الفصل الرابع

في الطريق الذي عمله يسوع المسيح لخلاص كل الناس

وادي الفراعنة، مصر
وادي الفراعنة، مصر

والآن بالاتكال على هداية وبركة القدير نتقدم لشرح كيفية الخلاص الذي صنعه الرب يسوع لبني البشر وذلك بناءً على ما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد، مع العلم بأن كثيراً من طرق الله العجيبة تخفى عن عقولنا المحدودة، حيث أننا لا نقدر أن نعلم شيئاً من المقاصد الإلهية إلا ما شاء أن يعلنه لنا، وبما أنه منحنا عقولاً للفحص والتحري فيجب أن نستعملها في ما يعود بالمجد لذاته العلية، وإذ أنعم علينا بإعلان طريق الخلاص فيسره أن نتأمل في إعلانه باحترام حتى نفهم ما استطعنا فهمه بحسب عقولنا القاصرة (تسالونيكي الأولى ٥:‏٢١) ولا يتوقف خلاصنا على مقدار ذكائنا بل على حقيقة إيماننا بمخلص العالم.

إن الله من فيض محبته وكثرة رحمته تعطف علينا فأعد خلاصاً للخطاة بواسطة ربنا يسوع المسيح، كما هو واضح في أسفار العهد الجديد. ومن أمثلة ذلك ما ورد في (لوقا ١٩:‏١٠ ويوحنا ٣:‏١٦ وكورنثوس الثانية ٥:‏١٩ و٢١  وتيموثاوس الأولى ١:‏١٥ وبطرس الأولى ٢:‏٢١-٢٤ ويوحنا الأولى ٢:‏١٢ و٤:‏٩ و١٠). أما كون الخلاص قد تهيأ بهذه الكيفية فهو حقيقة راهنة. ويلزمنا الآن أن نجتهد لنفهم طريقة الوصول إلى الخلاص بالمسيح، وكيف صحَّ أن تُسند إليه تلك الألقاب العالية في هذه الآيات وغيرها، مما يؤكد لنا سمو طبيعته، وتوافر الشروط المذكورة في خاتمة الفصل الثالث.

وتخبرنا الكتب المقدسة أن الله في محبته الغير المحدودة ورحمته الغير المتناهية قصد منذ الأزل أن يصنع هذا الخلاص (أفسس ٣:‏٢ وبطرس الأولى ١:‏١٨-٢١ ورؤيا يوحنا ١٣:‏٨) فأنبأ على ألسنة أنبيائه في العهد القديم مبيّناً السبط والبيت الذي يخرج منه المخلّص، وزمان ظهوره، والكيفية التي يباشر بها خدمته بين الناس، كما أنه أنبأ برتبته وطبيعته وجميع متعلقات عمله الفدائي العظيم، حتى أنه منذ العصور الأولى (أي من قبل ظهوره بمئات السنين) عرف بعضهم هذه المواعيد المباركة وآمنوا بها وانتظروا بفرح وأشتياق ذلك المخلّص العظيم، ومنهم آدم أبو الجنس البشري فإنه علم من الله بقدوم المخلص وأنه سيكون قديراً بحيث يستطيع أن يسحق رأس الحية، بمعنى أنه يستطيع أن يظفر بإبليس ويعتق  الإنسان  من  نير  عبوديته  ومن  الخطية (تكوين ٣:‏١٤ و١٥). وقد رأينا في الفصول الماضية أن الله وعد إبراهيم أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض (تكوين ٢٢:‏١٨) وتشهد أسفار العهد الجديد أن ذلك النسل إنما هو المسيح (غلاطية ٣:‏١٦). ثم أنبأ على لسان موسى أن ذلك المخلّص يكون نبياً عظيماً يقوم من وسط إسرائيل (تكوين ١٧:‏١٩ و٢١ و٢٨:‏١٤) وأنه يعلّم الشعب طريق الله وإرادته (تثنية ١٨:‏١٥ و١٨ و١٩). وأما كون هذا النبي العظيم هو المسيح فقد صار أمراً معلوماً بشهادة ذلك الصوت الصادر من السماء يأمر الناس بالاستماع إليه (متى ١٧:‏٥ ومرقس ٩:‏٧) وهذا على وفق قول الله لموسى إن الإنسان الذي لا يسمع لما يتكلم به ذلك النبي فهو تحت طائلة قصاص صارم.

ثم جاء داود وتنبأ عن هذا المخلّص، وأنه سيأتي من ذريته ويدوم مُلكه إلى ما لا نهاية (صموئيل الثانية ٧:‏١٦ ومزمور ٨٩:‏٣ و٤ و٢٧ و٢٨ و٢٩ و٣٥ و٣٦ و٣٧ وأشعياء ٩:‏٦ و٧ و١١:‏١ وإرميا ٢٣:‏٥ و٦ و٣٣:‏١٥ و١٦ و١٧ و٢٠ و٢١ و٢٥ و٢٦ قارن بما ورد في يوحنا ١٢:‏ ٣٤).

وجاء في تكوين ٤٩:‏١٠ أن المملكة لا تزول من سبط يهوذا حتى يأتي شيلون وهذا الاسم من ألقاب المسيح.

وُلد يسوع من نسل داود (متى ١:‏١ وأعمال الرسل ٢:‏٣٠ و١٣:‏٢٢ و٢٣ ورومية ١:‏٣) قبل التاريخ المسيحي المعروف بنحو أربع سنوات. ويجب الأشارة هنا إلى أن المؤرخين أخطأوا في تعيين الوقت الذي وُلد فيه المسيح بالضبط، إذ أخذوا ذلك عن راهب يُدعى ديونسيوس الصغير كان معاصراً للملك جوستينيان، وهذ الراهب أخَّر سهواً تاريخ ميلاد المسيح بضع سنوات غير أنه لا بأس من أن نعتمد على هذا التاريخ المتداول، فنقول إن هيرودس الملك العظيم مات قبل تاريخ المسيح بأربع سنوات، وكان يسوع حينئذ لا يتجاوز عمره السنتين كما يظهر من مراجعة بشارة متى ٢:‏١٣. وعند ذلك انقسمت مملكة اليهود أربعة أقسام، ملك على أحدها المعروف باليهودية أرخيلاوس بن هيرودس، وفي السنة السادسة للميلاد خلعته الحكومة الرومانية ونفته من البلاد، وأصبحت اليهودية ولاية رومانية بعد أن كانت مملكة مستقلة وإن كانت خاضعة للرومان، ومنذ ذلك الوقت إلى العصر الحاضر لم يكن لليهود ملك خاص، وكان ذلك إتماماً لنبوة يعقوب بزوال قضيب الملك من يهوذا وأن اليهود أنفسهم أول المعترفين بذلك، لأنهم كانوا يصرخون عند صليب المسيح قائلين: "لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلا قَيْصَرُ" (يوحنا ١٩:‏١٥) وهذا دليل صريح على إتيان المسيح في ذلك الزمن.

ثم أن المكان الذي كان ينبغي أن يولد فيه المسيح سبق الإنباء به على  لسان  النبي  ميخا (ميخا ٥:‏٢). وتشير هذه النبوة إلى سمو مقام المسيح عن بني البشر، إذ قيل عنه "ومَخَارِجُهُ مُنْذُ القَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" وقد ولد المسيح حيث أنبأ هذا النبي (متى ٢:‏١ و٥ و٦). وأما أنه يولد من عذارء فقد دلّ عليه (تكوين ٣:‏١٥) زاده دلالة (أشعياء ٧:‏١٤) وتم بالفعل كما في متى ١:‏١٨-٢٥ ولو ١:‏٢٦-٣٨ وصادق عليه القرآن كما في سورة الأنبياء آية ٩١ وسورة التحريم ١٢. ومن جهة تعليمه واتضاعه وآلامه وموته وأيضاً الكفارة التي كان قاصداً أن يقدمها لفداء بني البشر كل ذلك سبق التخبير به قبل زمنه على ألسنة الأنبياء. ونخص بالذكر منهم أشعياء النبي كما نرى في أش ٤٢:‏١-٩ و٦١:‏١-٣ (قارن ذلك مع لوقا ٤:‏١٧-٢١ وأشعياء ٥٢:‏١٣-١٥ و٣٥ ومزمور ٢٢). وكذلك الوقت الذي كان مزمعاً أن يموت فيه تنبأ عند دانيال النبي وبيَّنه بوضوح في دانيال ٩:‏٢٤-٢٦. فإنه بحسب من وقت خروج أمر أرتحشستا ملك الفرس بتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً، وصدر ذلك الأمر في السنة السابعة من حكم أرتحشستا (عزرا ٧:‏١-٧) أي سنة ٤٥٨ ق، م، فإن حسبنا تلك الأسابيع والأيام والسنين، وأضفنا إليها الأسبوع الأخير الذي قيل إن المسيح يُقطع فيه، وجدنا إتماماً لنبوة دانيال تلك المدة ٤٩٠ سنة وهي توافق سنة ٣٢ م.

وقد مات المسيح في حوالي ذلك الوقت، وعلى الأرجح سنة ٢٩ أو ٣٠ م والخراب المنذر به أن يلحق مدينة أورشليم وهيكلها (دانيال ٩:‏٢٥ و٢٦ و٢٧) وقع عليها بعد موت المسيح بنحو أربعين سنة أي سنة ٧٠ م حيث هدمها تيطس القائد الروماني كما هو مدَّون في تاريخ يوسيفوس وغيره  من  المؤرخين  الذين  أصبحت  أخبارهم  مصدِّقة  لما  أُنبأ  به  المسيح (متى ٢٤:‏٢١-٢٨ ومرقس ١٣:‏١-٢٣ ولوقا ٢١:‏٥-٢٤) والضيقة التي كابدها اليهود في تلك الأيام (مرقس ١٣:‏٢٤) لا زالوا يكابدونها اليوم، فإنهم متفرقون على وجه الأرض يذوقون أصناف العذاب والمسلمون أنفسهم يشهدون ما يحلّ بهم من النكبات ليس في بلادهم فقط بل وفي غيرها ولم تتم  بعد أزمنة الأمم منذ استيلائهم على أورشليم إلى الآن (لوقا ٢١:‏٢٤) إذ هم يمتلكون إلى الآن أورشليم.

وفي أسفار الأنبياء شيء كثير من النبوات عن هذه الأمور مثل قيامة المسيح، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله، ومن أمثلة ذلك ما ورد في (مزمور ١٦:‏١٠) بالمقارنة مع ما ورد  في  أعمال الرسل ٢:‏٢٢-٣٦  ومزمور ١١٠:‏١  ودانيال ٧:‏١٣ و١٤، وتنبأ دانيال أيضاً بأن مملكة المسيح ستتأسس في أيام سيادة المملكة الرابعة أي المملكة الرومانية (دانيال ٧:‏٢٣) كما زالت المملكة الرومانية وتمت فيها نبوة دانيال (انظر دانيال ٢:‏٣٤ و٣٥ و٤٤ و٤٥ و٧:‏٧ و٩ و١٣ و١٤ و٢٣ و٢٧). أما الممالك الأربع المشار إليها فهي مملكة بابل والفرس واليونان والرومان (دانيال ٢:‏٣٧-٤٥ و٨:‏٢٠ و٢١).

ولما بلغ المسيح ثلاثين سنة من عمره (لوقا ٣:‏٢٣) أخذ يكرز بالبشارة كما هو مذكور في الإنجيل، وجال يصنع خيراً، فعمل معجزات باهرة: شفى مرضى وأخرج شياطين ووهب البصر للعميان والسمع للصم، طهر البرص وجعل العرج يمشون. وجاء ذلك موافقاً لما تنبأت به عنه أنبياء العهد القديم (أشعياء ٣٢:‏١-٥ و٣٥:‏٣-٦ و٤٢:‏١-٧ و٦١:‏١ و٢ بالمقارنة مع بشارة متى ١١:‏٤ و٥ و١٢:‏١٧-٢١ و٢١:‏١٤)، (انظر سورة آل عمران ٣:‏٤٣). ومع أنه كان له هذا السلطان العظيم الذي به فعل المعجزات الباهرة لم يعمل معجزة واحدة لفائدته الشخصية، ولا انتقم من أعدائه بل عأش فقيراً متواضعاً (بشارة متى ٨:‏٢٠) ولم يسع في طلب المجد والشرف الزائل. ولما أراد الشعب أن يُتوِّجوه ملكاً عليهم (يوحنا ٦:‏١٥) لم يقبل منهم ذلك. وبالجملة كانت أعماله بلا لوم وبدت حياته المقدسة تظهر لكل ذي عينين، إلى أن قال مرة لمقاوميه: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟" (يوحنا ٨:‏٤٦) وكل ما قاله عنه الأنبياء القدماء من حيث مجيئه الأول وحياته قد تمَّ.

واختار المسيح من بين اليهود اثني عشر رسولاً هم الذين دربهم وعلّمهم الحق وأوصاهم أن يعلّموا الآخرين. والأساس الذي بني عليه تعليمه هو أنه ابن الله، وقال ما معناه إن تلك البنوة هي بمثابة الصخرة التي سيبني عليها كنيسته (متى ١٦:‏١٣-١٨). ولما عرف الرسل أنه ابن الله وأنه المسيح المنتظر أخذ يعلّمهم درساً آخر عظيم الأهمية، أنه ينبغي له أن يُصلب ويقوم من بين الأموات لخلاص البشر (متى ١٦:‏٢١ ومرقس ٨:‏٣١ ولوقا ٩:‏٢٢). وكلّما دنت ساعة آلامه زادهم إيضاحاً بإنبائهم عن موته والكيفية التي يموت بها (لوقا ١٨:‏٣١-٣٤). وقال لهم مرة إنه سيحتمل تلك الآلام ليس مرغماً بل بإرادته حباً في بني البشر حتى يمنحهم حياة أبدية (يوحنا ٦:‏٥١ و١٠:‏١١-١٨) إن قبلوا هبة الله (رومية ٦:‏٢٣). أي أن المسيح من أجل محبته الفائقة لبني آدم ورغبته في خلاصهم من خطاياهم سمح لليهود أن يقبضوا عليه ويسخروا به ويلكموه ويسلّموه ليد الحاكم الروماني بيلاطس والي اليهودية للجَلْد والصَّلْب (بشارة متى ٢٦:‏٤٧-٢٧:‏٥٦ ومرقس ١٤:‏٤٣-١٥:‏١-٤١ ولوقا ٢٢:‏٤٧، ٢٣:‏٤٩ ويوحنا ١٨:‏ ١-١٩:‏٣٧). ويوافق ذلك ما تنبأ به داود في مزمور ٢٢ وأشعياء ٥٢:‏١٣-٥٣:‏١٢ منذ مئات السنين.

وحكم بيلاطس على المسيح بالموت كمجرم مع أنه شهد له أنه بار (متى ٢٧:‏٢٤) وجرت العادة عند اليهود في ذلك الزمان أن يطرحوا جثث القتلى المجرمين في موضع يُدعى وادي ابن هنوم خارج أسوار أورشليم للحريق أو طعاماً للوحوش، إلا أنهم لما صلبوا المسيح أخذ جسده تلميذ مُتخفٍّ يُدعى يوسف من الرامة، رجل غني بموجب إذن من الوالي، ودفنه في قبره الجديد الذي كان أعدَّه لنفسه (متى ٢٧:‏٥٧-٦١ ومرقس ١٥:‏٤٢-٤٧ ولوقا ٢٣:‏ ٥٠ - ٥٦ ويوحنا ١٩:‏٣٧-٤٢) وكان ذلك على وفق نبوة أشعياء (أشعياء ٥٣:‏٩) حيث يصرح بأنه وإن يكن اليهود قصدوا أن يدفنوه مع الأشرار لأنهم أحصوه من جملتهم، غير أنه عند موته دفنه ذلك الرجل الغني في قبر على حدته، وعلى ذلك قوله "وَجُعِلَ مَعَ الأشرَارِ قَبْرُهُ،  وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (أشعياء ٥٣:‏٩).

وتنبأ المسيح عن نفسه أنه يقوم من الموت في اليوم الثالث (متى ١٦:‏٢١ و١٧:‏٢٣ و٢٠:‏١٩ ولوقا ٩:‏٢٢ و١٨:‏٣٣ و٢٤:‏ ٧ و ٤٦ ) وقد  كان  كما  قال (متى ٢٨:‏١-١٠ ومرقس ١٦:‏١-٨ ولوقا ٢٤:‏١-٤٣ ويوحنا ٢٠ وكورنثوس الأولى ١٥:‏٤) وهذا يوافق نبوة داود في مزمور ١٦:‏٩ و١٠، وظهر بعد قيامته مراراً كثيرة لتلاميذه مدة أربعين يوماً (أعمال الرسل ١:‏٣) وعلّمهم أن جميع ما حدث له لم يحدث صدفة بل حسب مقاصد الله الأزلية التي أعلنها لأنبيائه القديسين منذ الدهر، وعلَّمهم ما الغرض من آلامه وموته وقيامته (لوقا ٢٤:‏٢٧ و٤٤-٤٩) ثم فوض إليهم أن يتلمذوا له جميع الأمم (متى ٢٨:‏١٨-٢٠ وأعمال الرسل ١:‏٨).

وبعد هذا صعد إلى السماء بمرأى منهم لوقا ٢٤:‏٥٠ و٥١ وأعمال الرسل ١:‏٩ متقلداً الملك إلى ما لا نهاية كما أنبأ دانيال (٧:‏١٣ و١٤ و٢٧) وليملأ الأرض من  معرفة  الرب  كما  كتب  أشعياء (١١:‏١-٩) وقد ترك لهم وعداً برجوعه منتصراً (انظر متى ٢٤:‏٣٠ و٣١ و٢٥:‏١٣- ٤٦ ومرقس ١٣:‏٢٦ ولوقا ٢١:‏٢٧ ويوحنا ١٤:‏١-٣ وأعمال الرسل ١:‏٢ و١١ ورؤيا يوحنا ١:‏٧ و٢٠:‏١١-٢١:‏٨).

وحيث أنه قد تم في شخص المسيح جميع ما أنبأت به الأنبياء من قديم الزمان من جهة مجيئه الأول وعمله وموته كفارة عن خطايا العالم إلى غير ذلك، فيكون بالحقيقة مخلص العالم الذي علَّق عليه إبراهيم رجاءه (يوحنا ٨:‏٥٦) وشهد له جميع الأنبياء، وإتمام هذه النبوات برهان قاطع على أن أسفار العهد القديم موحى بها من الله. لأنه من ذا الذي يعلم بالحوادث قبل وقوعها بمئات السنين إلا علام الغيوب؟ ولا تدع الشك يخالج صدرك وتقول ربما وفَّقت النصارى بين نبوات التوراة وأخبار إتمامها في الإنجيل، فهذا مستحيل لأن أسفار التوراة محفوظة بأيدي اليهود وبلغتهم إلى اليوم كما هي عند النصارى، واعلم أن اليهود، ولو أنهم رفضوا المسيح، لم يتجاسروا أن يمسّوا جملة أو كلمة واحدة من تلك النبوات العديدة المشيرة إليه التي تدينهم في اليوم الأخير على قساوتهم وعدم إيمانهم.

ومما تقدم علمنا أن طبيعة المسيح وعظمته ظاهرة بوضوح حتى في أسفار العهد القديم (انظر مزمور ٢:‏٧ ومزمور ٤٥:‏٦ ومزمور ٧٢ ومزمور ١١٠:‏١ وأشعياء ٦:‏١-١٠ مع يوحنا ١٢:‏٤٠ و٤١ وأشعياء ٩:‏٦ و٧ والإصحاح ٢٥:‏٧-٩ والإصحاح ٤٠:‏١٠ و١١ وإرميا ٣٣:‏١٦ وميخا ٥:‏٢ وملاخي ٣:‏١ والإصحاح ٤:‏٢ .. الخ). وبناء على ما جاء في سفر ميخا وهو قوله "مَخَارِجُهُ مُنْذُ القَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (ميخا ٥:‏٢) يكون حقاً ما قاله المسيح عن نفسه  "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يوحنا    ٨:‏٥٨) ولاحظ هنا أنه أسند إلى نفسه هذه الصفة كائن وهي  من  أخص  وأشهر  أسماء  الله  (خروج ٣:‏١٤) ومن هنا نعلم أنه هو بنفسه الذي دعا إبراهيم من بابل وأنزل التوراة على موسى وبعث الأنبياء والرسل. وعليه فلا تحسب أن الإنجيل يرفع مقام المسيح أكثر مما ترفعه التوراة، بل كلا العهدين يتفقان على عظمة ذاته وسمو صفاته. راجع هذه  الشواهد  (متى ٣:‏١٦ و١٧ و١٦:‏١٥-١٧ و١٧:‏١-٨ و٢٦:‏٦٣ و٦٤ و٢٨:‏١٨ ولوقا ١:‏٣٢ و٣٥ ويوحنا ١:‏١-٣ و٩-١٨ و٥:‏١٧-٢٩ و٨:‏٢٣-٢٩ و٤٢ و٥٦-٥٨ و٩:‏٣٥-٣٧ و١٠:‏٢٧-٣٨ و١٤:‏٩-١١ و١٦:‏١٢-١٥ و٢٨ و١٧:‏٥ و٢١ وكولوسي ١:‏١٢-٢٣ وفيلبي ٢:‏٥-١١ وعبرانيين ١ ورؤيا يوحنا ١:‏٥-١٨ و٢١:‏٦-٨ و٢٢:‏١٣ و١٦).

فإذا رفض إخواننا المسلمون دعوتنا إياهم أن يقبلوا المسيح مخلّصاً لهم (يوحنا ٥:‏٤٠) يكون من الأسباب الداعية لهم إلى الرفض عدم تصديقهم ذات كلامه الذي قاله عن نفسه، والذي قاله عنه الأنبياء السالفون.

ثم يجب أن لا ننسى أنه من المحال أن يخلّص المسيح العالم من الخطية ومن بغضهم لله لو كان مجرد خليقة من مخلوقات الله، ولو كان رئيس الملائكة، لأن الخلاص يتوقف على الثقة الكاملة فيه، وقد استحق هو هذه الثقة بما أعلنه عن حقيقة شخصه وبشهادة أسفار العهد القديم والجديد له.

فليس الاعتقاد بلاهوت المسيح إذاً فساداً لحق النصرانية، بل هو جوهر الدين الحق، لأنه لو فرضنا أن المسيح بسموه كان مخلوقاً لا يمكن أن يتخذ صلاحه وآلامه من أجلنا دليلاً على محبة الله لنا، بل بعكس ذلك تخالجنا الشكوك في محبة الله العظيم ونعمته لأنه أسلم أفضل مخلوقاته وأكرمها ليقاسي آلاماً وأحزاناً مثل هذه. ولكن إن قبلنا تعليم الكتاب المقدس واعترفنا "أن اللّه كَانَ فِي المَسِيحِ مُصَالِحاً العَالَمَ لِنَفْسِهِ" (كورنثوس الثانية ٥:‏١٩) واقتنعنا أنه هو والله واحد (يوحنا ١٠:‏٣٠)، حينئذ يتيسر لنا أن نفهم إلى حد ما حقيقة تعليم الثالوث ومحبة الله العظيم لنا واعتنائه بنا ١. فحينئذ نرى أن البشارة وجوهر الكتاب المقدس كله متضمن في هذه الآية "لأنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ"(يوحنا ٣:‏ ١٦ ) التي تحتج إلى قلوبنا وضمائرنا احتجاجاً لا يُقاوم، فتجذبنا إلى محبته وتخصيص ذواتنا لخدمته لأنه أحبنا أولاً (يوحنا الأولى ٤:‏٩).

غير أن تسمية المسيح في هاتين الآيتين بابن الله كان حجر عثرة في طريق كثير من المسلمين، فانصرفت قلوبهم عن النظر إلى محبة الله المعلنة فيهما، لأنهم ظنوا أن هذه التسمية مخالفة على خط مستقيم لما ورد عندهم في القرآن في سورة الإخلاص. والحقيقة هي أنهم أساءوا فهم ما عناه الإنجيل بهذه التسمية، فإننا نحن المسيحيين ننكر بملء أفواهنا أن الله اتخذ ولداً بالمعنى الذي أنكره القرآن، فهو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ومَن من النصارى يتجاسر أن يجدف على الله بهذا المقدار حتى ينسب إليه تعالى التناسل الحيواني كما زعم الوثنيون والجُهال من العرب الذي جعلوا لله بنات، تعالى الله عن زعمهم! ومع ذلك قد تسمى المسيح في الإنجيل ابن الله لا ولده، والفرق بين الابن والولد ظاهر، لأن كلمة ابن كثيراً ما تُستعار لمعنى مجازي، وأما كلمة ولد فلم تُستعمل إلا بحسب وضعها.

وقد أنكر الكتبة المسيحيون الذين كانوا قبل الهجرة بمئات السنين كل الإنكار قول الوثنيين المذكور، وبيَّنوا المعنى الحقيقي المتضمن في كون المسيح ابن الله. فإن كاتباً من أوائل القرن الرابع (أي قبل الهجرة بأكثر من ثلاثمائة سنة) اسمه لاكتنتوس قال: إن سمع أحد تعبير "ابن الله" فلا يخطر على باله هذا التصوّر المتناهي في الفظاعة، أي أن الله أنتج ولداً بزواجه واتحاده بأنثى، فإن فعلاً كهذا لا ينطبق إلا على ذوي الأجساد الحيوانية، ولكن الله روح غير محدود، وهو واحد، فبمن يتحد؟ فهذه البنوة خاصة لا عامة أزلية، لا حادثة تدل على وحدة الجوهر بين الآب والابن.

على أن المسيح لم يتسمَّ بابن الله فقط، بل تسمى بكلمة الله أيضاً كما في يوحنا ١:‏١ و١٤ ورؤيا يوحنا ١٩:‏١٣ (قارن لقب كلمة الحياة، يوحنا الأولى ١:‏١)، والاسمان كلاهما يؤديان ذات المعنى، إلا أن الاسم الأول استعمل أكثر لسببين (١) لإفادة البسطاء، وهم الأكثر الذين لا يقدرون أن يفهموا الاسم الثاني كلمة الحياة. (٢) لتنبيه إفهامنا إلى شخصية أو أقنوم ذلك الكائن المسمى بابن الله، وإلى المحبة العظيمة بين أقانيم اللاهوت (قارن يوحنا ١٥:‏٩ و١٠ مع ١٧:‏٢٣ و٢٦).

ومع ذلك كله فإنه لا الاسم الأول ولا الثاني كافٍ لإيقافنا على كنه مُسمَّاها باللغة كلها عاجزة عن التعبير عن ذات ذلك الكائن العجيب. إلا أننا لسنا مخطئين إذا استعملنا للدلالة عليه هذين الاسمين اللذين دوَّنهما الكتبة الأطهار بإلهام روح الله القدوس، لأن العلاقة بين أقنوم وآخر من اللاهوت فوق عقولنا، كما أن البحر العظيم لا يمكن أن ينحصر في إناء، ولكن قليل من مائه يطلعنا على طبيعته. ومثل ذلك تسمية المسيح "بابن الله" و "كلمة الله" نستدل منها على طبيعته الإلهية ووحدانيته مع الآب (يوحنا ١٠:‏٣٠).

وعليه فبالإيمان فقط بما قاله المسيح في هذا الصدد نقدر أن نفهم تعليم الكفارة وطريق الخلاص بالمسيح الذي قال "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلا بِي" (يوحنا ١٤:‏٦ بالمقارنة مع أعمال الرسل ٤:‏١٢).

ثم أن العهدين القديم والجديد لا يتفقان كلاهما على وصف المسيح بالأوصاف الإلهية فقط،، بل يتجاوزان ذلك الحد حتى أنهما يدلان على لاهوته بالقول الجلي الصريح فيسميانه الله ومن أمثلة ذلك ما ورد في (مزمور ٤٥:‏٦ و٧ وأشعياء ٩:‏٦ ويوحنا ٢٠:‏٢٨ و٢٩ ورومية ٩:‏٥ وعبرانيين ١:‏٨ ويوحنا الأولى ٥:‏٢٠).

من يقارن في هذه الآيات وأمثالها باهتمام مشفوع بالصلاة يدرك أن تلك الألقاب الرفيعة العظيمة نسبت إلى المسيح لا عن سبيل المبالغة ولا المجاملة، بل لإظهار حقيقة جوهرية ينبغي لبني البشر معرفتها، ولا يُخفى على المسلم المطلع أن القرآن أيضاً قد يتفق مع التوراة والإنجيل في تسمية المسيح "كلمة الله." سنستفيض في شرح الثالوث الأقدس في الفصل التالي.

وهنا نرجو القارئ الكريم أن يطرح التعصب الذي يُعمي عن معرفة الحق فلماذا لا يصدق المسلم شهادة التوراة والإنجيل والقرآن وكلها تتفق على نقط هامة، ومن بينها موضوعنا أن المسيح "كلمة الله" وأن الله واحد؟

إن "كلمة الله" اسم لمسمى أو علم لأقنوم إلهي كان من البدء أي من الأزل عند الله، وبه خُلق كل شيء (يوحنا ١:‏١-٣) وقد صار إنساناً وظهر بين الناس كواحد منهم (يوحنا ١:‏١٤ وفيلبي ٢:‏٥-١١)  وكان يأكل ويشرب وينام ويستيقظ، وشاطر الناس في أحزانهم وأفراحهم واختبر تجاربهم، لكنه لم يخطئ بل لم يعرف خطية (عبرانيين ٤:‏١٥ قارن مع ٧:‏٢٦ وبطرس الأولى ٢:‏٢١-٢٥). فهو إنسان تام ذو جسد ونفس وروح، وذلك بإجماع البشائر الأربع، وبشهادته هو عن نفسه مراراً كثيرة أنه "ابن الإنسان"، وهذا اللقب عدا دلالته على ناسوته يذكّرنا بالنبوات عنه في (تكوين ٣:‏١٥ ودانيال ٧:‏١٣) وفوق ذلك يذكّرنا أنه مخلّص البشر، والوسيط الوحيد بين الله والناس، والإنسان الكامل المعصوم من الخطية.

كإنسان صلى إلى الله أبيه وصام إلى غير ذلك، مما لا يدع مجالاً للريب في ناسوته، لكنه كما هو إنسان تام هو إله تام أيضاً، وأكد لاهوته إذ دعا الله أباه مخبراً بانقياده له كابن ينقاد لأبيه وأنه مرسل منه كابن مرسل من أبيه قال "لأنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا ٦:‏٣٨) وقال "الآبَ الذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ" (يوحنا ١٢:‏٤٩) وقال "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي" (يوحنا ١٤:‏٢٨) ومع ذلك دفع ما عساه يخطر على بال أحد من أن لله شركاء بأقوال قاطعة جازمة تفيد وحدانية الله (مرقس ١٢:‏٢٩ ويوحنا ١٧:‏٣) ووحدانيته هو مع الله (يوحنا ١٠:‏٣٠ و١٧:‏٢١).

هذا المدعو "كلمة الله" و "ابن الله" و "ابن الإنسان" و "الرب يسوع المسيح" قيل عنه في التوراة "لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللّهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣:‏٤ و٥) وإن كان بالطبيعة "كلمة الله" غير أنه لم يبال بسمو طبيعته الإلهية، فتخلّى عن مجده الأسنى الذي كان له عند أبيه قبل كون العالم (يوحنا ١٧:‏٥) "آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللّهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللّهِ الآبِ" (فيلبي ٢:‏٧-١١).

وإن سأل سائل: كيف يمكن أن تتحد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية؟ نقول: "كيف يمكن أن تتحد في الإنسان الروح بالجسد والباقي بالفاني. فمهما يريده الله كلي القدرة الخالق العظيم الضابط الكل يكون." ويعلمنا الإنجيل أن العلاقة بين ناسوت المسيح ولاهوته علاقة الاتحاد فقط بحيث لم تتحول الطبيعة الواحدة إلى الأخرى ولا امتزجت أو اختلطت بها. حقاً أن علاقة كهذه تفوق عقولنا المحدودة، ولا نعرفها إلا من وحي الله في كلامه المقدس. وكان هذا الاتحاد في ناسوت ولاهوت المسيح لإتمام مقاصد الله الأزلية بأن يغمر الإنسان بفيض نعمته منقذاً إياه من الهلاك والخطية وعبودية إبليس، ويصالحه مع الله، ويؤهله للتمتع بالسعادة الدائمة في حضرته. وإذ فدانا يسوع بدمه من كل أمة وقبيلة وشعب ولسان (رؤيا يوحنا ٥:‏٩) صارت لنا حياته المُضحية التي عاشها على الأرض مثال الكمال والطهارة والقداسة كي نقتدي به ونتبع آثار خطواته (يوحنا ١٣:‏١٥ وبطرس الأولى ٢:‏٢١).

وقد يعترض بعضهم بقوله: ألم يكن مستطاعاً لله أن يخلّص الإنسان من عذاب جهنم بإجراء سلطانه المطلق وإعلان رحمته لمن يرحمهم بدون طريق الخلاص المعلنة في الإنجيل؟ أليس هو الذي يقول لما يشاء كن فيكون؟ للإجابة عن ذلك نقول: إن هذا السؤال ناتج عن سوء فهم حالة الطبيعة البشرية وأعوازها الروحية، ومن عدم معرفة قداسة الله.

إن الخطية فضلاً عن كونها مضادة ومكروهة لطبيعة الله، تتلف طبيعة الإنسان الأصلية الروحية التي كانت على صورة الله (تكوين ١:‏٢٦ و٢٧) والخطية تمنع بتاتاً إمكانية تمتع الإنسان بالسعادة الأبدية إلا إذا نجا منها. من السهل أن يذهب أهل النار إلى الجنة بأمر الله، ولكن كيف يطهر القلب والعقل والضمير من ذلك البرص الخبيث الذي يزداد سريانه يوما بعد يوم؟ حقاً أن الخطية أشر من البرص، لأنها برص الروح، الموت ينقذ الإنسان من برص الجسد، لكنه لا ينقذه من برص الروح، فمن أين تكون سعادة في الدار الأخرى لمن روحه برصاء؟ إن تشوُّه صورته وفساد هيئته يثير فيه عوامل الحزن والحسد حتى يبغض نفسه ويبغضه الآخرون، وبالأحرى جداً يبغضه الله كلي القداسة الذي يكره ويمقت الخطية.

كانت شريعة موسى تمنع الأبرص بجسده أن يدخل محلة إسرائيل (لاويين ١٣:‏٤٥ و٤٦) أو يعاشر رفقاءه، فكم بالأَولى ممنوع من هو أبرص الروح والقلب أن يدخل فردوس النعيم ويتمتع بلقاء الله القدوس رب الأرباب؟ قال الكتاب "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلا مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً، إِلا المَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ" (رؤيا يوحنا ٢١:‏٢٧) وحتى برص الجسد يعجز المريض به أن يشفي نفسه منه، ويعجز الأطباء أيضاً عن ذلك، أما المسيح فشفى كثيرين من المرضى به، وهو قادر أن يطهر برص الروح أيضاً، إلا أنه ما طهر قط أبرص بالرغم عن إرادته، وكذلك لا يطهر أبرص الخطية بالقوة أو رغماً عن إرادته. إن الرجل الذي لم يشبع من الانغماس في حمأة الفجور في هذه الحياة قد فسدت روحه وأظلم ذهنه، حتى لقد يصبح منتهى السعادة في اعتباره أن تكون الأبدية أوقيانوس فجور يسبح فيه إلى ما لا نهاية. مثل هذا الإنسان مضروب بالبرص الروحي، ويسوع المسيح وحده هو القادر أن يطهر هذا البرص، لكنه لا يفعله بغير إرادة المريض، ولا يُشفى منه إلا إذا تاب توبة صادقة وآمن بالمسيح إيماناً صحيحاً، وصرخ مع داود "قَلْباً نَقِيّاً ا خْلُقْ فِيَّ يَا اَللّهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي" (مزمور ٥١:‏١٠).

إن تطهير البرص الروحي عبارة عن تجديد القلب والروح من محبة الخطية وإعادتها إلى جمال القداسة التي أتلفتها الخطية، وكيف يكون ذلك؟ يتمم الله دائماً عمله بوسائط، وقد أخبرنا الكتاب المقدس عن الواسطة التي اختارها الله لإتمام غرضه بأن شاء أن يعلن ذاته في شخص يسوع المسيح كلمة الله ويظهر محبته للناس بأن يحمل آلامهم ويشاركهم في أحزانهم بواسطة طبيعة المسيح البشرية التي مات بها على الصليب للتكفير عن خطاياهم، حتى يجتذب قلوبهم إليه ويسبيهم بمحبته الفائقة كي يكرهوا الخطية ويثيروا عليها حرباً عوانا حتى يتم لهم النصر الباهر. هذا ما يدعوه الكتاب بالطبيعة الجديدة التي تتولد في كل مؤمن حقيقي بيسوع، هذا هو القلب النقي والروح المستقيم الذي لجَّ داود في طلبه كما ذكرنا، وعلى هذا المنهج يخلق الله الخاطئ من جديد، وعلى ذلك قوله "إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي المَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ" (كورنثوس الثانية ٥:‏١٧).

لا نقدر نقول أن لا طريقة عند الله غير هذه لخلاص البشر من الخطية، إلا أ نه من المؤكد الذي لا شك فيه أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي شاء الله أن يستعملها، وشاء أن يعلنها في كتابه المقدس (متى ١:‏٢١ ويوحنا ١٤:‏٦) ولا يمكن وجود طريقة تجمع بين عدله ورحمته إلا هذه.

وبما أن البعض لم يفهموا تعليم الكفارة (رومية ٥:‏١١) فيحسن أن نشرحه بإيضاح. الكفارة هي المصالحة بين الله والإنسان، من المعلوم أنه قد سقط الإنسان من الحالة التي خلقه الله عليها، وإنه بإجرامه في خطية آدم أولاً، وبخطيته الفعلية ثانياً فقد الحياة الأبدية ونُفي من جنة عدن (تكوين ٣:‏٣) والحياة الأبدية متضمنة في معرفة الله بواسطة المسيح (يوحنا ١٧:‏٢) فلأجل إعادة تلك الحياة للذين فقدوها عليهم أن يقبلوها من الله واهب الحياة بيسوع. فإنّ "فِيه كَانَتِ الحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ"  (يوحنا ١:‏٤ و٥:‏٢٦ وكولوسي ٣:‏٤ ويوحنا الأولى ٥:‏١٢)  وتعطى الحياة  بالمسيح  وحده  لا  سواه  (أعمال ٤:‏١٢) وكيفية ذلك كما نعلم من الإنجيل أنه يتحد بالمؤمنين وهم يتحدون به بالإيمان كما تتحد أغصان الشجرة بأصلها والأصل بالأغصان (يوحنا ١٥:‏١-٦). وعلى هذا المنوال تجري فيهم طبيعته القدوسة وسجاياه الكاملة، وشُبَّه ذلك الاتحاد بالاشتراك في جسده ودمه (يوحنا ٦:‏٤٠ و٤٧ و٤٨ و٥١-٥٨ و٦٣)، وكأنه إذ تسربل طبيعة البشر كإنسان صار رأساً جديداً للجنس البشري. أو بعبارة الكتاب آدم الثاني وروحاً محيياً ونائباً عن البشر (يوحنا ١:‏١٤ وكورنثوس الأولى ١٥:‏٢٢ و٤٥)، فالذين يتحدون به بالإيمان (غلاطية ٢:‏٢٠) يأخذون سلطاناً أن يصيروا أولاد لله (يوحنا ١:‏١٢ ويوحنا الأولى ١-٣ و٤:‏٩) بفاعلية الميلاد الثاني الصادر من السماء بروح الله القدوس (يوحنا ٣:‏٣ و٥)  فنموت مع المسيح عن الخطية ونحيا  به  من  جديد  للبر (رومية ٦:‏١-١١).

ولكي يخلص الإنسان من الموت الأبدي الذي تسبَّب عن الخطية كنتيجة طبيعية وعقوبة شرعية (تكوين ٣:‏٣ وحزقيال ١٨:‏٢٠ ورومية ٦:‏٢٣) يجب أنه كما عصى وصية الله عن اختيار (تكوين ٣) يطيعها تماماً باختياره أيضاً، وإذ صار ذلك المسمى كلمة الله إنساناً كاملاً فقد تمم الوصية، لأنه أطاع حتى الموت موت الصليب (فيلبي ٢:‏٧ و٨ قارن رومية ٥:‏١٩) وبموته الثمين عنا وهو لم يعمل خطية قط قدم حياته فدية عن كثيرين (أشعياء ٥٣:‏٥ و٦ متى ٢٠:‏٢٨ ورومية ٣:‏١٥ و٤:‏١٥ و٥:‏٨-١١ وبطرس الأولى ٢:‏٢٤) فيصحُّ أن يُقال إن المسيح حمل قصاص خطايانا (أشعياء ٥٣:‏٨) ولكنه لم يكن مذنباً، لأننا نعلم أنه ليس فيه خطية البتة (يوحنا الأولى ٣:‏٥) بل يصح أن يُقال أيضاً أن كل ما احتمله من الآلام كان بسبب خطايانا. وبواسطة آلامه كل الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً يخلصون من الخطية ومن نتيجتها النهائية المزعجة التي هي البعد عن حضرة الله أو الموت الأبدي. فإذا كان المسيح مجرد إنسان كانت طاعته حتى الموت غير كافية لتخليص أحد غير نفسه، وما استطاع أن يمنح حياة روحية للغير.

وأما إذا كان إلهاً كما هو إنسان فيقدر أن يخلّص ويمنح حياة أبدية لجميع الذين يؤمنون به (يوحنا ٥:‏٢٦). إن الله لا يموت ويستحيل أن يموت، ولكن "كلمة الله" إذ صار إنساناً جاز بحسب طبيعته البشرية أن يذوق الموت من  أجل  كل  واحد (عبرانيين ٢: ٩) وقد مات من أجلنا (رومية ٤:‏٢٥ و٦:‏١٠) وقام ثانياً منتصراً على  الموت  وكاسراً  شوكته (تيموثاوس الثانية ١:‏١٠) بل واهباً الحياة لكل من يتحد به بالإيمان (يوحنا ٣:‏١٦ و١١:‏٢٥ و٢٦).

وقد قلنا إن الله يكره الخطية حتماً لأنه قدوس بالطبيعة، لا سبيل لنا أن نغلب الخطية المكروهة منه إلا بإعلان محبته في المسيح الذي نحبه لأنه أحبنا أولاً (يوحنا ٣:‏١٦ ويوحنا الأولى ٤:‏ ١٩ ) وبهذه المحبة الحاضرة نستطيع أن نحبه ونعيش طبقاً لإرادته بمساعدة نعمة روحه القدوس، وهكذا نكون صالحين إلى حدٍّ ما في هذه الحياة، وصالحين تماماً بعد الموت (كورنثوس الثانية ٥:‏ ١٤ ).

فبموت المسيح على الصليب نحصل على فائدتين: الأولى، الخلاص من الموت الأبدي، والثانية، النعمة التي بها نكره الخطية وننتصر عليها (رومية ٦:‏٥ - ١١ وغلاطية ٢:‏٢٠ و٦:‏١٤ وكولوسي ٣:‏١-١٧ ويوحنا الأولى ١:‏٧)  لأنه قد افتدانا  من  عبودية الخطية (متى ٢٠:‏٢٨ وكورنثوس الأولى ١:‏٣٠ وأفسس ١:‏٧ وبطرس الأولى ١:‏١٨-٢١) وقدم الكفارة الوافية  الحقيقية عن الخطية (عبرانيين ٢:‏١٧ ويوحنا الأولى ٢:‏٢ و٤:‏١٠) وتلك الكفارة هي التي كانت ترمز إليها ذبائح وقرابين العهد القديم.

وإن ضميرنا الذي يبكتنا على خطايانا ويهددنا من حين إلى آخر بغضب الله هو دليل قاطع على عظم حاجتنا إلى المصالحة مع الله، وإذ كنا في حد ذواتنا عاجزين عن تقديم الكفارة المرضية الكاملة قد كفانا الله مؤونة ذلك وقدَّمها على حسابنا في شخص يسوع المسيح الذي هو إنسان كامل كما هو إله كامل. ونعلم من موت المسيح مقدار فظاعة الخطية وسوء عاقبتها، لأنها أدت إلى أعظم جرم تقشعر له الأبدان، إلى قتل ابن الله الوحيد، وأن محبة الذات والإرادة كانت المحرك لآدم إلى المعصية التي أنتجت هذا الجرم العظيم، فيلزم تضحية الذات التي هي أصل الخطية، وهذا ما فعله يسوع بموته على الصليب لأنه ضحى بذاته وضحى بمشيئته لحياة العالم، ولا يتمّ استحقاق موته الموجب للتكفير عن خطايانا بآلامه بالجسد، وإن كان بالغاً الحد، بل على ذبيحة محبته غير المحدودة، تلك المحبة التي جعلت القدوس يموت بمحض اختياره عن الأثيم الفاجر (يوحنا ١٠:‏١٧ و١٨) فهو نائبنا الذي وفى عنا مطالب العدل الإلهي القاضي علينا بحكم الموت (حزقيال ١٨:‏٢٠).

فماهية ذبيحة المسيح هي في تسليمه نفسه بإرادته الحرة وتقديمه نفسه في طاعة كاملة حتى الموت أكثر منها في حقيقة الموت ذاته.

وبالجملة تألم المسيح إلى الحد الذي في وسعه أن يحتمله في ناسوته المتحد باللاهوت، فلم يتألم في جسده فقط بل في ذهنه وروحه، لأن حزنه على خطايا الناس كسر قلبه المحب (يوحنا ١٩:‏٣٤). وإذ كان واحداً مع أبيه، فقداسته ومحبته للناس قادتاه أن يشعر بفظاعة خطايانا، إذ شاركنا في البشرية وأحسَّ بهول اللعنة التي ينبغي أن تصدر من الله القدوس ضد الخطية، ولهذا ذاق الموت من أجل كل واحد (عبرانيين ٢:‏٩) بطريقة خاصة لا يمكن أن يعلمها إلا من كان قدوساً (مزمور ٢٢:‏١ ومتى ٢٧:‏٤٦  ومرقس ١٥:‏٣٤) وبهذه الكيفية أظهر الله محبته وعدله ورحمته مرة واحدة.

الذي مات على الصليب بناسوته كان إلهاً تاماً كما كان إنساناً تاماً، وبما أنه حمل خطايانا ومات عنا نحن الأثمة فالذين يتحدون معه بالإيمان كاتحاد الأغصان بالكرمة (يوحنا ١٥:‏٤ و٥) ينالون غفران  خطاياهم  ويُعتَقون  من  خوف  الموت (عبرانيين ٢:‏١٤ و١٥) لأن شوكة الموت هي الخطية (كورنثوس الأولى ١٥:‏٥٦) التي تلقي في قلوب غير المغفور لهم الرعب العظيم من غضب الله المخيف، وأما كون ذبيحة المسيح حازت القبول عند الله فيدل عليه قيامته من الأموات وصعوده للسموات (رومية ١:‏٤ ولوقا ٢٢:‏٥١) ليظهر أمامه لأجلنا نيابة عنا (عبرانيين ٩:‏٢٤) وعودته إلى المجد الذي كان له عند أبيه قبل كون العالم (يوحنا ١٧:‏٥).

ولنشرح الآن بعض البركات الناتجة عن الكفارة التي قدمها يسوع أولاً: إن الله إكراماً له يغفر خطايا وتعديات المؤمنين به الحقيقيين (رومية ٥:‏٥-٢١ وأفسس ١:‏٣-٧ وعبرانيين ١٠:‏١-١٥ ويوحنا الأولى ١:‏٧)، ولأجل المسيح يمنحهم الله نعمته الخصوصية ونور هدايته السماوي حتى يدركوا حالتهم الداخلية ويعرفوا الإله الحق معرفة عميقة، ويملأ قلوبهم بمحبة من أحبهم أولاً، بحيث يقدرون أن يحفظوا وصاياه ويثبتوا في حالة نقاوة القلب ويعرفون الحق (يوحنا ٨:‏٣١ ورومية ٥:‏٥ و٨:‏٥ وكورنثوس الأولى ١:‏٤ و٥ وكورنثوس الثانية ٤:‏٦  وأفسس ١:‏١٥-٢٣  وفيلبي ٤:‏ ١٣  وكولوسي ٢:‏٣  وتيطس ٢:‏١١-١٤ وعبرانيين  ٩:‏١١-١٤). ومن فوائد الفداء أيضاً العتق من  عبودية  الشيطان  ومن  محبة  الخطية، والفوز  بميراث السعادة  الدائمة (رومية  ٨:‏١٢-١٧ وتيموثاوس الثانية ١:‏٩ و١٠ وعبرانيين ٢:‏١٤ و١٥ وبطرس الأولى ٢:‏٣-٩).

وحيث أن الخلاص مقدم في المسيح للخطاة فهو أمر ثمين وعظيم يطهر به الناس من نجاسات الخطية، حينئذ يفتح الله لهم خزائن بركاته وإحساناته فينير أذهانهم ويقدس قلوبهم، وفي الختام يأخذهم إلى فردوس نعيمه ليتمتعوا بالحياة الأبدية. لقد ظهر الآن كالشمس في رابعة النهار إن تعليم الإنجيل يشبع أشواق القلب ويغني طلبات النفس كما بينا في المقدمة، وعليه يكون الكتاب المقدس كلام الله الموحى به لسعادة البشر.

فإن سمع أحد بشارة الخلاص ورفضها يكون سبب رفضه عدم رغبته في التوبة عن الخطية، وعدم معرفته حالة قلبه الأثيمة في نظر الله. وإن كان أحد لا يكترث بالخطر الذي يسرع به للهلاك الأبدي فهيهات يسعى في معالجة برصه الروحي بالدواء الذي وضعه طبيبنا العظيم.

أما الإنسان الحريص المحاذر من حالة قلبه الأثيمة، فيعلم بُغض الله القدوس للخطية، ويشعر بهول الخطر الذي ينذره بالهلاك الأبدي بسبب خطاياه. وبما أنه غير قادر أن يكفر عنها بنفسه، يبادر أن يسمع بشارة الخلاص الذي اقتناه المسيح بدمه الكريم من أجله ومن أجل كل الذين يؤمنون به. إن خبراً كهذا يلذ سمعه في أذنيه أكثر من أية بشارة أخرى على وجه الأرض، لأنها بشارة الخلاص المجاني والدواء الذي يشفي القلوب المكسورة من ثقل حمل الخطايا، والمرهم الذي يعصب جرح النفس المزمنة. أما إذا أحب المرء الخطية وكان متفانياً في حب الشهوات الجسدية سيبغض النور المعلن في الإنجيل، كما يبغض الخفاش نور الشمس، ويهرب من أشعتها الجميلة اللامعة إلى مغائر الظلمة. مثل هذا جدير به أن يطرح في الظلمة الخارجية التي أحبها أكثر من النور (يوحنا ٣:‏١٩ - ٢١ ).

ويستحيل عليه أن يفهم كثيراً أو قليلاً من الأمور الروحية، حتى أنه يرى الإنجيل كأنه جهالة وحماقة كما رآه هكذا قدماء اليونان (كورنثوس الأولى ١:‏١٨-٢٥ و٢:‏١٤)، في حين أن الراغب في معرفة الحق وعمل إرادة الله، تقع في نفسه بشارة الخلاص وإعلان محبة الله موقع القبول والاستحسان، وتفيض كينبوع حي يروي قلبه الظمآن في سفره عبر صحراء الحياة الدنيا.

في الخلاص، أعلن الله محبة ورحمة مقترنة بعدل وقداسة بكل وضوح، أما محبته الفائقة فقد ظهرت ببذله ابنه الوحيد، بهاء مجده، ورسم جوهره لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (عبرانيين ١:‏٣ ويوحنا ٣:‏١٦) فهذا التعليم الذي لا يُقدَّر بثمن يكشف لنا الحجاب عن صفات الله الجليلة التي أعظمها المحبة، حتى إذا حملنا بتيار محبته نتجنب الخطية المكروهة لديه، لأنه قدوس، ونحفظ وصاياه سالكين في طريق الإيمان بالمسيح المؤدي للحياة الأبدية.

ومن يتأمل في أحوال الخليقة يظهر له ما يشبه طريق الخلاص، فإن الله خلق كثيراً من خلقه على تضحية الذات على مذبح المحبة الطبيعية، مما يصح أن يُتَّخذ مثالاً لآلام المسيح لأجلنا. فنرى الآب يخاطر بحياته ويعاني الشدائد ويذوق المرارة لأجل قوت أبنائه وكسوتهم، وترى الطبيب الأمين يعرض نفسه للخطر والموت لخلاص حياة العليل. حتى في الطيور نرى الدجاجة تحضن فراخها، وإن سطا عليها عدو تحاربه وتحمل الأذى عنها، والعصفور يقع في مواضع الخطر ليلتقط الحب لفراخه الصغار، ويقاسي العناء لدفع الشر عنها، فلماذا لا يكون معقولاً أن خالق المحبة الطبيعية هو محب أعظم من كل ذلك حيث  أعلن محبته على منهج الضحايا فبذل ابنه الوحيد الذي هو واحد معه ليموت على الصليب في سبيل خلاص الإنسان المسكين ولكن "مَنْ لا يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللّهَ، لأنَّ اللّهَ مَحَبَّةٌ" (يوحنا الأولى ٤:‏٨).

وعليه فالإيمان بالمسيح الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا هو الدواء الوحيد الذي وصفه الله العليم الحكيم لبرص الخطية، فكل من يثق في حكمة الله وعلمه فليستعمل هذا الدواء، وحينئذ يعلم بالاختبار إن كان المسيح مخلّصاً أم لا، لأن الشفاء من المرض دليل قاطع على حُسن الدواء وجودة تأثيره، ومتى برئ الخاطئ من مرضه وعلم بالتحقيق أن المسيح مخلّص، يشكر فضله ويعلم أن الكتاب المقدس حق.


١. انظر الفصل الآتي.