الفصل الثاني
المعجزة الغيبية، وهي النبوءة حصراً أي علم الغيب
توطئة
النبوءة الغيبية معجزة إلهية
إن النبوءة الغيبية، أو الاخبار عن الغيب، غيب الخالق أو غيب المخلوق، معجزة، لأنه لا يعلم الغيب إلا الله: ﴿إنما الغيب الله﴾ (١٠: ٢٠)، ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً﴾ (٧٢: ٢٦)، قلْ: لا يعلم مَن في السماوات والأرض الغيب، إلاّ الله﴾ (٢٧: ٦٥). فهو وحده ﴿علاّم الغيوب﴾ (٥: ١١٦ و١٠٩، ٩: ٧٨)، ﴿وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلاّ هو﴾ (٦: ٥٩). لكن ﴿ما هو على الغيب بضنين﴾ (٨١: ٢٤)، ﴿وما كان الله ليطلعكم على الغيب، ولكنَّ الله يجتبي من رسله من يشاء﴾ (٣: ١٧٩). فمن يطلعه الله على الغيب، يكون ﴿عنده علم الغيب﴾ (٥٣: ٣٥). وعلم الغيب هو النبوّة الغيبية حصراً، أو الاخبار الحق بالغيوب. ومن يمنّ الله عليه بمعرفة الغيب والسرائر هو النبي حقاً.
فالنبوّة الغيبيّة معجزة إلهية من دلائل النبوّة.
فهل في القرآن من نبوءة غيبية تحمل سمة المعجزة؟
لا نقصد بذلك تنزيل القرآن، بل ما أخبر به النبي العربي من غيوب.
عقد الباقلاني، شيخ المتكلمين في (إِعجاز القرآن)، فصلاً ﴿في جملة وجوه إِعجاز القرآن﴾: ﴿ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإِعجاز. أحدها يتضمن الاخبار عن الغيوب. وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه... وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن من الاخبار عن الغيوب يكثر جداً. والوجه الثاني أنه كان معلوماً من حال النبي r أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير من حين خلق الله آدم عليه السلام الى حين مبعثه... والوجه الثالث أنه بديع النظم عجيب التأليف متناهٍ في البلاغة الى الحد الذي يعجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء (إِعجاز القرآن) هو على هذه الجملة﴾.
سنفرز لإِعجاز القرآن البياني القسم الثاني. هنا نذكر الوجهين الأول والثاني لأنهما من النبوءة الغيبية. فهل في ﴿الإلهامات الربانية﴾ وفي القصص القرآني نبوءة معجزة؟
بحث أوّل
هل إنباء المستقبل في القرآن نبوءة من علم الغيب؟
لقد جمع أهل (إعجاز القرآن) على أن الإخبار بالغيوب ـ وهو ما يُسمى النبوءات حصراً ـ هو أحد وجوه الإِعجاز الثلاثة في القرآن، كما قال الباقلاني: ﴿أحدها يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه. فمن ذلك: ١) ما وعد الله تعالى نبيّه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عزّ وجلّ: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، ففعل ذلك... ٢) وقال الله عزّ وجلّ: (قلْ للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المهاد) فصدق فيه. ٣) وقال في أهل بدر: (واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إنها لكم) ووفى لهم بما وعد﴾.
وأضاف الباقلاني فصلاً آخر ﴿في شرح ما بينّا من وجوه الإِعجاز﴾. فأما الفصل الذي بدأنا به من الاخبار عن الغيوب والصدق والإصابة في ذلك كله، فهو كقوله: ١) ﴿قل للمخلفين من الأعراب: ستُدعون الى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون﴾ فأغزاهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما الى قتال العرب والفرس والروم. ٢) وكقوله: ﴿آلم. غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلبهم سيغلبون في بضع سنين﴾، وراهن أبو بكر الصّديق رضي الله عنه في ذلك. وصدق الله وعده. ٣) وكقوله في قصة أهل بدر: ﴿سيُهزم الجمع ويولّون الدبر﴾. ٤) وكقوله: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون﴾. ٥) وكقوله: ﴿واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم﴾. ٦) وكقوله: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً﴾ وصدق الله تعالى وعده في ذلك. ٧) وقال في قصة المتخلّفين عنه في غزوته: ﴿لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدواً﴾، فحق ذلك كله وصدق ولم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد. ٨) وكقوله: ﴿قلْ: تعالوا ندْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءنا ونساءَكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾، فامتنعوا عن المباهلة، ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية ناراً، على ما ذكر في الخبر. ٩) وكقوله: ﴿قلْ: إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنّوا الموت، إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم﴾. ولو تمنّوه لوقع بهم. فهذا وما أشبه﴾.
نستغرب ان يجعل الباقلاني وأمثاله تحدّي نصارى نجران بالمباهلة، من أنباء الغيب، وتحدّي يهود المدينة بتمني الموت، من النبوءة الغيبية. إنهما عمل ظاهر حاضر.
فهناك، على زعم الباقلاني ثمان ي نبوءات غيبية في القرآن.
أو ّ لاً: نبوءة ظهور الإسلام على الدين كل ّ ه
جاء الوعد بظهور الإسلام ﴿على الدين كله ولو كره المشركون﴾ في (الفتح ١٨، الصف ٩، التوبة ٣٤). فهل في هذا الوعد نبوءة من علم الغيب، أم إنه أسلوب بياني؟
مَن يرى في هذا الوعد نبوءة من علم الغيب يصطدم بالتاريخ وبواقع حال العرب والمسلمين. أني عربي ويؤلمني ما أقول، لكن الحقيقة أن يعرف الانسان نفسه. فإلى اليوم لم يتغلب الإسلام على المسيحية، ولا على الهندوكية، ولا على البوذية. إن الواقع البشري في الأديان مائل للعيان: فليس في وعد القرآن من نبوءة! ومَن أصرّ على أنها نبوءة جعل الواقع يكذّبها.
وليس في قوله ﴿ليظهره على الدين كله﴾ وعداً للمستقبل. بل هو أسلوب بياني من باب التعميم في معرض التخصيص. وهذا التخصيص ظاهر من قرينة ﴿ولو كره المشركون﴾، هو اصطلاح فيه للعرب الذين يخاطبهم.
ونعرف من (أسباب النّزول) إن حقيقة الوعد تسجيل لواقع يتحقق في الجزيرة العربية. وجاء هذا التسجيل بعد انتصار جماعة محمد على اليهودية في شمال الحجاز (الفتح ١٨)، وعلى المشركين في مكّة (الصف ٩)، وعلى المسيحية العربية في مشارف الشام (التوبة ٣٣). ولا ننسَ ابداً أن الآيات القرآنية كانت تنزل بعد الأحداث لتسجيلها واستخلاص عبرها.
فالوعد بظهور الإسلام ﴿على الدين كله﴾ مقصور على الجزيرة العربية. وهو حادث مشهود، لا غيب موعود.
وليس فيه من عناصر النبوءة المعجزة شيء: فليس خارقاً للعادة في نشأة الأديان وانتشارها، ولا تحدّي فيه لغير العرب المشركين، ولا هو سالم عن المعارضة بسيطرة غيره من الأديان على العالم.
فالوعد تسجيل واقع مشهود في الجزيرة العربية.
ثانياً: استخلاف المسلمين في الأرض
جاء في قوله: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنّهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً﴾ (النور ٥٥).
فهل هذا الوعد نبوءة للمستقبل من علم الغيب؟ أم أنه حادث مشهود يتم في جزيرة العرب؟
تلك الآية من سورة (النور ٥٥) نزلت في غزوة بني المصطلق، في شعبان سنة ست هـ، أي في مطلع العام ٦٢٨ م. وكانت تلك الغزوة بعد هزيمة أحزاب قريش في غزوة الخندق، شوال سنة خمس هـ أب في آذار عام ٦٢٧ م، وبين صلح الحديبية في آخر السنة السادسة هـ، أي في آذار عام ٦٢٨ م.
لقد ذهب الخوف على المصير في فشل مشركي قريش بغزوة الخندق. وساد الأمن المسلمين الذين يجهزون لحملة الحديبية، في غزوة سلمية لمكّة بحجة الحج.
وهذا التصميم على اقتحام مكّة، والرضى بصلح الحديبية مع صناديد قريش، دليلان على تصاعد سلطان المسلمين في الحجاز، حتى سمى القرآن صلح الحديبية ﴿فتحاً مبيناً﴾ (الفتح ١).
فتلك الظروف التاريخية لا تجعل الوعد بالاستخلاف ﴿في الأرض﴾ ـ أي في الحجاز ـ نبوءة غيبية عن مصير مجهول لا يعلمه إلا الله. إنها تسجيل واقع ببلوغ المسلمين قوة النصارى واليهود في الحجاز. فمن يقتحم مكّة، ويرضى منها مرغمة بالصلح، لا يجهل سلطان جماعته ومصيرهم الآخذ في السيطرة على الحجاز.
وكل قائد يأتي بمثل هذا التحريض في أحرج الأوقات على جماعته. فاستخلافهم في الحجاز كاستخلاف أهل الكتاب فيه، أمر مشهود يتم أمام عيونهم.
فليس هذا الوعد، في واقع الحال، نبوءة غيبية. ولا يصحّ ذلك لأنه ليس أمراً خارقاً للعادة، مقروناً بالتحدّي، سالماً عن المعارضة. فاستخلاف المسلمين في أرض الحجاز، مثل النصارى واليهود، واقع مشهود بعد اندحار المشركين في غزوة الخندق، ورضوخهم الى الصلح في معاهدة الحديبية.
إن أسلوب التعميم والتجريد في التعبير، بعيداً عن (أسباب النّزول) يوهم الخطأ في تحميل القرآن ما لا يحمله من علم الغيب.
ثالثاً: النبوءة بنصر بدر
قيل: فيها نصان.
النص الأول: ﴿أم يقولون: نحن جمع منتصر! سيُهزم الجمع ويولون الدبر! بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرّ﴾ (القمر ٤٤ ـ ٤٦).
لا شيء في (أسباب النّزول) ولا في النص، يجعل من الوعد نبوءة غيبية. ﴿ولما قال أبو جهل يوم بدر ﴿إنّا جمع منتصر﴾، نزل: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾، فهُزموا ببدر، ونصر رسول الله r عليهم﴾ (الجلالان). بحسب هذا التحليل، الوعد تسجيل واقع.
لكن الآية من مكّة، ولم ينزل بعد الأمر بالجهاد والقتال: فلا تمت الآية في واقع الحال إلى نبوءة عن نصر حربي.
وفاتهم جميعاً الوعد المضروب للهزيمة: ﴿بل الساعة موعدهم﴾. فالنصر الموعود هو في يوم الدين، حيث تكون الهزيمة في ﴿سقر﴾ (٤٨).
النص الثاني: ﴿وإذا يعدكم إحدى الطائفتين أنها لكم﴾ (الأنفال ٧). وقد وفى لهم بما وعد. فهل في هذا القول علم بالغيب؟ قال الجلالان: ﴿شاور النبي r أصحابه وقال: إن الله وعدني إحدى الطائفتين. فوافقوه على قتال النفير، وكره بعضهم ذلك وقالوا: لم نستعد له﴾.
نص الوعد لا يحمل معنى ﴿النبوءة﴾ أي علم الغيب: فهو مجهول القصد، العير أم النفير. وواقع الحال لم يكن يتجه إلى قتال النفير في بدر، كما يظهر من قصة الغزوة في القرآن والسيرة. كان هدف الغزوة قطع الطريق على قافلة أبي سفيان العائدة من الشام مثقلة بالمال والمتاع. لكن نفير قريش تصدى لهم فنازلهم فنازلوه.
والوعد ﴿بإحدى الطائفتين﴾ ليس فيه معنى المعجزة ليصح نبوءة: فليس خارقاً للعادة، لأنه مجهول الهدف؛ وليس سالماً عن المعارضة، فلم يحمل المسلمون القول محمل العلم بالغيب، فهم يجادلون فيه حتى بعد النصر: ﴿يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن﴾ (الأنفال ٦). فلو كان في الوعد معنى التحدّي لما تلكأ المسلمون عن الخروج الى المعركة: ﴿وان فريقاً من المؤمنين لكارهون﴾ (٥)، ومن شدّة خوفهم كانوا ربهم يستغيثون (٩). فلم يكن الوعد مقطوعاً كمعجزة للتحدي.
والقرآن نفسه لا يرى في ذلك الوعد غيباً مكشوفاً، بل بشرى للاطمئنان: ﴿وما جعله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلاّ من عند الله﴾ (١٠). وقد استغل القرآن الحدث كنصر من الله يؤيده، لا كمعجزة غيبية تشهد له.
فالنص والقرائن كلها، دلائل على أن ذلك الوعد كان وعد قائد حكيم، لا نبوءة غيبية معجزة. فليس في القرآن من نبوءة بنصر بدر.
رابعاً: النبوءة بفتح مكّة
جاء بعد فتح الحديبية: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخُلُنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، محلقين رؤوسكم ومقصّرين، لا تخافون. فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً﴾ (الفتح ٢٧) هو معاهدة الحديبية.
التفسير الصحيح، و(أسباب النّزول) تمنع أن يكون في الآية نبوءة غيبية. قال الجلالان: ﴿رأى رسول الله r في النوم، عام الحديبية، قبل خروجه، أنه يدخل مكّة هو وأصحابه ويحلقون ويقصّرون. فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا. فلما خرجوا معه، وصدهم الكفّار بالحديبية ورجعوا، وشقّ عليهم ذلك، وراب بعض المنافقين، نزلت﴾. ويقول السيوطي في (أسباب النّزول): ﴿أخرج الغريابي وعبد بن حميد والبيهقي، أنه يدخل مكّة وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصّرين. فلما نُحر الهدْي بالحديبية، قال أصحابه: أين رؤياك، يا رسول الله؟ فنزلت﴾.
فأصحاب محمد يشهدون بأن الوعد لم يتم. فليس فيه من نبوءة غيبية. قيل: لقد تحقّق الوعد في العام القابل. ولكن في العام القابل، دخلوا مكّة بناء على معاهدة الحديبية، لا بناء على وعد نبوي. وقد تخاذل صناديد قريش أمام قوة المسلمين الزاحفة. فليس في الوعد معنى كشف الغيب، إنما هو بنص القرآن القاطع ﴿رؤيا﴾ في منام. والنبوءة الغيبية، الخارقة للعادة، السالمة عن المعارضة، التي يتحدّى بها كمعجزة له، لا تكون ﴿رؤيا﴾ في منام!
وظروف الحال تمنع الإِعجاز، فزمن النبوءة مجهول: فهو تارة قبل الخروج إلى الحديبية، وتارة في الحديبية؛ والسورة التي تذكره من بعد الحديبية. والنبوءة المعجزة لا تكون مجهولة الزمان والمكان، مجهولة المصير، يجري التاريخ بخلافها. فقد ﴿قال أصحابه: أين رؤياك، يا رسول الله﴾؟
فكل القرائن القرآنية والتاريخية تمنع من أن نرى في ﴿رؤيا﴾ المنام نبوءة غيبية. ولو رأى القرآن نفسه فيها أمراً خارقاً للعادة، لتحدّاهم به، كلما تحدّوه بمعجزة! فهذه ﴿الرؤيا﴾، مثل ﴿الوعد﴾ بنصر بدر، كلها أساليب تحريض على الجهاد، لا أسلوب نبوءة من علم الغيب.
خامساً: الوعيد بهلاك كفّار مكّة
هذا نصه: ﴿قل للذين كفروا: ستُغلبون وتُحشرون الى جهنم، وبئس المهاد! قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يرونهم مثليْهم رأي العين. والله يؤيد بنصره مَن يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار﴾ (آل عمران ١٢ ـ ١٣).
هذا وعيد بهلاك كفار مكّة، فهل في ظروف الحال، أم في تحقيقه، ما يجعله نبوءة غيبية؟
الوعيد من بعد نصر بدر الذي تذكره سورة (الأنفال). والقرآن يعطي على صحة الوعيد برهاناً ﴿العبرة﴾ بنصر بدر. فليس الهلاك المذكور هو موقعة بدر، إنما هو بنصه القاطع حشر كفّار مكّة في جهنم. وهذا لا يقدر أن يتحققه المسلمون على الأرض، فليس فيه معنى التحدّي بالإِعجاز، ليكون نبوءة غيبية. والعبرة بنصر بدر أسقطتها هزيمة أُحد من بعدها.
ووعيد كفّار مكّة بجهنم سقط بإسلام أهل مكّة. والنبوءة الغيبية لكي تكون كذلك، يجب أن تقترن بالتحقيق. جاء في التوراة عن صحة النبوءة الغيبية: ﴿فإن تكلَّم النبي باسم الله، ولم يتم كلامه، ولم يقع، فذلك الكلام لم يتكلم به الله﴾ (التثنية ١٨: ٢٢). ونبأ لا يتم، ويعترض ما يمنع تحقيقه، لا يكون نبوءة غيبية، انما هو وعيد من باب الترهيب، لا من باب علم الغيب.
سادساً: دعوة المسلمون الى قتال الفرس والروم
جاء قوله: ﴿ستُدعون الى قوم أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون﴾ (الفتح ١٦). هل في هذا النص خبر عن قتال موعود للفرس والروم، والانتصار عليهم؟
إنه يأتي في سورة (الفتح ١٦) تحريضاً على غزوة خيبر ومعاقل اليهود في الشمال، كما يتضح من سياق النص (الفتح ١٥ ـ ١٩). فظاهر النص أن ﴿القوم أولي البأس الشديد﴾ هم يهود الشمال في معاقلهم. فليس هو نبوءة غيبية، بل تسجيل واقع الحال.
وقد تكون الآية (الفتح ١٦) من زمن غزوة تبوك، كما يدل عليه مضمونها ومضمون سورة التوبة (٩٠ - ١٠٦). دعاهم إلى تأديب النصارى العرب الموالين للروم في مشارف الشام. فكانت غزوة مؤتة الفاشلة، ثم غزوة تبوك المتعسرة التي انتهت بصلح مشروط. ولو كان في التحريض على قتال العرب النصارى في مشارف الشام معنى النبوءة الغيبية، لما تقاعس الأعراب أهل الغزو عن المسيرة، فنزل فيهم: ﴿والأعراب أشد كفراً ونفاقاً، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، والله عليم حكيم﴾ (التوبة ٩٧). فالنبأ أمر مشهود في غزوة تبوك، لا أمر موعود من علم الغيب.
فليس في الآية، ولا في قرائنها، معنى دعوة المسلمين الى قتال الفرس والروم، والانتصار عليهم. إنهم يحمّلون النص ما لا يحمله، ليجدوا فيه نبوءة غيبية.
سابعاً: تهديد المتخلفين عن غزوة تبوك
يرون نبوءة غيبية في قوله: ﴿فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله... فإن رجعك الله الى طائفة منهم، فاستأذنوك للخروج، فقل: لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدواً، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين﴾ أي المتخلّفين عن الغزو(التوبة ٨١ و٨٣). قال الباقلاني: ﴿فحق ذلك كله وصدق، ولم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد﴾.
لكن فات الباقلاني وأمثاله أن الرسول نفسه لم يخرج الى غزوة البتّة بعد تبوك، فهي آخر غزوات النبي، انتقل بعدها الى الرفيق الأعلى. هذا الواقع ينقض معنى النبوءة الغيبية في الآية، ويدل على أن محمداً لم يكن يرى فيها كشفاً للغيب، يجهل معه موته القريب. إن النبأ لا يكون نبوءة إلاّ متى اقترن بالتحقيق، وهنا يحول موت النبي دون التحقيق.
والنبوءة الغيبية لا تكون مشروطة. وهنا النبوءة مشروطة برجوعه سالماً من غزوة تبوك: ﴿فإن رجعك الله الى طائفة منهم﴾ (٨٣). وهذا الشرط يرفع معنى النبوءة في الآية. فلو أمهل الله محمداً فغزا بعد تبوك، فذلك تنفيذ أمر عسكري، لا تحقيق نبأ غيبي. وهذا أيضاً لم يحصل. إن النبأ الغيبي تحقيقه محتوم، وغير مشروط.
قل: إنها أوامر عسكرية، قد تقتضي الظروف تبديلها، فليس فيها من نبوءات غيبية، كما يتوهمون.
ثامناً: قصّة الروم
يرون نبوءة تاريخية كبرى في قوله: ﴿غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر مَن يشاء وهو العزيز الرحيم، وَعْدَ الله، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (الروم ٢ ـ ٦).
قصة الروم هذه لا تمتّ الى السورة التي تستفتحها بصلة. فلا يُعرف زمانها. ثم إن لها قراءَتين على المعلوم (غَلَبَت) وعلى المجهول (غُلبت). وبحسب اختلاف القراءَة قد تعني الروم والفرس، أو الروم والعرب. وآية مجهولة المعنى لا تكون نبأً غيبيّاً.
و(أسباب النّزول) تؤيد ذلك، قال السيوطي: ﴿أخرج الترمذي عن أبي سعيد قال: لمّا كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت (آلم غَلَبت الروم) الى قوله (بنصر الله) يعني بفتح العين. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه﴾ ـ فعلى القراءَة بالمعلوم أن الآية تسجيل واقع تاريخي مشهود، يتوسّم فيه المسلمون خيراً لهم تجاه المشركين. ﴿وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكّة قبل أن يخرج رسول الله r فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس؛ وأنتم تزعمون أنكم ستغلبونا بالكتاب الذي أُنزل على نبيكم. فكيف غلب المجوس الروم وهم أهل كتاب، فسنغلبكم كما غَلَبَ فارس الروم. فأنزل الله (آلم غلبت الروم). وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ويحيى بن يعمر﴾ - واقع الحال قبل الهجرة لا يسمح بمثل هذا الحوار، فقد ظل المسلمون مغلوبين على أمرهم في مكّة حتى اضطروا إلى الهجرة الى يثرب. مع ذلك يستنتج السيوطي: ﴿وقتادة في الرواية الأولى على قراءة (غَلبت) بالفتح لأنها نزلت يوم غلبهم يوم بدر. والثانية على قراءَة الضم (غُلبت) فيكون معناه، وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون، حتى يصحّ معنى الكلام، وإلاّ لم يكن له كبير معنى﴾ ـ فكبير المعنى عنده أن المسلمين سيغلبون الروم بعد انتصارهم على الفرس. وهذه نظرية ثالثة في معنى الآية.
ونبأ له ثلاثة معانٍ ليس بنبوءة غيبية.
وقد تكون القراءَة على المجهول، أي انتصار الروم على الفرس بعد هزيمة الروم، هي الفضلى، في شبه اجماع. لكن على هذه الحال، ليس في الخبر معنى النبوءة الغيبية، ﴿لأنها نزلت يوم غلبهم، يوم بدر﴾، إنها تسجيل حدث مشهود عام ٦٢٤ م فرح به المسلمون لنصر الإيمان، كما فرحوا بنص بدر على مشركي العرب. والتاريخ خير شاهد: فقد بدأت حملة الفرس الظافرة عام ٦١٢م فاحتلوا سورية سنة ٦١٢ م، وفلسطين ٦١٤ م ومصر ٦١٨ م. وظهر هرقل فسار بحملة الثأر الظافرة سنة ٦٢٢ م؛ وسنة ٦٢٤ م كان طرد الفرس من سوريا، يوم نصر بدر. وظل هرقل زاحفاً حتى احتل عاصمة فارس، واسترجع منها ذخيرة الصليب. فما يسمونه نبوءة في آية الروم ليس سوى واقع تاريخي مشهود.
وهناك نحو اثنين وعشرين خبراً من تلك النبوءات المزعومة، اقتصرنا على أشهرها. وأنت ترى تهافت التحليل لرؤية نبوءة غيبية حيث لا شيء من ذلك.
والقول الفصل، في باب الإخبار بالغيوب، أن علم الغيب المجهول معجزة إلهية، والقرآن ينفي عن محمد كل معجزة منعاً مبدئياً مطلقاً (الإسراء ٥٩) ومنعاً فعلياً قاطعاً (الأنعام ٣٥).
قال الأستاذ دروزة ١ : ﴿أما التأييدات والإلهامات الربانية للنبي r التي تضمنت أخبارها آية قرآنية عدة... مثل الذي جاء في سورة (التحريم ٣) فإنها كما هو ظاهر من نصوصها وروحها لا تدخل في عداد معجزات التحدّي. وبالتالي فإنها ليس من شأنها نقض الموقف السلبي العام الذي تمثله الآيات القرآنية﴾.
وفاتهم أيضاً الأسلوب البياني والصوفي في القرآن: فهو يأتي بالتعميم في موطن التخصيص، فيأخذ الواقع باطلاق التعبير مدى غير مداه الحقيقي! وهو ينسب العلل والعوامل في المخلوقات الى العلة الأولى في الوجود، فينظر من تلك الزاوية الى الحياة الدنيا نظرة صوفية، لا نظرة واقعية تاريخية. وهذا الأسلوب القرآني المزدوج هو الذي يعطي ﴿تلك التأييدات والإلهامات الربانية﴾، في أسلوب عرضها، صيغة النبوّة الغيبية، مع أنها ليست من علم الغيب في شيء. فلو فطنوا لأسلوب القرآن لما وهموا.
وكيف فات القوم تصريح القرآن القاطع: ﴿وما أعلم الغيب﴾ (الأنعام ٥٠). ولم يكشف له الله الغيب، فهو يشهد على نفسه: ﴿لو كنت أعلم الغيب، لاستكثرت من الخير، وما مسّني السوء﴾ (الأعراف ١٨٨). بعد هذا الإعلان القرآني الصريح القاطع، كيف يجوز لهم أن يروا في القرآن نبوءات من علم الغيب؟! إنهم يكابرون وينقضون صريح القرآن.
فليست أنباء المستقبل في القرآن نبوءات من علم الغيب. ينقض ذلك نقضاً مبرماً ﴿الموقف القرآني السلبي من كل معجزة﴾. إنما هي من ﴿متشابه﴾ القرآن في أسلوبه البياني والصوفي.
بحث ثان
هل في القصص القرآني نبوءة من علم الغيب؟
قال الباقلاني، شيخ المتكلمين في (إِعجاز القرآن) ـ والقوم على رأيه الى اليوم ـ ﴿في جملة وجوه إِعجاز القرآن﴾: ﴿ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإِعجاز: الأول الإخبار بالغيوب ـ وقد رأينا حقيقة أمره؛ والثالث بديع نظمه وعجيب تأليفه ـ وهو الإِعجاز حصراً، وسنفرد له القسم الثاني كله. بقي الثاني: ﴿والوجه الثاني إنه كان معلوماً في حال النبي r أنه كان أميّاً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، الى حين مبعثه﴾.
فالقصص القرآني عنده وجه ثانٍ من وجوه إِعجاز القرآن.
يشبهه أخبار الخلق والتكوين، وأوصاف اليوم الآخر. وما نقوله في القصص القرآني، من حيث فيه نبوءة من علم الغيب، ينطبق على النوعين الآخرين.
فالباقلاني ومَن لفَّ لفَّه يبنون إِعجاز القرآن في قصصه كما في غيره على أميَّة محمد، وهذا يناقض القرآن والتاريخ معاً.
أوّلاً: قصص القرآن كان متداولاً بين العرب قبل القرآن
يقول الأستاذ دروزة ٢ : ﴿عرف العرب الحجازيون أهل الكتاب من يهود ونصارى، في بلاد الحجاز والشام، واحتكّوا بهم. وأخذوا عنهم كثيراً من الإفكار والمعارف. ومنهم من دان باليهودية والنصرانية، وتضلّع باللغة العبرانية، واطّلع على ما عند اليهود والنصارى من كتب. وقد عرفوا كذلك ما كان عليه أهل الكتاب من خلاف وشقاق في الأمور الدينية والمذهبية. وكان لكل ذلك صدى وأثر في نفوسهم وأذهانهم، على ما بسطناه في كتابنا (عصر النبي وبيئته قبل البعثة). وقد كان في مكّة خاصة بعض الجاليات الكتابية، يرجع تاريخ سكناها الى ما قبل البعثة، وشهدت أدوار الدعوة النبوية. ولم تكن بعزلة عنها بطبيعة الحال﴾ - فالمعارف الكتابية كانت شائعة بمكّة، ولا يصح أن يبقى محمد في عزلة عنها، أو غفلة.
ثانياً: اتصال العرب بأهل الكتاب
يقول دروزة أيضاً ٣ : ﴿ولقد أثبتنا بالاستدلالات القرآنية في كتابنا (عصر النبي وبيئته قبل البعثة) أن أهل بيئة النبي r كانوا على اتصال بالأمم الكتابية وغير الكتابية، عن طريق المستقرين منهم في الحجاز، وعن طريق الرحلات المستمرة الى البلاد المجاورة. وأن كثيراً من أخبارهم ومعارفهم وعقائدهم ومقالاتهم وأحوالهم قد تسربت الى العرب، وشاهدوا مشاهدها التاريخية والمعاصرة، وليس من الطبيعي، ولا من المعقول أن يبقى النبي r في عزلة أو في غفلة عن هذا كله. حقيقةً قد علَّم الله النبي بوحيه وتنزيله أموراً متنوعة كثيرة كان غافلاً عنها هو وقومه. ولكن ذلك لا يقتضي أنه كان غافلاً عن كل ما حوله من أمور، وما يدور في بيئته وعلى ألسنة معاصريه من كتابيين وغير كتابيين، عرب وغير عرب، من أنباء وقصص وظروف وحالات، فإن هذا يناقض طبائع الأشياء﴾.
ثالثاً: اتصال محمّد نفسه بأهل الكتاب
ثم يستشهد دروزة على اتصال محمد الشخصي بأهل الكتاب: ﴿في سورة (النحل ١٠٣)، آية تحكي دعوى بعض الكفّار أن شخصاً معيَّناً كان يُعلَّم النبي: (ولقد نعلم إنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! ـ لسان الذي يُلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين). والآية تنفي التعليم الذي يجحد بنزول الوحي على محمد r ، غير أنها لا تنفى اتصالاً ما بينه وبين أحد أفراد الجالية الأجنبية كما هو ظاهر. والمتبادر أن الجاحدين لم يكونوا ليقولوا ما قالوه، لولم يروا أو يعرفوا أن النبي r كان يتردّد على شخص من أفراد هذه الجالية في مكّة , هو أهل علم وتعليم ديني، وله وقوف على الكتب السماوية...﴾.
﴿وفي سورة (الفرقان ٤) آية تحكي كذلك دعوى بعض الكفّار أن النبي r كان يستعين في نظم القرآن بقوم آخرين: (وقال الذين كفروا: إن هذا إلا إفك افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون! - فقد جاؤوا ظلماً وزوراً)، والآية انما تنفي كذلك دعوى الاستعانة، ولا تنفي اتصالاً، أو صحبة النبي r وفريق من الناس. كما أن تعبير ﴿قوم آخرين﴾ يُلهم أن المنسوب اليهم أكثر من واحد. وبالتالي يسوغ القول إنه غير الشخص الأعجمي المعني في آية النحل. والذي يتبادر الى الذهن أيضاً أن الكفّار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه مما حكته الآية، لو لم يروا ويعرفوا أنه كان للنبي r حلقة أو رفاق يجتمعون إليه، ويجتمع إليهم، ويتحدثون في الأمور الدينية. وليس من المستبعد ـ إن لم نقل من المرجح ـ أن هذا كان قبل البعثة، ثم امتد الى ما بعدها﴾.
فمحمد كان على اتصال شخصي بأهل الكتاب من عرب وعجم ـ واتصاله بالأعاجم يدل على أنه كان يعرف لغات أجنبية غير العربية، كما أبنّا ذلك في غير موضع. وهذا ليس من الأمية علماً وديناً في شيء.
رابعاً: تداول الكتاب والإنجيل معرَّبين بين العرب قبل القرآن
يقول الأستاذ دروزة أيضاً ٤ : ﴿وهناك نقطة أخرى متصلة بهذا البحث عن اليهودية والنصرانية العربية، ثم بالثقافة العربية بوجه عام، وهي: ما اذا كانت التوراة والإنجيل في عصر النبي وبيئته منقولاً الى العربية أم لا؟
﴿إن القرآن يحكي مواقف حجاج ومناظرة دينية بين النبي r من جهة، وبين النصارى واليهود من جهة أخرى... والقرائن القرآنية تلهمنا من جهة، والتاريخ المتصل بالمشاهدة من جهة أخرى، يخبرنا بأن آلافاً مؤلفة من العرب كانوا نصارى، ومنهم البدو ومنهم الحضر. واستتباعاً لهذا فإن السائغ أن يقال: إنه لا بدَّ من أن يكون بعض أسفار العهد القديم والعهد الجديد ـ إن لم يكن جميعها ـ قد ترجمت الى العربية قبل الإسلام، وضاعت مع ما ضاع من آثار مدونة في غمرات الثورات والفتن والحروب. ولعل ما في القرآن من أسماء وكلمات معربة كثيرة أو من تعابير مترجمة، متصلة بمحتويات هذه الأسفار، مما تصح أن تكون قرائن على ذلك. ونرى هذا هو الذي يستقيم مع وجود عشرات ألوف العرب النصارى، وآلاف الرهبان والقسيسين العرب، ومئات الكنائس والأديار العربية﴾.
أجل هذا منطق التاريخ. والقرآن شاهد عدل أيضاً. فهو يميّز أمة عيسى عن جماعة محمد وعن اليهود بأنهم ﴿أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون﴾ (آل عمران ١١٣). عرب نصارى يصلون بمكّة، وتلاوة أسفار الكتاب والإنجيل ركن من أركان صلاتهم وقيام الليل: فبأي لغة يتلون الكتاب والإنجيل؟ لا شك أنهم يتلون بلغتهم العربية.
والقرآن يتحدّى اليهود: ﴿قل: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين﴾ (آل عمران ٩٣). ينتدبهم إلى تلاوة التوراة أمام عرب المدينة، ألا يدل هذا على أنها كانت مترجمة الى العربية، وأنها تُتلى بالعربية، أولاً للدعاية، ثم ليفهمها العرب المتهودون أو المنتصرون؟
خامساً: القرآن ﴿تفصيل الكتاب﴾
يصرح القرآن عن نفسه بأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧) ﴿بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء ١٩٥). والتفصيل بلغته الدرس والتعريب، كما يظهر من مقالة العرب: ﴿إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين﴾ (الأنعام ١٥٦). غفلوا هم عن دراسة التوراة والإنجيل، فدرسهما محمد: ﴿وكذلك نصرف الآيات - وليقولوا: درست! - ولنبيّنه لقوم يعلمون﴾ (الأنعام ١٠٥). فلا ينفي تهمة الدرس، بل يوضح غايته من درس التوراة والإنجيل، وهي تبيان الكتاب للعرب الذين غفلوا عن دراسته أي ﴿تفصيل الكتاب﴾. وهو يستعلي على المشركين بدرس الكتاب المقدس: ﴿أم لكم كتاب فيه تدرسون... أم عندهم الغيب فهم يكتبون﴾ (القلم ٣٧ و٤٧)، مما يعني أن محمداً عنده كتاب فيه يدرس، ومنه يكتب الغيب، بل الكتب المقدسة كلها: ﴿وما آتيناهم من كتب يدرسونها﴾ (سبأ ٤٤)، أما هو فقد أُوتي كتباً يدرسها. وذلك ﴿ليعلمهم الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل، كما يردّد بتواتر (البقرة ٢٣١ و١٥١، آل عمران ١٦٤، الجمعة ٢). فالقرآن بهذا النص القاطع هو تعليم العرب ﴿الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل. فجاء ﴿تنزيل رب العالمين﴾ في القرآن ﴿من زبر الأولين﴾ (الشعراء ١٩٣ - ١٩٧)، ﴿بتفصيل الكتاب﴾ لهم أو ﴿تعليمهم الكتاب والحكمة﴾. لقد دَرَسَ محمد التوراة والإنجيل، ودَرَّسَهما للعرب في القرآن. هذه هي شهادة القرآن القاطعة التي تقضي على القول بأمية محمد، وتبرهن أن قصص القرآن من الكتاب، درسه على ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). فليس فيه من معجزة غيبية. مع العلم أن الدرس والوحي لا يتعارضان، ومع العلم أن ما في القصص القرآني بصيغة التلمود، لا بصيغة الكتاب، كما كان يفعل أهل الكتاب أنفسهم.
سادساً: سيرة محمد تدل على سعة علمه واطلاعه
إن إجماع السير النبوية والحديث يدل على أن محمداً كان قبل دعوته ﴿يتحنّف﴾ شهراً مع قس مكّة، ابن عمه، ورقة بن نوفل. وهذا القس النصراني يشهد الحديث الصحيح أنه كان يكتب الكتاب العبراني، ويترجم الإنجيل الى العربية. وقد قضى محمد في جواره بعد زواجه من السيدة خديجة، بنت عم ورقة، مدة خمس عشرة سنة قبل البعثة يحضر كتابة الكتاب وترجمة الإنجيل. فقصص القرآن وأخبار الخلق وأوصاف اليوم الآخر كان يسمعها من أستاذه، قس مكّة ﴿النصرانية﴾.
ناهيك عن رحلتي الشتاء والصيف، الى اليمن والشام، موطن المسيحية وبعض اليهودية، في تجارة زوجته السيدة خديجة التي كانت تجارتها تعدل تجارة قريش، وما يقتضيه ذلك من سعة اطلاع، في اتصال دائم مع أهل الكتاب.
يكفي محمداً أن يكون تلميذاً لقس مكّة، ابن عم زوجته، حتى يكون عالماً بقصص الأولين، وأخبار الخلق، وأوصاف اليوم الآخر. فلم يكن محمد أمياً ولا جاهلاً بها حتى يكون ما جاءَ به ﴿من زبر الأولين﴾، ﴿ممن عنده علم الكتاب﴾، معجزاً بالنسبة إلى حاله أو بيئته. والقرآن والحديث والسيرة شهود عدل.
خاتمة
محمد لا يعلم الغيب، فهو نبي بلا نبوءة غيبيّة
وفصل الخطاب في ذلك أن التنبؤ المزعوم بالغيب ـ وهو غير الوحي - وأخبار الخلق، والحديث عن الماضين، وأوصاف اليوم الآخر، ليست جميعاً وجهاً من وجوه الإِعجاز، كما وهم الباقلاني ومن تبعه. يقول الدكتور أحمد بدوي: ﴿غير أن التنبؤ بالغيب والحديث عن الماضين ـ إن اتُخذا دليلاً على نبوءة الرسول ـ لم يصلحا برهاناً على إِعجاز القرآن. ذلك أن معظم القرآن ليس تنبؤاً ولا قصصاً. فلو كان الوجه ما ذكر، لفقد معظم القرآن صفة الإِعجاز، لأن التحدّي وقع بأقصر سورة منه، وهي لا تحوي من التنبؤ والقصص شيئاً﴾.
هكذا ثبت لنا من التاريخ الصحيح والقرآن الصريح أنه ليس من إِعجاز موضوعي في قصص القرآن وأخبار الخلق فيه، وأوصاف اليوم الآخر عنده، وأنه ليس في القرآن من نبوءات غيبيّة تدل على معرفة الغيب ﴿الذي لا يقدر عليه البشر، لا سبيل لهم إليه﴾ ٥ .
فبرهان النبوءة الغيبية على أوجهها، لا وجود له في القرآن. يكفينا تصريحه القاطع عن نبيه: ﴿ولا أعلم الغيب﴾ (الأنعام ٥٠)، ﴿ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ الخير، وما مسَّني السوء﴾ (الأعراف ١٨٨).
فالقول الفصل: إن محمداً نبي، بلا نبوءة غيبية ـ وهذا غير الوحي والتنزيل.