة في الكتاب المقدس هي لطلب عودة المسيح سريعاً (رؤيا ٢٢: ٢٠).

من خلال هذه النصوص الكتابية، يبدو واضحاً أن المجيء الثاني سيكون شخصياً وبالجسد. وبالتالي فهذا لا يعني موت المؤمن، ولا خراب أورشليم، ولا حلول الروح القدس في العنصرة، ولا الانتشار التدريجي للمسيحية؛ بل إنه "الرجاء المبارك" للكنيسة. إنه يشير إلى الوقت الذي سيقوم فيه المؤمنون الراقدون، ومع المؤمنين الأحياء آنذاك، الذين سوف "يتغيرون" (١ كور ١٥: ٥١، ٥٢) ويُختطفون إلى العلى لملاقاة الرب في الهواء. سيكون ذلك الوقت الذي سنكون نحن أبناء الله الحاليين مثله، والذي سيُكافأ فيه المؤمنون الأمناء على أعمال إيمانهم لأجل اسمه.

النصوص الكتابية التالية تظهر لنا التغاير بين مجيئي ربنا:

المجيء الأولالمجيء الثاني

"فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ" (لوقا ٢: ٧).

"وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ" (عبرانيين ٩: ٢٦).

"لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لوقا ١٩: ١٠).

"لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ" (يوحنا ٣: ١٧).

"وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ" (يوحنا ١٢: ٤٧).

"وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ" (متى ٢٤: ٣٠).

"هَكَذَا الْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ" (عبرانيين ٩: ٢٨).

"وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ وَالَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (٢ تسالونيكي ١: ٧- ٨).

"لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أعمال ١٧: ٣١).

 

إن الدارس سيجد تغايرات كثيرة جداً مثل هذه ولا حصر لها. ولكن تكفي هذه التي قدمناها لنظهر أن كلا الوعدين لإسرائيل والكنيسة يتطلب عودة لا بد منها لربنا إلى الأرض.

ملاحظة: قد يساعد المبتدئين في دراسة الكتاب المقدس أن يتمعنوا في النظريات المختلفة هنا وهناك التي تعارض العقيدة الكتابية القائلة بعودة المسيح شخصياً وبالجسد، أو المجيء الثاني للمسيح.

وبالتأكيد سيُفهم بشكل واضح أن النصوص الكتابية التي تتكلم عن ظهوره المنظور والجسدي في نهاية هذا الدهر التدبيري ستكون مختلفة ومتمايزة عن تلك التي تشير إلى صفاته الإلهية في العلم بكل شيء وكلية الوجود، التي بفضلها يعرف كل الأشياء وهو دائماً حاضر في كل مكان، وعن هذا يتحدث متى ١٨: ٢٠ ومتى ٢٨: ٢٠ على سبيل المثال. إنها لحقيقة مباركة، في هذا السياق، أنه معنا دائماً وإلى دهر الدهور.

ولكن "المسيح يسوع الإنسان" حاضر بالجسد الآن شخصياً إلى يمين الله، كما يعلن بشكل واضح أعمال ١: ٩- ١١: "وَلَمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالاَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ»".

استفانوس رآه هناك: "وهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ فَرَأَى مَجْدَ اللهِ وَيَسُوعَ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: «هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ»" (أعمال ٧: ٥٥، ٥٦).

".... بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عبرانيين ١: ٣).

"فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ" (كولوسي ٣: ١).

للإيضاح أقول: خلال الحرب الفرنسية البروسية، كان فون مولتكي، بعبقريته ومهارته وعن طريق شبكة من الاتصالات التلغرافية، كان حقاً حاضراً في كل ساحة معركة، رغم أنه كان في مكتبه في برلين جسدياً وبشكل منظور. وفيما بعد في الحرب انضم إلى الجيش قبل باريس، بعد أن كان حضوره الفعلي والمنظور هناك. كذلك ربنا، بفضل صفاته الإلهية، هو حاضر حقاً مع كنيسته الآن، ولكنه سيكون حاضراً بشكل منظور وجسدياً على الأرض لدى مجيئه الثاني.

١ - النبوءات المتعلقة بعودة الرب لم تتحقق بحلول الروح القدس في يوم العنصرة، ولا في تجلّيه في الاجتماعات الدينية ولقاءات الصلاة، والسبب في ذلك:

أ - هذا التفسير خاطئ لأنه يجعل الروح القدس هو التجلي الوحيد للمسيح في الدهر الحاضر.

ب - أيضاً، في وعد المسيح بإرسال الروح القدس، يتكلم عنه بشكل متمايز عنه على أنه "مُعزّي آخر" (يوحنا ١٤: ١٦)؛ وفي يوحنا ١٦: ٧ يقول المسيح: "إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ". ومن هنا، فإن المجيء الثاني للمسيح لا يمكن أن يكون هو مجيء الروح القدس في يوم العنصرة وحلوله على التلاميذ.

ج - لأن الكُتّاب الملهمين لأعمال الرسل والرسائل والرؤيا يذكرون عودة الرب أكثر من مئة وخمسين مرة، بعد العنصرة، ودائماً على أنه أمر سيحدث في المستقبل.

د - لأن العنصرة لم يرافقها أي من الأحداث التي قيل بالنبوءة أنها سترافق المجيء الثاني للمسيح. وهذه الأحداث هي: قيامة المؤمنين الراقدين (١ كور ١٥: ٢٢، ٢٣؛ ١ تسا ٤: ١٣- ١٦)؛ و"تغير" المؤمنين الأحياء، الذي به "يلبسون عدم فساد"- إذ أن "أجساد مذلتهم" تكون "على هيئة جسد الرب الممجد"، واختطافهم لملاقاة الرب في الهواء، (١ كور ١٥: ٥١- ٥٣؛ ١ تسا ٤: ١٧؛ في ٣: ٢٠ ، ٢١)؛ ونواح كل قبائل الأرض بسبب المجيء المنظور لابن الإنسان في قوة ومجد عظيمين (متى ٢٤: ٢٩، ٣٠؛ رؤيا ١: ٧).

ه ذه هي الظواهر المترافقة مع المجيء الثاني لربنا. فعندما يأتي، هذه الظواهر ستكون موجودة. وفي الواقع لم يحدث أي منها عند العنصرة، ولا في أي تجلٍ آخر للروح القدس.

٢ - اهتداء الخاطئ ليس هو مجيء الرب.

هذا القول هو نظرية خاطئة أيضاً ولا تكفي لتفسير النبوءات العديدة والمفصلة. يكفي أن نقول ما يلي:

أ - بحسب الكتاب المقدس هذا هو العكس تماماً. الاهتداء هو مجيء الخاطئ إلى المسيح، وليس مجيء المسيح إلى الخاطئ (متى ١١: ٢٨؛ يوحنا ٥: ٤٠؛ يوحنا ٧: ٣٧؛ يوحنا ٦: ٣٧).

ب - ليس من حدث من الأحداث الواردة أعلاه، والتي قيل بالنبوءة أنها ستحدث عند عودة الرب، ترافق اهتداء الخاطئ.

٣ - موت المسيحي ليس هو مجيء المسيح.

أ - عندما فهم التلاميذ قول الرب بأن واحداً منهم سيبقى إلى أن يعود، انتشر الخبر بينهم بأن "ذلك التلميذ لا يموت" (يوحنا ٢١: ٢٢- ٢٤).

ب - الكُتاب الملهمون يشيرون دائماً إلى موت المؤمن على أنه "رحيل". وليس من حادثة يرتبط فيها مجيء الرب بموت المسيحي. انظر فيلبي ١: ٢٣؛ ٢ تيموثاوس ٤: ٦؛ ٢ كورنثوس ٥: ٨. استفانوس المحتضر رأى السماوات مفتوحة، وابن الإنسان- ليس آتياً، بل- "قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ" (أعمال ٧: ٥٥، ٥٦).

ج - ما من حدث من الأحداث المتنبأ عن أنها ستحدث عند مجيء الرب يترافق مع موت المسيحي.

٤ - دمار أورشليم على يد الرومان لم يكن هو المجيء الثاني للمسيح.

أ - في متى ٢٤ ولوقا ٢١، يتم التنبؤ عن ثلاثة أحداث: دمار الهيكل، ومجيء الرب، ونهاية العالم (الدهر). انظر متى ٢٤: ٣ لم يكن هناك من داع لخلط هذه الأمور الثلاثة المتمايزة تماماً معاً لإعطاء الفكرة أو للإيحاء بأن تحقيق أي منها يترافق مع تحقيق الجميع.

ب - كتب الرسول يوحنا سفر الرؤيا بعد دمار أورشليم، ولكنه كان لا يزال يتكلم عن مجيء الرب كحدث مستقبلي (رؤيا ١: ٤، ٧؛ ٢: ٢٥؛ ٣: ١١؛ ٢٢: ٧، ١٢، ٢٠). الوعد الأخير الوارد في الكتاب المقدس هو: "نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً"؛ والصلاة الأخيرة هي: "آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ".

ج - ما من حدث من الأحداث المتنبأ عنها المرتبطة بمجيء الرب حدثت عندما دُمرت أورشليم. انظر ١ تسا ٤: ١٤- ١٧؛ مت ٢٤: ٢٩- ٣١؛ مت ٢٥: ٣١، ٣٢، الخ.

٥ - انتشار المسيحية ليس هو المجيء الثاني للمسيح.

أ - انتشار المسيحية التدريجي، بينما يشير الكتاب المقدس إلى أن عودة الرب ستكون مباغتة وغير متوقعة (مت ٢٤: ٢٧، ٣٦- ٤٢، ٤٤، ٥٠؛ ٢ بطرس ٣: ١٠؛ رؤ ٣: ٣).

ب - انتشار المسيحية هي عملية (أي تستغرق وقتاً)؛ بينما الكتب المقدس يتكلم عن عودة الرب بشكل مؤكد على أنه حادث.

ج - امتداد المسيحية يجلب الخلاص للأشرار، بينما مجيء المسيح يُقال بأنه لا يجلب الخلاص، بل "هَلاَك بَغْتَة" (١ تسا ٥: ٢، ٣؛ ٢ تسا ١: ٧- ١٠؛ مت ٢٥: ٣١- ٤٦).

٦ - هذه التفسيرات والنظريات المزعومة لا تظهر في أي من كتابات اللاهوتيين المحترمين أو أي مدرسة أو أي طائفة، ولا تتبناها أية هيئة ذات سمعة عالمية جيدة. هذه كلها تتكلم عن المجيء الثاني للمسيح بشكل منظور وبالجسد.

ولكن يُقال أحياناً أن هذا المجيء لا يمكن أن يحصل حتى يكون العالم قد اهتدى إلى المسيحية بفضل كرازة الإنجيل، وخضع للسيادة الروحية للمسيح لألف سنة. ولكن هذه النبرة خاطئة بالكلية، وذلك للأسباب التالية:

أ - يصف الكتاب المقدس بشكل واضح حالة الأرض لدى المجيء الثاني للمسيح على أنها ليست موسومة ببركة ألفية بل بشرٍ فظيع (لوقا ١٧: ٢٦- ٣٢؛ تك ٦: ٥- ٧؛ ١٣: ٣؛ لوقا ١٨: ٨؛ ٢١: ٢٥- ٢٧).

ب - يصف الكتاب المقدس كل سير هذا الدهر التدبيري منذ البداية إلى النهاية بتعابير تستبعد إمكانية وجود عالم مهتدٍ بأي شكل من الأشكال (متى ١٣: ٣٦- ٤٣، ٤٧- ٥٠؛ مت ٢٥: ١- ١٠؛ ١ تيم ٤: ١؛ ٢ تيم ٣: ١- ٩؛ ٤: ٣، ٤؛ ٢بط ٣: ٣، ٤؛ يهوذا ١٧- ١٨).

ج - هدف الله في هذا الدهر التدبيري من المعلن أنه، ليس اهتداء العالم، بل أن "يَأْخُذَ مِن الأمم شَعْباً عَلَى اسْمِهِ"، وبعد ذلك، وليس قبله، سيهتدي العالم. انظر أعمال ١٥: ١٤- ١٧؛ متى ٢٤: ١٤ ("شَهَادَةً")؛ رومية ١: ٥ ("فِي جَمِيعِ الأُمَمِ"، وليس "لِجَمِيعِ الأُمَمِ")؛ رومية ١١: ١٤ ("بعضاً منهم"، وليس "كلهم").

د - من غير الممكن أن "نراقب بدقة" و "ننتظر" حادثةً كنا نعلم أنه ما كانت لتحدث لأكثر من ألف سنة.