الفصل السابع

إِعجاز القرآن في أسلوب نظمه

﴿هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي (الأنبياء ٢٤)
﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)

توطئة

من شروط الإِعجاز في نظم القرآن خرق العادة

عرّفوا المعجزة بأنها ﴿أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، سالم عن المعارضة ١ .

فإِعجاز القرآن في أسلوبه ونظمه يقوم على خرق العادة عند العرب في نظم كلامهم، وكان النظم عندهم شعر الشعراء، وسجع الكهان، ونثر الخطباء. فجاء القرآن شعراً ولكن على غير أسلوب الشعراء، وسجعاً ولكن على غير أسلوب الكهان، ونثراً ولكن على غير أسلوب الخطباء.

إنه أسلوب قائم بنفسه: إنه قرآن!

وبذلك كان إِعجازه في خرق عادة العرب في نظمهم. وهذا النظم الفريد هو ما استهواهم فظلت اعناقهم له خاشعة. ولكن اذا كان في نظم القرآن خرق لأساليب العرب في نظمهم، فهل كان خرقاً للعادة في كل نظم؟

يصف القرآن نفسه بقـوله: ﴿هذا ذكـر من معي، وذكـر من قبلي (الأنبياء ٢٤)، ﴿فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر (النحل ٤٤؛ الأنبياء ٧).

ونحن نقول بأن نظم القرآن جاء على أسلوب نظم الذكر عند النبيّين وفي الزبور وفي الإنجيل، فليس هو اذن خرقاً للعـادة على الإطلاق. والقرآن يصرح بأن النبي درس الكتاب: ﴿وليقولوا: درست! ـ ولنبينّه لقوم يعلمون (الأنعام ١٠٥). ففي جوابه يعدل عن الرد عليهم الى بيان غاية الدرس، وهذا توكيد ثابت لدرس الكتاب. فهو قد درسه، كما أهله ﴿درسوا فيه (الأعراف ١٦٩)، وعليه يتحداهم ﴿بما كنتم تدرسون (آل عمران ٧٩). ويتحدى المشركين بهذه الدراسة، فهم ليس عندهم ﴿كتاب فيه يدرسون (القلم ٣٧) أو ﴿من كتب يدرسونها (سبأ ٤٤). ونظم القرآن بهر العرب لأنهم كانوا ﴿عن دراستهم لغافلين (الأنعام ١٥٦).

فالقرآن كما هو ذكر من ذكر الكتاب، فهو نظم من نظم الكتاب ٢ .

بحث أوّل

النظم عند الأنبياء

ان نظم الأنبياء في الكتاب شعر عبراني؛ وهذا الشعر العبراني لا يقوم على التفاعيل المحكمة، وعلى القافية، مثل الشعر العربي. إنما هو موزون على نظم متقارب، ينتهي بقوافٍ متقاربة. إنه قائم على الوزن المرسل والفاصلة، مثل القرآن، بينما الشعر العربي يقوم على الوزن المقيد والقافية الواحدة.

وميزة نظم الأنبياء أنه يأتي بأسلوب الرباعيات كما في لغة أهل الهلال الخصيب على أيامه، فيصير بالعربية ثنائيات من بيتين متوازيين.. وهذا نموذج من نبوءة أشعيا (٤٠: ١٢ ـ ٣١).

أولاً: في توحيد الله القدير

من كال بمكيال تراب الأرض؟ ووزن الجبال بالقبان، والتلال بالميزان؟
مَن أرشد روح الله في عمله؟ أو كان له مشيراً في علمه؟
من استشار فأفهمه، وسبيل العدل أرشده؟ أو من لقـّنه المعرفة، وطريق الفهم علمه؟
ها إن الأمم كنقطة على دلوٍ تخالها كهبوة في ميزان!
ها إن الجزائر تُنفض كذرة ولبنان غير كاف للوقود، وحيوانه للمحرقة!
جميع الأمم لديه كلا شيء تحسب أمامه عَدَماً وخواء
فبمن تشبهون الله؟ أنه ليس كمثله شيء!...
أما علمتم؟ أما سمعتم؟ أما بلغكم من قبل؟ من أسس الأرض؟
إنه جالس على كرة الأرض وسكانها أمامه كالجراد!
ينشر السماوات كسرداق ويمدهن كخباء للسكنى!
يجعل العظماء كلا شيء ويصيّر قضاة الأرض كخواء!
إنهم لم يُغرسوا ولم يُزرعوا ولم يتأصل في الأرض جذرهم
حتى هبت عليهم ريح فيبسوا ورفعتهم الزوبعة كالعاصفة!
فبمن تشبهوني؟ ومن مثلي؟ يقول القدوس ارفعوا عيونكم الى العلاء: من خلق هذه!
من يستعرض اعدادها ويدعوها بأسمائها؟ فلا يتخلف أحد، لعظمة قدرته وشدة قوته؟
فلِمَ تقول يا يعقوب وتنطق بهذا، يا إسرائيل:
ان مصيري يخفى على الله! ودعواي تفوت إلهي!
أما علمت؟ أما سمعت؟ أن الله إله سرمدي خالق أقاصي الأرض؟
لا يتعب ولا يعيي ولا حدّ لعلمه وهو يُؤتي التعب قوة، والمنهوك حولا!
الفتيان يتعبون ويعيون والمختارون يعثرون، أما الراجون الله فيتجددون
ويرتفعون بأجنحة كالنسور يعدون ولا يعيون، يسيرون ولا يتعبون!

ثانياً: في المسيح الموعود (٥٢: ١٣ ـ ٥٣: ١٢)

هوذا عبدي يُبدي جهداً يتعالى ويرتفع ويتسامى جداً
لقد أدهش الكثيرين بمنظر قد تشوه أكثر من كل إنسان، وصورةٍ أكثر من بني البشر!
لكنه يفجّر العالمين تفجيراً وأمامه يسد الملوك أفواههم
لأنهم رأوا ما لم يُخبروا به وعاينوا ما لم يسمعوا به! ٣
فمن يؤمن بما يسمع منا؟ ولمن أعلنت ذراع الله؟
انه ينبت كفرع أمامه وكأصل من أرض قاحلة! ٤
ها هو، لا جمالَ له ولا بهاء يستهوي، ولا منظر يُشتهى؟
مزدرى ومخذول من الناس رجل أوجاع ومتمرس بالعاهات
انه مثل ساتر وجهه عنّا ٥ فحسبناه ذا برص ضربه الله وذللَّه!
بل جُرح لأجل معاصينا، وسحق لأجل آثامنا، فتأديب سلامنا عليه، وبشدخه شُفينا!
كلنا، كالغنم قد ضَلَلْنا، ومال في طريقه كل واحد منا!
فألقى الله عليه إثم كلّنا قدّم وهو خاضع ولم يفتح فاه!
كشاة سيق الى الذبح، وكحمل صامت أمام الجزازين لم يفتح فاه
في الضيق والقضاءِ أُخِذ أخذاً ولا مَن يسأل عن ذريته!
لقد انقطع من أرض الأحياء قطعاً لكن لأجل معصية شعبي أصابته الضربة
كان مع المجرمين في موته وكان مع الموسرين في قبره!
مع أنه لا يأخذه جور ولم يوجد في فمه مكر
وقد رضي الله أن يسحقه بالألم لأنه جعل نفسه ذبيحة اثم
لذلك يرى ذريةً وتطول أيامه ومرضاة الله تنجح على يده
لأجل عناء نفسه يرى ويرتوي وبألمه ٦ يبرّر الصديق عبدي العالمين
لقد حمل آثامهم فأجعل العالمين نصيبه وأفاض للموت نفسه فأجعل الأعزاء غنيمته
لقد أُحصى مع المجرمين العصاة وهو حمل خطايا العالمين وشفع في العصاة

بحث ثان

النظم في الزبور

إن كتاب المزامير قد جُمع في خمسة أجزاء، كما قُسم كتاب موسى الى خمسة أسفار. والزبور كله شعر ديني من مائة وخمسين سورة أو قصيدة. نرى فيها جميع الفنون الأدبية من دعاء وترنيم، الى قصص وتعليم.

نختار من الزبور مزموراً صغيراً، ومزموراً طويلاً، نستبين منهما الأسلوب في النظم.

أولاً: المزمور التسعون: عناية الله بعبده (بأسلوب حوار تمثيلي)

  الساكن في كنف العليّ المقيم في حمى القدير
(نداء أول) يقول لله: أنت سوري وملاذي أنتَ إلهي الذي عليه اعتمادي
(صوت أول) وهو من فخّ الصيادين ينقذك وعن الوباء الفتـّاك بمنكبيه يحجبك
  أجنحته تكون لك معتصَماً وحقـُّه يكون لك مجناً وترساً
  فلا تخاف من هول في الليل ولا من سهم طائش في النهار
  لا من وباء يسري في الدجى ولا من غائلة تجتاح في الظهيرة
  ألف يسقط عن جانبك وربوة عن يمينك
  وأما أنت فلا يدنو سوء منك وبعينيك تنظر وتشاهد عاقبة الفاسقين
(نداء ثان) ـ وأنا قلتُ: ربي ملجإي! ـ جعلت العلي ملجأك
(صوت ثان) فلا شرَّ يصيبك ولا مصيبة تدنو من خبائك
  حرصاً عليك أوصى ملائكته بك ليحفظوك في جميع طرقك
  على أيديهم يحملونك لئلا تصدِم بحجر رجلك!
  تطأ السبع والأفعى وتدوس الشبل والتنين
(صوت الله) ـ أجل أنجيه لأنه تعلّق بي وأقيه لأنه عرف اسمي
  يدعوني فأستجيب له أنا في الضيق معه
  أنجيْه وأُعلي شأنه أملأه حياة وأريه خلاصي

ثانياً: المزمور ١٠٣: نشيد الحمد على الخلْق ٧

إحمدي، يا نفس، الله يا ألله إلهي ما أعظمك!
لبست الجلال والبهاء ملتحفاً بالنور كرداء!
أنت الباسط كسَجْف السماء الباني على المياه علاليّه!
أنت الجاعل السحاب مركباً السائر على أجنحة الريح
الصانع من الرياح رسلاً ومن ألسنه النار خَدَماً
انت المرسي الأرض على أسسها فلا تميد الى دهور الدهور
كسوتها الغمر رداءً وعلى الجبال تقف المياه اكليلاً
عند زجْرك تفرّ هاربة وعند هزيم رعدك تنهزم
تقفز الجبال، وتهبط الوديانَ إلى حيث كان لها مكان
هناك أقمتَ لها حداً لا تجاوزه ووجه الأرض لا تعود تغمره
ثم تفجّر الشعاب عيونا فتسيح من جديد بين الجبال
تسقي وحوش البرّ كلّها وبها تطفئ الفراءُ ظمأها
طير السماء تتجمع عليها وتطلق من بين الأيك تغريدها
أنت تسقي الجبال من علاليك فتشبع الأرض من خيراتك
تنبتُ الكلأ للحيوان والنبات الذي ينفع الانسان
فيخرج من الأرض قوت: خمر تفرّح قلب الانسان
وزيت يُزهِر به وجهه وخبز يشدّد قلب الانسان
ترتوي أشجار الله أرز لبنان الذي غرسه
هناك يعشش العصفور ويأوي اللقلق الى أعاليه
للوعولِ الجبال الشامخات وللأرانب الصخور والناتئات
أنت الذي جعل للقمر حسباناً وعرَّف الشمس مغاربها
تُرخي الظلام فيشمل الليل فيه يجوس وحش الغاب
تزأر السباع في أعقاب طرائدها وهي تطلب من الله طعامها
تشرق الشمس فترتد وفي مآويها تربض
فيخرج الانسان الى عمله والى حاجته حتى المساء
ما أعظم أعمالك، يا الله كُلـَّها صادرة عن حكمة
فالأرض من خلائقك ملأى وهذا اليمُّ العظيم ذو الخلجان كالأيدي
هناك دبابات لا عدد لها حيوانات صغار وكبار
هناك تمرح الحيتان وهذا التنين الذي كونته يلعب فيه
وكلها إياك ترجو إن ترزقها طعامها في حينه
أنت تعطيها فتتجمّع تبسط يدك فتشبع
تصرف وجهك فتهلع ذعراً تقبض انفاسها فتفنى تراباً
ثم ترسل روحك فيخلقها وتجدد وجه الأرض كلها
لله الحمدُ الى الأبد ولإلهنا الفرح في أعماله
ينظر الى الأرض فترجف ويمس الجبال مساً فتدخّن
أشيد لله مدى حياتي أرنم لإلهي على الدوام
لعلَّ نشيدي له يرضيه أمّا أنا فإن فرحي بالله!
احمدي، يا نفس، الله الحمد لله!

بحث ثالث

النظم في الإنجيل

إن الإنجيل بأحرفه الأربعة يروي سيرة المسيح ودعوته. فالسيرة نثر، والدعوة نظم رباعيات على الأسلوب الآرامي الذي عهدناه في الزبور والنبيّين.

نأخذ مثلاً من خطاب المسيح التأسيسيّ، في الدستور الإنجيلي: متى ٤: ٢٣ ـ ٥: ٤٨.

وكان يسوع يطوف الجليل كله يعلم في جوامعهم، ويدعو لإنجيل الله. وكان يشفي كل مرض وكل سقم في الشعب. فذاع خبره في سوريّا كلها ٨ ، فأتوا إليه بكل من كان به سوء. المعذبين بشتى الأمراض والأوجاع، والمجانين، والمصروعين، والمخلعين، فشفاهم. فتبعته جموع كثيرة من الجليل، والمدن العشر، وأورشليم واليهودية وعبر الاردن.

فلمّا رأى الجموع صعد الى الجبل. ولما جلس أحاط به تلاميذه. ففتح فاه وجعل يعلمهم. قال:

(مقدمة اولى للخطاب)

طوبى للمساكين ـ روحاً ـ فإن لهم ملكوت السماوات
طوبى للوديعين   فإنهم الأرضَ يرثون
طوبى للباكين   فإنهم يعزون
طوبى للجائعين ـ إلى البر ـ فإنهم يشبعون
طوبى للراحمين   فإنهم يرحمون
طوبى للطاهرين ـ قلباً ـ فإنهم الله يعاينون
طوبى للمسالمين   فإنهم أبناء الله يُدعون
طوبى للمضطهدين ـ لأجل البرّ ـ فإن لهم ملكوت السماوات ٩

(مقدّمة ثانية للخطاب)

أنتم ملح الأرض: اذا فسد الملح، فبم يصلحونه؟
لا ينفع لشيءٍ بعد بل يُنبذ بالعراء والناس يدوسونه!
أنتم نور العالم: لا تخفى مدينة على جبل
ولا يوقد سراج تحت مكيال بل على منارة ليضيء لأهل المحل
هكذا أنتم فليضئ نوركم قدام الناس كلّهم
ليروا أعمالكم الصالحة ويحمدوا أباكم الذي في السماوات ١٠

(القسم الأوّل من الخطاب: الإنجيل تكميل الشريعة والبرّ)

لا تظنوا أني أتيت لأنسخ الشريعة أو النبيّين!
اني ما أتيت لأنسخ وإنما أتيت لأكمّل!
الحقَّ أقول لكم: قد تزول السماء والأرض
ولا يزول من الشريعة حرف ولا نقطة، حتى يتم الكل!
فكل من نقض إحدى تلك الوصايا الصغرى
وعلم الناس بها يدعى حقيراً في ملكوت السماوات!
ومن عمل وعلّم فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات
أقول لكم: ما لم يزد بركم على الفقهاء والفريزيين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات

(أوّلاً: تكميل الشريعة)

سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل؛ ومَن قتل يستوجب حكما
وأنا أقول لكم: مَن غضب على أخيه، يستوجب حكما!
ومَن قال لأخيه: ﴿راقا! يستوجب حكم السنهدرين
ومن قال له: معتوه! يستوجب نار جهنم!
فإن قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك عليك شيئاً
فدع قربانك هناك أمام المذبح واذهب أولاً وصالح أخاك، وعد قدم قربانك
سمعتم أنه قيل: لا تزن! وأنا أقول لكم: مَن نظر
الى امرأة نظر شهوةٍ فقد زنى بها في قلبه!
فإن عثـّرتك عينك اليمنى فاقلعها وانتبذها عنك بعيداً
فخير لك ان يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم!
وان عثـّرتك يدك اليمنى فاقطعها واطرحها عنك بعيداً
فخير لك ان يهلك أحد أعضائك ولا يذهب جسدك كله الى جهنم!
قيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق وأنا فأقول لكم: من طلق امرأته
ـ إلاّ في حالة زنى ـ فقد عرّضها للزنى ومَن تزوج مطلقة فقد زنى ...
سمعتم انه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك وأنا فأقول لكم: أحبوا أعداءَكم
وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات
فهو يطلع شمسه على الأشرار والصالحين
وينزل غيثه على الأبرار والظالمين
فإن أحببتم من يحبّكم فأي أجر لكم؟ هذا ما يفعله العشارون
وإن لم تسلموا إلاّ على اخوانكم فأيّ خارق أتيتم؟ هذا ما يفعله الوثنيون
فأنتم كونوا كاملين على مثال أبيكم السماوي الكامل

بحث رابع

النظم في القرآن

في الكتاب الأول ١١ ، رأينا ﴿أساليب نظم القرآن وفنونه، وعلمنا ان السور المكية المسجعة أو الموزونة أو المقفاة خمس وستون، وأن السور المكية غير الموزونة وغير المسجعة ست وعشرون؛ لكن خواتم آياتها مركزة، لا تخلو من رنة موزونة في أواخر آياتها، بقطع النظر عن التقفية والوزن والروي؛ وهذا ما يُسمى في فنون الأدب ﴿المرسل الذي لا يتقيد بقافية ولا وزن. وظهر أكثره في آخر العهد بمكّة.

والنظـم في القرآن المـدني يترسّل أكثر فأكثر، مع ذلـك يـأتي بنظـم رائع يسمّى ﴿التسميط، وهو الإتيان في الآية بفواصل غير الفاصلة المتواترة في السورة.

وهذه بعض أمثلة من نظم القرآن:

أوّلاً: السورة الأولى: العلق

١) ﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق
  إقرأ، وربك الأكرم الذي علـّم بالقلم
علـّم الانسان ما لم يعلم
٢) كلاّ ! إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى
إن الى ربك الرجعى
٣) أرأيت الذي ينهى عبداً اذا صلّى
  أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى
  أرأيت إن كذّب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى
٤) كلاّ، لئن لم ينتهِ لنسفعنْ بالناصية ناصية كاذبة خاطئة
  فليدعُ ناديه! سندع الزبانية
كلا: لا تطعه، واسجد واقترب

تعليق: في هذه السورة وردت كل أنواع النظم التي نجدها في الزبور، وأنواع النظم الكتابي: من خمس فواصل متوازية الى ثلاث فست فخمس. واختلاف النظم يدل على أنها مجموعة متفرقات.

ثانياً: السورة الثالثة: المزمّل

١) ﴿يا أيها المزمّل، قم الليل إلاّ قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً
  أو زدْ عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً
٢) إن ناشئة الليل هي أشد وَطْأً وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحاً طويلا
  واذكر اسم ربك وتبتـّل اليه تبتيلا رب المشرق والمغرب، لا إله إلاّ هو، فاتخذه وكيلا
٣) واصبرْ على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا
  وذرْني والمكذّبين أولي النعمة ومَهّلْهم قليلا
٤) ان لدينا أنكالاً وجحيما وطعاماً ذا غصّة وعذابا أليما
  يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلا
٥) إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا الى فرعون رسولاً
  فعصى فرعون الرسولَ فأخذناه أخذاً وبيلاً
٦) فكيف تتّقون إن كفرتم يوماً بجعل الوِلْدَان شيبا
  السماء منفطر به كان وعده مفعولا
  إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا

تعليق: هنا يستقيم النظم على أسلوب واحد، لكن اختلاف الوزن يجعل السورة مجموعة متفرقات جمعت بينها وحدة الفاصلة. وختمت السورة ببيت واحد كما في الزبور أحيانا. لذلك كانت الآية (٢٠) من سورة المزمل مقحمة دخيلة عليها من زمن آخر لاختلاف نظمها عن سائر المجموعة في السورة.

ثالثاً: من سورة ﴿مريم

يذكر أولاً قصة مولد يحيى (١ ـ ١٥)، ثم قصة مريم ومولد عيسى (١٦ ـ ٣٣) وكلاهما بروي واحد، مع خاتمة مردّدة (١٥ و ٣٣).

واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكانا شرقياً
فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّـاً
قالت: إني أعوذ بالرحمٰن منك، إن كنت تقيّـاً!
قال: انما انا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيـّا!
قالت: أنى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّـاً؟
قال: كذلك؟ قال ربك: هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضيّا!
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجأها المخاض الى جذع النخلَة
قالت: يا ليتني مِتُ قبل هذا وكنت نسياً مَنْسيّـاً!
فناداها من تحتها: ألاّ تحزني قد جعل ربك تحتك سريّا
وهزّي إليك بجذع النخلةِ تساقط عليك رطباً جنيّـاً
فكلي واشربي وقرّي عيناً فإمّا ترينّ من البشر أحداً
فقولي: إني نذرت للرحمٰن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّا ١٢ !
فأتتْ به قومها تحملُهُ. قالوا: يا مريم لقد جئت شيئاً فريّا!
يا أخت هارون، ما كان أبو كِ امرأ سوءٍ، وما كانت أمك بغيّا!
فأشارت اليه. قالوا: كيف نكلّمُ مَن كان في المهد صبيّا؟
قال: إني عبد اللهِ آتاني الكتاب وجعلني نبيّـاً
وجعلني مباركاً أينما كنتُ، وأوصاني بالزكاة والصلاة ما دمتُ حيّـاً
وبرأ بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّا!
والسلام عليّ، يوم ولدتُ ويوم أموتُ، ويوم أبعث حيّـاً

تعليق: هذا مثال من نظم القرآن في قصصه. فترى أنه يأتي بأسلوب النظم الآرامي الذي وجده في الذكر عند أهل الذكر. وهو النظم رباعيات تصير في العربية ثنائيات. وهذا النظم على وزن واحد، وروي واحد يجعل الآيات (مريم ٣٤ -٤٠) دخيلة على السورة من زمن آخر لاختلاف النظم والفاصلة.

رابعاً: من سورة ﴿البقرة.

فذلكة: أقام على تنزيل سورة البقرة ونظمها أكثر من سنة ونصف حتى موقعة بدر. هذا، ما عدا الدخيل عليها من أزمنة أخرى حتى آخر القرآن نزولاً كما في آيات الربا والدين. جمع بينها وحدة النظم ووحدة الروي، وهي تمثل الأسلوب الذي انتهي اليه بالمدينة، في فن التسميط.

أولاً: فصل في المؤمنين والكافرين والمنافقين (١ ـ ٢٠)

١) آلم. ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين
  الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون
  والذين يؤمنون، بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون
  أولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون!
٢) إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، لا يؤمنون!
  ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم!
٣) ومن الناس مَن يقول: آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
  يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون!
  في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً
  ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون
  واذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، قالوا: انما نحن مصلحون!
  ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون!
  واذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس! أنؤمن كما آمن السفهاءُ؟
  قالوا:  
  ألا إنهم هم السفهاءُ ولكن لا يعلمون!
  واذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، واذا خلوا
  الى شياطينهم، قالوا: إنّا معكم، انما نحن مستهزئون!
  الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون!
  أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وما كانوا مهتدين!

ثانياً: فصل في الدعوة للتوحيد وبرهانه من الخلق ومن أنفسهم، ومن قصص آدم (٢١ ـ ٣٩) ١٣

١) يا أيها الناس، اعبدوا ربكم الذي خلقكم
  والذين من قبلكم لعلكم تتقون!
  الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً
  فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، فلا تجعلوا لله أنداداً، وأنتم تعلمون!
٢) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم
  ثم يميتـُكم، ثم يحييكم ثم اليه تُرجَعون!
  هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ثم استوى الى السماء
  فسوّاهن سبع سما واتٍ، وهو بكل شيء عليم!
٣) واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
  قـالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الـدماء ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك، قال: إني اعلم مالا تعلمون!

ثالثاً: الخطاب الأول لليهود (٤٠ ـ ٤٦)

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم، وإياي فارهبونِ
وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به
ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، وإياي فاتـّقون
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تفعلون؟
واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة، إلاّ على الخاشعين
الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم اليه راجعون

خامساً: من سورة ﴿المائدة

سورة المائدة جدال مع اليهود، من زمن سورة آل عمران؛ فهو ليس في مكانه. وجدال مع وفد نجران المسيحي - لا النصراني ـ وهو من عام الوفود في هذه الفترة. ويتخلل ذلك بعض التشريعات من هذه الفترة.

نأخذ مثالاً للنظم في آخر عهد القرآن محاسبة الرسل في يوم الدين (١٠٩ ـ ١١٩) لقد فصلوا ما بين المطلع (١٠٩) وبين مشهد المحاسبة (١١٦ ـ ١١٩) بفصل في قصص عيسى مع اليهود والحواريين (١١٠ ـ ١١١) ينتهي بإعلان إيمان الحواريين (١١١)؛ وبفصل في قصة المائدة (١١٢ ـ ١١٥) ينتهي بتحذير الحواريين من الكفر بعيسى (١١٥). والخاتمة المختلفة في المشهدين تجعلهما مقحمين على السياق؛ مع ما في فاصلتهما وفاصلة مشهد يوم الدين (١٠٩ و١١٦) من فارق في الروي يشهد بالجمع المتنافر بياناً؛ وإن انسجم موضوعاً، بجعل تذكير عيسى بمعجزات الله في حقة، ومعجزة المائدة، كمقدّمتين لاستجوابه في يوم الدين. لكن العبرة بالنظم واختلاف الروي الذي يجعل الجمع متنافراً. لذلك نرد المطلع (١٠٩) الى مشهد المحاسبة (١١٦ ـ ١١٩).

يوم يجمع الله الرسلَ فيقول: ماذا أُجبتم؟
قالوا: لا علم لنا! إنك انت علاّم الغيوب
وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس:
اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟
قال: سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق
إن كنتُ قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك
إنك انت علاّم الغيوب!
ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به  
وكنتُ عليم شهيداً ما دمت فيهم  
إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم
فإنك أنت العزيز الحكيم
قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبداً! رضي الله عنهم ورضوا عنه: ذلك الفوز العظيم!
ان اعبدوا الله ربي وربكم فلمّا توفيتني كنت انت الرقيب عليهم
وأنت على كل شيء شهيد

خاتمة

نظم القرآن من نظم الكتاب

ترتيب الكلام كما يقتضيه النظم الظاهر يزيد النظم بروزاً وبياناً. وبهذا الترتيب يظهر لنا عجيب نظم القرآن الذي حارت فيه العقول. ولكن نصل الى سر الإِعجاز في هذا النظم الممتاز.

إنه، كما هو الظاهر والواقع، النظم الآرامي الذي أخذه النبي مع الذكر عن أهل الذكر، ونزل به القرآن.

فسور القرآن مثل سور الزبور أناشيد متنوعة، فيها جميع فنون البيان، وجميع فنون النظم من تربيع وتخميس وتثليث، لكن يغلب على أسلوب النظم الرباعيات، في لغة النظم الأرامي، أو الثنائيات في لغة النظم العربي.

وهذه هي النتيجة التي نصل اليها في أسلوب النظم القرآني: نظم القرآن من نظم الكتاب، في النبيّين والزبور والإنجيل. إن نظم القرآن قائم، مثل نظم الكتاب، على الوزن المرسل مع الفاصلة، لا على الوزن المقيد والقافية الواحدة كالشعر العربي. هذا هو سره. فإن كان معجزاً بالنسبة الى النظم العربي المألوف، فهو ليس كذلك بالنسبة إلى النظم في الكتاب. فقوله: ﴿هذا ذكر مَن معي وذكر من قبلي صحيح موضوعاً وبياناً وأسلوباً ونظماً.


١. الإتقان ٢: ١١٦.

٢. في كتابنا الأول: (الإِعجاز القرآن) فعلنا واقع النظم فيه (ص ١٥٧). وهنا نرى هل نظم معجزة.

٣. المسيح الموعود مصيره عجب، ينتهي بمنظر قد تشوه، يقصد الصلب كما سيظهر من الوصف، لكنه بذلك يسيطر على الناس والملوك. وهذا المصير لم يخبروا به من قبل؛ وهذا الخبر غاية هذه النبوّة.

٤. تكرار لما قاله اشعيا الأول: ﴿يخرج قضيب من جذر يسّى ينمي فرع من أصوله (١١: ١ و ١٠).

٥. كناية عن المصاب بالبرص.

٦.   في المخطوطات العبرية خلاف في القراءَة بين (ألمه) و (علمه)، ومخارج التعبير واحدة. وقراءَة (ألم) أصح.

٧. هذا المزمور يصف الخليقة كما فصلها سفر التكوين في الفصل الأول. ففي التوراة وصف كلامي، وفي المزمور وصف شعري.

٨. يقصد ولاية سوريا الرومانية. أي سوريا الحالية وشرق الأردن وفلسطين، كما يفصل ذلك من بعد.

٩. لاحظ فنّ التصدير بكلمة ﴿ملكوت السماوات في الفاتحة والخاتمة. لذلك نعتبر الآية (٥: ١١ ـ ١٢) مقحمة من زمن آخر. كما نعتبر الكلمات ﴿روحاً ـ الى البر ـ قلباً ـ لأجل البر زيادات تفسيرية في الإنجيل.

١٠. لاحظ في ختام المقطع الثاني ترديد التصدير.

١١. نظم القرآن والكتاب: إِعجاز القرآن، ص ١٥٧.

١٢. لاحظ في هذه الرباعية الثنائية فن التسميط فيها، حيث ترد الفواصل الثلاث بالتخفيف والتنوين، على خلاف الفاصلة الخاتمة التي تأتي بالفتح والتشديد.

١٣. لذلك نعتبر الآيات (٢٣ ـ ٢٨) في التحدّي بسورة من مثله دخيلة على السياق تقطعه وتقطع وحدة التأليف. فمطلع الخطاب ﴿يا أيها الناس (٢١) والتحدّي بسورة من مثله هو للمشركين. كما أن التحدّي بمثل البعوضة (٢٦) هو للفاسقين من أهل الكتاب أي لليهود، وخطابهم يبدأ في الآية (٤٠).