محاضرات على الذبائح اللاوية

(لاويين ١- ٧)

المحاضرة ١

المحرقة

إقرأ بعناية لاويين، الأصحاحات ١؛ ٦: ٨- ١٣؛ ٧ و ٨؛ تثنية ٣٣: ٨- ١٠؛ مزمور ٤٠؛ أفسس ٥: ١، ٢.

إن الذبائح الخمسة يمكن أن تُقسَم بطرقٍ مختلفة. فأولاً نلاحظ أن أربعاً منها هي ذبائح تشتمل على إهراق دم- ذبيحة المحرقة، وذبيحة السلامة، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم. إن قربان التقدمة، أو كما يجب أن نقول، تقدمة الغذاء أو الطعام، كانت تقدمةً غير دموية، ولها مكانةً خاصةً بها بحد ذاتها. ثم من جديد هناك الذبائح الحلوة المذاق المميزة عن ذبائح الخطية. إن ذبيحة المحرقة، وقربان التقدمة وذبيحة السلامة يقال أنها "وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ". وهذا لم يكن ينطبق أبداً على ذبيحة الخطية أو ذبيحة الإثم. السبب الإلهي وراء هذا التمييز سيتبيّن سريعاً بشكل واضح، على ما أعتقد، إذ نحن نمضي في هذه المحاضرات.

إن الذبائح الخمس التي جُمعَت هنا تصوِّر لنا صورةً متعددة الجوانبِ مذهلةً لشخص وعمل ربنا المبارك يسوع المسيح. إنها تُظهِر علاقته بالله، وكيف أنه جاء بالنعمة إلى الخطاة الذين مات من أجلهم، وإلى أولئك الذين آمنوا به والآن يقفون أمام الله مقبولين في المحبوب. إنْ كانت هناك تفاصيل، كما هو الحال في الواقع، والتي يصعب علينا أن نفهمها، فهذه لا يجب إلا أن تعطينا فرصةً لسحق القلب أمام الله وللتأمل والصلاة. لعلنا على يقين من ذلك أنّه كلما ازدادت معرفتنا كلما صرنا أقرب إلى مخلّصنا وأكثر دخولاً إلى ما تكشفه لنا كلمة الله في أماكن أخرى فيما يتعلق بتفاصيل عمله على الصليب، وكلما ازدادت سهولة فهمنا للرموز.

كما نجدها هنا في الأصحاحات السبعة الأولى من اللاويين، نرى الأشياء من وجهة نظر إلهية، أي أن الله يعطينا ما يهمه أكثر أولاً؛ ولذلك نبدأ بذبيحة المحرقة، والتي هي أرفع رمز لعمل الصليب التي لدينا في التنظيم الموسوي، وننزل بعد ذلك مروراً بتقدمة الطعام، وذبيحة السلامة، وذبيحة الخطية، إلى ذبيحة الإثم، والتي هي أول جانب من عمل المسيح عموماً كما تدركه نفوسنا.

كقاعدة، عندما يأتي الخاطئ الأثيم إلى الله طالباً الخلاص، فإنه يفكر بأعماله الرديّة، ويُطرَح سؤالٌ في داخل نفسه أن: "كيف يمكن لله أن يغفر خطاياي ويقتبلني إليه في سلام عندما أدرك تماماً وجداً آثامي وتعدياتي الذاتية؟".

يتذكر معظمُنا عندما وصلتْ نعمة الله إلى قلوبنا. لقد اضطربنا بسبب خطايانا التي كانت قد وضعتْنا على مبعدةٍ عن الله، والأسئلة الكبيرة التي تقلقنا كانت هذه: كيف يمكن لخطايانا أن تُزال أو تُمحى؟ كيف نتحرر من هذا الإحساس بالذنب؟ أنى لنا أن نشعر أبداً بأنّنا في ديارنا مع الله عندما نعرف أننا أثِمنا على نحو كبير نحوه وأننا أنتهكنا باستهتارٍ ناموسه المقدس؟ سوف لن ننسى، كثيرون منا لن ينسوا، كيف أتينا لنرى ما لم نكن لنستطيع أبداً أن نفعله بأنفسنا، بل إن الله قام به لأجلنا من خلال عمل ربنا يسوع على الصليب. ونتذكر عندما ننشد بابتهاجٍ قائلين:

"جميعُ آثامي أُلْقِيت عليه،
وجميع ديوني قد دفَعَها،
كل من يؤمن به، كما قال الرب،
له حياة أبدية".

هذه حقيقة ذبيحة المحرقة، والتي فيها تأخذ الخطيئة مظهر دَيْنٍ لا بدّ من تسديده.

ولكن إذ نتابع فإننا نبدأ بالحصول على رؤية أوسع قليلاً حول العمل الذي جرى عند الصليب. فقد رأينا أن الخطيئة لم تكن فقط دَيْناً يتطلب تسويةً بل كان شيئاًَ بحدّ ذاته نجساً ودنساً، شيئاً جعلنا غير مؤهلين أبداً للصداقة مع الله، القدوس اللامتناهي في قداسته. وشيئاً فشيئاً فتح روح قُدْسِ الله جانباً آخر من الكفّارة ورأينا أن ربّنا المبارك، ليس فقط جُعِلَ كفارةً عن جميع آثامنا، بل عن كل نجاساتنا أيضاً. "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ". لقد كانت لحظةً رائعةً مدهشةً في تاريخ نفوسنا عندما رأينا أننا كنا قد خلصنا إلى الأبد، وجُعِلنا مؤهلين للوقوف في حضرة الله إذ أن القدوس قد صار ذبيحةَ خطيئةٍ عظيمةٍ، وجُعِلَ خطيئةً عنا على صليب الجلجثة.

ولكن كانت هناك دروسٌ أخرى وكان علينا أن نتعلمها. فرأينا مباشرةًً أنه بسبب خطايا البشر فإنهم كانوا على خصومةٍ وأعداءٍ مع الله، وأنه لم يكن بالإمكان أن تكون لهم شِرْكةٌ أومشاركةٌ مع الله إلى أن يتم تدبير أساسٍ قويمٍ مبررٍ للشركة مع الله. كان لا بُدّ من حدوث شيء قبل أن يصبح ممكناً لأن يسود رضى وسرور كامل وسعيد بين الله والإنسان. ومن هنا فقد بدأنا ندخل إلى جانب ذبيحة السلامة من عمل المسيح. فرأينا أنها كانت رغبة الله أن يأتي بنا إلى شِرْكةٍ معه. وهكذا أمكننا أن نكون خطاة مفتدين فقط بذاك الذي صالحنا مع الله من خلال موت ربنا يسوع.

إذ تعلمْنا أن نقَيِّم أكثر العمل الذي قام به مخلّصنا، فإننا وجدنا أنفسنا منشغلين بشكلٍ متزايدٍ بذلك الشخص الذي قام بذلك العمل. في البداية كانت قيمة الدم هي التي أعطتْنا السلامَ نظراً إلى خطايانا، ولكن بعد أن تابعنا تعلمنا أن نتمتع به لأجل ماهيته في حدّ ذاته. وهذه هي قربان التقدمة؛ إذ هنا نرى المسيح بكل كماله، والله والإنسان في شخصٍ مجيدٍ واحدٍ، وألبابُنا هنا تصبح مسلوبةً بجماله ونتغذى بابتهاجٍ منه.

يمكننا أن نفهم الآن ما عنَتْه الشاعرة عندما رنّمت قائلةً:

"يحدثونني عن موسيقى نادرةٍ فذةٍ،
عن ألحانٍ ناعمةٍ وخفيضةٍ،
للقيثار، وللفيول، وترنيم جوقات الملائكة،
كل هذا يمكن أن أفوته؛
 أما الموسيقى التي في صوت الراعي،
 ذاك الذي ربح قلبيَ العاصي،
فهو اللحن الوحيد الذي سمعتُه أبداً،
والذي لا يمكنني أن أنساه أبدا.
فآهٍ كم هو جميلٌ ذاك المعلم،
كم هي عذبةٌ ابتسامته، في ناظري المطرودين،
أولئك الذين يلتقون به وهم غير مدركين،
 ولا يمكنهم أن يستريحوا على الأرض بدونه من جديد.
وأولئك الذين يرونه قائماً ناهضاً من بعيد،
على يمين الله، ليرحب بهم،
يتناسون المنزل والديار،
ويرجون أورشليم الجميلة".

بالنسبة للشكليين الباردين، يبدو هذا كله مجرد شعرٍ صوفيٍّ ومبالغةٍ، ولكن بالنسبة للمؤمن الحقيقي بالمسيح فإنها حقيقةٌ رزينةٌ متزنةٌ.

والآن يبقى جانبٌ آخر من شخص وعمل ربنا يجب أن نفكر به ونأخذه بالاعتبار، ألا وهو ذاك الذي يُقدَّم أو يُصَّور إلينا من خلال ذبيحة المحرقة. بينما مرت السنين على بعضٍ منا بدأ يفهم، بضعفٍ في البداية، ثم بشكلٍ أكثر وضوحاًَ وبمجدٍ أعظم نوعاً ما، أنَّ شيئاً في البداية لم يبزُع أبداً بإشراقٍ في نفوسنا، وذلك أنَّه حتى ولو لم نخلص أبداً من خلال عمل المسيح على الصليب، لكان هناك شيءٌ في ذلك العمل عظيم الأهمية ويعني الله أكثر من خلاص الخطاة.

لقد خَلَقَ الإنسانَ لأجل مجده. والتعليم صحيحٌ عندما يخبرنا أن "الغاية الأساسية الرئيسية من الإنسان أن يمجد الله ويتمتع به إلى الأبد". ولكن، وللأسف، ما من مكانٍ وُجِدَ فيه إنسانٌ لم يخزِ الله بشكلٍ أو بآخر. التهمة التي وجهها دانيال إلى بلشاصر، الملك البابلي، كانت تنطبق بشكلٍ صحيحٍ علينا جميعاً. "أَمَّا اللَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ نَسَمَتُكَ وَلَهُ كُلُّ طُرُقِكَ فَلَمْ تُمَجِّدْهُ". كان لا بد لله أن يجد إنساناً في هذا العالم يمجّده بشكلٍ كاملٍ في كل الأشياء. لقد أُخزيَ وأُهين بشكلٍ رهيب على الأرض هنا؛ وأساء الإنسانُ الأول (آدم الأول) تمثيلَه بشكلٍ متواصلٍ ذاك الذي عهد الله إليه سيادة الأرض، وكذلك لكل نسله، حتى أنه كان من الضروري أن إنساناً ما كان يجب أن يُوجَد بحيث يحيا في العالم كلياً لمجده. إن شخص الله يجب أن يتبرر؛ والرب يسوع المسيح، الإنسان الثاني (آدم الثاني)، الرب الذي من السماء، كان الوحيد الذي أمكنه أن يفعل ذلك، وفي طاعته الكاملة حتى الموت نرى ما يحقق بشكل كامل كل متطلبات الطبيعة الإلهية ويمجد الله بشكلٍ كامل في هذا العالم حيث أُسيء تمثيله بشكلٍ محزن. ذلك هو جانب ذبيحة المحرقة من الصليب. بواسطة ذلك الصليب تعاظم المجدُ لله أكثر مما خسره بسقوط الإنسان. ولذلك لعله يمكننا أن نقول أنه حتى ولو لم يخلص خاطئٌ واحدٌ من خلال ذبيحة ربنا على عود الصليب، فإن الله قد تمجّد كلياً من ناحية الخطيئة، وما من عيبٍ أمكن أن يُلصَق بشخصه، وما من شكٍ كان يمكن أن ينشأ طوال الأبدية من ناحية مقته للخطيئة وسروره بالقداسة.

ولذلك ففي سِفْر اللاويين تأتي ذبيحةُ المحرقة أولاً، لأنها تلك الأكثر أهميةً وقيمةً بالنسبة لله ولذلك ستكون ذات أهمية وقيمة أكبر بالنسبة لنا.

وأوضح آخرون كيف أن الأناجيل الأربعة ترتبط بطريقةٍ رائعةٍ جداً مع الذبائح الدموية الأربع. فمتّى يعرض جانبَ ذبيحة الإثم من عمل المسيح، التي تواجه الخاطئ لحظة حاجته عندما يدرك لأول مرة مديونيته لله. إنها لجديرةٌ بالملاحظة فكرةُ أن الخطيئة هي كدَيْن وجريمة تجاه نظام الحكم الإلهي، هذه الفكرة التي نجدها تحتل موقعاً كبيراً في ذلك السفر.

في إنجيل مرقس, جانبُ الخطيئة كنجاسة وفسوق يتم التركيز عليه أكثر, ومن هنا لدينا وجهة ذبيحة الخطية في الصليب. ثم نجد عند لوقا ذبيحة السلامة كأساس الشِّرْكة بين الله والإنسان. في الأصحاحات ١٤ و١٥ و١٦ تُصوَّر لنا الطريقة التي خرج بها الله بنعمته اللامتناهية إلى الإنسان الخاطئ ليأتي به إلى الصداقة والشّرْكة معه, ومع ذلك كيف أن كثيرين يرفضون تلك الرحمة فلا يعرفون أبداً السلام مع الله. في إنجيل يوحنا يُرى الرب يسوع المسيح كذبيحة محرقة, مُقدِّماً نفسَه بلا عيب لله, مُحْرَقَة وَقُود رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ, وهذا هو السبب في أن يوحنا لا يذكر صرخة الألم المريعة التي قالها يسوع: "إلهي, إلهي, لماذا تركتني؟". هذا يتعلق فعلياً بجوانب ذبيحة الإثم والخطية من عمله؛ ولكنه لا يأتي حيث يُرى موته موتاً يمجد الله بالكلية في العالم الذي أُهين فيه للغاية. إن قربان التقدمة تُرى في كل الأناجيل الأربعة حيث يُصوِّر لنا شخص المسيح بأشكال مختلفة؛ كمسيّا الذي ينتظره بنو إسرائيل في متى؛ وعبد يهوه المتألم في مرقس؛ والإنسان الكامل في لوقا؛ وابن الله الذي صار جسداً في يوحنا.

وإذ نتأمل في كل هذه الأشياء القيّمة, نتمتع حقاً بالشركة مع الآب. خطرت في ذهني مرة, في بداية حياتي المسيحية, فكرة بأن الشركة تنسجم مع المشاعر التقويّة وأُطر الذهن, ولكي أمتلك هذه المشاعر يجب أن أقرأ كل كتاب تأمل أستطيع أن أجده, وسأدون باختصار في مفكِّرة أفكاري عندما أحصل, كما بدا لي, على معنى واضح للتقوى التي كانت سارة للغاية ومقدسة. في السنوات التي تلت ذلك وقع هذا الكتاب في يدي بالصدفة وبالكاد استطعتُ أن أصدّق أنني توصلتُ على الإطلاق إلى هكذا أفكار غريبة مُتخيَّلة أفترض أنها كانت نتيجة الشركة مع الله. أُدرك الآن أن ما اعتقدته شركة كان بالنسبة لي أن أجعل الله يجد مسرَّة في مشاعري التقوية. ولكن ليس الأمر هكذا على الإطلاق. فالشركة مع الله هي عندما تدخل نفسي إلى أفكاره المتعلّقة بابنه.

هل ذهبتَ يوماً إلى منزل حيث عُهد إلى أمٍّ بابنٍ جديدٍ؟ كم استطعتَ أن تتشارك مع تلك الأم قلبياً؟ ربما تحدثتُم بأشياء متنوعة, ولكن ما كان ليمكنك أن تنقر على وتر قلبها الحساس إلى أن قلتَ شيئاً يخص صغيرها. فسرعان ما أشرقت أساريرها وبدأت تخبرك كم هو رائعٌ ذلك الطفل حقاً, ولا تلبث أن تدخل معها في علاقة حميمة كلياً, إذ أنكما كلاكما مشتركان في الاهتمام بنفس ذلك الشخص الصغير. ربما تكون الصورة هزيلة بعض الشيء. إن الطفل قد عُهد به إليها لفترة قصيرة فقط, أما إله الكون فما برح يجد مسرّته في ابنه المبارك خلال كل الدهور وإلى الأبد, والآن كأنه يقول: "أريد أن أُدخلك إلى صداقة معي في أفكاري حول ابني. أريد أن أخبرك عنه. أريدك أن تفهم أكثر السرور الذي أجده فيه وأن ترى بشكل أكمل ما يعنيه عمله وتكرسه بالنسبة لي".

وهكذا يُفتتح سفر اللاويين هذا بصوت الرب ينادي موسى من المقدس. لقد كان ذلك الصوت خارجاً من المجد العظيم قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت". وبالتالي, فمن داخل خيمة الاجتماع حيث يقطن مجد الله فوق كرسي الرحمة, نادى صوت الرب موسى قائلاً: "قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَاناً لِلرَّبِّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ تُقَرِّبُونَ قَرَابِينَكُمْ". لاحظوا أنه ليس هناك كلمة عن خطيئة الإنسان. فهذا الحديث مُوجَّه إلى أولئك الذين كانوا في علاقة عهد مع الله, والذين كانت قلوبهم تطفح بالامتنان له لأجل كل ما فعله لهم, والذين يرغبون طوعياً أن يأتوا لله بشيء ينالون به استحسانه. وإن كل ما يقدمونه له يرمز إلى المسيح. إذ ما من شيء يمكن أن نقدمه لله يعطيه السرور ما لم يدل أو يرمز بشكل أو بآخر على ابنه المبارك. إن الطواعية التي في ذبيحة المحرقة هي ما تعطيها هكذا قيمة. ليس الإلزام أو الفرض أو المطالبة من أي نوع هي الدافع لتقديم الذبيحة هنا, بل إنها القلب الممتلئ بالشكران والراغب في أن يعبّر عن نفسه بشكل ما أمام الله. ولاحظوا العمومية هنا. إنه يقول: "إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ"، (أيْ أيُّ إنسان). هذا أمر كان يمكن لأي شخص أن ينتفع منه. والجميع بمقدروهم أن يأتوا إلى الله ويستفيدوا من عمل ابنه.

تُذكر ثلاثةُ أنواع من الذبائح. إن ذبيحة المحرقة قد تكون ذبيحة من القطيع, أي عجل أو ثور فتي, كما في الآيات ٣- ٩؛ وقد تكون من الماشية, الضأن أو المعز, كما في الآيات ١٠- ١٣؛ أو أيضاً قد تكون من الطيور, كاليمام أو أفراخ الحمام, كما في الآيات ١٤- ١٧. هذه الدرجات والتصنيفات في الذبائح كان لها علاقة بقدرة المُقدِّم أو المُقرِّب. فمن كان يستطيع أن يقرِّب عجلاً كان يأتي به, وإن عجز عن تقديم عجل, فخروفاً أو معزة, وأما الناس الأكثر فقراً فكانوا يأتون بطيور. ولكنها جميعاً على حد سواء ترمز إلى المسيح. إنها مسألة فهم روحي, على ما أعتقد. بعضنا لديه فهم ضعيف جداً للمسيح, ولكننا نُثمِّنه, ونحبه, ونثق به, وهكذا نأتي إلى الله محضرين ذبيحة طيور معنا. إننا نعرفه على أنه السماوي القدوس, والطير يرمز إلى ما يخص السموات. إنه يطير فوق الأرض. وآخرون لديهم فهم أكمل بقليل, وهكذا نأتي بذبيحتنا من الماشية. إننا نرى فيه ذاك المكرَّس المتفاني الذي "مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجُزُّهُ هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ". أو يُمثِّله الماعز, صورة الخاطئ في المكان الذي أخذه بالنعمة. وآخرون أيضاً لديهم فهم أعلى وأكمل لشخصه وعمله. فنرى فيه العجل الصابر القوي الذي كانت مسرّته أن يعمل إرادة الله في كل الأشياء.

هناك فارق صغير جداً في طريقة التعامل بين ذبيحة القطيع وذبيحة الماشية. ولكن الفارق الأكبر يتبدى عندما نأتي إلى ذبائح الطيور.

دعونا نفكر قليلاً في الآيات ٣ إلى ٩: "إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَكَراً صَحِيحاً يُقَرِّبْهُ. إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ". أو كما ورد في إحدى إصدارات الكتاب المقدس: "لكي يقتبله الله منه برضا". إن العجل, أو حرفياً أكثر, العجل الفتي, يرمز, كما قلنا, للخادم الصبور. مكتوب في ناموس موسى: "لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِساً". يُطبق الرسول بولس هذا على خُدام الله, أولئك الذي يُعدون الطعام لشعب الله, ولا يُحرَمون مما يحتاجون لمعيشتهم. لقد كان ربنا المبارك كمثل العجل الصبور يدرس الذرة. ذاك الذي جاء لا ليُخدَم بل ليَخدِم, كان الخادم المثالي الذي يأتي ليُقدِّم حياته فدية عن كثيرين. ولاحظوا أن العجل يجب أن يكون ذكراً بلا عيبٍ. من بين الرموز تُشير الأنثى إلى الخضوع, في حين أن الذكر يوحي بالفكر أو الاستقلال الملائم. كان ربنا يسوع الإنسان الوحيد أبداً الذي سار على هذه الأرض وكان يتمتع بالاستقلال, ومع ذلك اختار أن يكون تابعاً وخاضعاً, حتى إلى الموت. وكان ذاك الذي بلا عيب. ما من خطيئة وُجدت فيه وما من نقص من أي نوع كان وما من إثم أو إخفاق. كان المُقدِّم, عند تقديمه لذبيحة المحرقة الصحيحة يقول عملياً: "ليس فيَّ استحقاق. إني مليء بالخطيئة والإخفاق, ولكني أُحضر إلى الله ما هو بلا عيب, ذاك الذي يدلّ على استحقاق ابنه المبارك". والمقَدِّم غير المستحق كان يُقبَل من خلال الذبيحة المستَحقة, كما يقال لنا في أفسس ١: ٦ "لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي جعلنا مقبولين بِهَا فِي الْمَحْبُوبِ"، أو بترجمة أخرى "أنعم علينا بِهَا فِي الْمَحْبُوبِ". لاحظوا أنه ليس على قدر إيماننا, وليس على قدر حماستنا, وليس على قدر تكرسنا, بل بحسب أفكاره حول ابنه المحبوب. نحن الذين أتت بنا النعمة الإلهية لنرى أنه ليس لدينا من استحقاق في داخلنا, لنا كل الاستحقاق في المسيح.

هذا يتم التأكيد عليه في الآية الرابعة. لقد وقف الإنسان كمُقرِّب أمام الكاهن ويديه على رأس المحرقة. لقد كان يُطابق نفسه فعلياً مع الضحيّة التي كانت على وشك أن تُذبح. إنها يد الإيمان التي تُوضع على رأس المسيح وترى فيه ذاك الذي يأخذ مكاني. وكل ما هو, هو من أجلي. من الآن فصاعداً يراني لله فيه. ولكن لن يفعل ذلك في حياته، بل بموته. ولذلك نقرأ: "يَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ وَيُقَرِّبُ الْكَهَنَةُ بَنُو هَارُونَ الدَّمَ وَيَرُشُّونَهُ مُسْتَدِيراً عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ". لقد كان لنا جميعاً دور في ذبح العجل. أي, كانت لنا جميعاً علاقة بموت المسيح. إن الناس يعرفون هذا عموماً, ولكن يُخفقون في أن يتمسكوا به فُرادى. فعندما أرى أن يسوع مات من أجلي, حتى ولو لم يكن هناك خاطئ آخر في كل العالم, فسأظل أعتبر انه بذل نفسه ضحية بدلاً مني, وهكذا تنطبق قيمة دمه الثمين عليَّ, وأُقْبَل أمام الله من خلال كل ما فعله, وفي كل ما هو عليه.

في الآيات ٦- ٩ نقرأ عن السلخ, أي سلخ المحرقة, وتقطيع الضحية إلى أشلاء. سنتحدث عن الجِلْد لدقيقة, وهناك حقائق ثمينة متعلقة به. كان يجب غسل جميع الأجزاء بالماء ثم تُوضع على خشب المذبح لتُحرَق بالنار, وتصعد إلى الله "مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ". الغسل بالماء يرمز إلى تطبيق كلمة الله على كل جزء من كيان المسيح؛ إن كل ما فعله كان في قداسة كاملة, إذ كان تحت سلطان كلمة الله بقوة الروح القدس. وأمكنه أن يقول بكل معنى الكلمة: "خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ". لم يكن في حاجة إلى الكلمة للتطهير, لأنه كان القدوس أبداً, ومع ذلك كان خاضعاً في كل شيء للكلمة, إذ كان هنا ليُمجِّد الله كإنسان مُتَّكل على الله.

نقرأ "يُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ". كان هذا ينطبق فقط على المحرقة من بين أنواع الذبائح. في بقية الذبائح جميعاً كان هناك شيء ما معكوس بالنسبة إلى الكاهن المُقرِّب أو المُقدِّم نفسه, أما في هذه المحرقة تحديداً فإن كل شيء كان يصعد إلى الله؛ إذ أن هناك شيء في هذا الجانب من عمل الصليب كان الله وحده يستطيع أن يفهمه ويقدّره.

ولكن في الأصحاح ٧: ٨ لدينا استثناء واضح وحيد. بينما كل جزء في الضحية كان يُحرق على المذبح, كان الجِلد يُعطى للكاهن. هذا بالفعل ذو قيمة كبيرة. لكأن الله كان يقول للكاهن: "لقد وجدتُ نصيبي في المسيح. إنه كل شيء بالنسبة لي, حبيب قلبي, الذي فيه وجدتُ كل مسرّتي. والآن أريدك أن تأخذ الصوف وتغطي نفسك به. تدثَّر بجلد المحرقة". إنها صورة رائعة عن القبول أمام الله في المسيح. إننا نتدثَّر بجلد التقدمة.

ليس من داعٍ كبير لأن ندخل في أية تفاصيل تتعلق بذبيحة الماشية، إذ كما رأينت، كانت تثعامل عملياً بنفس الطريقة مثل ذبيحة العجل, ولكن هناك فكرة أو اثنتان تتعلقان بالطيور. نقرأ في الآيات ١٥, ١٦: "يُقَدِّمُهُ الْكَاهِنُ إِلَى الْمَذْبَحِ وَيَحُزُّ رَأْسَهُ وَيُوقِدُ عَلَى الْمَذْبَحِ وَيُعْصَرُ دَمُهُ عَلَى حَائِطِ الْمَذْبَحِ. وَيَنْزِعُ حَوْصَلَتَهُ بِفَرْثِهَا وَيَطْرَحُهَا إِلَى جَانِبِ الْمَذْبَحِ شَرْقاً إِلَى مَكَانِ الرَّمَادِ". إن الطيور، وكما رأينا، ترمز إلى المسيح لأنه ذاك الذي يخص السموات والذي نزل بالنعمة إلى هذا العالم. ولا ريب أن هناك نفس الاكتمال في تصوير عمله هنا فيما يتعلق بالمخلوقات الأخرى. ولكن موته من جديد يتم التأكيد عليه بشكل كامل، وقبل أن توضع الذبيحة على المذبح، كانت تُقتلَع الحوصلة والريش وتُلقَى إلى الرماد. إن استئصال الريش من الطيور، يوحي، على ما أعتقد، باحتضار مجده وجماله عندما طأطأ رأسه بنعمة متواضعة إلى موت الصليب، بينما إزالة الحوصلة تدل، بلا شك، على تخليه طواعيةً عن كل ما يخدم المسرة الطبيعية. نرنم أحياناً، وقلّما ندخل بالمعنى:

"أسلم كل شيء،
أسلم كل شيء،
كل شيء لك، يا مخلصي الثمين
أسلم لك كل شيء".

ولكن إن تفكرنا في هذه الكلمات، فكم تدفأ قلوبنا، وكم نعرف منها مكانتنا التي اتخذناها في النعمة:

"لقد سلّم كل شيء،
لقد سلّم كل شيء،
كل شيء لأجلي، مخلصي الثمين،
سلّم كل شيء".

في الأصحاحات ٦: ٨- ١٣ لدينا شريعة المُحرقة، أي، التعليمات للكهنة عن طريقة سلوكهم عند إجراء هذا الجزء من الشعائر. ففي الأصحاح الأول لدينا ما هو موضوعي أكثر- صورة الله عن شخص وعمل ابنه. ولكن في شريعة المحرقة لدينا ما هو ذاتي أكثر- تأثير ونتيجة كل ذلك علينا، وكيف تدخل نفوسنا فيه. وهكذا ففي الأصحاح السادس نرى الكاهن مرتدياً ملابس بيضاء (ثيابه تدل على ذلك البر الذي لنا الآن في المسيح والذي يجب أن يميزنا عملياً)، بوقارٍ يُخرِج رماد المحرقة ويضعها بجانب المذبح؛ إن الرماد يرمز بوضوح ورغم أنه فاقد للحياة إلى أنه "قد تمَّ". لأن الرماد يدل على النار التي تكون قد خَمَدَت وهذا يدل على أن عمل المسيح قد اكتمل. لقد تألم، ولكنه لن يموت ثانيةً، وتمجد الله بشكل كامل في عمله الذي صَعِد كوقود رائحة سرورٍ إليه. في أزمنة العهد القديم كان يجب أن تبقى النار مشتعلةً دائماً على المذبح. ما كان يجب أن تُطفَأ أبداً، إذ كانت كل مُحرقةٍ تليها مُحرقةٌ أخرى بشكلٍ متواصلٍ مستمر، وإلى نفس النار كانت تُوضَع ذبيحة السلامة وذبائح الخطية والإثم. ما كان العمل منتهياً لأنه ما من ضحيةٍ كانت قد ظهرت بعد مؤهلةً كفايةً لتسدد مطاليب الله بشكل كامل. أما الآن، والحمد لله، فإن لهيب نار المذبح قد انطفأت، والعمل قد تم، وتأثير ذلك العمل يبقى إلى أبد الآبدين. لتبتهج نفوسنا به. في المزمور ٤٠، والذي هو فعلاً مزمور المحرقة، نسمع صوت مديح ينشأ أو يصدر عن تقدير النفس لهذا الجانب من عمل المسيح. لنا أن ندخل فيه بكل امتلائه. في تثنية ٣٣، نرى أن الشغل الشاغل لكهنة الله الممسوحين كان تقديم ذبائح المحرقة على مذبحه. فعلنا نحن الكهنة المقدسين للدهر التدبيري الجديد أن نجد دائماً أن مسرتنا الأولى هي في انشغالنا في المسيح وهذا الجانب من عمله.