الفصل السادس

حياة المسيحي وسلوكه

White Rose

قيل في الإنجيل إن ناموسياً استعلم من الرب يسوع عن الوصية العظمى في  الناموس،فأجابه  "تُحِبُّ  الرَّبَّ  إِلهكَ" (تثنية  ٦:‏ ٥ ) "مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ،وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا تُحِبُّ قَرِيبَكَ" ( لاويين ١٩:‏١٨ ) "كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأنْبِيَاء" (متى ٢٢:‏٣٥-٤٠ ومرقس ١٢:‏٢٨-٣١). وقيل في أكثر من موضع ما يوافق ذلك: "لا تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأحَدٍ بِشَيْءٍ إِلا بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، لأنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ. لأنَّ لا تَزْنِ،لا تَقْتُلْ،لا تَسْرِقْ،لا تَشْهَدْ بِالزُّورِ،لا تَشْتَهِ وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى،هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هذِهِ الكَلِمَةِ: أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. اَلْمَحَبَّةُ لا تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ،فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ" (رومية ١٣:‏٨-١٠).أن محبة الله تؤدي إلى محبة خلائقه خصوصاً الإنسان،ثم أن المسيحي الحقيقي يحب الله لأنه يعلم أن الله أحبه أولاً (يوحنا الأولى ٤:‏٩-١١ و١٩ ورومية  ٥:‏٥-٨) ومحبته لله تفطمه عن الاهتمام بلذات هذا العالم السريع الزوال (يوحنا الأولى ٢:‏١٥-١٧) وكلما ازدادت المحبة لله عظم الإقبال على خدمته وازدادت الرغبة في صنع الخير للقريب،  ويعلم المسيحي حينئذ أن الله أبوه السماوي وأنه أحد أولاده في المسيح (يوحنا ١:‏١٢ ويوحنا الأولى ٣:‏١و٢) وتعظم ثقته في الله ويسارع مجاهداً في تمجيده  وإكرامه  فكراً  وقولاً  وعملاً  (مزمور  ٦٣:‏١-٨ ). وإذا جاءه يوماً إبليس ليجربه فيقول له كما قال يوسف في العصور الأولى: "كَيْفَ أَصْنَعُ هذا الشَّرَّ العَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللّهِ؟" (تكوين ٣٩:‏ ٩ ) وكل ما يعمله فلمجد الله ومرضاته لا لمرضاة الناس (كولوسي ٣:‏٢٣). وعلى قدر ما ينمو في محبة الله ومعرفته يزداد في تسبيحه وحمده لأجل خيراته الزمنية وبركاته الروحية التي يغمره بها،وإظهار مشاعر الشكر لا بالكلام فقط بل بالسيرة والعمل (مزمور ٣٤:‏١ وكولوسي ٣:‏١٧ وتسالونيكي الأولى ٥:‏١٥-٢٢).

ومن صفات المسيحي الحقيقي أنه إذا وقع في ضيقة لا يتكل على ذراع البشر بل على الله،كما أنه لا يبالي بإنماء ثروته ولا بإعلاء رتبته،ولا يهتم بزيادة دَخْله بل يصلي لأبيه الذي في السموات أن يبارك أشغاله ويمنحه من الرزق الحلال ما فيه الكفاية لسد أعوازهويشعر باقتناع في قلبه أن أباه السماوي يهتم به (بطرس الأولى ٥:‏٧). ولهذا يلقي عليه همومه بنفس مطمئنة، لأنه يعلم عن ثقة أن الله فتح له كنوزه الروحية في السموات المذخرة في المسيح يسوعويتأكد أن إله كل رحمة لا يمنع عنه خيراً من ضروريات الحياة (مزمور ٢٨:‏٧ ومتى ٦:‏٩-٣٤ وتيموثاوس الأولى ٦:‏٦-١١).

المسيحي الحقيقي حامدٌ شاكر لله على ما منحه من اليُسر والنعم عالماً أن كل عطية صالحة وموهبة تامة نازلة من عنده (يعقوب ١:‏١٧) وهو صبور عندما تمسه الشدائد وتتوالى عليه البلايا والاضطهادات مؤكداً أَنَّ "كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللّهَ" (رومية ٨:‏٢٨) كأنها تلقي على سمعه مناجاة أحد قدماء المسيحيين لنفسه: "يا نفسي،حياة المسيح كانت بجملتها على الصليب وعلى المذبح،وأنت تسعين وراء الراحة والانشراح؟ حاشا وكلا." ويعلم أن أباه السماوي إذا سمح له بتجربة فلكي يُقرِّبه إليه أكثر من ذي قبل،بحيث يقدر أن يفرح ويتبسم وهو رازح تحت عبء الضيقة (رومية ٥:‏٣ و٤ و٥ و١٢:‏١٢) ويقول مع صموئيل النبي "هُوَ الرَّبُّ. مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ يَعْمَلُ" (صموئيل الأول ٣:‏١٨) ذاكراً أنه وإن كان يعيش في العالم فليس من العالم كإبراهيم الذي "كَانَ يَنْتَظِرُ المَدِينَةَ التِي لَهَا الأَسَاسَاتُ،الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللّه" (عبرانيين ١١:‏١٠ وانظر مزمور ٣٧:‏٥ وكورنثوس الثانية ٤:‏ ١٧، ١٨  وعبرانيين ٢:‏٥ و ٦).

المسيحي الحقيقي يعبد الله بإخلاص وحق (يوحنا ٤:‏٢٤) ويشتهي أن يبقى على الدوام شاعراً أنه في حضرة الله،ويأتي إليه كل حين كطفل يأتي إلى أبيه الحبيب عالماً مدى عنايته به. فإن طلب طفل من أبيه شيء يطلبه بأسلوب طبيعي عفوي وليس بكلمات رسمية من الأقوال المرتبة،ومثل ذلك المسيحي إذا طلب من أبيه السماوي شيئاً فليس عليه أن يتلو عبارات معينة،ولا أقوالاً بلغة قديمة مقدسة،لأنه يفهم أن الله مستعد أن يسمع الصلاة أكثر من استعداد المصلي للصلاة،وأن هباته أكثر مما نطلب أو نفتكر الله،وأنه يعلم احتياجنا قبل أن نسأله. وما أقل درايتنا بأحسن الأشياء لنا لذا ينبغي للمصلي إذا طلب شيئاً من متاع الدنيا أن يطلبه تحت هذا الشرط "إن شاءت إرادتك يا رب"، وأما إن طلب طلبة روحية فيطلبها بلا شرط ولا قيد،عالماً أن الأشياء الروحية جميعها صالحة لنفسه وأن الله أعدها له،إن كان إنسان قد وُلد الميلاد الجديد الروحي (يوحنا ٣:‏٣ و٥) واستنار ذهنه بإرشاد روح الله القدوس،لا يصلي فقط بل يرتل لله في قلبه كل حين ويسبحه على جوده وإحسانه،ويثابر على معاشرته،وكل ما يعمله فلمجد اسمه،عالماً أنه فاحص القلوب لا تُخفى عليه خافية،ويجاهد في تذليل كل فكر تحت سلطان محبته، مستودعاً نفسه وأعزاءه بين يدي محبته متلذذاً بالسلام والطمأنينة المظللة على قلبه وروحه (متى ٦:‏٥-١٥ ولوقا ١٨:‏١-٨ ويوحنا ١٦:‏٢٣ وفيلبي ٤:‏٦ و٧ وتسالونيكي الأولى ٥:‏١٧ و١٨ ويوحنا الأولى ٥:‏١٤ و١٥ ويعقوب ١:‏ ٥ - ٨ ).

وفضلاً عن الصلاة الانفرادية فإن أغلب المسيحيين يصلون صلوات أخرى مثل الصلاة المعروفة بالصلاة العائلية،حيث يجمع الرجل زوجته وأولاده حوله ويقرأ لهم شيئاً من الكتاب المقدس ويصلي معهم طالباً المغفرة والبركة من الله على نفسه وعلى أهل بيته، ومثل الصلاة الجمهورية حيث يذهب المسيحي إلى الاجتماع سواء كان في دار اعتيادية أو كنيسة، وخصوصاً في أيام الآحاد،اليوم الذي قام فيه المسيح من الموت،ويتحد مع جمهور العابدين لسماع الإنجيل والوعظ وللصلاة والتسبيح تحت ملاحظة خدام الدين،وهم رجال يدعوهم الله،وهم مدرُّبون على خدمة الإنجيل بنوع خاص. وقد استحسنت بعض الطوائف أن تصلي في أثناء العبادة الجمهورية بصلوات معينة على أمل مساعدة العامة على العبادة،واستحسن البعض الآخر الصلاة الارتجالية، وحيث أن الله يعرف كل اللغات فهي عنده على حد سواء، ولا أفضلية للعبرانية ولا اليونانية على سائر اللغات الأخرى،إنما الواجب أن تكون العبادة بالإخلاص والروح والحق. وكذلك لا فرق بين موضع وآخر لتأدية العبادة، لأن المواضع كلها متساوية عند الله،فلا رسم ولا طقس ولا وضع خصوصي للعبادة إلا أن تكون بالروح والحق كما يعلمنا الإنجيل (يوحنا ٤:‏٢٤).

المسيحي الحقيقي يعتبر كل الناس إخوانه،ويرغب في مصلحة الغير كما يرغب في مصلحة نفسه،ويصنع الخير حسب طاقته مع الجميع في الروحيات والجسديات (متى ٧:‏١٢ و٢٢:‏٣٩ وكورنثوس الأولى ١٠:‏٢٤) لأن المسيح علمه ذلك القانون الذهبي (متى ٧:‏١٢) الذي لو سار بموجبه جميع الناس لأصبحت الأرض سماء،فهو يعامل الآخرين لا كما يعاملونه بل كما يحب أن يعاملوه،فإن كانوا مرضى يزورهم وإن جاعوا يطعمهم،وإن ضلوا عن الله يعلمهم ما علمه المسيح (متى ٢٨:‏١٩ و٢٠) وبالجملة يحب الجميع ولا سيما أهل الإيمان (غلاطية ٦:‏١٠ قارن متى ٢٣:‏٨  ويوحنا ١٣:‏٣٤ و٣٥) بل يحب أعداءه ومضطهديه (متى ٥:‏٤٤ وتسالونيكي الأولى ٣:‏١٢ وبطرس الثانية ١:‏٥-٧) عالماً أن المسيح مات من أجل هؤلاء الأعداء،وقد حدث أن أحد أعداء المسيح أصبح أحب أحبائه لأنه كان ضالاً ووجده الراعي الصالح وخلصه من بين أنياب الذئب (يوحنا ١٠:‏١١-١٦).

تلميذ المسيح الحقيقي صادق ومستقيم ونقي القلب ولطيف (متى ٥:‏٣٧ وأفسس ٤:‏٢٥ ويعقوب ٤:‏١١ و١٢) يسعى جهد طاقته في بث روح الوحدة والوفاق بين الناس (رومية ١٢:‏ ١٨) يرثي للمتضايقين (رومية ١٢:‏١٥ وعبرانيين ١٣:‏١٦) يقابل ما يصيبه من الأذى بالصبر الجميل مفوضاً أمره إلى الله (بشارة متى ١١:‏٢٩ وأفسس ٤:‏٢٥-٣٢). أما إذا رأى الأذى يقع على غيره بغياً وعدواناً فإن الغضب الصالح يشتعل في قلبه ويندفع لإنقاذ المظلوم مهما كلفه ذلك من التضحية، وقد روي عن قوم مسيحيين قبلوا أن يُباعوا كالرقيق حتى يتمكنوا من مؤاساة وتعزية الأنفس الواقعة تحت عبودية قاسية.

المسيحي الحقيقي يعلم أنه خُلق لخدمة الله،وأنه اشتُري بثمن  عظيم  بدم  كريم  دم  المسيح  (كورنثوس الأولى ٦:‏٢٠ و ٧:‏٢٣) وأن جسده هيكل لروح الله القدوس بسبب إيمانه بالمسيح (كورنثوس الأولى ٣:‏١٦ و١٧ و٦:‏١٩) فيأخذ كل حذره حتى لا يدنس ذاته نفساً وروحاً وجسداً بالاستسلام للشهوات الجسدية،ويجاهد بنعمة الله أن يحفظ نفسه طاهراً بلا عيب ولا دنس حتى يحيا بالقداسة (كورنثوس الثانية ٧:‏١ وأفسس ٥:‏٤ ويعقوب ١:‏٢١) ولا يرفض أطعمة قد خلقها الله لتُتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق،لأنه منذ تأسيس العهد الجديد أباح الله كل أنواع الأطعمة. وإذ قد استنار ذهنه يحقق وصية سيده:‏ كل ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان،بل ينجسه الذي يخرج منه لأنه يصدر عن القلب مثل الأفكار الشريرة والزنى والفسق والقتل (مرقس  ٧:‏١٤-٢٣) وإن كان الطعام مباحاً بأصنافه إلا أن الشَّره والتبذير للمسيحي غير مباحان (كورنثوس الأولى ١٠:‏٣١ قابل رومية  ١٤:‏٢٠ و٢١  وتيموثاوس الأولى ٤:‏٤ و٥)  مثل  المسكرات  والخمور  ( لوقا ٢١:‏٣٤  ورومية ١٣:‏١٣   وكورنثوس الأولى ٥:‏١  و ٦:‏١٠ وغلاطية ٥:‏١ وأفسس ٥ :‏١٨) وكذا التنعمات الرديئة.

المسيحي الحقيقي يُعرض عن كل كلمة وعمل غير لائق ويسعى جهده في مرضاة الله (متى ١٦:‏٢٤ ورومية ٦:‏١١-٢٣ وكورنثوس الأولى ٦:‏١٢-٢٠ وتسالونيكي الأولى ٤:‏٣-٨  وبطرس الأولى ١:‏ ٢٢ )  متقدماً في النعمة وفي معرفة الله بيسوع المسيح ربنا (بطرس الثانية ٣:‏١٨) عالماً أن هذا فقط هو الذخر الباقي والكنز الدائم بخلاف ثروة هذا الدهر ومجده وعظمته التي يطلبها ويجدّ في أثرها أهل الغرور، لأن مصيرها للزوال والتلف (متى ١٦:‏٢٦ وأفسس ١:‏١٥ و ٢  :١٠ وفيلبي ٣:‏٧-١٦).

ومهما تكن أشغاله أو مصلحته يدأب على عمله بأمانة وإتقان حتى يسرّ قلب خالقه وفاديه ويمجد اسمه القدوس،محاذراً من الإهمال والكسل آكلاً خبزه بعرق جبينه، وحسب طاقته يجتنب الديون،معتبراً أن كل ما ملكت يده فللرب إلهه،يتصرف فيه على وفق مشيئته في وجوه الخير والإحسان (متى ٢٥:‏١٤-٣٠ ولوقا ١٩:‏١٢-٢٧ وكولوسي ٣:‏٢٣ و٢٤ وتسالونيكي الأولى ٤:‏١١ و١٢ وتسالونيكي الثانية ٣:‏١٠) وكل ما ازداد في خدمة المسيح بإخلاص واتسعت مداركه في معرفة شخصه العجيب وعظمت محبته له،بحيث لا يفصله عنه أية شدة واضطهاد (رومية ٨:‏٣٥-٣٩) وعلى مدى الأيام يكثر تشبهه واقتداؤه بالمسيح غير مكتف بما هو دون صلاحه وقداسته الكاملة (كورنثوس الثانية ٣:‏١٨ وبطرس الأولى ٢:‏٩). وإذا تصالح مع الله صارت إرادته على وفق إرادة أبيه السماوي،ويفيض قلبه بفرح مقدس لا يُنطق به ومجيد بالرغم من تجارب الحياة وآلامها التي تكتنفه، وفرحه هنا عربون لفرحه الدائم في السماء. وما ذكرناه قليل من كثير من نتائج الإيمان بالمسيح في قلب المؤمن،به يتقدم بشجاعة لإتمام واجباته في ملء الرجاء قائلاً ما قال بولس الرسول "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي المَسِيحِ الذِي يُقَوِّينِي" (فيلبي ٤:‏١٣).

ومما يجب التنبيه إليه أن المسيحي في هذه الحياة الدنيا،وإن صلحت أخلاقه إلى الحد الذي ذكرناه،إلا أنه يزال غير كامل وعرضة لتجارب العالم والجسد وإبليس، وعليه أن يحارب هؤلاء الأعداء ويغلبهم حتى الموت. وأن إبليس مع شدة قوته لا يستطيع أن ينتصر على المؤمن الواثق بالمسيح إلا أن للمؤمن جسداً تحت الآلام كسائر الناس،لكنه يتذكر مرافقة المسيح له ذاك الذي حمل أحزاننا وتحمل أوجاعنا (إشعياء ٥٣:‏٣-٥) وأنه يمكث معه كل الأيام (متى ٢٨:‏٢٠) فتنمو فيه روح الشجاعة والقوة، ويقابل بالصبر الجميل كل ما يسمح به الله أن يجري عليه من صنوف التجارب والبلايا،منتظراً وطناً أفضل بعد القبر (كورنثوس الثانية ٥:‏١-٩ وفيلبي ١:‏٢٣) راجياً قيامة ابتهاج ومجد عندما يأتي المسيح ثانياً بالقوة والسلطان وقد خضع أعداؤه تحت قدميه (يوحنا ٥:‏٢١-٢٩ و٦:‏٤٠ وكورنثوس الأولى ١٥ وفيلبي ٣:‏٢١).

وفي العالم الآتي يعرف المسيحيون الحقيقيون الله كما هو،ويرون مجده وجهاً لوجه،ويسكنون مع المسيح إلى الأبد (متى ٥:‏٨ وكورنثوس الأولى ٢:‏٩ و١٣:‏١٢ ورؤية ٢٢:‏٣ و٤) حينئذ يكملون في القداسة وينالون العصمة من الخطية ويرثون من الفرح والسعادة ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان،يسكنون في نور إحسان الله وبركاته. وكلما جال في قلوبهم هذا الخاطر وهم في الحياة الدنيا وتذكروا نعمة الله المخلِّصة لجميع الناس المؤدية إلى طهارة السيرة والحياة الأبدية،سبَّحوا الله مع رسول الأمم قائلين: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ! لأنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟ لأنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ المَجْدُ إِلَى  الأَبَدِ. آمِينَ" (رومية  ١١:‏٣٣-٣٦).

إلى هنا شرحنا ووصفنا كيف يجب على المسيحي أن يكون إذا أطاع وصايا الإنجيل،غير أن إخواننا المسلمين كثيراً ما يغمضون عيونهم عن أخلاق المسيحيين الحقيقيين،ويحتجّون علينا بأخلاق من يلاقونهم من كَفرة الإفرنج محاولين أن يقيموا الحجة والبرهان على أن أثمار الديانة المسيحية لا تختلف عن الأديان الأخرى لأن أصحابها أشرار محبون لذواتهم عالميون فجار. ولو أنهم تأملوا بإمعان لتحققوا أنهم مخطئون في تقريرهم،لأن كثيراً من الإفرنج لم يدّعوا قط أنهم مسيحيون،والقول إن كلمة نصراني وغربي مترادفتان هو خطأ محض. عدا ذلك فإن كثيرين يدَّعون أنهم مسيحيون وهم ليسوا من المسيحية في شيء سوى الاسم والصورة الظاهرة،ولكن ليس الظاهر كالباطن،وإلا لم يكن على الأرض مراءون ومنافقون!

يُعرف المسيحي الحقيقي بسلوكه وطاعته لناموس المسيح،فإن رأينا أحداً يدَّعي أنه مسيحي وهو يخالف وصايا المسيح فهو مرائي ومنافق ويحمل وزر نفسه. فإذا دُعي المسلم إلى الجهاد واندفع إلى ميدان القتال يسفك دماء الأعداء إلى أن مات محاطاً بالقتلى فقد برهن للملأ صحة إسلامه (كما جاء في سورة التوبة ٩:‏١١١). كما أنه إذا دُعي الطبيب المسيحي المرسل إلى مقاومة الطاعون والكوليرا يكافح ذلك العدو الفتاك معرضاً نفسه لخطر الموت لافتداء بني جنسه من كل دين،فهو يبرهن نسبته إلى الديانة المسيحية.  ولكن إذا اقتدى المسلم بالمسيحي بمعالجة المرضى لم يعتبره إخوانه تابعاً لرسول السيف. وإذا اقتدى المسيحي بالمسلم في سفك الدماء لم يعتبره إخوانه تابعا لرسول السلام. فكما أن الشجرة تُعرف من أثمارها يُعرف المسيحي الحقيقي من أعماله،  ونقول كما قلنا إن ادّعى أحدٌ أنه مسيحي وتصرف بالخيانة ضد هذا الدين الصالح،لا يحكم عليه أهل دينه فقط بل نفس الذين يدينون بالإسلام،قائلين: ليس هذا بمسيحي حقيقي،وعليه فقد يشهدون ضمناً بطهارة وقداسة الإيمان المسيحي. قال الرسول يوحنا "مَنْ يَفْعَلُ البِرَّ فَهُوَ بَارٌّ،كَمَا أَنَّ ذَاكَ (المسيح) بَارٌّ. مَنْ يَفْعَلُ الخَطِيَّةَ فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ،لأنَّ إِبْلِيسَ مِنَ البَدْءِ يُخْطِئُ. لأجْلِ هذا أُظْهِرَ ا بْنُ اللّهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ" (يوحنا الأولى ٣:‏٧ و٨) وعليه فكل احتجاج على المسيحية،بسبب أن بعضاً من المدَّعين بها يسلكون بغير استقامة احتجاج باطل لا يروج لدى أهل العقول الراجحة.

ثم نقول أخيراً أن ألد أعداء الديانة المسيحية يسلّمون أنه يوجد مسيحيون حقيقيون متفرقون في أماكن مختلفة لا ينكر أحد تقواهم وتفانيهم في فعل الخير من رجال ونساء،بعضهم مرسلون وبعضهم صناع وتجار وأصحاب أشغال متنوعة من المهن والحرف الشريفة. وشهدت الأعداء أن لا ديانة أخرى على وجه الأرض تُعد مثل هؤلاء الصالحين. نعم أية ديانة ترسل مرسلين إلى كل أجزاء العالم حتى مجاهل أفريقيا والجزائر البعيدة،منهم المرسلون الأطباء والممرضون لكل أنواع الأمراض؟ أية ديانة تغادر سيداتها الأهل والوطن ويقطعن البحر والبر حتى يخدمن في مستشفيات البرص في بلاد الهند؟ وأية ديانة ضحَّت بالمال والرجال في تحرير العبيد وأعتقتهم من رق العبودية؟

واعلم إن تأثير المسيحية لا يقتصر في تحويل الجفاء والخشونة إلى لطف ومحبة على أمة دون أمة مثل التأثير على الأمم المتمدنة أكثر من الهمجية، كلا! بل تؤثر في الكل على السواء،ففي الهند والصين واليابان ومصر والعجم،وفي أية أمة وبلاد يُكرز بإنجيل المسيح،توجد أمثلة كثيرة لأتقياء المسيحيين رجالاً ونساء،حوَّلهم الإنجيل من قساوة القلب وحياة الإثم والرذيلة إلى مثال التقوى والفضيلة والمحبة، وذلك منذ اعتنقوا المسيحية. وكم منهم احتمل الاضطهاد والتعذيب لأجل خاطر المسيح حتى الموت فأمثال هؤلاء رسائل المسيح الحية المعروفة والمقروءة من جميع الناس (كورنثوس الثانية ٣:‏٢ و٣).

وهنا نعترف أنه لسوء الحظ يوجد بين طوائف النصارى من يقدمون العبادة لبعض القديسين وللعذراء مريم،ويسجدون للصور والتماثيل،إلا أن هذه العبادة محرَّمة بموجب نصوص كثيرة من أسفار العهدين أي التوراة والإنجيل (خروج ٢٠:‏٣-٥ ويوحنا ١٤:‏٦ وتيموثاوس الأولى ٢:‏٥). وكم حذرنا الإنجيل من عبادة الأصنام بما لا يدخل تحت حصر (كورنثوس الأولى ٥:‏١٠ و١١ و٦:‏٩ و١٠:‏٧ و١٤  وغلاطية ٥:‏٢٠  وأفسس ٥:‏٥  وكولوسي ٣:‏٥  وبطرس الأولى ٤:‏٣ ورؤيا يوحنا ٩:‏٢٠ و٢١:‏٨   و٢٢:‏١٥) وقد امتلأت صحائف التوراة من العقوبات التي حاقت بالأمة الإسرائيلية بسبب عبادة الأصنام، وحيث أن الكتاب المقدس ينهى عن هذه العبادة فليس من الصواب أن نتخذها دليلاً للاحتجاج به ضدّ الديانة المسيحية،كما ليس من الصواب أن نتخذ عبادة الأولياء وغيرهم عند بعض المسلمين حجة على الإسلام.

المسيحي الحقيقي هو الذي يقتدي بالمسيح في حياته ويشهد له شهادة ملموسة بارزة من خلال أعماله اليومية،إلا أن الكنيسة المنظورة تشتمل كما قال المسيح على الحنطة والزوان (متى ١٣:‏٢٤-٣٠ و٣٦-٤٣) والعاقل يميز بين الحنطة والزوان، وبين الطيب والخبيث، والعملة المزيفة لا تكون حجة على العملة الحقيقية،والتاجر المدرب يميز هذه من تلك.