الفصل السادس

الإِعجاز في جدلية القرآن

توطئة

﴿في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض

يطلق القرآن هذا التحدي: ﴿افلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء ٨٢). نحتكم في الجواب على هدا التحدي الى السيوطي في (الإتقان ٢: ٢٧ ـ ٣١)؛ والى أحمد الرازي ١ في كتاب (حجج القرآن، لجميع أهل الملل والأديان)، إخراج أحمد عمر المحمصاني.

فهذه أمثال من موهم الاختلاف والتناقض.

بحث أوّل

في ذات اللَّه وصفاته

 

أوّلاً: في حجج الصفاتية القائلين بإثبات الصفات والجهة لله

١ ـ في حجج المثبتين للجهة، وهو على خمسة الفاظ: العرش والسماء وفوق وعند والى.

١) ﴿أما الاستواء على العرش ففي سبعة مواضع: (في الأعراف) ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. (وفي أول يونس) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. (وفي أول الرعد) الله الذي رفع السماوات بغير عَمَد ترونها ثم استوى على العرش. (وفي أول طه) الرحمن على العرش استوى. (وفي أول السجدة) الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش. (وفي أول الحديد) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش. (وفي الفرقان) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، الرحمن.

﴿قال مقاتل والكلبي: استوى أي استقر.

٢) ﴿وأما ذكر العرش، ففي القرآن، في أحد وعشرين موضعاً. سبعة ما ذكرنا. والباقي: (في التوبة) عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. (وفي هود) وكان عرشه على الماء. (وفي قد أفلح) قلْ: مَن رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم؟ (وفيها) لا إله الاّ هو، رب العرش الكريم. (وفي النمل) الله، لا إله الاّ هو، رب العرش العظيم. (وفي بني إسرائيل) إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً. (وفي الأنبياء) فسبحان الله رب العرش عما يصفون. (وفي الزمر) وترى الملائكة حافين من حول العرش، (وفي حم المؤمن) الذين يحملون العرش، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم. (وفيها) رفيع الدرجات ذو العرش. (وفي الزخرف) سبحان رب السماوات والأرض، رب العرش، عما يصفون. (وفي الحاقة) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية. (وفي البروح) ذو العرش المجيد، فعّال لما يريد. (وفي التكوير) ذي قوة عند ذي العرش مكين.

٣) ﴿وأما السماء: ففي خمسة مواضع. (في النمل) قل لا يعلم من في السماوات والأرض، الغيب، إلاّ الله ـ (ولو لم يكن هو في السماء لما صح الاستثناء؛ ولو كان الاستثناء منقطعاً لكان نصباً). (وفي السجدة) يدبر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج إليه. (وفي المؤمن) وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي لبلغ الأسباب، أسباب السماوات، فأطلع الى اله موسى، وإني لأظنه كاذباً ـ (ولو قالها من نفسه، لا من موسى، لنفى الهاً آخر، كما قال: ما علمت لكم من إله غيري) ـ (وفي الملك) أأمنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض. (وفيها) أم امنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً.

٤) ﴿وأما فوق، ففي خمسة مواضع: (في الأنعام) وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. (وفي النحل) يخافون ربهم من فوقهم. (وفي الفتح) يد الله فوق أيديهم. (وفي حمعسق) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن. (وفي الأنعام) وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة.

٥) ﴿وأما عند، ففي عشرة مواضع: (في الأعراف) ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه وله يسجدون. (وفي الحج) وان يوماً عند ربك كألف سنة ممّا تعدون. (وفي الأنبياء) لو اردنا ان نتخذ لهواً، لاتخذناه من لدنّا، إن كنّا فاعلين ـ (أي لو أردنا ان نتخذ زوجة لجعلناها عندنا لا عندكم) ـ (وفيها) وله مَن في السماوات والأرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. (وفي حم السجدة) فإِن استكبروا، فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون. (وفي الزخرف) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً. (وفي اقتربت الساعة) إن المتقين في جنات ونهر، وفي مقصد صدق، عند مليك مقتدر. (وفي ق) وعندنا كتاب حفيظ. (وفي التحريم) رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة. (وفي ن) إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم.

٦) ﴿وأما إلى، ففي عشرة مواضع. (في آل عمران) إذ قال الله، يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إليّ. (وفي النساء) وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله اليه. (وفي القصص) وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلّي اطّلع الى اله موسى، واني لأظنه من الكاذبين. (وفي السجدة) ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون. (وفي الملائكة) اليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه. (وفي المعارج) ليس له دافع من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح اليه. (وفي النجم) إن الى ربك المنتهى. (وفي النازعات) الى ربك منتهاها. (وفي الغاشية) ان الينا ايابهم. (وفي المؤمن) فإلينا يرجعون.

﴿وقعة المعرج من أقوى احتجاج: ثم دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى ٢ .

﴿فذلك كله ثمانية وخمسون دليلاً على ثبوت المكان والجهة.

٢ ـ في الوجه

﴿وذلك في عشرة مواضع: (في القصص) كل شيء هالك إلاّ وجهه. (وفي الروح) ذلك خير للذين يريدون وجه الله. (وفيها) وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله. (وفي الرحمن) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام. (وفي البقرة) فأينما تولوا فثمّ وجه الله. (وفي الأنعام) يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله. (وفي الكهف) يريدون وجهه. (وفي الرعد) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم. (وفي الانسان) انما نطعمكم لوجه الله. (وفي الليل) وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى.

٣ ـ في العين

﴿وذلك في خمس آيات: (في هود) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا. (وفي قد افلح) فأوحينا اليه ان اصنع الفلك بأعيننا ووحينا. (وفي طه) وألقيت عليك محبةً مني، ولتصنع على عيني. (وفي الطـور) واصبر لحكـم ربك، فإنك بأعيننا. (وفي اقتربت الساعة) تجري بأعيننا.

٤ ـ في اليد

﴿وذلك في عشر آيات، بلفظ الوحدان في أربعة مواضع، والتثنية في موضعين، والجمع في موضعين، واليمين في موضعين.

﴿(ففي المائدة) بل يداه مبسوطتان. (وفي ص.) يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيديّ. (وفي الأعراف) ألهم أرجل يمشون بها؟ أم لهم أيد يبطشون بها؟ أم لهم أعين يبصرون بها؟ أم لهم آذان يسمعون بها؟ ـ (عيَّرهم بعدم هذه الصفات) ـ (وفي ياسين) أولم يروا أنا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا أنعاماً. (وفي الزمر) والسماوات مطويات بيمينه. (وفي الفتح) يد الله فوق أيديهم. (وفي الحديد) وان الفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء. (وفي الملك) تبارك الذي بيده الملك. (وفي آل عمران) بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير (وفي الحاقّة) لأخذنا منه باليمين.

٥ ـ في سائر الصفات

﴿١) (في المائدة) تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك. (وفي طه) واصطنعتك لنفسي. ٢) (وفي البقرة) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، والملائكة. (في الأنعام) هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة، أو يأتي ربك، أو يأتي بعض آيات ربك. (وفي الفجر) وجاء ربك والملك صفاً صفاً. ٣) (وفي الزمر) وأشرقت الأرض بنور ربها. (وفي النور) الله نور السماوات والأرض.

تلك فصول خمسة يثبت فيها الصفاتية من أهل السنة والجماعة، الصفات لله، والجهة والمكان، وتعابير الوجه والعين واليد، وتعابير الاستواء والمجيء، دلائل التشبيه والتجسيم في أسلوب القرآن في التعبير والتفكير، بوصف ذات الله وصفاته، وان كان ﴿ليس كمثله شيء. فالذين يقولون بإِعجاز القرآن في التنزيه والتجريد يصطدمون بهذا الواقع القرآني. وبهذه المدرسة، من أهل السنة، الذين يقولون بحرف القرآن، على ظاهره، منذ ابن تيمية الى اليوم.

ثانياً: في حجج الجهمية (المعتزلة) القائلين بنفي الصفات والجهة المعنية

١ ـ في حجج النافين للجهة المعنية

﴿(في الأنعام) وهو الله في السماوات وفي الأرض. (وفي الزخرف) وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم. (وفي البقرة) أينما تولوا فَثمَّ وجه الله.

٢ ـ في حجج القائلين بالقرب الذاتي (لا المكاني)

﴿(في البقرة) واذا سألك عبادي عني فإني قريب. (وفي هود) إن ربي قريب مجيب. (وفي مريم) وناديناه من جانب الطور الأيمن، وقربناه نجياً. (وفي ق ) ونحن أقرب اليه من حبل الوريد. (وفي الواقعة) ونحن أقرب اليه منكم، ولكن لا تبصرون.

٣ ـ في حجج القائلين بأن مع كل أحد ذاتاً (القرب المعنوي)

﴿(في البقرة) واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين. (وفي الأنفال) والله مع الصابرين. (وفي النحل) إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون. (وفي التوبة) لا تحزن ان الله معنا. (وفي طه) قال: لا تخافا اني معكما. (وفي الشعراء) فاذهبا بآياتنا، إنّا معكم مستمعون. (وفيها) كلاّ، إن معي ربي سيهديني. (وفي الأنفال) وان الله مع المؤمنين. (وفي النساء) ولا يستخفون من الله، وهو معهم. (وفي محمد ﷺ) والله معكم ولن يتركم أعمالكم. (وفي الحديد) وهو معكم أينما كنتم. (وفي المجادلة) ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم، ولا خمسة الاّ هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، إلاّ هو معهم أينما كانوا.

٤ ـ في حجج القائلين بأنه تعالى ليس ٣ في مكان

﴿(في الرعد) أفمن هو قائم على نفس بما كسبت. (وفي النور) حتى اذا جاءَه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده. (وفي القصص) فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، أن يا موسى: إني أنا الله رب العالمين. (وفي الفجر) إن ربك لبالمرصاد. (وفي النحل) فأتى الله بنيانهم من القواعد. (وفي الحشر) فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. (وفي العنكبوت) وقال: إني مهاجر الى ربي، انه هو العزيز الحكيم. (وفي الصافات) وقال: أني ذاهب الى ربي سيهدينِ.

فتلك ابواب أربعة في حجج أهل التأويل، يستندون اليها لينفوا عن الله الصفات والجهة والمكان والتشبيه والتجسيم. وهم يعتمدون إلى التعبير المجازي في وصف القرآن لذات الله وصفاته.

لكنك ترى أن تعابير الحقيقة والتشبيه، أكثر في القرآن من تعابير المجاز والتجريد. وهذا الواقع القرآني المتعارض هو الذي قسم الأمة الى أهل الظاهر وأهل التأويل، لتعارض الحقيقة بين العقل والنقل؛ ﴿وكل حزب بما لديهم فرحون. فتعليم القرآن في صفات الله وذاته متشابه متعارض، على رأي المدرستين.

بحث ثانٍ

في أعمال اللَّه: القضاء والقدر

أوّلاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

﴿في الإرادة والمشيئة ـ وهما واحد، وهي صفة قديمة تقتضي تخصيص الحوادث بوجه دون وجه، ووقت دون وقت:

١ ـ ﴿أما الإرادة، ففي خمسة عشر موضعاً: (في آل عمران) يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم. (وفي بني إسرائيل) وإذ قلنا لك: ان ربك أحاط بالناس. (وفي المائدة) ومَن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، أولئك الذي لميرد الله أن يطهّر قلوبهم. (وفي الأنعام) فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام؛ ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيّقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. (وفي التوبة) فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة والدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون. (وفيها) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم، انما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون. (وفي يونس) وإن يمسسك الله بضر، فلا كاشف له الاّ هو، وان يردك بخير فلا رادَّ لفضله، يصيب به مَن يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم. (وفي هود) إن كان الله يريد ان يغويكم، هو ربكم واليه ترجعون. (وفي الرعد) واذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له، وما لهم من دونه من وال. (وفي الأحزاب) قل: من ذا الذي يعصمكم من الله ان أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً. (وفي البقرة) ولكن الله يفعل ما يريد. (وفي الفتح) قلْ: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً، أو أراد بكم نفعاً، بل كان الله بما تعملون خبيراً.

٢ ـ ﴿وأما المشيئة ففي ستة وعشرين موضعاً: (في البقرة) ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم. (وفيها) ولو شاء الله ما اقتتلوا. (وفي المائدة) ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم. (وفي الأنعام) ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكوننَّ من الجاهلين. (وفيها) ولو شاء الله ما أشركوا، ولو شاء ربك ما فعلوه. (وفي النحل) ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة، ولكن يضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء. (وفي حمسعق) ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته. (وفي يونس) ولو شاءَ ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين! وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون. (وفي هود) ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلاّ مَن رحم ربك، ولذلك خلقهم. (وفي الرعد) أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. (وفي النحل) وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين. ( وفي السجدة) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني: لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين. (وفي الشعراء) إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. (وفي حمعسق) فإن يشأ الله يختم على قلبك. (وفي الحديد) لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء، من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاءَ والله ذو الفضل العظيم. (وفي المدثر) وما يذكرون إلاّ أن يشاء الله. (وفي هل أتى على الإنسان) وما تشاؤون إلاّ ان يشاء الله، إن الله كان عليماً حكيماً. (وفي إذا الشمس كورت) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. (وفي الأعراف) وما يكون لنا ان نعود فيها، إلاّ ان يشاء الله ربنا. (وفي الأنعام) ولا أخاف ما تشركون به، إلاّ أن يشاءَ ربي شيئاً. (وفيها) ولو أننا نزّلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً، ما كانوا ليؤمنوا، إلاّ أن يشاء الله ٤ ، ولكن أكثرهم يجهلون. (وفيها) وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً، شياطين الانس والجن، يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاءَ ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. (وفيها) قلْ: فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين. (وفي الأعراف) قلْ: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، إلاّ ما شاء الله. (وفي يونس) قل: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، إلاّ ما شاء الله. (وفيها) قلْ: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمراً من قبله، أفلا تعقلون.

والنتيجة: فتلك إحدى وأربعون آية تقول بالقضاء والقدر المطلق.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

١ ـ ﴿في القدرة والارادة؛ وذلك في ثلاثة عشر موضعاً: (في البقرة) يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر. (وفي آل عمران) وما الله يريد ظلماً للعالمين. (وفي حم المؤمن) وما الله يريد ظلماً للعباد. (وفي النساء) يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم؛ والله يريد ان يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلاً عظيماً؛ يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفاً. (وفيها) ويريد الشيطان ان يضلّهم ضلالاً بعيداً. (وفي المائدة) ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون. (وفي الأنفال) تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم.

٢ ـ ﴿في المشيئة؛ وذلك في عشرة مواضع: (في الأنعام) سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء؛ كذلك كذب الذين من قبلهم، حتى ذاقوا بأسنا، قلْ: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إنْ تتّبعون إلاّ الظن، وإنْ أنتم إلاّ تخرصون. (وفي النحل) وقال الذين أشركوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، نحن ولا آباؤنا، ولا حرّمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم، فهل على الرسل الاّ البلاغ المبين. (وفي يسن) واذا قيل لهم: أنفقوا ممّا رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ـ إن أنتم إلاّ في ضلال مبين. (وفي الزخرف) وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم ـ ما لهم بذلك من علم، إنْ هم إلاّ في يخرصون. (وفي المزمّل) فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً. (وفي المدثر) لمن شاء منكم ان يتقدم أو يتأخر. (وفي الانسان) فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً. (وفي الأعمى) فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة. (وفي الكهف) فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.

فتلك ثلاث وعشرون آية تنفي القضاء المبرم والقدر المحتوم.

هذا هو الواقع القرآني في تعليم القضاء والقدر: ثلاث وعشرون آية تنفيه على اطلاقه؛ واحدى واربعون آية تقول به على اطلاقه. والتعارض ظاهر كما في قوله: ﴿فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر؛ وقوله: ﴿يضل مَن يشاء ويهدي من يشاء. وقوله: ﴿وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله يربط مشيئة العبد بمشيئة الله. لذلك تضاربت الآراء في تعليم القرآن القضاء والقدر، بين أهل السنة والجماعة، وأهل التأويل. فالمدرستان لهما أساس متين في القرآن. ولذلك فالتعارض في القضاء والقدر قائم في القرآن نفسه، وهو اختلاف كبير، لا نرى معه وجه الحق في قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً. لقد تدبره أهله فاختلفوا فيه، لأنهم وجدوا فيه اختلافاً كبيراً.

بحث ثالث

الهداية والضلالة من اللَّه أم من العبد؟

أولاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة): إثباتهما لله

١ـ ﴿في نفي الهداية ـ في اكثر من عشرين موضعاً (غير النظائر): منها (في أربعة مواضع): ﴿الله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي عشرة مواضع): ﴿الله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي خمسة مواضع): ﴿الله لا يهدي القوم الفاسقين.

والباقي في عبارات مختلفة. (في البقرة) والله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي التوبة) زيّن لهم سوء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي النمل) وان الله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي الأنعام) إن الله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي التوبة) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفيها) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي آل عمران) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي القصص) ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله أن الله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي الصف) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي الجمعة) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي التوبة) والله لا يهدي القوم الفاسقين. (وفيها) والله لا يهدي القوم الفاسقين. (وفي المنافقين) إن الله لا يهدي القوم الفاسقين. (وفي آل عمران) كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم. (وفي النساء) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً. (وفي النحل) أن تحرص على هداهم، فإن الله لا يهدي من يضل، وما لهم من ناصرين. (وفيها) الذين لا يؤمنون بآيات الله، لا يهديهم الله، ولهم عذاب أليم. (وفي الزمر) إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار. (وفي الأعراف) وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله. (وفي إبراهيم) قالوا: لو هدانا الله، لهديناكم.

٢ ـ ﴿في إثبات الضلالة ـ أثبت الله الإضلال في اثنين وثلاثين موضعاً: (في البقرة) يضلّ به كثيراً، ويهدي به كثيراً. (وفيها) وما يضل به الاّ الفاسقون. (وفي النساء) أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله. ومَن يضلل الله، فلن تجد له سبيلاً. (وفيها) ومَن يُضلل الله، فلن تجد له سبيلاً. (وفي الأنعام) مَن يشأ الله يضلله، ومَن يشأ يجعله على صراط مستقيم. (وفيها) ومَن يُرد ان يضله يجل صدره ضيقاً حرجاً. (وفي الأعراف) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة. (وفيها) إنْ هي إلاّ فتنتك تضل بها مَن تشاء، وتهدي مَن تشاء. (وفيها) مَن يُهد الله فهو المهتدي، ومَن يضلل فأولئك هم الخاسرون. (وفيها) مَن يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون. (وفي الرعد) قلْ: إن الله يُضل مَن يشاء، ويهدي إليه من أناب. (وفيها) ومن يضلل الله فما له من هاد. (وفي إبراهيم) فيضل الله مَن يشاء ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم. (وفي النحل) فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقّت عليه الضلالة. (وفيها) ان الله لا يهدي من يُضل. (وفيها) ولكن يُضل من يشاء. (وفي بني إسرائيل) ومَن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أولياء من دونه. (وفي الكهف) مَن يهد الله فهو المهتد، ومَن يضلل الله فلن تجد له وليّاً مرشداً. (وفي الروم) فمن يهدي من أضَل الله، وما لهم من ناصرين. (وفي الملائكة) أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً. فإن الله يُضل مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء. (وفي التوبة) وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. (وفي الزمر) ذلك هدى الله، يهدي به مَن يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضلّ، أليس الله بعزيز ذي انتقام. (وفي حم المؤمن) ومن يضلل الله، فما له من هاد. (وفيها) كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب. (وفيها) كذلك يضل الله الكافرين. (وفي حمعسق) ومَن يضلل الله فما له من ولي من بعده، (وفيها) ومن يضلل الله فما له من سبيل. (وفي الجاثية) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكّرون. (وفي المدثر) كذلك يضل الله مَن يشاء، ويهدي من يشاء.

إذن ان الهداية والضلالة من الله، يؤكد ذلك في اثنتين وخمسين آية.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

﴿في نفي الهداية والضلال من الله، وذلك في ثلاثين موضعاً:

﴿(في النساء) ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيداً. (وفيها) ولولا فضل الله عليك ورحمته، لهمّت طائفة منهم أن يضلّوك، وما يضلون إلاّ أنفسهم. (وفيها) ولأضلنّهم. (وفي المائدة) قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل. (وفي الأنعام) وان تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله. (وفيها) فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً، ليضل الناس بغير علم. (وفي الأعراف) قالت اخراهم لأولاهم. ربنا هؤلاء أضلونا. (وفي التوبة) وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم. (وفي يونس) ومَن ضلّ فإنما يضلّ عليها. (وفي النحل) ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. (وفي بني إسرائيل) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. (وفي طه) وأضل فرعون قومه وما هدى. (وفيها) وأضلهم السامري. (وفي الفرقان) ويوم نحشرهم... أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ (وفي الحج) كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه، الى عذاب السعير. (وفيها) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدَّمت يداك، وأن الله ليس بظلاّم للعبيد. (وفي الفرقان) يا ويلتنا، ليتني لم أتّخذ فلانا خليلاً، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءَني، وكان الشيطان للإنسان خذولاً. (وفي الشعراء) وما أضلنا الاّ المجرمون. (وفي لقمان) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم. (وفي الأحزاب) وقالوا: ربنا ان اطعنا سادتنا وكبراءَنا فأضلونا السبيلا. (وفي يسن) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدوُّ مبين، وان اعبدوا في هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً، أفلم تكونوا تعقلون؟ (وفي ص.) ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. (وفي الزمر) وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. (وفي حم السجدة) أرنا اللذين أضلانا من الجن والأنس. (وفي نوح) ولا يغوث ويعوق ونسراً، وقد أضلوا كثيراً. (وفيها) إنك، ان تذرهم، يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً. (وفي حم السجدة) وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى. (وفي الانسان) إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً. (وفي حمعسق) وانك لتهدى الى صراط مستقيم.

نرى هنا إذن نفي الهداية والضلال عن الله، ونسبتهما الى المخلوق، في ثلاثين موضعاً. هذا هو الواقع القرآني في مصدر الهداية والضلال: ثلاثون آية تنفيها عن الله تعالى، واثنتان وخمسون آية تثبتها لله تعالى مباشرة. والتعارض ظاهر في أسلوب القرآن، كما يدل عليه أيضاً انقسام المسلمين في الإثبات والنفي.

وهذا التعارض مزدوج. إنه تعارض في المبدأ بين الإثبات والنفي. وأنه تعارض بين المبدأ والواقع؛ فهو يعلن لأهل مكّة والمدينة المشركين الكافرين بالدعوة القرآنية والإسلام أن الله لن يهديهم: ﴿ان الله لا يهدي مَن يضل (النحل)؛ ﴿ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً (النساء)، ﴿أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً (النساء). مع ذلك فإن أهل مكّة وأهل المدينة قد اهتدوا للإسلام، وحسن إسلامهم وفتحوا العالم للإسلام. فالواقع يتعارض مع المبدأ طرداً وعكساً.

إنه يقول: ﴿ومن يضلل الله فما له من هاد؛ ومَن يهدِ الله فما له من مضل (الزمر). وقد جرت ردّة خاصة عن الإسلام في آخر العهد بمكّة؛ وقد جرت ردة عامة عن الإسلام بعد موت النبي. فكيف ينسجم هذا الواقع مع المبدأ المقرر: ﴿ومن يهد الله فما له من مضل؟ لذلك لا نرى وجه الحق في قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً. لقد تدبروه وانقسموا الى فئتين متعارضتين، تستندان إلى القرآن نفسه. قد تزول أو تتبدل الفرق، لكن الواقع القرآني المتعارض لا يزول.

بحث رابع

الإثم والمعصية من اللَّه أم من العبد؟

أولاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

﴿في الاغواء والاغراء بأمر الله، وذلك في عشرة مواضع: (في المائدة) فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة. (وفيها) والقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة. (وفي الأنعام) وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً، شياطين الانس والجن. (وفيها) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون. (وفي الأعراف) قال: فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم. (وفي هود) إن كان الله يريد ان يغويكم، هو ربكم واليه ترجعون. (وفي الحجر) قال: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين. (وفي الفرقان) جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين. (وفي حم السجدة) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

﴿الآثام والمعاصي بإزلال الشيطان واضلاله واغوائه وكيده وصدّه. وذلك في ثلاثة وعشرين موضعاً: (في البقرة) فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما ممّا كانا فيه. (وفي آل عمران) انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا. (وفي النساء) ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيداً. (وفيها) ولأضلنّهم. (وفي الأنعام) زيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون. (وفي يوسف) من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي. (وفي يسن) ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً. (وفي النحل) فزيّن لهم الشيطان أعمالهم. (وفي بني إسرائيل) لأحتنكنَّ ذريته إلاّ قليلاً. (وفي طه) فوسوس اليه الشيطان. (وفي الكهف) وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره. (وفي الأنفال) واذ زين لهم الشيطان أعمالهم. (وفي الحجر) لأزيننَّ لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين. (وفي ص.) فبعزتك لأغوينّهم أجمعين. (وفي الأعراف) فوسوس لهما الشيطان. (وفي بني إسرائيل) ان الشيطان ينزغ بينهم. (وفي الفرقان) وكان الشيطان للانسان خذولاً. (وفي النمل) وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل. (وفي القصص) قال: هذا من عمل الشيطان، انه عدو مضلّ مبين. (وفي العنكبوت) وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين. (وفي محمد ﷺ) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم. (وفي المجادلة) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. (وفي الحج) ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه انه مَن تولاه فإنه يضله ويهديه الى عذاب السعير.

نرى أنه حيناً ينسب الاثم والمعصية الى أمر الله، وحيناً يجعلهما بإزلال الشيطان ومعصية العبد. فالتعارض ظاهر.

بحث خامس

في الكتابة والكسب

أوّلاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

كل شيء مكتوب وذلك في أربعة عشر موضعاً:

﴿(في الأنعام) ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين. (وفي الأعراف) أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب. (وفي الأنفال) لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم. (وفي يونس) وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين. (وفي هود) ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين. (وفي الرعد) لكل أجل كتاب. (وفي التوبة) قل: لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، هو مولانا. (وفي الحجر) وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم. (وفي بني إسرائيل) كان ذلك في الكتاب مسطوراً. (وفي النمل) وما من غائبة في السماء والأرض الاّ في كتاب مبين. (وفي الأحزاب) كان ذلك في الكتاب مسطوراً. (وفي سبأ) لا يعزب عنة مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر، إلاّ في كتاب مبين. (وفي اقتربت الساعة) وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر. (وفي الحديد) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

﴿في اضافة العقل الى نفس العبد. وذلك في ثلاثة وعشرين موضعاً: (في البقرة) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. (وفيها) ثم توفى كل نفس ما كسبت. (وفي ثمانية مواضع) بما كانوا يكسبون. (وفي الأنعام) ولا تكسب كل نفس الاّ عليها. (وفي آل عمران) أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنّى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم، ان الله على كل شيء قدير. (وفي النساء) ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. (وفي الأنفال) ذلك بما قدمت ايديكم، وأن الله ليس بظلاّم للعبيد. (وفي آل عمران) ذلك بما قدمت أيديكم. (وفي الحج) ذلك بما قدمت يداك. (وفي الأنفال) ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. (وفي الرعد) ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. (وفي يوسف) قال: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل. (وفي الروم) ظهر النساء في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. (وفي حمعسق) وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم. (وفي إبراهيم) ولوموا أنفسكم. (وفي التحريم) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.

تعارض صريح في المكتوب والمكسوب، يظهر من هاتين الآيتين: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (الحديد)؛ ﴿ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (حمعسق).

بحث سادس

فعل العبد من الخالق أم من المخلوق؟

هنا نكتفي بالاشارة دون الاستشهاد لئلا يطول بنا المقام.

أوّلاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

١ ـ في الختم على القلوب، وذلك في خمسة مواضع.

٢ ـ كل شيء بإذن الله، وذلك في تسعة وثلاثين موضعاً.

٣ ـ الله خالق كل شيء، وذلك في عشرة مواضع.

٤ ـ أمر الله قدر مقدور، وذلك في سبعة مواضع.

٥ ـ الكل من الله وليس الى المخلوق شيء، وذلك في أربعين آية.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

١ ـ في اضافة الظلم الى أنفسهم، وذلك في عشرة مواضع.

٢ ـ في اضافة الفعل الى الكفّار، وذلك في خمسة عشرة موضعاً.

٣ ـ في تأثير فعل العبد، وذلك في ثمانية مواضع.

٤ ـ في اضافة الفعل الى نفس العبد، وذلك في عشرة مواضع.

٥ ـ في فطرة العبد على العمل والفعل، وذلك في سبعة مواضع.

ويختم أحمد الرازي الاستشهاد المتعارض بين أهل الجبر وأهل الاختيار بقوله: ﴿فذلك كله مائتا آية من حجة الجبرية... فذلك عشرون ومائة آية من حجج القدرية. وهذا قدر شاف لإثبات التعارض في تعليم القرآن وأسلوبة.

بحث سابع

مرتكب الكبيرة مسلم ام غير مسلم؟

أوّلاً: في حجج المرجئة القائلين بأنه مؤمن مسلم

١ ـ مرتكب الكبيرة مؤمن مسلم، وذلك في ستة مواضع.

٢ ـ مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة، وذلك في ستة مواضع.

٣ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الرحمة، وذلك في عشرة مواضع.

٤ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الجنة، وذلك في أربعة مواضع.

٥ ـ مرتكب الكبيرة داخل في دعاء الملائكة والأنبياء، وذلك في خمسة مواضع.

٦ ـ مرتكب الكبيرة لا يستحق الوعيد، وان المستحق له هو الكافر، وذلك في خمس عشرة آية.

٧ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الوعد، وذلك في خمس عشرة آية.

٨ ـ مرتكب الكبيرة ليس للشيطان عليه سلطان، وذلك في ثلاثة مواضع.

٩ ـ ان الله لا ينزع الرجاء ولا الإيمان من المؤمن، وذلك في تسعة مواضع.

ثانياً: في حجج الوعيدية بأن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا مسلم

١ ـ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن، وذلك في اثني عشر موضعاً.

٢ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الوعيد، وذلك في عشرين آية.

٣ ـ مرتكب الكبيرة يستحق النار والعذاب، وذلك في عشر آيات.

٤ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الوعيد على سبيل التأييد، وذلك في خمس آيات.

وهناك أهل المنزلة بين المنزلتين القائلون بأنه فاسق.

هذا هو الواقع القرآني في كون مرتكب الكبيرة مسلماً أو غير مسلم، خالصاً أم هالكاً. والتعارض في تعليم القرآن صريح قسم المسلمين الى مثبتين ونافين. وتعليم متعارض في خلاص الانسان بعد كبيرة يرتكبها، هو من أمهات مسائل التنزيل والدين والإيمان. أيكون مثل هذا التعارض من الإِعجاز في البلاغة والبيان؟ كيف نقدر أن نقول معه: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً؟

بحث ثامن

في الإيمان

١ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان قول وعمل وعقد، وذلك في خمس وسبعين آية:

(في الأنفال) انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم، واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون؛ أولئك هم المؤمنون حقاً. (وفي البقرة) أم حسبتم ان تدخلوا الجنة... (وفي آل عمران) أم حسبتم ان تدخلوا الجنة... (وفي التوبة) أم حسبتم أن تُتركوا... (وفي العنكبوت) آلم. أحسب الناس ان يُتركوا أن يقولوا: أمنّا، وهم لا يُفتنون! (وفي الحجرات) انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. (وفي الطور) الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، وما ألتناهم من عملهم من شيء. (وفي الأنعام) لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ـ (سوى بين الكافر وغير العامل).

﴿وقد شرط العمل مع الإيمان في ثمانية وستين موضعاً: من ذلك اثنا عشر ﴿آمن وعمل صالحاً، وستة ﴿يؤمن ويعمل صالحاً، وخمسون ﴿آمنوا وعملوا الصالحات.

٢ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان قول بلا عمل ولا نية، وذلك في خمس آيات: (في النساء) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمناً. (وفي المائدة) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار. (وفيها) واذا سمعوا ما أنزل الى الرسول... (وفي التوبة) لا تعتذروا، قد كفرتم بعد إيمانكم ـ (سُمي قول المنافق إيماناً) ـ (وفي حم السجدة): إن الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة الاّ تخافوا ولا تحزنوا. (وفي الأحقاف) ان الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

٣ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وذلك في خمس آيات: (في يوسف) وما أنت بمؤمن لنا، ولو كنّا صادقين. (اي بمصدق لنا) ـ (وفي الحجرات) ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم. (وفيها) ولكن الله حبّب لكم الإيمان وزينه في قلوبكم. (وفي المجادلة) أولئك كتب في قلوبكم الإيمان. (وفي المنافقون) اذا جاءَك المنافقون قالوا: نشهد انك لرسول الله، والله يعلم انك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ـ (نفي الإيمان مع وجود القول).

هذا هو الواقع القرآني في مسألة الإيمان وقوامه. والمشاهد انه متعارض في تحديد عناصر الإيمان: هل التصديق بالقلب وحده؟ أم القول وحده؟ أم بالعقد بالنية مع القول ومع العمل؟ والإيمان أساس قبول التنزيل والإسلام، والتشابه في عناصره شبهة على التحديد في تعليمه في مسألة من امهات مسائل الدين والإسلام، وشبهة قائمة على الإِعجاز في البلاغة والبيان، في مثل هذا التعارض الماثل للعيان.

بحث تاسع

ما بين الإيمان والإسلام

١ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان والإسلام واحد، وذلك في ثلاث آيات:

(في يونس) يا قوم إن كنتم آمنتم بالله، فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين. (وفي الحجرات) يمنون عليك أن أسلموا؛ قل: لا تمنّوا علي اسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، إن كنتم صادقين. (وفي الذاريات) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين.

٢ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان والإسلام متغايران، وذلك في ثلاث آيات:

(في الزخرف) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. (وفي الأحزاب) ان المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات ـ (فقالوا: العطف دليل التغاير) ـ (وفي الحجرات) قالت الأعراب: آمنّا! قلْ: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان قلوبكم.

هذا هو الواقع القرآني في الوحدة أم التمييز ما بين الإيمان والإسلام. انه واقع متعارض، فتارة يوحّد بينهما وتارة يميّز بينهما. وهذا التعارض الظاهر قد يجعل المسلمين غير مؤمنين، والمؤمنين من غير المسلمين. وليس هـذا التعارض المشهود من ﴿دلائل الإِعجاز في البلاغة والبيان.

وفصل الخطاب ان الاختلاف العام يشمل القرآن كله في امهات مسائل التنزيل والإسلام. نقلنا منها عشرة ابواب، من التعارض المشهود، كما جمعها أحد أعلام الإسلام، الامام أحمد الرازي. وهي تكشف لنا ان التعارض في التعبير والتفكير أسلوب عام قائم في بيان القرآن وبلاغته، تجعل المؤمن وغير المؤمن في حيرة من قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً (النساء ٨٢).

والاختلاف والتعارض في تعليم القرآن، شبهة سابعة، هي الكبرى، على إِعجاز القرآن في البلاغة والبيان.

بحث عاشر

الاختلاف في بعض الآيات

(الإتقان ٢: ٢٧ ـ ٣١)

فالاختلاف في تعليم القرآن يشمل تعاليمه، ولا يقتصر كما يقول السيوطي على بعض آيات (الإتقان ٢: ٢٧ ـ ٣١).

أوّلاً: الآيات المختلفة التي يذكرها السيوطي

١ ـ نفي المساءلة يوم القيامة وإثباتها، في قوله ﴿فإذا نُفخ في الصور، فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءَلون (المؤمنون ١٠١)؛ وفي قوله: ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءَلون (الصافات ٢٧) ـ (أما الصافات ٥٠ ففي الجنة؛ والطور ٢٥ ففي الجنة).

قيل فيها عن ابن عباس: نفي المساءلة قبل النفخة الثانية، وإثباتها بعد ذلك ـ ولا أثر في النصين بمثل هذا التخريج.

وقيل فيها عن السدي: نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فما عدا ذلك ـ ولا أثر أيضاً في النصين لمثل هذا التخريج.

أما التساؤل في الصافات ٥٠، والطور ٢٥، فهو فيما بين أهل الجنة، بعد الحساب.

٢ ـ كتمان المشركين حالهم ثم إفشاؤه باقي قوله: ﴿ولا يكتمون الله حديثاً (النساء ٤٢)، وفي قوله: ﴿ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين (الأنعام ٢٣).

قيل فيها عن ابن عباس: إنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق ألسنتهم وجوارحهم ـ ولا أثر في النصين لهذا التفسير، انما هو استخدم آية اخرى لا ذكر فيها للسؤال، بل هي شهادة بلسان الحال: ﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (النور ٢٤)، وهي شهادة أهل جهنم: ﴿هذه جهنم... اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (يسن ٦٣ ـ ٦٥).

وقيل فيها عن ابن الأزرق عن ابن عباس: إن الله لا يقبل الاّ ممّن وحّده، فيسألهم فيقولون: ﴿والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتُستنطق جوارحهم هذا تقريب بعيد للمتعارضين بآية أخرى بعيدة عنهما، فهو تنسيق لا يرفع التعارض.

٣ ـ خلق السماء أو الأرض، أيهما تقدًّم؟ في قوله: ﴿أم السماء بناها، رفع سمكها فسوّاها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءًها ومرعاها، والجبال أرساها (النازعات ٢٧ ـ ٣٢)، مع قوله: ﴿قلْ: أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أنداداً، ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها وقدَّر فيها أوقاتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا آتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها، وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح (فصلت ٩ ـ ١٢).

قيل عن ابن عباس: ﴿بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة، ثم خلق السماوات فسوّاهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض. وهناك اجتهادات أخرى للخروج من التعارض المكشوف.

والواقع القرآني المتواتر ان الله خلق السماء قبل الأرض، فتأتي قصة (النازعات) بصورة تخالف القرآن كله. وبسبب صراحة تفصيلها يردّون إليها سائر القرآن. قال الجلالان: ﴿والأرض بعد ذلك دحاها = بسطها، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو (النازعات ٣٠)، ﴿لتكفرون بالذي خلق الأرض... وجعل فيها: مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الذي للفاصل الأجنبي (المؤمن ١٠) مع أنه أسلوب مطرد في القرآن الفصل بالأجنبي مع دوام الوصل. ولذلك قال قوم آخرون: ﴿ثمَّ استوى بمعنى الواد، وقيل المراد ترتيب الخبر لا المُخبر به. وقيل هي لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في الزمان، وقيل: خلق بمعنى قدَّر...

وكل هذه التخريجات بعيدة عن صراحة النص: فآيات (المؤمن) تجعل أيام الخلق ثمانية، وهو خلاف القرآن كله الذي يصرح أيضاً أنه في الخلق: يدبر الأمر من السماء الى الأرض (السجدة ٥)، وتجعل تدبير الأرض في ستة أو أربعة أيام، والسماوات السبعة في يومين: فهل يرضى علم بذلك؟ ويقولون: ﴿وزينا السماء الدنيا بمصابيح أي نجومها، وهذه المصابيح أكبر من الأرض فكيف تكون لها، مصابيح، معلّقة في سقف السماء؟ فهناك تعارض قرآني، وتعارض ما بين القرآن والعلم. وما أحرانا أن نأخذ كتب الله على أسلوبها البياني، بدون معارضة للعلم فيها!

٤ ـ القول مراراً: ﴿كان الله عزيزاً حكيماً، ليس من قبيل التعارض، بل هو من متشابه التعبير. اجل إنها للماضي، لكنها تستوعب معنى الدوام، لا كفعل ناقص، بل كفعل تام، لا يستلزم الانقطاع. لكن ما الحاجة الى المتشابه الظاهر في أوصاف الله تعالى وأخباره؟

٥ ـ توقف ابن عباس في البت بمعنى قوله: ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض... يدبّر الأمر من السماء الى الأرض، ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون (السجدة ٥)، ومعنى قوله: ﴿سأل سائل بعذاب واقع... من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (المعارج ١ ـ ٤).

ونرى في الآيتين قرينة تدل على انهما يومان مختلفان، فيوم الألف سنة ورد في ذكر الخلق، فهو يوم الخليقة، وكل يوم فيها كألف سنة بشرية (السجدة ٥)؛ ويوم الخمسين ألف سنة ورد ذكره في عذاب اليوم الأخير، فهو قرينة على يوم الدين الذي سيكون كخمسين ألف سنة بشرية، وقوله في الآيتين ﴿يعرج أو ﴿تعرج يفسره لفظ ﴿المعارج، ما بين السماء والأرض، وهي ﴿المصاعد (الجلالان). فأمر الخلق يعرج نزولاً وصعوداً في يوم كألف سنة بشرية؛ وأمر الحساب يعرج نزولاً وصعوداً في يوم كخمسين الف سنة بشرية. ويدل على ذلك قوله: ﴿وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون (الحج ٤٧).

إنهما تعبيران للبيان، لا للميزان. لكنه بيان متشابه مشبوه لأن أمر الخلق، كأمر الحساب آني. ثم يتطور الخلق بحسب أمر الله، وينقضي الحساب بأمر الله من دون زمن، ومظاهر بشرية. فليس في اليومين تعارض، انما تعبير متشابه مشبوه ليس من الإِعجاز في البلاغة والبيان.

٦- خلق الله آدم: ﴿من تراب (٣: ٥٩)؛ بل ﴿من طين (٣٨: ٧١)، بل ﴿من صلصال، من حمإٍ مسنون (١٥:  ٢٦ و٢٨ و٣٣)، بل ﴿من طين لازب (٣٧: ١١)، بل ﴿من صلصال كالفخار (٥٥: ١٤).

قيل: ﴿هذا من قبيل وقوع المُخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى، نقله السيوطي عن الزركشي في (البرهان). ولكن هل في خلق الانسان من تطويرات على أحوال مختلفة، وهو يقول: ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر، وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح البصر (القمر ٤٩ ـ ٥٠)، ﴿كمثل آدم خلقه من تراب، ثم ققال له: كن فيكون (آل عمران ٥٩).

فالتعبير البياني في تنوعه، متعارض مشبوه.

٧ ـ وكذلك قوله ﴿فألقى (موسى) عصاه، فإذا هي ثعبان مبين (١٠٧:٧؛ ٣٢:٢٦)، وهو الكبير من الحيات؛ مع قوله: ﴿فلمّا رآها تهتز كأنها جان (١٠:٢٧؛ ٣١:٢٨)، وهو الصغير من الحيات. إنه اختلاف تعبير، لا اختلاف أحوال.

٨ ـ هل من سؤال في يوم الدين؟ يقول: ﴿وقفوهم انهم مسؤولون (٢٤:٣٧) ويقول: فلنسألن الذين أرسل اليهم، ولنسألنَّ المرسلين (٦:٧)؛ ثم يقول: ﴿لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان (٣٩:٥٥).

حملها بعضهم على اختلاف الموضوع، في الأولى عن التوحيد، وفي الثانية عن شرائع الدين. وحملها بعضهم على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة، في موضع يُسألون، وفي آخر لا يسألون. وقيل إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ، والمنفي سؤال المعذرة وبيان الحجة. لكن ليس في النصوص من قرينة لفظية أو معنوية لهذا التخريج. والكلام الذي يحتاج الى مثل هذا التخريج ليستوي ويستبين ليس من الإِعجاز في البلاغة والبيان والتبيين.

٩ ـ مدى تقوى الله. يقول: ﴿اتقوا الله حقّ تقاته (١٠٢:٣) ثم يقول: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم (١٦:٦٤).

نقل السيوطي: ﴿حملت الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال. ولمّا لم يستقم التخريج لتعارضه مع الواقع، قيل: ﴿الثانية ناسخة للأولى والنسخ برهان الاختلاف والتعارض الذي لا مفر منه.

١٠ ـ في تعدد الزوجات والعدل بينهن. قال: ﴿فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة (النساء ٣)، ثم قال: ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء، ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلّقة؛ وان تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً (النساء ١٢٩).

قيل: ﴿الأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه. والجواب ان الأولى في توفية الحقوق، والثانية في الميل القلبي، وليس في قدرة الانسان ـ لكن ليست الثانية (١٢٩) محصورة مخصوصة بالميل القلبي، بل بالعدل على اطلاقه كما في الآية (٣)، يشهد لذلك الآية التالية (١٣٠) التي تنص على الفراق: ﴿وإن يتفرقا يغْنِ الله كلاّ من سعته، فالتعارض قائم بين الآيتين، وكأنه بالثانية ينسخ الاباحة بتعدد الزوجات لاستحالة العدل بينهن. ولم يقولوا بالنسخ هنا لأنه لا خير فيه.

١١ ـ الأمر بالفحشاء. يقول: ﴿إن الله لا يأمر بالفحشاء (٢٨:٧ كذلك ٩٠:١٦؛ ٤٥:٢٩) ـ ولا يأمر بالفحشاء الاّ ابليس (١٦٩:٢؛ ٢٦٨:٢؛ ٢١:٢٤) ـ ولكنه يقول أيضاً: ﴿أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (١٦:١٧).

قيل: ﴿الأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير ـ وهل يخالف الله بين أمره الشرعي وأمره الكوني، وهو الظلم بعينه؟ واذا كان فسق المترفين أمراً كونيّاً فسد الكون منذ تكوينه، وهو القائل: ﴿لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم... ثم رددناه أسفل سافلين (٤:٩٥ ـ ٥).

١٢ ـ بصر الكافرين في يوم الدين. يقول: ﴿فبصرك اليوم حديد (٢٢:٥٠). ثم يقول: ﴿خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي (٤٥:٤٢).

قالوا: ﴿الاختلاف من وجهين واعتبارين ـ فهو اذن خلاف لفظي لا موضوعي؛ والحقيقة انه خلاف موضوعي حقيقي: فالبصر الحديد لا ينسجم مع البصر الخاشع من الذل.

١٣ ـ الحصر في التعبير. يقول: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا، اذ جاءَهم الهدى، ويستغفروا ربهم، إلا أن تأتيهم سُنّة الأولين (المعجزة) أو يأتيهم العذاب قبلاً (٥٥:١٨). ثم يقول: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا، إذ جاءَهم الهدى، إلاّ أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً (٩٤:١٧). ﴿فهذا حصر آخر في غيرهما.

قيل: حصْر المانع من الإيمان يختلف باختلاف السبب الحقيقي ـ هذه حذلقة لا أصل لها في النص. فليس من تعارض في الحقيقة لأن الموانع قد تكون عديدة؛ انما التعارض في صيغة التعبير والبيان، لذلك فهو شبهة على الإِعجاز في البلاغة والبيان.

١٤ ـ ومن الحصر في التعبير أيضاً قوله: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً (٢١:٦ و ٩٣ و ١٤٤) وقوله: ﴿فمن أظلم ممن كذَّب بآيات الله (١٥٧:٦)؛ مع قوله: ﴿ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، ونسي ما قدمت يداه (٥٧:١٨)؛ وقوله: ﴿ومَن أظلم ممن منع مساجد الله (١١٤:٢)، الى غير ذلك من الآيات على أسلوب واحد (٢٢:٣٢؛ ٣٧:٧؛ ١٧:١٠؛ ١٨:١١؛ ١٥:١٨؛ ٦٨:٢٩؛ ٧:٦١).

أجيب عليها بأوجه: ﴿إن نفي الأظلمية لا يلزم منه نفي المساواة. وقيل: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير قصد اثبات الأظلمية للمذكـور حقيقة، ولا نفيها عن غيره.

وحقيقة البيان فيها انها استفهام انكاري، فيكون المعنى لا أحد أظلم، فيكون خبراً، وتعدّدت أنواع الأظلمية مع الحصر في كل واحدة. نقول: إنه أسلوب بياني لا يقصد منه حقيقة الحصر، بل التركيز على المقصود؛ لكنه جاء بأسلوب متشابه متعارض. وهذا الأسلوب القرآني في البيان شبهة على الإِعجاز في البلاغة والبيان.

١٥ ـ ومن أساليب التعبير التي تجعل البيان متشابها قوله: ﴿لا أقسم بهذا البلد، وأنت حِلٌ بهذا البلد (١:٩٠ ـ ٢)، مع قوله: ﴿وهذا البلد الأمين (٣:٩٥).

فقد تكون (لا) للنفي أو للاستفتاح كقولهم ﴿كلاَّ. واستعمال أداة بدون قرينة تفيد معناها هو عين المتشابه في البيان الذي يوهم الاختلاف والتناقض.

تلك بعض الآيات المتعارضات التي حاولوا تصويبها. والبيان الذي هو بحاجة الى تصويب... والبيان الذي يوهم لفظه وأسلوبه ظاهر الاختلاف والتناقض لا يكون من الإِعجاز المطلق في البلاغة والبيان.

ثانياً: حكمة ﴿موهم الاختلاف والتناقض في القرآن (الإتقان ٣٠:٢)

١ ـ ﴿قال الاسفرياني: اذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع، طُلب التاريخ وتُرك المتقدم بالمتأخر، ويكون ذلك نسخاً. وإن لم يُعلم، وكان الاجماع على العمل باحدى الآيتين، عُلِم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها. (قال) ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين.

فهم يشهدون بالتعارض الصريح، ويؤولونه بالنسخ. والواقع يشهد بأن فيه تعارضاً بيانياً غير التعارض في الأحكام؛ ولذلك يسمونه من متشابه القرآن.

٢ ـ ﴿قال غيره: وتعارض القراءَتين بمنزلة تعارض الآيتين. نحو (أرجلكم) بالنصب والجر. ولهذا جُمع بينهما بحمل النصب على الغسل والجر على مسح الخف.

فالتعارض البياني قد يجر الى التعارض في التشريع. وهذا شاهد على ذلك.

٣ ـ ﴿وقال الصيرفي: في جماع الاختلاف والتناقض، إن كل كلام صح أن يُضاف بعض ما وقع الاسم عليه الى وجه من الوجوه، فليس فيه تناقض؛ وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك أبداً، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين.

﴿ان التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة هو التناقض المطلق الذي لا يوجد إلا بين الوجود والعدم، ولا ينطبق حتى على النسخ الصريح بالإجماع، ولذا قال بعضهم بأن لا نسخ في القرآن، مع أن القرآن نفسه ينص على مبدأ وواقع النسخ فيه (البقرة ١٠٦). وهذا النسخ هو البرهان على وجود التعارض في القرآن.

٤ ـ ﴿وقال القاضي أبو بكر: لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار وما يوجبه العقل. فلذلك لم يجعل قوله ﴿الله خالق كل شيء معارضاً لقوله ﴿وتخلقون إفكَّا و﴿إذ تخلق من الطين ـ لقيـام الدليل العقلي انه لا خالـق غيـر الله؛ فتعيّن تـأويل مـا عارضه فيؤول ﴿وتخلقون على ﴿تكذبون و﴿تخلق على ﴿تصور.

والحاجة الى التأويل في الخطاب تدل على انه متشابه وموهم الاختلاف والتناقض. وكلام بحاجة الى تأويل لرفع التعارض عنه ليس من الإِعجاز المطلق في البلاغة والبيان.

٥ ـ ﴿قال الكرماني: الاختلاف على وجهين: اختلاف تناقض وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين الى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن؛ واختلاف تلازم وهو ما يوافق الجانبين كاختلاف وجوه القراءة أو اختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد.

لا يطعن في الإِعجاز البياني اختلاف التناقض وحده، بل يكفي اختلاف التلازم كاختلاف الناسخ والمنسوخ، ليلقي على الإِعجاز في البلاغة والبيان شبهة لا تزول. فالبيان المتشابه، والبيان الذي يوهم الاختلاف والتعارض، وهو بحاجة الى مبدأ النسخ، أو الى مبدأ المتشابه، لتصويبه؛ وهو بحاجة الى تأويل قريب أو بعيد ليستقيم ويستبين، لا يكون من الإِعجاز المطلق في البلاغة والبيان، ليصح ان يكون معجزة الهية تشهد بصدق النبوّة وصحة التنزيل. ففي البيان القرآني ﴿ما يوهم الاختلاف والتناقض؛ وهذه هي الشبهة السابعة والكبرى على الإِعجاز في البلاغة والبيان. والآية الكريمة نفسها تشهد بذلك. ففي قوله ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء ٨٢)، ينص ان ليس فيه كثير اختلاف. فهذا الوصف يشهد بان المقصود ﴿كثير الاختلاف. وهذه شهادة ضمنية بأن فيه اختلافاً يسيراً. والاختلاف اليسير يرفع صفة الإِعجاز المطلق عن البيان الذي يصح أن يكون معجزة الهية للتحدي. وكل كتـاب بشري يحترم نفسه يتحدى بأنه ليس فيه ﴿اختلاف كثير، اذ الاختلاف اليسير دليل بشرية المؤلف والتأليف.

خاتمة

تعليم القرآن بحق نفسه

أوّلاً: القرآن محكم أم متشابه؟

حجة مَن قال: القرآن كله محكم (في هود): ﴿كتاب أُحكمت آياته.

حجة من قال: القرآن كله متشابه (في الزمر): ﴿نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً.

حجة من قال: بعضه محكم وبعضه متشابه (في آل عمران): ﴿منه آيات محكمات، هنَّ أم الكتاب، وأخر متشابهات.

فالتعارض قائم من صفة القرآن العامة.

ثانياً: القرآن كلام الله نفسه أم العبارة عن كلام الله؟

١) ﴿حجج مَن قال بأن كلام الله صوت وحرف؛ وذلك في عشر آيات:

(في الأعراف) وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة. (وفي مريم) وناديناه من جانب الطور الأيمن. (وفي النمل) فلما جاءَها نودي أن بورك مَن في النار ومَن حولها، وسبحان الله رب العالمين. يا موسى انه أنا الله العزيز الحكيم. (وفي القصص) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني انا الله رب العالمين. (وفي طه) فلمّا أتاها نودي يا موسى، في أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى. (وفي الشعراء) واذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. (وفي القصص) وما كنت بجانب الطور اذ نادينا. (وفي النازعات) هل أتاك حديث موسى اذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ـ والنداء في اللغة ليس الاّ الصوت ـ (وفي سبأ) حتى اذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ (وفي يسن) سلام، قولاً من رب رحيم.

ملاحظة خطيرة: ليس في تلك الاستشهادات شاهد واحد بحق القرآن؛ وأكثرها بحق موسى، ﴿وكلم الله موسى تكليماً؛ بينما القرآن نزل تنزيلاً، ونزل بالواسطة: ﴿قل نزّله روح القدس (النحل ١٠٢) فحاله لا ينطبق على حال غيره، فليس هو من كلام الله بالصوت والحرف؛ ويشهد لذلك تصريحه ﴿فانه نزَّله على قلبك (٢: ٩٧)، ﴿على قلبك لتكون من المنذرين (الشعراء ١٩٤).

٢) ﴿في حجج القائلين بأن المسموع عين كلام الله، لا العبارة عن الكلام. وذلك في اربع آيات:

(في البقرة) وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون ـ وهي بني إسرائيل والتوراة. (وفي التوبة) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه فأمنه. (وفي البقرة) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم مَن كلم الله. (وفي النساء) وكلّم الله موسى تكليماً.

ملاحظة خطيرة: المفاضلة بين الرسل قائمة على نوعية كلام الله معهم، فامتاز بعضهم بأن ﴿منهم مَن كلّم الله؛ وينص على ان هذا كان مع موسى: ﴿وكلّم الله موسى تكليماً. فليس هو طريقة محمد والقرآن؛ لأنه تنزيل بالواسطة، لا كلام مباشر من الله لمحمد، فليس القرآن مباشرة تكليم الله لمحمد؛ بل بواسطة جبريل. وهو يسمي القرآن هنا كلام الله، لا على سبيل التكليم، بل على سبيل التبليغ الى المشركين، فالمشرك الضيف يسمع كلام الله من ضيفه، لا من الله نفسه. فليس المسموع من القرآن عين كلام الله، بل عبارة عنه. والقرآن في جميع المواضع لا يسمي حرفيّاً كلام الله إلاّ الكتاب فهو ﴿كتاب الله (٢٣:٣؛ ٤٤:٥؛ ٦٨:٨؛ ٣٦:٩؛ ٥٦:٣٠؛ ٦:٣٣؛ ١٠١:٢؛ ٣٥؛ ٢٩). فالكليم مباشرة هو عين كلام الله المسموع؛ أما التنزيل في القرآن، بواسطة جبريل، فهو عبارة عن كلام الله.

ثالثاً: هل القرآن قديم أم مخلوق؟

١) ﴿حجج القائلين بقدم القرآن، وذلك في اثني عشر موضعاً:

(في الأعراف) ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. (وفي النحل) إنما قولنا لشيء اذا أردناه أن نقول له: كن، فيكون. (وفي يسن) انما أمره اذا أراد شيئاً ان يقول له: كن، فيكون. (وفي هود) ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وانهم لفي شك منه مريب. (وفي طه) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً. (وفي حم السجدة) ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وانهم لفي شك منه مريب. (وفي حمعسق) ولولا كلمت سبقت من ربك الى أجل مسمى لقضي بينهم. (وفي الصافات) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. (وفي هود) وأهلك الاّ من سبق عليه القول. (وفي قد أفلح المؤمنون) وأهلك الاّ من سبق عليه القول. (وفي الكهف) قل: لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي.

ملاحظة خطيرة: ليس في تلك الشهادات واحدة بحق القرآن؛ وأكثرها مصبوب على قضاء الله وقدره، لا على كلامه تعالى في التنزيل سوى آية الكهف، وهي عامة مطلقة، ليست خاصة بالقرآن. فالنتيجة انه ليس في القرآن من شاهد صريح على قدم القرآن في ذات الله.

٢) ﴿حجج القائلين بخلق القرآن:

فصل اول، في الخلق؛ وذلك في خمسة مواضع: (في الأنعام) وخلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم. (وفي الرعد) قل: الله خالق كل شيء. (وفي الفرقان) وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً. (وفي الزمر) الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. (وفي حم المؤمن) ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا اله الاّ هو.

فصل ثان، في الجعل، وذلك في موضعين: (في حم السجدة) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته. (وفي الزخرف) إنا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون.

فصل ثالث: في الحدوث؛ وذلك في خمسة مواضع: (في الكهف) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً. (وفي الزمر) الله نزّل أحسن الحديث.

(وفي الطلاق) لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً. (وفي الأنبياء) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الاّ استمعوه وهم يلعبون. (وفي الشعراء) ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث الاّ كانوا عنه معرضين. (وفي هود) كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ـ وما صادفه فعل بعد فعل يكون محدثاً.

ملاحظة خطيرة: في الأقوال بالخلق المطلق لما عدا الله استنتاج بخلق القرآن. وفي الجعل تصريح متقارب بخلق القرآن. أمّا التصريح المطلق الذي لا شبهة عليه هو قوله مرتين. ﴿ذكر من ربهم محدث، ﴿ذكر من الرحمن محدث.

٣) ﴿حجة من قال بأن القرآن ليس بكلام الله عزّ وجل:

(في الحاقة) إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر. (وفي التكوير) انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين. (وفي الشورى) أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء.

هذا هو الواقع القرآني في أزلية القرآن أو حدوثه. لا دليل على أزلية القرآن بنص صريح، إنه استنتاج من كونه ﴿كلام الله. والشهادة المتواترة في القرآن أنه كلام الله بالواسطة، فهو مباشرة ﴿قول رسول كريم، رسول ﴿يوحي بإذنه ما يشاء، فالوحي من الملاك نفسه بإذن الله. لذلك فهو ﴿ذكر من ربهم محدث، ﴿ذكر من الرحمن محدث. فالتعارض في أزلية القرآن قائم بين الواقع القرآني المشهود الواضح، وعقيدة بنوها على مطلق مشبوه. فمعطيات القرآن عن صفات ذاته مشبوهة متعارضة.

ختام القول: شبهات سبعة على الإِعجاز في البيان والبلاغة. فالواقع القرآني يشهد بوجود ما يوهم الاختلاف والتناقض؛ ويشهد بتواتر التكرار فيه بلا ضرورة ولا نكتة بيانية معجزة؛ ويشهد بوجود الناسخ والمنسوخ؛ ويشهد بوجود المتشابه فيه؛ ويشهد بأن تعليمه في التوحيد يغلب فيه التشبيه على التنزيه؛ ويشهد بأن البلاغ القرآني هو دين موسى وعيسى يشرعه للعرب (الشورى ١٣)، وهو الإسلام الذي يشهد به مع الله وملائكته أولو العلم المقسطون من النصارى (آل عمران ١٨). وهذا بعد تصفية القرآن من الأحرف الستة التي نزل عليها وتُلي بها قبل جمعه وتدوينه، وبعد التصفية المزدوجة التي تمت في عرضات القرآن الموسمية حتى وفاة النبي، والتي تمت في التدوين العثماني حيث ﴿ذهب قرآن كثير، و﴿غيّر عثمان المصاحف.

فتلك الشبهات السبعة المتراكمة، شهادات سبع متراصة محكمة، على ما في ﴿دلائل الإِعجاز من البلاغة والبيان. فالقرآن كله ﴿منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات؛ والمحكمات يتحكم فيها النسخ والمتشابهات يحكمها ما تشابه منه. فالقرآن كله بيان يغور في النسخ والمتشابه. وكتاب يشوبه كلَّه النسخ والمتشابه حتى ﴿ما يعلم تأويله الاّ الله، والراسخون في العلم يقولون: أمنا به ـ هل هو من مطلق ومحكم الإِعجاز في البلاغة والبيان؟


١. يقول فيه ناسخه في خاتمته: أنه ﴿إمام الأئمه، قدوة الأمة، ناصر السنة، قامع البدعة، معين الشريعة، بدر الملة والدين، حجة الإسلام والمسلمين، وارث الأنبياء والمرسلين ص ٨٦.

٢. هنا خاب ظنه: فالذي دنا وتدلى ليس الله تعالى، بل ملاك الوحي؟

٣. في تحقيق النص سقط لفظ (ليس)، فاشتبه الفصل، لكن استشهاد الجهمية والمعتزلة يدل عليه.

٤. ١ هذا التصريح يعني ان براهين التوحيد ودلائل النبوّة، لا تقود إلى الإيمان بحدّ ذاتها، إلاّ أن يشاء الله.