المحاضرة ٣

ذبيحة السلامة

اقرأ لاويين، الأصحاح ٣؛ ٧: ١١- ٣٤؛ مزمور ٨٥

إن لذبيحة السلامة قيمة ثمينة مميزة بسبب فرادة صفتها بأنها تعبير عن الصداقة مع الله القائمة على أساس عمل الرب يسوع المسيح على الصليب. كما أظهرنا بالتفصيل لتونا، لا يمكن أن تكون هناك شركة حقيقية مع الله إن كنا نتجاهل ذلك العمل المُنجَزْ. إن التوحيدي يتحدث عن التمتع بالصداقة أو العلاقة مع الله، ولكنه يخلط بين المشاعر الدينية والمشاركة أو الشركة الروحية، لأن الأخيرة لا يمكن أن توجد بمعزل عن الإيمان بالرب يسوع كابن سرمدي لله، واستناد الروح على العمل الذي أنجزه على عود الصليب.

في نفس الحقيقة التي تفيد بأن ذبيحة السلامة يُحتاج إليها تتضمن أن هناك شيئاً ما خطأ فيما يتعلق بالعلاقات بين الله والإنسان. إن الإنسان بالطبيعة ومنذ السقوط غير مؤهل لصحبة الله. إنه يأتي إلى هذا العالم كخاطىءٍ بالطبيعة؛ ومنذ البدء يكون ميله نحو ما هو آثم أكثر منه نحو ما هو مقدس. إنه لأيسر بكثير له أن يخطئ من أن يفعل ما هو صائب وقويم؛ وإنه لأيسر له بكثير أن ينحدر إلى الأسفل من أن يتسامى إلى الأعلى. أعلم أنه طراز قديم هذه الأيام أن تنكر كل هذا، وأن تُعلِّم أن الإنسان آخذٌ في التحسن خلال القرون؛ ولكن ليس الحال هكذا تماماً. فبمعزل عن كلمة الله، خبراتُنا الفعلية تعلِّمُنا أنه أسهل على الإنسان أن يفعل الشر من أن يفعل الخير، وذلك بسبب فساد طبيعته. هتف داود في المزمور ٥١: ٥ : "هَئَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي". بالطبيعة لا يفهم الإنسان أمور الله؛ فلا يستطيع أن يتشارك معه؛ إنه يحب ما يكرهه الله، ويكره ما يحبه الله. إن الله قدوس بالمطلق؛ يحب الخير ويفعل الخير فقط. ليس هناك أي شيء مشترك فعلياً بين الإنسان والله. إن الناس ليسوا فقط خطاة بالطبيعة، ولكنهم يصبحون متعدين بالممارسة. عن عمدٍ، وطوعياً، ينتهكون الناموس، ويخالفون الوصايا، ويسلكون بحسب مشيئة أنفسهم. وكما تقول لنا الكلمة: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أشعياء ٥٣: ٦). بما أن الله يرغب لنا أن نكون في سلام معه، فإنه يتوق لأن يأتي بنا إلى صحبة وعلاقة معه. ولكن سرعان ما يُطرح هذا السؤال أن: "أنى يمكن لإنسان خاطئ ملوث أن يكون أبداً في سلام مع الله؟ هل يمكننا أن نصنع بأنفسنا السلام معه؟" وغالباً ما نسمع أناساً مهمين جداً يحثون نفوس غير المؤمنين بالمسيح على أن يصنعوا سلاماً مع الله. لا أريد أن أكون مثيراً للشقاق، ولا أريد أن أكون مفرطاً في النقد، ولا أريد أن أجعل إنساناً مذنباً من أجل كلمة، ولكني مقتنع بأن هذا التعبير هو مضلل وخاطئ تماماً. إن ما يقصدونه صحيح تماماً. إنهم يقصدون أن الناس يجب أن يتوبوا عن خطاياهم، وأن يُقِرّوا بحالتهم الساقطة الضالة، وأن يعترفوا بحاجتهم إلى مخلص. ولكن ما من إنسان يستطيع مهما حاول أن يصنع سلامه مع الله. إن المسيح هو الذي يصنع السلام لنا.

"هل تذرف عيناي إلى الأبد،
وهل تبقى حماستي لا تعرف تراخياً،
فهذه ما كان ليمكن أن تُكفّر عن الخطيئة،
أنت تخلّص، وأنت وحدك تُخلّص.
ليس في يدي من ثمن أدفعه،
ولذلك ألتصق بصليبك وحسب".

إنه مجد الإنجيل هو ذاك الذي يكشف لنا قلب الله وقد خرج ورأى الناس في خطاياهم، ويخبرنا عما فعله لكيما ينال الإنسان السلام مع الله، إنه يخبرنا عن المسيح الذي أتى من حضن الآب، من المجد الذي كان له مع الآب قبل أن يُكَوَّن العالم، فصار في نعمة أدنى قليل من الملائكة لكي يعاني آلام الموت، ويذهب إلى الصليب، ذلك الصليب المخيف، حيث صار لعنة لأجلنا لكيما يأتي الله والإنسان معاً إلى انسجام كامل، وهكذا نتصالح مع الله بموته (أي بموت المسيح). "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ". ومع ذلك فإن تلك الحياة الرائعة العجيبة ما كانت لتستطيع بحد ذاتها أن تسوي مسألة الخطيئة وأن تستعيد الإنسان إلى الله. فلكي يفعل ذلك كان لابد له أن يموت، وإذ مات فقد أظهر حقيقة أنه ليس هناك عداوة من جهة الله نحو الإنسان؛ إن كل العداوة هي من جهتنا نحن؛ والآن فإنه يناشدنا لنتصالح مع الله.

إننا نقف متجهين نحوه ومدينين، مدينين ندين له بمبلغ كبير، مدينين ورصيدنا استُنفذ بالكامل، ولذلك فنحن عاجزون تماماً أن نوفي المستحقات المفروضة علينا. إلا أننا نقرأ عن رجُلَين كانا في نفس الوضع تماماً، ونعلم أنه "وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً". وإنه يفعل ذلك على أساس ذبيحة السلامة: لقد بذل المسيح نفسه ليسدد الالتزامات المفروضة علينا نحن. تقول الآيات في (كولوسي ١: ١٩، ٢٠): "لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ أمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ". هذه هي ذبيحة السلامة. لقد صنع سلاماً بدمه الذي أراقه على الصليب. في أفسس ٢: ١٣، ١٤ نقرأ: "لَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ". هذا ما يتم تصويره بشكل رائع في ذبيحة السلامة التي في القديم. المسيح نفسه هو سلامنا. وكما قال أحدهم:

"السلام مع الله هو المسيح في المجد،
فالله نور والله محبة؛
لقد مات يسوع ليحكي الرواية،
عن أعداء أتى بهم إلى الله في الأعالي"

السلام مع الله ليس مجرد شعور بالسعادة والطمأنينة في النفس، رغم أن من يحظى بالسلام مع الله لا يمكن إلا أن يتمتع بالسرور، لأنه مكتوب: "فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ" (رو ٥١، ٢). إن السلام مع الله قد صُنِعَ على الصليب، وإننا ننتفع به متى آمنا بذاك المخلص المبارك الذي مات من أجلنا. لقد وجد الله مسرته في ذلك العمل، ونحن نجد مسرتنا هناك، وهكذا نتمتع بالمسيح معاً. إن فرحه هو المسيح وفرحنا هو المسيح؛ فهو يبتهج بالمسيح ونحن أيضاً نبتهج به؛ إنه يتغذى على المسيح ونحن نتغذى على المسيح أيضاً، وهكذا لنا شركة وعلاقة صداقة مباركة سعيدة، على أساس تلك التقدمة ذات الرائحة الطيبة العطرة.

في لاويين ٣ هناك ٣ أضاحي مختلفة يرد الحديث عنها وكل واحدة منها يمكن أن تُقرّب على المذبح كذبيحة سلامة. فأولاً نقرأ: "إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ ذَبِيحَةَ سَلاَمَةٍ فَإِنْ قَرَّبَ مِنَ الْبَقَرِ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى فَصَحِيحاً يُقَرِّبُهُ أَمَامَ الرَّبِّ" (الآية ١). ثم في الآية ٦ نقرأ: "وإِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مِنَ الْغَنَمِ ذَبِيحَةَ سَلاَمَةٍ لِلرَّبِّ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى فَصَحِيحاً يُقَرِّبُهُ". ومن جديد في الآية ١٢ نقرأ: "وإِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مِنَ الْمَعْزِ يُقَدِّمُهُ أَمَامَ الرَّبِّ". عند النظر إلى ذبيحة المحرقة، رأينا لتونا شيئاً مما توحي به هذه المخلوقات المتعددة بشكل رمزي. فذبيحة البقر تشير إلى المسيح كخادم مكرَّس لله والإنسان، وسواء فكّرنا به كمستقل بشكل كامل، كما يوحي إلينا الذَّكَرُ من هذه الحيوانات، أو الخاضع التابع، كما توحي لنا الأنثى منها، فإننا نستطيع أن نتشارك مع الله من ناحية كلا وجهتي النظر. ثم أن الغنم يرمز إليه على أنه ذاك الذي كُرّس حتى الموت؛ والمعز ترمز إلى ذاك الذي أخذ مكان الخاطئ.

لعله ليس لدينا جميعاً نفس الإدراك تماماً لقيمة وغنى المسيح وعمله، ولكن إن كنا نؤمن به حقاً، ونأتي إلى الله معترفين به، فإننا على أساس من السلام، ولنا أن نقيم صداقة مع الله على مقدار إدراكنا الكامل، وإذ نتابع التعلّم أكثر فأكثر عمّن هو المسيح حقاً، وما هو بالنسبة إلى الله، فإن شركتنا ستتعمق وتتكثف.

كان على المُقرِّب أن يضع يده على رأس الذبيحة التي يُقدمها، وأن يذبحها بنفسه عند باب خيمة الإجتماع. وهذا من جديد يرمز إلى تطابق المقرِّب مع قربانه. إنه يوضح على أكمل وجه حقيقة "البَدَليَّة"، وسوف يؤكد لكل واحد منا حقيقة أننا جميعاً نحتاج إلى بديل، مخلص بلا خطيئة بإمكانه أن يتألم عوضاً عنا. والمسيح هو ذلك البديل، وإننا مسؤولون مباشرة عن موته.

خلافاً لذبيحة المحرقة فإن ذبيحة السلامة لم تكن تُوضَع كلُّها على المذبح، بل جزء صغير فقط منها، أقصد بذلك "الشَّحْمَ الَّذِي يُغَشِّي الأَحْشَاءَ وَسَائِرَ الشَّحْمِ الَّذِي عَلَى الأَحْشَاءِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِمَا الَّذِي عَلَى الْخَاصِرَتَيْنِ وَزِيَادَةَ الْكَبِدِ مَعَ الْكُلْيَتَيْنِ يَنْزِعُهَا"- تلك كانت الأجزاء الواجب حرقها عَلَى نارِ المذبح وَقُودَ رَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ. ولاحظوا أن هذه الأجزاء يمكن الوصول إليها فقط بعد موت الأضحية. وهذا يشير إلى أعمق أعماق مشاعر وأحاسيس الرب التي قادته بدافع محبته للآب إلى أن يقدم نفسه للموت لكي يتصالح الناس مع الله. من كان ليسبر غور معنى الكلمات التي تقول: "سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ" (أشعياء ٥٣: ١٢)؟

عندما نأتي إلى شريعة الذبيحة في الأصحاح ٧، مبتدئين بالآية ٨، فإننا نرى بوضوح أكثر لماذا تُدعى هذه الذبيحة بشكل خاص بذبيحة السلامة. إننا نجد الله وشعبه يتمتعان بها معاً. عندما كانت توضع الأجزاء المعينة على المذبح من أجل الشكر (الآية١٢)، كانت تُقدَّم معها أنواع مختلفة من التقادِم المصنوعة من الدقيق، وجميعها ترمز كما رأينا لشخص المسيح. ومن هذه كان جزء صغير يُحرق على المذبح، والبقية كان يأكلها الكهنة. ثم إن صدر الأضحية، الذي يرمز إلى عواطف المسيح، كان يُعطى إلى هارون وبنيه، العائلة الكهنوتية؛ كان جميع الكهنة يأكلون من ذاك الذي يرمز إلى محبة المسيح، لأن هذا هو ما يرمز إليه الصدر. إن الساق اليمنى كانت ترمز إلى قوة الرب، وقدرته الكلية، وكانت هي الجزء الخاص للكاهن المُقَرِّب نفسه. أما بقية الذبيحة فكانت تُؤخذ بعيداً من قِبَلِ المقرب، وكان يأكلها هو وعائلتُه وأصدقاؤُه معاً أمام الرب، مبتهجين بحقيقة الرمزية أن الرَّحْمَة وَالْحَقّ الْتَقَيَا وأن الْبِرّ وَالسَّلاَم تَلاَثَمَا. هذه في الواقع صورة حيوية ومتقنة عن التناول الرباني؛ فالله نفسه وكهنته الممسوحون، والمقرِّبُ وأصدقاؤه، جميعهم يتناولون معاً من نفس الأضحية، قربان ذبيحة السلامة.

والآن، إن كنتُ سأستمتع حقاً بصحبة الله، فيجب أن أكون في حالة ملائمة ولائقة من الروح. فلا يمكن أن تكون هناك شركة بدون أن تكون خطاياي مغفورة وفق الضمير. في الآية ٢٠ نقرأ: "وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي تَأْكُلُ لَحْماً مِنْ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ الَّتِي لِلرَّبِّ وَنَجَاسَتُهَا عَلَيْهَا فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا". فما من مؤمن حقيقي تبقى نجاستُه عليه أمام الله- "وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يو ١: ٧). على ذلك الصليب، عندما أُلقِيَتُ كلُّ آثامنا على المسيح، فإن ذاك الذي كان بلا خطية، أخذ عليه خطايانا. ليس علينا خطيئة الآن بل إن الخطيئة في داخلنا، وهذه الخطيئة ستُدان أبداً على ضوء صليب المسيح. وهذا يتوضح لنا في الآية ١٣: "مَعَ أَقْرَاصِ خُبْزٍ خَمِيرٍ يُقَرِّبُ قُرْبَانَهُ عَلَى ذَبِيحَةِ شُكْرِ سَلاَمَتِهِ". ها هنا مثال واضح عن خبز خمير كان يُستخدم في ذبيحة شكر السلامة. كنا قد لاحظنا أنه ما من خمير كان مسموحاً بوجوده في قربان التقدمة، وأما في هذه التقدمة بالذات فمن الواضح أنه يرمز، ليس إلى المسيح نفسه، بل إلى المتعبّد الذي جاء إلى الله حاملاً ذبيحة سلامته. لكأن الإنسان كان يعترف من خلال هذا العمل قائلاً: "إني خاطئ بائس في داخلي، والخطيئة هي في أمِّ طبيعتي؛ وبسبب ذلك فإني لا أجرؤ على الدنو إلى الله بدون تقدمة". وعلى أساس هذه الذبيحة كان يُقبل ويمكنه الدخول في علاقة صداقة مع الله.

وهكذا نرى أن لدينا هنا تصوير لحقيقة بالغة الأهمية في العهد الجديد. فكل مؤمن لديه خطيئة فيه، ولكن ما من مؤمن عليه خطيئة. لطالما توَّجه الاهتمام والانتباه إلى ثلاثة صلبان على الجلجثة. في الوسط كان صليبٌ عُلِقَّ عليه الإنسانُ الإلهي القدوس الذي لم تكن فيه خطيئة، ولكن كانت عليه الخطايا، إذ في تلك الساعة من ألم نفسه وضع الله عليه إثمَ جميعنا. لم تكن لديه خطايا من ذاته أو خاصة به، بل جُعل مسؤولاً عن خطايانا. وهذه كلها أُضيفت إلى حسابه، كما طلب بولس من فيلمون أن يحسب ديون  أُنِسِيمُسَ عليه. فصار بولس كفيل  أُنِسِيمُسَ ووافق على تسديد الدين عنه. هذه إنما صورة باهتة عما فعله يسوع لأجل الخُطاة عندما "حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ" (١ بطرس ٢: ٢٤). إن اللص غير التائب كانت الخطيئة فيه وكانت الخطيئة عليه؛ فكان بآن معاً خاطئاً بالطبيعة وبالممارسة، وقد رفض بازدراء المخلص الوحيد الذي كان بمقدوره أن يحرره من حمل إثمه. ولذلك دخل إلى حضرة الله بكل خطاياه على نفسه ليُسأل عنها في يوم الدينونة عندما سيجازي الله كل إنسان بحسب أعماله. ولكن كم كانت حالته مختلفة عن حالة ذلك اللص التائب! فهو أيضاً، كان مذنباً وأثيماً كما الآخر، ولكن عندما التجأ في توبة إلى الرب يسوع ووضع عليه ثقته، فبينما ظلت الخطيئة فيه، ما عاد الله يحسب الخطيئة له. فلم تكن الخطيئة عليه لأن الله رآها جميعها قد انتقلت إلى يسوع.

أعرف أن الكثير من المسيحيين يتخيلون أنهم يصلون إلى حالة من النعمة حيث خطاياهم ليست فقط تُغفر، بل حيث الخطيئة الفطرية بالطبيعة تُزال منهم بعملية مباشرة يقوم بها الروح القدس، ولذلك فإنهم يزعمون أنهم تقدسوا كلياً وتحرروا من كل ميل داخلي نحو الخطيئة. ولكن هذا خطأ خطير ويؤدي إلى نتائج فظيعة جسيمة. فلا شيء في كلمة الله يعلّمنا هكذا. إننا، كمؤمنين، نحمل معنا إلى نهاية العمر طبيعتنا الخاطئة، ذلك الفكر الجسداني الذي "لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ" (رو ٨: ٧). ولكن الله يقول بعد ذلك أن الخطيئة لا يجب أن تسود علينا، بلى لا يجب ذلك، إن كنا ندرك بركة الحقيقة في "أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ" ١ .

هناك أشياء كثيرة جداً في لاويين ٧ يمكننا أن نستفيد منها بشكل كبير وأن نفكر بها، ولكن الوقت لا يسمح بأن نبحث فيها بالتفصيل. إلا أن هناك شيء أرغب أن أؤكد عليه أكثر قبل أن أختم، وذلك هو التوكيد الإلهي بأن تناول الذبيحة كان يجب ألا يكون منفصلاً عن التقدمة على المذبح. لقد كان يجب أن تؤكل في نفس اليوم، في الظروف العادية، أو إن كانت تقدمةً طوعية، فيُمكن أن تُؤكل في اليوم التالي، ولكن بعد ذلك سيكون من المطلوب بصرامة أن يُحرق كل ما تبقى منها بالنار. إن معنى هذا واضح؛ فالله سوف لن يسمح لنا بأن نفصل بين شركتنا معه وعمل المسيح على الصليب. إن صداقتنا معه تستند على الذبيحة الوحيدة الأسمى ألا وهي ربنا يسوع المسيح الذي صنع سلاماً لأجلنا. إن الشركة، كما رأينا لتونا، ليست مجرد مشاعر تقوية؛ فهذه قد تكون أكبر انخداع أو وهم، وقد تكون مجرد رضى داخل نفس تتخيل أنها صالحة بدلاً من انشغال القلب بالمسيح. إنه لأمر خطر بأن ننشغل بأي ذات صالحة كما بأي ذات سيئة. في الحالة الأخيرة على الأرجح أني سأُحبَطُ وأنهارُ، ولكن في الحالة الأولى أرتفع منتفخاً بالكبرياء وبالتخيل الشديد الخطر من ذاتي الأَنَويّة الروحية بأني في شركة مع الله.

هنا تماماً عشاء الرب يخاطب قلوب شعب الله. إذ على مائدته ننشغل بالمسيح نفسه وبما فعله لأجلنا عندما تنازل بالنعمة وأخذ مكاننا في الدينونة وصنع سلاماً بدم صليبه. وإذ نتأمل في هذه الأسرار السامية الجليلة، تُقاد نفوسنا إلى المقدس، إلى الحضرة المباشرة لله في صحبة مقدسة وشركة لا مثيل لها في الحلاوة. وندرك أن ذلك الحجاب سوف لن يُخفي اللهَ عنا من بعد، ولن يمنعَ دخولَنا إليه. عندما صرخ يسوع: "قد تم"، فإن حجاب الهيكل انشق من الأعلى إلى الأسفل. لقد كانت يدُ الله هي التي مزقت ذلك الحجاب، والآن يطلب إلينا أن ندخل بجرأة إلى حضوره المباشر نخرُّ راكعين ساجدين أمام وجهه لنباركه ونعبده ذاك الذي بذل نفسه لأجلنا.

"الحجاب ينشق، ونفوسنا تدنو
إلى عرش النعمة؛
فضائل الرب تظهر،
إنها تملأ المقدس.
دمه الثمين قد نطق هناك،
أمام وعند العرش،
وجراحه ذاتها في السماء تعلن
أن عمله الكفاري قد تمَّ.
لقد تمَّ- وهنا تجد نفوسنا الراحة،
فعمله لا يمكن أبداً أن يخفق،
فبهِ، ذبيحتنا وكاهننا، نجتاز من خلال الحجاب".

وهناك، مع كل الحشد الذي اشتراه بدمه، نأكل من ذبيحة السلامة متّكلين على محبته ونعمته اللا محدودة ذاك الذي عبَّرَ بشكل كامل عن قلب الله نحو الإنسان الخاطئ ببذله حياته المقدسة بالموت من أجلنا. أن نحاول أن نعبده بمعزل عن هذا ما هو إلا مدعاة للسخرية. كل الخبرات الدينية وحقيقة المشاعر التي لا ترتبط بعمل الصليب هي ضلال وخداع للنفس وحسب، إذ لا يمكن أن تكون هناك شركة حقيقية مع الله إلا بالارتباط مع عمل الصليب الذي قام به ربنا يسوع المسيح.

أُضيفُ بعض الملاحظات المتعلقة بالمزمور ٨٥، الذي لا نخطئ إذا دعوناه مزمور ذبيحة السلامة، لاحظوا الآيتين ١ و ٢: "رَضِيتَ يَا رَبُّ عَلَى أَرْضِكَ. أَرْجَعْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ. غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهِمْ". ثم لاحظوا الآيات ٧- ١١: "أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ. إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ. لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ لِيَسْكُنَ الْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا. الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. الْحَقُّ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُتُ وَالْبِرُّ مِنَ السَّمَاءِ يَطَّلِعُ". إن الله نفسه هو من يعطي السلام لشعبه، لأنه وحده يمكن أن يضع مخططاً به تلتقي الرحمة والحق ويتعانق البر والسلام. الحق والبر يتطلبان تسديد ديننا الكبير قبل أن تتبدى الرحمة للخاطئ. من الواضح أن الإنسان ما كان ليستطيع أن يسوّي الخلافات بينه وبين الله؛ وما كان ليستطيع أن يكفّر عن خطاياه. مكتوبٌ في زكريا ٦: ١٢، ١٣: "وَقُلْ لَهُ: هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هُوَذَا الرَّجُلُ [الْغُصْنُ] اسْمُهُ. وَمِنْ مَكَانِهِ يَنْبُتُ وَيَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ. فَهُوَ يَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْجَلاَلَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ وَتَكُونُ مَشُورَةُ السَّلاَمِ بَيْنَهُمَا كِلَيْهِمَا". مشورة السلام هي بين رب الجنود و الرَّجُل الذي اسْمُهُ "الْغُصْنُ"، أو – بلغة العهد الجديد- هي بين الآب والابن. لقد صُنِعَ السلامُ عندما أَخَذَ ربُّنا يسوعُ مكانَنا على الصليب وسدّد كل مطالب جلالة عرش الله الغاضبة. والآن يتحد البر والسلام معاً إلى الأبد، وإذ قد تَبرّرنا بالإيمان فلنا سلام مع الله. ليس هذا مجرد إحساس بالبرّ في قلوبنا، بل إنه أكثر من ذلك بكثير. إنه مسألة تمت تسويتُها بين الله والخاطيء في برّ كامل، ولذلك أمكن للنعمة الآن أن تنسكب على الإنسان الخاطئ الأثيم. عندما نؤمن بذلك ندخل إلى السلام. ونستمتع بما صنعه المسيح.   

هناك حادثة لطالما سُرِدَت، ولكنها خير مثال يُوضِحُ ما أحاول أن أقوله. فعند نهاية الحرب بين الولايات (المتحدة)، كانت مجموعة من الفرسان الفيدراليين يمتطون جيادهم على الطريق نحو ريتشموند في أحد الأيام، وإذا شخص رث الثياب بائس فقير ضعيف هزيل الجسم، ولا يرتدي سوى بقايا بذلة فيدرالية رثة، خرج من بين الأشجار على أحد جانبي الطريق، واجتذبَ انتباهَهم بتسوله خبزاً بصوت أجش. قال لهم أنه كان يتضور جوعاً في الغابة منذ أسابيع، وأنه كان يقتات على ثمر العلّيق وبعض الجذور التي كان يجدها. فاقترحوا عليه أن يذهب معهم إلى ريتشموند ويحصل من هناك على ما يحتاجه. فاعترض قائلاً أنه كان هارباً من الخدمة في الجيش الفيدرالي، وأنه لم يكن يجرؤ على إظهار نفسه لئلا يُعتقل ويقيد في السجون، أو يُعدم بالرصاص لأنه هرب من الخدمة في وقت الحرب. فنظروا إليه في ذهول وسألوه: "ألم تسمع الخبر؟" فسألهم قلقاً: "أي خبر؟" فقالوا له: "إن الكونفدرالية ما عادت موجودة. فالجنرال لي استسلم للجنرال غرانت قبل أسبوع، و السلام قد حلّ". فهتف قائلاً: "آه. السلام قد حل، وأنا كنتُ أتضور جوعاً في الغابة لأني لم أسمع النبأ". وإذ صدّق ما قالوه له، ذهب معهم إلى المدينة، فوجد الراحة والطعام.

أيا أخي غير المُخلّص، دعني أؤكّد لك الحقيقة المباركة أن السلام قد حلّ عندما مات مخلّصُنا المعبود عن خطايانا على صليب العار. آمنْ بهذه الرسالة التي أقولها لك، وانتفعْ منها. وتذكَّرْ أن السلام لا يقوم على أساس تصوراتك أو مشاعرك، بل على عمله المتمَّمْ.

"لا يقدرُ أي شيء أو أحد أن يهز الصليب،
أو يمس السلام الذي أتى به،
أو يقول لي أن المسيح لم يمُتْ،
أو أنه لم يغادر القبر".

طالما بقيت هذه الحقائق المباركة- أعني بها موت وقيامة ربنا يسوع المسيح- يبقى سلامنا راسخاً مضموناً.


١. لقد حاولتُ أن أتوسّع في هذا الموضوع في كتابي "القداسة: الوهمية والحقيقية"، وأجرؤ على تشجيع كل من لديه مشكلة بخصوص هذا الموضوع على قراءة هذا الكتاب.