المحاضرة ٢

قربان التقدمة

إقرأ لاويين، أصحاحات ٢؛ ٦: ١٤- ٢٣؛ مزمور ١٦؛ يوحنا ٦: ٣٣

لقد لاحظنا لتونا أن قربان التقدمة كان يختلف عن بقية الذبائح الأربع في أنه كان ذبيحة غير دموية. لم تكن هناك من حياةٍ  بُذلَت ومع ذلك فقد كان جزءٌ منها يُحرَق على مذبح لأجل الرائحة العطرة. إن الاسم المعطى لهذه التقدمة في إحدى الترجمات للكتاب المقدس هو "تقدمة الصباح"، ولكن علينا أن نتذكر أن أسلافنا كانوا يعنون بها تقدمة الطعام أو الغذاء. فلم يكن فيها لحمٌ من أي نوع. لقد كانت تقدمةً مكونة من الطعام وعبارة عن دقيق وزيت، أو من سنابل الذرة الخضراء المجففة والزيت. إنها لا ترمز إلى مخلّصنا وقد بُذِلَ ذبيحةً عن الخُطاة على الصليب، بل هي صورة الله الرائعة العجيبة عن كمال شخصه العجيب. تذكّروا، كان يجب أن يكون كما كان لكي يفعل ما فعل. ما من أحدٍ سوى ابن الله السرمدي الأبدي كان ليمكن أن يصير جسداً وأن ينجز ذلك العمل العظيم الذي جاء لأجله. إنّها لقيمةٌ لا تُثمَّن للنفس أن تتّكل على تقدير الله لابنه. كما أشرنا في المحاضرة السابقة، بهذه الطريقة ندخل إلى الشركة مع الآب.

يقول صاحب المزامير: "يَلَذُّ لَهُ تَأَمُّلي". ولعله يمكننا أن نثبت ذلك بالفعل ونحن نمعن النظر إجمالاً في هذه الرموز المذهلة العجيبة في شخصه المجيد.

يجب أن نضع في أذهاننا دائماً أن كمال الرب هو الذي أعطى كل الفعاليّة والتأثير للعمل الذي أُنجِزَ على الصليب. وعن بقية الناس كُتِبَ: "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ فَغَلِقَتْ إِلَى الدَّهْرِ". وهذه ترجمةٌ حرفية لذلك المقطع اللافت الوارد في مزمور ٤٩: ٧، ٨. إن نظرنا إلى الآية ٨ نتساءل: ما الذي يُغلَق إلى الدهر؟ إلا أن الترجمة الأصح هي: "لتكن وحدها إلى الأبد". أي لا نفع في أي محاولة يقوم بها أي شخص نحو عمل الفداء؛ إنه أعظم من أن تؤثر فيه قدرة بشرية. "إنَّ فداء النفس يكلِّف ثمناً باهظاً، ولذلك فليكن وحده إلى الأبد". ولكن المسيح ابن الله قد صار أنقص من الملائكة بقليل من حيث تألُّمِه حتى الموت لكي يذوق الموت عن كل إنسان. إنه القدوس اللامتناهي وقد صار إنساناً، وفي نفس الآن إنسانٌ كاملٌ بلا خطيئةٍ وبلا دَنَسٍ. إنه وحده كافٍ لفداء أخوته وليقدم لله كفارةً عنهم. إنه ذاك الشخص الذي اشتاق إليه أيوب عندما صرخ قائلاً: "لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!"، وهو من تكلم عنه إليهو عندما قال: "يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً". وهكذا علينا الآن أن ننشغل بالمسيح نفسه، وإني على ثقة بأننا وإذ ندرس هذه الصورة الرائعة، عن ذاك الذي كان بالحق خبز الله، الطعام الذي سُرَّ الله الآب أن يقدِّمه، سنحصل على مفهومٍ أكمل وأوضح من قَبْل عن ذاك الذي خلَّصنا.

إنّ قربان التقدمة مرتبط دائماً بذبيحة المحرقة. فالله ما كان ليسمح لشخص وعمل ابنه المبارك أن ينفصلا؛ ولذا فالإثنان يجب أن يسيرا معاً. ولكن تذكّروا هذا, إن السلوك في القداسة, الحياة المكرَّسة لربنا يسوع المسيح, ما كانت لتنفع في إزالة الخطية. إن سلوكه المقدس لم يكن وسيلة خلاصنا؛ وسيره في حياة الكمال لم يكن له فعالية تكفيرية تعويضية. إن الحياة (حياة المسيح) التي أُزْهِقَتْ بالموت هي التي تُخلّص. لقد قال (الرب يسوع) وهو يُمسك بكأس الشركة في يديه: "هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ". إن حياته بمعزل عن موته أمكنها فقط أن تُظهر بشكل فاضح خطايانا المتزايدة المطردة، إذ وضعت تَضاداً بين ما هو عليه وما نحن عليه بصورة حيوية. ولكن دمه الذي أُهرق عنا كان حياةًً قد بُذلت وسُكبت في الموت لكي نحيا إلى الأبد. إنَّ حياته المقدسة أهَّلَتْه ليكون القربان، وهكذا فإن التقدمتين مرتبطتان معاً.

كثيرون من شعب الله المحبوب، على ما أعتقد، انقادوا (لبرهة من الزمن على الأقل) إلى منظومات مختلفة من الأخطاء. ولو كانوا قد عرفوا الشخصية الحقيقية لهذه الأنظمة لكانوا قد تحولوا عنها مرتعبين، مدركين أنه في كل واحد منها توجد هناك تعاليم شريرة تتعلق بشخص ربنا يسوع المسيح. تذكّروا أنه منذ عدة سنوات مضت التقيتُ مع زوجين متزوجين حديثاً في كاليفورنيا. لقد تمَّ تعريفي عليهما على أنهما دارسان جدّيان للكتاب المقدس. لقد بديا لامعين جداً ومتحمسين صادقين في خبرتهم المسيحية، ولكنهما سرعان ما أخبراني أنهما كانا يحصلان على مقدار كبير من المساعدة والمعلومات من خلال مجموعة من الكتب كانت تُباع لهم عن طريق بائع كتب متجول. ولدى استفساري عن هذه الكتب وجدتُ أنها كانت المجموعة المعروفة باسم "الفجر الألفي". عندما سألتُهما إن كانا قد قرأا الكتب، قالا: "نعم بالطبع، وقد وجدنا فيها بعض التعاليم الرائعة". فأجبتُ أنه كانت في هذه الكتب بعض التعاليم المباركة والصادقة والحقيقية، ولكنها في الواقع كانت كمثل السُّكر الذي يغطي حبة دواء سامَّة، لأنها كانت غير سليمة كلياً وغير صحيحة بالنسبة إلى شخص وعمل ربنا يسوع المسيح. وأوضحتُ لهما أن هذه الكتب كانت تعلم أن ربَّنا المبارك وقبل أن يأتي إلى هذا العالم لم يكن إلهاً، بل كان الكائن الروحي المخلوق الأعلى في الكون؛ وأنه بالتجسد قد صار إنساناً وتخلى نهائياً عن طبيعته الروحانية؛ وأنه عندما مات على الصليب فإن ناسوته تكرَّس للهلاك. وإن كاتب تلك الكتب يذهب بعيداً لحد أنه يقول: "لم يكن ضرورياً فقط أن يموت الإنسان يسوع المسيح، بل كان ضرورياً أيضاً ألا يحيا ثانية، بل أن يبقى ميتاً وإلى الأبد". ولكن هذه الكتب كانت تعلّم أن كائناً قد خرج من القبر قد جُعِل مشاركاً في الطبيعة الإلهية وهو الآن إله ولكن ليس الله، وأنه في يومٍ ما مجموعةٌ مختارة من الغالبين سوف تكون مشارِكة في نفس الطبيعة التي له وسوف تساعده في إكمال عمل الفداء. لم يكن ليمكن لهذين الزوجين أن يصدّقا ما قلتُ مباشرة حول التعليم في هذا النظام، ولكنهما كانا صادقين وذهبا إلى منزلهما ليفتشا عن المراجع التي أعطيتُ لهما وأن يقارنا بينها وبين كتبهما المقدسة. فجاءا إليَّ بعد بضعة أيام، وأعطياني مجموعة الكتب وهما يقولان: "إن كنتَ تستطيع أن تستخدم هذه الكتب لتساعد في إنقاذ آخرين فإننا سنكون شاكرين. لقد ركعنا على ركبنا سائلين الله أن يغفر لنا من أجل أي شيء يتعلق بذلك التعليم الذي اكتشفنا أنه عبارة عن تجديف على ربنا يسوع المسيح. لم تكن لدينا فكرة أو تعليم حقيقي عن تلك الكتب". وهكذا أُعتقا وتحررا كلياً، وتحولا بذعر عن كل ذلك النظام الشرير.

"بماذا تفتكر في المسيح؟" هذا هو السؤال الأول الذي يجب أن يسأله كل واحد يأتي زاعماً أن لديه شيئاً مختلفاً عن المسيحية الأرثوذكسية. إن كان الناس مخطئين هنا، فكونوا على ثقة بأنهم سيكونون مخطئين في كل شيء. ليس بالضرورة أنهم يعرفون كل الشر الذي في تلك المنظومات لكي يحكموا عليها؛ إن ما نحتاج إليه هو فقط أن نعرف أنها كتب وتعاليم مزيفة وغير صحيحة عن ربنا يسوع، وذلك لكي نرفضها كلياً إن كنا صادقين معه.

لنَرَ إذاً كيف أنّ شخصه المُبارَك يُصوّر لنا في قربان التقدمة. سنقرأ معاً الآيات ١- ٣: "وَإِذَا قَرَّبَ أَحَدٌ قُرْبَانَ تَقْدِمَةٍ لِلرَّبِّ يَكُونُ قُرْبَانُهُ مِنْ دَقِيقٍ. وَيَسْكُبُ عَلَيْهَا زَيْتاً وَيَجْعَلُ عَلَيْهَا لُبَاناً. وَيَأْتِي بِهَا إِلَى بَنِي هَارُونَ الْكَهَنَةِ وَيَقْبِضُ مِنْهَا مِلْءَ قَبْضَتِهِ مِنْ دَقِيقِهَا وَزَيْتِهَا مَعَ كُلِّ لُبَانِهَا. وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ تِذْكَارَهَا عَلَى الْمَذْبَحِ وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ. وَالْبَاقِي مِنَ التَّقْدِمَةِ هُوَ لِهَارُونَ وَبَنِيهِ. قُدْسُ أَقْدَاسٍ مِنْ وَقَائِدِ الرَّبِّ". لاحظوا إذاً أن قربان التقدمة كان طعام الله حقاً، ولذلك فإنه يرمز للمسيح بنفسه، وقد صُنع من الدقيق الناعم. أنتم، يا ربَّات المنازل، تعرفون ما هو الأمر، فتلك القرابين هي دقيق ناعم بدون ذرات خشنة فيه. لقد كانت هذه صورة الله عن ناسوت يسوع. فكل شيء في انسجام كامل، ولم يكن هناك من خشونة أتت بها الخطيئةُ إلى إنسانيتنا البائسة الساقطة. لطالما فكرت أنه إن كان الله يريد أن يضع صورة عن الطبيعة الإنسانية فإنه كان سيطلب حفنة من طحين الشوفان العتيق. وهذا كان سيرمز بشكل ملائم إلى طبيعتنا، إذ أن هناك الكثير من الأشياء الخشنة والفظة والمزعجة في كل واحد منا؛ ولكن يا للكمال الذي كان متجلياً فيه! ثم لاحظوا، كان يجب أن يُسكب الزيت على الدقيق الناعم وأن يُوضع عليه اللبان. الزيت هو دائماً رمز الروح القدس. فهو الذي يمسح. ونقرأ أن "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ" (أعمال ١٠: ٣٨).

إن المسْحَ حدث مباشرة بعد المعمودية في نهر الأردن، والآب أعلن عن رضاه عنه بقوله: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". لقد كان هذا رائحة اللبان. "كان هناك الدقيق الناعم بكل كماله، ونزل عليه الروح القدس بهيئة مثل حمامة"؛ وذاك كان الزيت المسكوب على الدقيق الناعم. ثم كان هناك اللبان ذو الرائحة العطرة الدال على الجمال الذي لا يوصف والعبير الذي كان يميز أبداً كل طرقه. فلا عجب أن العروس في نشيد الأنشاد تقول: "اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ". وقد أدركت مريم هذا الرمز عندما "أَخَذَتْ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلَأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ".

في الآية الثانية نقرأ أن هذه التقدمة أو الذبيحة كانت تُجلب إلى بني هارون الكهنة، وكان على الكاهن المترئس للخدمة أن يأخذ حفنة من الطحين، بزيته ولبانه، ويحرقه كتذكار على المذبح؛ لقد كانت تقدمة وقود رائحة سرور للرب. لقد كانت هذه طعام الله. ثم كان على الكهنة أنفسهم أن يقتاتوا على ما تبقى منها، وهكذا فإن الله وكهنته المفديين يستمتعون معاً بكمال المسيح. هذا هو فعلياً تناول للعشاء الرباني.

والآن لدينا بعض التفاصيل الممتعة جداً في الآيات ٤-١٣. سوف لن أستشهد بالمقاطع بشكل كامل، ولكن سوف ألفت الانتباه إلى الملامح البارزة ونحن نمر على كل هذا الأصحاح. كانت هناك طرق عديدة يمكن بها إعداد القربان. في الآية ٤ نجد أنه كان "مخبوزاً في التنور"، وفي الآية ٥ "مخبوزاً على الصاج"، وفي الآية ٧ يكون "مخبوزاً من الطاجن"، أي بوضوح على أعلى الموقد. في كل حالة من هذه الحالات كان معرضاً لفعل الحرارة، وهذا يدل على التجارب الشديدة التي كان ربنا المبارك خاضعاً لها، والتي ساهمت جميعاً فقط في إعطاء معيار أمثل على كماله. ومن جديد في الآية ٤ نجد أن قربان التقدمة قد يكون مؤلفاً من أقراص مِنْ دَقِيقٍ فَطِيراً مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ وَرِقَاقاً فَطِيراً مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ. في الحالة الأولى لدينا تجسده كمولود من العذراء؛ لدينا ناسوته في كمال، ناسوت متحد بالألوهية. لقد حُبل به من الروح القدس؛ والطحين الناعم كان ممتزجاً بالزيت. في الحالات الأخرى لدينا، كما في الآية السابقة،  مسحته. وهكذا فإن الله أكّد على كلا الجانبين من الحقيقة لنا. لقد كان مولوداً من الروح بدون أبٍ بشري؛ وكان ممسوحاً من الروح القدس عندما كان على وشك أن يدخل أو يبدأ مأموريته العظيمة. ثم، لاحظوا، كان هناك بعض الأشياء التي ما كان ليسمح بها في قربان التقدمة. في اثنتين من هذه الآيات نجد أنه يجب أن يكون قربان التقدمة فطيراً، وفي الآية ١١ نقرأ بشكل واضح مميز أن: "كُلُّ التَّقْدِمَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُونَهَا لِلرَّبِّ لاَ تُصْطَنَعُ خَمِيراً لأَنَّ كُلَّ خَمِيرٍ وَكُلَّ عَسَلٍ لاَ تُوقِدُوا مِنْهُمَا وَقُوداً لِلرَّبِّ". وهذا يرمز إلى انعدام الخطية في الطبيعة البشرية لمخلّصنا. الخمير، في الكتاب المقدس، يدل دائماً على شيء شرير. وهذا يظهر بشكل واضح جداً في تطبيق العهد الجديد لرموز العهد القديم. فنقرأ في ١ كورنثوس ٥: ٧، ٨: "إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ". بينما كان بنو إسرائيل الأتقياء في العهد القديم يبحثون في منازلهم بعناية ويزيلون كل خمير استعداداً لوليمة الفصح، هكذا فإننا، كمؤمنين، مدعوون إلى أن ندين كل ما هو شرير في قلبنا وحياتنا وأن نزيله على ضوء العمل الذي أُنجز على الصليب. في كل من ١ كورنثوس وغلاطية نقرأ أن "خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ". أي بمعنى، أن خطيئة صغيرة أو عقيدة شريرة صغيرة لم يُنتبه إليها ولم تُدن سرعان ما تُفسدُ كلَّ شهادة المرء. ومن جديد ستتذكرون كيف أن ربَّنا نفسه قد استخدم هذا المصطلح. لقد حذّر تلاميذه من خمير الفريسيين والصدوقيين وهيرودس. إن خمير الفريسيين كان النفاق والبر الذاتي؛ وخمير الصدوقيين كان العقائد الشريرة أو التعاليم المزيفة؛ وخمير هيرودس كان الدنيوية والفساد السياسي. ما من مكان في الكتاب المقدس تُستخدم فيه الخميرة كرمز لأي شيء صالح. المرأة في المثل الذي يرد ذكره في متى ١٣: ٣٣ يُقال أنها خبأت الخمير في ثلاثة أكيال من الدقيق حتى اختمر الجميع. أعرف أن هذا اعتبرَهُ كثيرون كرمز لنشر الإنجيل، ولكن من كان أبداً ليخفي الإنجيل في أي مكان؟ ما من شيء سري حول إعلانه؛ يجب أن ينشر ويكرز به علانية وفي كل مكان. "قال يسوع: "فِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ"، ونفس الشيء يجب أن ينطبق على أتباعه. المرأة التي في المثل هي الكنيسة الزائفة، وليست الحقيقية، وهي لا تخفي الخمير في العالم بل في ثلاثة أكيال دقيق، التي تبدو قربان تقدمة لا سواها، هذه التي نتمعن بها الآن، والتي كان يجب أن لا يكون خمير. بمعنى آخر، يعلّمنا المثل أن كل حقيقة تتعلق بالمسيح قد تُفسدها الكنيسة الزائفة. كما أنه ليس في الرمز خمير، كذلك ففي المسيح ليس هناك خطيئة؛ إنه قربان تقدمة فطير؛ وكان ذلك ناسوته في كمال بدون أي نزعة نحو الشر من أي نوع كان. لقد أمكنه أن يقول: "إن أمير هذا العالم يأتي وليس فيَّ شيء منه". أما أنا وأنت فلا نستطيع أن نقول هكذا. إننا مدركون لحقيقة أنه عندما يأتي الشيطان ليجرّبنا من الخارج هناك خائنٌ في داخلنا سيفتح له بوابة حصن قلوبنا إن لم نكن محترسين حذرين على الدوام. ولكن معه كان الأمر مختلفاً؛ فتجاربه كلها كانت من الخارج. فهو "مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ". وهذا لا يعني فقط أنه كان "بِلاَ خَطِيَّةٍ"، بل كان "في منأى عن الخطيئة"، أي أنه لم يُجرَّب بخطيئة فطرية؛ لقد كان تقدمةَ قربان فطير.

إننا نتعلّم أيضاً من الآية ١١ أنه لم يكن هناك عسل في قربان التقدمة. العسل هو حلاوة الطبيعة، ولكنه عندما يتعرض للحرارة فإنه سرعان ما يتحمض ويتخمّر. كان هناك شيء أكثر بكثير من الحلاوة الطبيعية في شخص المسيح. كان ذلك هو حبٌ إلهي ومقدس؛ ومشاعره وعواطفه كانت مشاعر ابنٍ لِلّهِ الذي صار إنساناً. لم يكن هناك شيء من الطبيعة وحسب؛ ولذلك فإن محبته لا تَبَدُّلَ ولا تحوُّلَ فيها. وخيانة يهوذا لم تستَطِعْ أن تبدّل هذه المحبة ولا النكران الجبان لبطرس. "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". كم تنفصم الصداقات البشرية وكم تتحول علاقات الحب إلى كراهية! أما معه فكان الأمر مختلفاً.

في الآية ١٣ نقرأ: "كُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ وَلاَ تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إِلَهِكَ. عَلَى جَمِيعِ قَرَابِينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحاً". أليس غريباً جداً هذا الإلحاح لثلاث مرات على استخدام الملح في القربان؟ ستتذكرون أن مخلّصنا قال: "لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ"، وكان قد أشار في غير موضع إلى هذا المقطع، مؤكداً عليه بطريقة مهيبة (مرقس ٩: ٤٩، ٥٠). إن الملح هو القوة الحافظة للبر الفعال؛ وهذا كان متبدياً فيه أبداً، ويجب أن يتبدى فينا نحن الذين وُلِدْنا من فوق.

هناك تفاصيل أخرى كثيرة في هذا الجزء القيم يمكننا أن نتوسع فيها لفائدتنا، ولكن كل ما أغفلتُه سيصبح واضحاً أكثر، على ما أعتقد، على ضوء ما لاحظناه لتونا إذا ما فكّرنا بانتباه وعناية في حضرة الرب. وكلما تذكرنا أكثر ما يكشفه لنا العهد الجديد في ما يخص المسيح، كلما دخلنا أكثر في الاستمتاع بما لدينا هنا. وإذا صرنا على اطلاع على الحقيقة المتعلقة بشخص الرب فإنها سوف تحفظنا من خطر السقوط في الغلط.

إن السمة البارزة في قربان التقدمة هي أنها مركّبة من الدقيق الناعم. لم يكن هناك دقيق شعير. فلقد كانت تلك التقدمة من أفضل وأنعم دقيق قمح كان مركباً. فهكذا صور الله ناسوت الرب يسوع المسيح، إذ في شخصه كإنسان لم يكن هناك أي شيء يُزعج أي شخص. يا لها من صورة رائعة مذهلة تقدمها لنا الأناجيل الأربعة. لو أنها لم تكن موحى بها، فكم كان أمراً يتعذر تفسيره أن أربعة رجال أَمْكَنَهم أن يتخيلوا هكذا شخصية مذهلة. لو أن الرب يسوع المسيح لم يَعش أبداً، لكانت الأناجيل نفسها من أروع الروائع. ففي كل آداب العالم ليس هناك من شخصية يمكن أبداً أن تضاهي شخصيته. لنفكر به وهو يترعرع في الناصرة، إحدى القرى الأكثر ضعةً في الجليل، مع فرصة ضئيلة له للثقافة أو التهذيب؛ ثم تأملوا به وقد ظهر وسط رجال في عصره، وكان الأكثر دماثة والأكثر ثقافة بينهم على الإطلاق. لقد كان أول جنتلمان أمكن لهذا العالم أن يراه. لقد كان حنوناً، سمحاً، ومراعياً دائماً للآخرين، ومع ذلك صادقاً ومخلصاً للجميع. إن التهذيب، كما يقول المثل، هو أن تفعل ألطف شيء بألطف طريقة، ومن رأى أبداً مثالاً يجسد هذا اللطف كما في الرب يسوع المسيح؟ لقد كان عبير حياته يملأ العالم بعد ١٩٠٠ سنة.

 ورغم أنه صعد الآن إلى المجد، إلا أنه هو نفسه يسوع الذي يجلس على عرش أبيه، رئيس كهنتنا العظيم، الذي يحيا أبداً ليتشفع فينا. وهكذا ففي الآيات ١٤- ١٦ لدينا جانب آخر من قربان التقدمة؛ وهذه المرة نجدها مصنوعة من بواكير الجريش السويق للذرة وقد شويت بالنار. وهذه تُدهن بزيت ويُوضع عليها اللبان. إنها ترمز إليه لأنه ذاك الذي مرَّ بالموت، ولكنه أُقيم ثانية بقوة الحياة التي لا نهاية لها. وقد أُصعد إلى الله بكل كمال ناسوته، ليكون إلى الأبد الإنسان في المجد. ومن هذه، أيضاً، تذكارٌ كان يُحرق على المذبح، لأن قيامته لا يجب أن تنفصل عن موته. إن المسيح الذي مات هو المسيح الذي يحيا ثانية. لعلنا نتعلم أن نتغذى عليه ككهنة في المقدس، مبتهجين هنا على الأرض كما يفرح الله في السماء. هذا هو ما يتم التأكيد عليه بصورة خاصة في (٦ :١٤- ٢٣)، حيث لدينا شريعة قربان التقدمة. فهناك نرى الكهنة يأخذون حصتهم من التقدمة ويتمتعون بها في حضرة الله. لقد كان يجب أن تؤكل في المقدس. إننا جميعاً كهنة الله اليوم، إذا ما أُحصينا من بين المفتدين، وإنه لامتياز مقدس لنا أن نتغذى على المسيح في ديار الله- فنبتهج به، وتنتعش نفوسنا، ونحن نتأمل في عبادة كمالاته. لسنا مدعوين لأن نحلل أو نشرِّح شخص الرب، بل أن نعبده بوقار ونستمتع به، لكيما نصبح أكثر شبهاً به.