الفصل الثاني

هل تنبأ الكتاب المقدس عن محمد؟

Camel

لا شك أن مجيء المسيح سبق الإنباء به في أسفار العهد القديم في مواضع كثيرة تفوق الحصر وذلك من المسلم به. فإن فرضنا أن الله قصد أن يبعث إلى العالم رسولاً آخر أعظم بكثير من المسيح لا بد أن يسبق الإنباء عنه لا في أسفار العهد القديم فقط بل وفي الجديد أيضاً، وعليه يلزم بطبيعة الحال أن يبحث إخواننا المسلمون في أسفار العهدين عن النبوات التي تؤيد دعوة مؤسس دينهم. ثم إن كان محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ومن أجله خلق الله العالمين فيكون من العجب العجاب أن لا تتقدمه النبوات لتوجيه الأنظار إليه والانقياد لأوامره ولما لم يقدر المسلمون أن ينكروا ضرورة ذلك اضطروا أن ينتحلوا من الكتاب نبوات عن رسولهم وادعوا أنه كان يوجد نبوات أخرى أكثر من هذه حذفها اليهود والنصارى.

وأما دعواهم بوقوع الحذف والتحريف في الكتاب المقدس فقد دحضناها بالدليل الساطع والبرهان القاطع في الباب الأول وأثبتنا أن الكتاب المقدس المتداول اليوم بين أيدينا هو عين الكتاب الذي كان موجوداً في عصر محمد وقبل عصره بقرون كثيرة ولم تمسه يد المفسدين لا قبل محمد ولا بعده إذاً لا حاجة بنا إلى بينان تزييف ما ادعوه بهذا الخصوص. وأما إذا كان يوجد في الكتاب حقيقة نبوات تشير إلى محمد فيجب على كل مسيحي أن يلتزم بها ويؤمن بخاتم الأنبياء وهو مطمئن وليس لأحد منا حجة إذا اعتذر عن تلك النبوات بأن المسلمين زادوها على الكتاب يوم كان لهم السلطة على النصارى في كثير من البلدان ولكن إن ثبت أنه لا يوجد في كتابنا أية نبوة عن محمد فلا يكون من الشجاعة وحيرة الفكر أن يعتصموا بالدعوى الأولى وقد تبين فسادها كقولهم أنه كان في كتابهم نبوات عن محمد ونحن أهل الكتاب حذفناها .. الخ.

على أن مجرد احتجاجهم بكتابنا على رسالة نبيهم دليل على أنهم معترفون أولاً بأنه موحى به من الله وثانياً أنه غير محرف بل باق على أصله وإلا فما الداعي الذي يحملهم على الاحتجاج بكتاب يعلمون أنه تأليف الناس؟ فإذا اعترف المسلمون حقيقية بالمقدمتين المذكورتين يكون البحث حينئذ في الآيات التي زعموا أنها تشير إلى نبيهم بحثاً مثمراً ولذيذاً وإلا كان البحث عقيماً. ولسنا ننكر أن كثيراً منهم ذوو علم واطلاع ولا يسعهم إنكار القضيتين السابقتين أي أن الكتاب المقدس موحى به وأنه باق على أصله غير إننا نرجو من حضرات القراء الكرام أن يعترفوا بصحة البراهين التي بسطناها في الباب الأول والثاني من هذا الكتاب وأنها تثبت سلامة الكتاب المقدس.

ومن المسلم أن لنا الحق أن نفسر آية في الكتاب بآية أخرى وكل مطلع خبير يعلم أن التفسير بهذه الكيفية قرين الصواب لإزالة ما عساه يرد في الكتاب من المعضلات وما يعترض به عليه من وجوه المناظرة كما هي الحالة في أي كتاب آخر لأن الآيات الغامضة يجب أن تشرح بالآيات الظاهرة حسب موقعها في سياق الكلام، مثال ذلك إن كانت آية متأخرة تشرح آية متقدمة عليها فلا يجوز لعالم فاضل خال من التعصب أن يرفض الشرح الكتابي ويلجأ إلى تفسير غريب لا يتفق مع سياق الكلام ولا من الآيات الصريحة الواردة في المواضع الأخرى. وبهذه الكيفية التي يزكيها كل عالم فاضل نتقدم إلى فحص الآيات التي أوردها إخواننا المسلمون من الكتاب المقدس لإثبات نبوة محمد ونبدأ بآيات العهد القديم.

(١) (تكوين ٤٩:‏١٠) "يهوذا إياك يحمد اخوتك. يدك على قفا أعدائك يسجد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسد. من فريسة صعدت يا ابني. جثا وربض كاسد وكلبوة. من ينهضه. لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى ياتي شيلون وله يكون خضوع شعوب". زعموا أن هذه الآية تشير إلى نبوة محمد وخصوصاً لأن كلمة "يهوذا" عدد ٨ مشتقة في الأصل العبراني من الفعل حمد كما اشتق اسم "محمد" وهذا الزعم باطل لأنه ظاهر من القرينة أن شيلون المقولة في شأنه النبوة يولد من ذرية يهوذا وظاهر أن محمداً لا هو من ذرية يهوذا ولا هو من ذرية إسرائيل بل من قبيلة قريش وشتان بين قريش وبين بني إسرائيل. وعدا ذلك فإن قضيب الملك زال من الأمة اليهودية قبل ولادة محمد بأكثر من خمسمائة وخمسين سنة والآية تقول أنه لا يزول حتى يأتي شيلون الخ وعليه فالآية المذكورة لا تشير إلى محمد وقد اتفق مفسرو اليهود أن كلمة شيلون من ألقاب المسيح وكذلك السامريون فهي تشير إلى المسيح لأنه هو الذي وُلد من سبط يهوذا وإياه أطاعت الشعوب.

(٢) تثنية ١٨:‏١٥ و١٨ قالوا أن النبي الموعود به هنا لا يكون من بني إسرائيل وعبارة "من وسطك" لم ترد في الترجمة السبعينية ولا في أسفار موسى عند السامريين ولا هي وردت في (أعمال الرسل ٢٢:٣) بل قيل "من أخوتك" أي الإسماعليين (قابل تكوين ٢٥:‏٩ مع ١٨) وقالوا لم يقم نبي كموسى في إسرائيل بدليل هذه الآية (تثنية ٣٤:‏١٠) وأن محمداً كموسى في جملة وجوه كلاهما نشئا في بيوت أعدائهما وكلاهما ظهرا بين عبدة الأصنام وكل منهما رفضه قومه أولاً ثم عادوا فقبلوه والاثنان هربا من وجه أعدائهما أما موسى فهرب إلى مديان وأما محمد فهاجر إلى المدينة وأسما الموضوعين بمعنى واحد وكل منهما نزل إلى ساحة القتال وحارب الأعداء وعمل المعجزات وساعد أتباعه من بعد موته على امتلاك فلسطين هذا ما قاله المسلمون. ورداً عليهم نقول أن الآية الواردة في تثنية ٣٤:‏١٠ تفيد أنه لم يقم نبي كموسى في إسرائيل إلى الوقت الذي كتب فيه هذا السفر وكلمة بعد تفيد أن بني إسرائيل توقعوا أن يكون النبي منهم لا من الخارج وأما عبارة "من وسطك" في العدد ١٥ فهي واردة في النسخ العبرية.

ومع ذلك فالمعنى بها وبدونها ظاهر، لا ننكر أن إسماعيل أخ لإسحاق من أبيه إلا أننا نقول إذا صح بناء على هذه القرابة اعتبار بني إسماعيل وبني إسرائيل أخوة فكم بالأولى كثيراً يكون أسباط إسرائيل الاثنا عشر أخوة بعضهم لبعض وقد ورد مثل ذلك في القرآن انظر سورة الأعراف آية ٨٤ حيث يعتبر شعيباً أخاً لمدين وعدا ذلك فقد كثر في سفر التثنية عينه اعتبار البعض من الإسرائيليين أخوة للبعض الآخر (انظر ٣:‏١٨) "وأمرتكم في ذلك الوقت قائلا الرب إلهكم قد أعطاكم هذه الأرض لتمتلكوها. متجردين تعبرون أمام اخوتكم بني إسرائيل كل ذوي بأس." و١٥:‏٧ "إن كان فيك فقير أحد من اخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك فلا تقسّ قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير" و١٧:‏١٥ "فانك تجعل عليك ملكا الذي يختاره الرب إلهك. من وسط اخوتك تجعل عليك ملكاً. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيا ليس هو أخاك." و٢٤:‏ ١٤ "لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من اخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك." وفي إصحاح ١٧:‏١٥ وردت عبارة نظير الآية المطروحة على بساط البحث بخصوص الرجل الذي يجب أن يتوجوه عليهم ملكاً حيث يقول خطاباً لإسرائيل "فإنك تجعل عليك ملكاً الذي يختاره الرب إلهك، من وسط أخوتك تجعل عليك ملكاً لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجبنياً ليس هو أخاك." إن أكثر ممالك أوروبا إن لم نقل كلها محكومة بعائلات أجنبية أو كانت أجنبية يوماً ما أما بنو إسرائيل فمن أول تاريخهم إلى نهايته لم يتوجوا رجلاً أجنبياً ملكاً عليهم. ولو كان استدلال المسلمين بآية البحث استدلالاً صحيحاً لوجب على بني إسرائيل كلما احتاجوا إلى ملك أن يذهبوا إلى الإسماعليين ويختاروا منهم إلا أنهم لم يفعلوا مثل هذا الفعل بل كانوا يعينون ملوكهم من بينهم وهم أعلم من غيرهم بلغتهم ويعرفوا التفسير الحقيقي لعبارة من أخوتك.

ومَن مِن المسلمين اليوم إذا قيل له أن يستدعي أحد أخوته ليتقلد منصباً عالياً يفهم من ذلك أن يستثني أعضاء عائلته ويبحث عن رجل غريب تجمعه معي رابطة الجدود الأقدمين؟ وبخلاف ذلك فقد ورد في التوراة نصوص صريحة تحذر بني إسرائيل أن لا يقبلوا أي نبي من ذرية إسماعيل لأن عهد الله كان مع إسحاق لا إسماعيل (تكوين ١٧:‏١٨-٢١ و٢١:‏١٠-١٢) ولا يأخذك العجب إذا قلت لك أن القرآن نفسه يؤيد رأي التوراة من هذه الحيثية لأنه يصرح في مواضع كثيرة أن النبوة موكولة إلى بني إسرائيل ومن ذلك قوله في (سورة العنكبوت ٢٩:‏٢٧)"وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُّوَةَ وَالْكِتَابَ الخ وقوله وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (سورة الجاثية ٤٥:‏١٦).

ويُقال خلاف ما تقدم أن النبي المنتظر في آية البحث موعود به أن يرسل لبني إسرائيل وأما محمد فأعلن رسالته بين العرب الذين منهم ولد وبينهم نشأ. وأما من جهة وجوه المشابهة المشار إليها في آية البحث بين موسى والنبي المنتظر أن يقوم من بني إسرائيل فمشروحة في تثنية ٣٤:‏١٠-١٢ وتنحصر في نقطتين الأولى معرفة الله وجهاً لوجه عند كل من النبيين والثانية المعجزات العظيمة لكل منهما. أما عن النقطة الأولى فنقول أنها ليست متوفرة في محمد لأنه قال في حديث مشهور ما عرفناك حق معرفتك وأما عن النقطة الثانية فليست متوفرة فيه أيضاً بدليل القرآن نفسه فإنه يشهد في مواضع كثيرة أنه لم يأت بمعجزة واحدة وعلى ذلك قوله "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَلُونَ .. الخ" (سورة الإسراء ١٧:‏٥٩) انظر تفسير البيضاوي وابن عباس وقوله "وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ" (سورة البقرة ٢:‏١١٨) وقوله"وَقَالُوا لَوْلا نُّزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ" (سورة الأنعام ٦:‏٣٧ و٥٧ و١٠٩ وسورة الأعراف ٧:‏٢٠٢ ويونس ١٠:‏٢٠ والرعد ١٣:‏٨ و٢٩ والعنكبوت ٢٩:‏٥٠) هاتان هما نقطتا الشبه المقصودتان في التوراة وأما وجوه الشبه الكثيرة التي عددها إخواننا المسلمون بين موسى وبين محمد فكثير منها متوفرة عند مسيلمة الكذاب وعند ماني الفارسي فهل يكونان نبيين؟

ونقول أخيراً أن الله نفسه فسر في الإنجيل ما أنبأ به في التوراة وأظهر أن النبي الموعود به هو المسيح لا محمد (قابل تثنية ١٨:‏١٥ و١٩ له تسمعون مع متى ١٧:‏٥ ومرقس ٧:٩  ولوقا ٣٥:٩) "يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من اخوتك مثلي. له تسمعون"، "وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم وصوت من السحابة قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا." ثم أن المسيح ذاته طبق هذه النبوة وغيرها من نبوات التوراة على نفسه (يوحنا ٥:‏٤٦ انظر تكوين ١٢:‏٣ و٢٢:‏١٨ و٢٦:‏٤ و٢٨:‏١٤) يوحنا ٥:‏٤٦ "لانكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني." أولاً لأنه من نسل يهوذا وبالتالي من بني إسرائيل (متى ١:‏١-١٦ ولوقا ٣:‏٢٣-٣٨ وعبرانيين ٧:‏١٤) وصرف معظم حياته بين اليهود وإليهم أرسل رسله أولاً ولم يرسلهم إلى الأمم إلا أخيراً (متى ١٠:‏٦ ولوقا ٢٤:‏٤٧ ومتى ٢٨:‏١٨-٢٠ وفي أعمال الرسل ٣:‏٢٥ و٢٦) وهذا تصريح بأن آية البحث تشير إلى المسيح.

(٣) تثنية ٣٢:‏٢١ "هُمْ أَغَارُونِي بِمَا لَيْسَ إِلهاً، أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ. فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا لَيْسَ شَعْباً، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ" قالوا أن الأمة الغبية المشار إليها هنا أمة العرب التي أرسل منها محمد حيث لا يمكن أن تكون أمة اليونان التي أرسل إليها بولس وبقية رسل المسيح لأن أمة اليونان لم تكن غبية بل كانت أهل حكمة وعلم.

ورداً على ذلك نقول هذه النبوة لا تشير إلى نبي ولا إلى رسول بل إلى أن الله سيغير الأمة اليهودية بأن يدعو لعبادته الأمم الأجنبية يونان وعرب ومصريين وغيرهم وينتظمون في سلك الأخوية المسيحية وكانت تلك الأمم في نظر الله أمماً غبية وثنية، وعدا ذلك فإن الإنجيل نفسه يفسر هذه الآية حسبما فسرناه ومن ذلك قوله "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ إلى أن قال الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللّهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ" (بطرس الأولى ٩و١٠ وأفسس  ٢:‏١١-١٣). وأما القول بأن اليونان كانت أمة حكيمة وليست أمة غبية فنجيب عليه لم تكن حكمة اليونان الحكمة الحقيقية لأنهم لم يكونوا يعرفوا الإله الحقيقي وورد في الكتاب "رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ، وَمَعْرِفَةُ الْقُدُّوسِ فَهْمٌ" (مزمور ١١١:‏١٠ وأمثال ١:‏٧ و٩:‏١٠) وورد أيضاً أن حكمة العالم غير مرعية عند الله ومن ذلك قوله "لأنَّ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ اللّهِ." وقوله "الرَّبُّ يَعْلَمُ أَفْكَارَ الْحُكَمَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ" (كورنثوس الأولى ٣:‏١٩ و٢٠).

(٤) تثنية ٣٣:‏٢ "جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلالا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِ الْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ." قالوا قوله جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ يشير إلى تنزيل الشريعة على موسى وقوله وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ يشير إلى تنزيل الإنجيل على عيسى وأما قوله وَتَلالا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ فيشير إلى تنزيل القرآن على محمد بدليل أنهم زعموا أنه يوجد بقرب مكة جبل يسمى فاران ورداً على ذلك نقول أن القرينة هنا تدل على أن موسى في كلامه على هذه المواضع لم يشر إلى إنجيل ولا إلى قرآن بل أراد أن يذكر بني إسرائيل كيف أشع مجد الله إلى مسافات بعيدة عندما كانوا ضاربين خيامهم عند جبل سيناء ونعلم من خريطة الجغرافية أن سيناء وسعير وفاران ثلاثة جبال متجاورة واقعة في شبه جزيرة طور سيناء وجنوب الأردن على بعد مئات من الأميال من مكة ويظهر صحة ذلك بأكثر وضوح عندما نراجع المواضع التي ذكر فيها فاران في التوراة (تكوين ١٤:‏ ٦ وعدد ١٠:‏١٢      و١٢:‏١٦ و١٣:‏٣ وتثنية ١:‏ ١ وملوك الأول ١١:‏١٨). فضلاً على أن الكلمة هي الرب وهو اسم الله ولا يطلق على بشر.

(٥) مزمور ٤٥ قالوا بما أن النبي المشار إليه في هذا المزمور متقلد سيفاً على فخذه عدد ٣-٥ فهو محمد غير أنه عندنا جوابان كل منهما يدحض هذه الدعوة. الأول نجده في عدد ٦ قوله "كُرْسِيُّكَ يَا اَللّهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ والخطاب هنا للذي قيل له تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا الْجَبَّارُ" ولم يدع المسلمون قط أن محمداً إله يصح أن يخاطب بهذا الخطاب فاستدلوا بصدر الآية وأهملوا عجزها والجواب الثاني ورد في الإنجيل (عبرانيين ١:‏٨ و٩) أن المزمور المشار إليه خطاب للمسيح وأما ما ورد في ذلك المزمور من حكاية العذارى والحظيات وابنة الملك التي في خدرها وعلاقتهن بالمخاطب فهو إشارة إلى عروس المسيح الروحية التي هي الكنيسة (انظر رؤيا يوحنا ٢١:‏ ٢) والأعداء في قوله نَبْلُكَ الْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ إشارة إلى إبليس وجنوده والقوم الذين قاوموا المسيح وإنجيله (انظر رؤيا يوحنا ١٩:‏١١-٢١).

وجاءت في المزامير نبوات أخرى عن المسيح تشبه ما تقدم ذكره وهي مزمور ٢ و٧٢ و١١٠ ومن المحتمل أن المزمور الذي تكلمنا عنه أولاً يشير إلى زواج سليمان الملك من ابنة فرعون (ملوك الأول ٣:‏١) ثم جعل هذا الزواج رمزاً إلى الاتحاد الروحي بين المسيح وكنيسته.

(٦) مزمور ١٤٩ زعموا أن هذا المزمور نبوة عن محمد وقالوا أن الترنيمة الجديدة (عدد ١) هي القرآن والسيف ذو الحدين (عدد ٦) سيف محمد وسيف علي ابن أبي طالب الذي جرده لخدمة الإسلام وقالوا أن الملك (عدد ٢) هو محمد. ورداً عليهم نقول أن القرآن لا يمكن أن يكون الترنيمة الجديدة لأن الترنيم غير مستعمل في العبادة الإسلامية وكذلك السيف ذو الحدين ليس سيف محمد ولا علي بدليل أن الآية تصرح بأنه ليس في يدي الملك الذي يزعمون أنه محمد بل في يد الإسرائيليين ينتقمون به من أعدائهم و الملك في عدد ٢ قيل عنه في صدر الآية بأنه الخالق ودعي في عدد ٤ الرب وهكذا لا يمكن أن يقال عن محمد أنه ملك إسرائيل ولا فرح إسرائيل بمحمد لأن سوء معاملته لهم أشهر من نار على علم كما سترى معاملته لبني النضير وبني قريظة وغيرهما.

(٧) ادعى بعض المسلمين أن إصحاح ٥:‏ ١٦ من سفر نشيد الإنشاد يشير إلى محمد لأن كلمة محامديم في العبري المترجمة مشتهيات في العربي مشتقة من حمد وهي المادة المشتق منها محمد. ورداً على ذلك نقول أن الكلمة العبرانية محامديم اسم نكرة لا معرفة بدليل أنه جاء في صيغة الجمع ووردت هذه الكلمة في غير موضع من التوراة بصيغة النكرة (انظر هوشع ٩:‏٦ و١٦ وملوك الأول ٢٠:‏٦ ومراثي ارميا ١:‏١٠ و١١ و٢:‏٤ ويوئيل ٣:‏٥ وإشعياء ٦٤:‏١١ و٢ أيوب ٣٦:‏١٩ وحزقيال ٢٤:‏١٦ و٢١ و٢٥) وجاءت في النصف الأخير (حزقيال ٢٤:‏١٦) شهوة عينيك وكانت الإشارة إلى زوجة حزقيال قابل (حزقيال ٢٤:‏١٨) واستعملت أيضاً للإشارة إلى بني وبنات عبدة الأصنام من جماعة إسرائيل (حزقيال ٢٤:‏٢٥) فإن صح إسناد كلمة مشتهيات في سفر نشيد الإنشاد إلى محمد لأنها مشتقة من حمد فيصح أيضاً أن يسند إليه أيضاً كلمة شهوة هنا المشار بها إلى زوجة حزقيال وبني وبنات عبدة الأصنام لأنها مشتقة من حمد كذلك.

ثم نقول أن في اللغة العربية كلمات كثيرة مشتقة من حمد ولكن هذا الانشقاق لا يجعلها خصيصة محمد فإن قال أحد أن محمداً مشار إليه في سورة الفاتحة بكلمة الحمد في قوله الحمد لله رب العالمين لأن الحمد ومحمداً مشتقان من مادة حمد فهل يكون استدلاله صحيحاً؟ وكذلك إن استدل الهندي بأن أحد آلهته المدعو رام قد ذكر في القرآن في سورة الروم في قوله غلبت الروم بدليل أن الاسمين مشتقان من مادة رام كما في القواميس العربية ألا يكون استدلاله مدعاة للسخرية عند أهل العلم والتمييز؟

(٨) إشعياء ٢١:‏٧ "فَرَأَى رُكَّاباً أَزْوَاجَ فُرْسَانٍ. رُكَّابَ حَمِيرٍ. رُكَّابَ جِمَالٍ" قالوا أن عبارة ركاب حمير نبوة إلى المسيح الذي دخل أورشليم راكباً حماراً وعبارة ركاب جمال نبوة إلى محمد بدليل أنه كان دائماً يركب الجمال غير أن سياق الكلام يدل أن لا إشارة هنا إلى المسيح ولا إلى محمد إنما هذا الإصحاح نبوة إلى سقوط بابل كما يظهر من عدد ٩ والعباراتان المشار إليهما أي ركاب الحمير وركاب الجمال تدلان على الكيفية التي يتم بها تبليغ هذا الخبر ثم سقوط بابل على عهد داريوس سنة ٥١٩ و ٥١٣ ق.م.

(٩) إشعياء ٤٢:‏١-٤ ظنوا أنهم يجدون إشارة إلى محمد في النصوص المذكورة في هذا الموضع غير أننا إذا اعتبرنا صحة ما رواه عن محمد من أخبار ابن هشام والطبري وابن الأثير والخطيب والواقدي وغيرهم من كتبة المسلمين لا يسعنا أن نصدق أن الموصوف بالسلام والوداعة في الآيات المذكورة هو النبي المتقلد بالسيف ومع ذلك فقد جاء في متى ١٢:‏١٥-٢١ أن الموصوف بالسلام هو المسيح وقد تمت فيه كل النبوة المشار إليها ثم أن شريعته التي تنتظرها الجزائر هي المسيحية بدليل أن الجزائر المشار إليها في عصر النبوة جزائر البحر الأبيض المتوسط وسواحله وهي مسيحية وما كان غير مسيحي منها فواقع تحت نفوذ المسيحيين.

(١٠) في الإصحاح المتقدم عدد ١٠ و١١ و١٢ وردت كلمة قيدار اسم قبيلة من قبائل العرب ولما اطلع على ذلك المسلمون ظنوا أن هذه أيضاً نبوة عن محمد وأن الترانيم الجديدة المنوه عنها كناية عن اعتناق قبائل العرب دين الإسلام. ونحن نقول لا يمكن أن الترانيم تشير إلى شيء في الإسلام ولا هي معروفة عند المسلمين كما أن قيدار ليست من المحتم أن تشير إلى الإسلام وإن كانت من قبائل العرب لأن من المؤكد أن كثيراً من قبائل العرب كانت تدين بالدين المسيحي مثل قبيلة حمير وغسان وربيع ونجران والحيرة ولما قويت شوكة المسلمين أكرهوهم على اعتناق دينهم أو نفيهم من بلادهم ولا شك أنهم يعودون يوماً إلى دينهم الأول. وهذه الآيات تتمة عدد ١-٤ وتشير إلى انتشار الديانة المسيحية حتى في بلاد العرب نفسها كما تنتشر في جزائر البحر (عدد ١٠) أما قوله عبدي (عدد ١) فمشروح في إصحاح (٤٩:‏٣) من هذا السفر عينه حيث يظهر أن المراد به هو إسرائيل وهو لا شك إسرائيل الله أي الذين يؤمنون بالمسيح (انظر غلاطية ٦:‏١٦) والمسيح رأسهم لأنه قيل عنه أنه رأس الجسد الكنيسة (كولوسي  ١:‏١٨) لهذا فسر قدماء اليهود (إشعياء ٥٢:‏٣) قوله عبدي بالمسيا المنتظر وعلى كل حال فالمسيح من إسرائيل جاء وإياه يمثل أما محمد فلا هذا ولا ذاك.

(١١) إشعياء ٥٣ يقولون أن هذا الإصحاح نبوة إلى محمد بدليل ما يأتي أولاً، لأنه وُلد في بلاد العرب وكان كعرق من أرض يابسة. ثانياً، لأنه دُفن في المدينة فجعل مع الأشرار قبره. ثالثاً، لأنه رأى ثمرة أتعابه وعليه تمت النبوة القائلة من تعب نفسه يرى ويشبع. رابعاً، قيل في هذا الإصحاح مع العظماء يقسم غنيمة وقسم محمد الغنيمة مع أنصاره. خامساً، تمت في هذه الكلمات سكب للموت نفسه في حين أنهم ينكرون موت المسيح ويقولون أنه ارتفع إلى السماء حياً. ورداً على ذلك نقول أولاً، أن الأعداد ٥ و٦ و٧ و٨ من هذا الإصحاح بكل تأكيد لا تشير إلى محمد ولا إلى شخص آخر سوى المسيح وهاك نصها "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي" (إشعياء ٥٣:‏٥-٨). ثانياً، أن نصفي عدد ٩ و١٢ لا يناسبان محمداً كيفما كانت الحالة. ثالثاً، أما من حيث كونه يقسم غنيمة فالآية تصرح بأن ذلك يتم بعد موته وتم ذلك فعلاً للمسيح بمعنى روحي أكمل وأعظم، لأن بعد موته وصعوده حالاً ابتدأ الناس من كافة الأمم والشعوب أن يؤمنوا به ويحبوه كفاديهم وإلههم وليست غنيمة أعظم من هذه. رابعاً، أما كون محمد دُفن في المدينة وليس في مكة ومن أجل ذلك جعل مع الأشرار قبره فلا ندري لأي سبب اعتبروا المدينة شريرة مع أن أهلها الأنصار الذين دافعوا عنه جهد استطاعتهم في حين أن أهل مكة رفضوه وناصبوه العدوان. خامساً، كل جزئيات هذه النبوة تمت في المسيح ما هو حرفي فحرفي وما هو روحي فروحي عدا ما فيها من الإمارات الظاهرة التي لا يمكن إسنادها إلى مقاتل كمحمد وخلاف ذلك فقد أجمع اليهود الأولون أن هذا الإصحاح نبوة عن مسيا المنتظر وكذلك كتبة أسفار العهد الجديد الملهمين اقتبسوا كثيراً من أقوال هذا الإصحاح كنبوات عن المسيح التي عاينوا إتمامها فيه ومثل هذا الإصحاح مزمور ٢٢ الذي قد تم أيضاً في المسيح لا سواه.

(١٢) إشعياء ٥٤:‏١ ظن المسلمون هذه الآية نبوة تشير إلى محمد باعتبار كونه من ذرية إسماعيل وأن يزداد أتباعه عن أتباع أنبياء إسرائيل وإليك نص الآية "تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتمْخَضْ، لأنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ قَالَ الرَّبُّ." لهذه الآية معنيان معنى حرفي ومعنى روحي فالحرفي هو أن بني إسرائيل سيعتقون من أسر بابل ويردون إلى أورشليم وتمت هذه النبوة بالمعنى الحرفي المذكور في أيام كورش ملك فارس سنة ٥٣٦ ق م (انظر عزرا ١) والمعنى الروحي شرحه بولس الرسول (انظر غلاطية ٤:‏٢١-٣١) حيث تم عندما رجعت الأمم عن عبادة الأصنام التي عبدوها من قديم الزمان إلى عبادة الله وقبلوا إنجيل المسيح ومن غريب الاتفاق أن بولس قرر في هذا الإصحاح عدم أفضلية بني هاجر على بني سارة الروحيين عدا حرمانهم من الميراث.

(١٣) إشعياء ٦٣:‏١-٦ يقول المسلمون أن المحارب المشار إليه في هذه الآيات هو محمد بدليل أنه من حملة السيف ويظنون أن بصرة المذكورة هنا هي مدينة بصرة الشهيرة غير أننا نجد في العدد الأول أنها من بلاد أدوم وتُدعى اليوم البصيرة واقعة على مسافة قصيرة من جنوب البحر الميت ثم إذا قابلنا عدد ٥ من هذا الإصحاح مع إشعياء ٥٩:‏١٥ و١٦ نجد المحارب المشار إليه هو رب الجنود الذي انتقم من أدوم على خطاياها وورد مثل هذا الوصف في رؤيا يوحنا ١٩:‏١١-١٦ حيث يظهر أن ذلك المحارب إنما هو كلمة الله الذي سيعاقب الفجار ويهزمهم نهائياً ويضع كل أعدائه تحت قدميه (كورنثوس الأولى ٥:‏٢٥).

(١٤) إشعياء ٦٥:‏١-٦ قالوا أن هذه الآيات نبوة عن اهتداء العرب إلى الإسلام والآيات التي بعدها تنبئ عن خطايا اليهود والنصارى التي بسببها رفضهم الله والحقيقة هي أن عدد ١ نبوة عن اهتداء كثير من الأمم إلى المسيح ولو أن من عدد ٢-٦ تذكر خطايا اليهود، ولكن من عدد ٨:‏١٠ يصرح أن الله لا يرفض شعبه المحبوب رفضاً نهائياً بل يعود ويقبلهم (انظر رومية ١١) ولم يرد هنا شيء بخصوص المسيحيين ولا عن محمد.

(١٥) دانيال ٢:‏٤٥ زعم بعضهم أن هذه الآية تنبئ عن ظهور الإسلام وامتداده وقالوا أن المماليك الأربع المذكورة في هذا الفصل هي الكلدانيون والمديانيون والفرس واليونان وأن اسكندر الكبير هزم الفرس وفرق شملهم إلا أنها عادت على سابق مجدها فيما بعد وأخذت تضعف تارة وتقوى أخرى إلى زمن كسرى أنوشروان.

وبعد موت محمد قصدها جيوش المسلمين وفتحوها وفتحوا ما بين النهرين وفلسطين وعليه فمملكة الإسلام هي المقصودة بالمملكة التي خلفت الممالك الأربع وسادت على كل الأرض (عدد ٤٤:‏٤٥).

والحقيقة أن هذا الشرح لا ينطبق على حقائق التاريخ لسبب ظاهر وهو أن لم يكن للمديانيين مملكة بعد البابليين بل هما مملكة واحدة بدليل أن داريوس المادي (دانيال ٥:‏٣١ و٦ و٩:‏١) قد ملك على الكلدان وهي الإقليم الواقع حول بابل بضعة شهور ثم صار نائباً للملك كورش العظيم وبهذا ابتدأت المملكة الثانية أي مملكة الفرس (دانيال ٨:‏٣ و٤ و٢٠). ثانياً، اليونان خلفت الفرس فكانت المملكة الثالثة (دانيال ٨:‏٥ و٧ و٢١) وخلفت اليونان الرومان وهي المملكة الرابعة (دانيال ٢:‏٤٠) التي عظمت فوق الكل إلا أن مؤرخي المسلمين أهملوها بالكلية رابعاً. أما مملكة الفرس المتجددة فلا يمكن أن تكون هي المملكة الرابعة بل يجب إما أن تكون المملكة الخامسة أو الثالثة والنبوة تشير إلى ما يحدث في عهد المملكة الرابعة (دانيال ٢:‏٤٠ و٤٤ و٧:‏٧ و١٩ و٢٣). أما كون اليونان المملكة الثالثة لا الرابعة كما زعم المسلمون فظاهر مما قيل عنها أنها غلبت الفرس وخلفتهم (دانيال ٨:‏٥ و٧ و٢١). وانقسمت اليونان إلى أربعة أقسام من بعد موت اسكندر الكبير (دانيال ٨:‏٨ و٢٢). وأخذ يتقلص ظلها حتى اندمجت في المملكة الرومانية التي شمل نفوذها العالم المتمدن في ذلك العصر. وفي أثناء حكم الرومانيين وُلد يسوع في اليهودية وكانت خاضعة لهم والمملكة التي أسسها يسوع حينئذ لم تكن من هذا العالم (يوحنا ١٨:‏٣٦ ولوقا ١:‏٣١-٣٣ ودانيال ٧:‏١٣ و١٤ و٢٧) بدليل أنها لم تقم بالسيف كممالك العالم وعدا ذلك دعا المسيح نفسه ابن الإنسان. ومن هنا يظهر أنه هو الشخص الذي رآه دانيال في رؤياه جالساً على سحاب السماء سائداً على كل الأرض (دانيال ٧:‏١٣) ومملكته هي التي وصفها دانيال بالحجر الذي قطع بغير يدين وملأ كل الأرض (دانيال ٢:‏ ٤٥) ولما يأتي ثانياً إلى أرضنا تسجد له كل ركبة (فيلبي ٢:‏٩-١١).

(١٦) حبقوق ٣:‏٣ "اَللّهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ، وَالْقُدُّوسُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ." ظن المسلمون قوله والقدوس من جبل فاران إشارة إلى محمد غير أن آخر الآية يقول:‏"جَلالُهُ غَطَّى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضُ امْتَلاتْ مِنْ تَسْبِيحِهِ" وهذا دليل صريح على أن محمد ليس المراد بالقدوس بل الله الذي يرجع إليه الكلام من أول الآية حيث يقول اَللّهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ .. الخ. هذا وقد اثبتنا أن جبل فاران واقع في شبه جزيرة سينا لا في مكة كما زعموا وتيمان اسم لإقليم أدوم وفيه مدينة قريبة من بترا وعلى مسيرة أيام قليلة من أريحا نحو الجنوب فجبل فاران وإقليم تيمان متقاربان وهما إلى مدينة أورشليم أقرب بكثير منهما إلى مكة. جاء في سفر التكوين (٣٦:‏١١ و١٩) ما يثبت تناسل تيمان من عيسو أصل الأدوميين ويوافق على ذلك المؤرخون وعلماء الجغرافيا كما يوافق عليه الأنبياء الذين كتبوا عن هذه المدينة وهم أرميا (٤٩:‏٧ و٢٠) وحزقيال (٢٥:‏١٣) وعاموس (١:‏١١ و١٢) وعوبديا (٨ و٩ و١٠) فإن كان إخواننا المسلمون لم يقتنعوا بهذه الأدلة على أن تيمان لا علاقة لها بالمرة بمحمد ولا إسلامه وتمسكوا برأيهم فنقول حسناً إذا كانت تيمان لها علاقة بالإسلام فقد تنبأ عنها عوبديا بالويلات والدمار وبالتالي عن الإسلام إلا أننا نحن المسيحيين لا شك عندنا بأن تيمان ليست من الإسلام في شيء.

(١٧) حجي ٢:‏٧ "وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الأمَمِ. وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأمَمِ، فَأَمْلا هَذَا الْبَيْتَ مَجْداً قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ." قالوا أن المراد بمشتهى الأمم محمد وذلك لأن مشتهى في اللغة العبرانية متصرفة من حمداه المتصرف منها محمد فنقول قد أثبتنا حتى في اللغة العربية نفسها أن ليس كل ما يتصرف من مادة حمد يشير إلى محمد فمن باب أولى اللغة العبرانية ثم أن هذا الكلمة عينها حمداه وردت في نبوة دانيال (١١:‏٢٧) بمعنى شهوة النساء وعليه فلا دليل منطقي يترتب على كلمة يشتق منها ألفاظ ذات معاني مختلفة كما أننا لا نقدر أن نصدق أن محمداً كان مشتهى كل الأمم وذلك لأنه فتح البلاد بالسيف وكل فاتح بالسيف مكروه لا مشتهى خصوصاً عند الأمة المغلوبة والمحتمل أن مشتهى الأمم إما أن يكون (١) الذهب والفضة المذكورة في عدد ٨ أو (٢) اختيار كل الأمم الذي يدعوه الرسول بولس اختيار النعمة (رومية ١١:‏٥) الذي منهم تألفت الكنيسة المسيحية أو (٣) الرب يسوع المسيح نفسه الذي جاء إلى هيكله ومن مدينة المقدس أفاض على كل الأمم سلاماً بواسطة ذبيحة نفسه التي قدمها كفارة عن خطايا العالم (حجي ٢:‏٩ وملاخي ٣:‏٣ ومتى ١٢:‏٦ و٤١ و٤٢ ولوقا ٢٤:‏٣٦ ويوحنا ١٤:‏٢٧ و١٦:‏ ٣٣ و٢٠:‏١٩ و٢١ و٢٦).

ثم أن الشيعة يحتجون أيضاً ببعض آيات من التوراة ظناً منهم أنها نبوات عن محمد وإن كان أهل السنة لا يوافقونهم عليها إلا أنه من المحتمل أن تكون لهم وجهة معقولة في احتجاجهم ولهذا رأينا أن نسرد ما قالوه في هذا الصدد.

(١٨) "وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً" (تكوين ١٧:‏٢٠) قالوا أن قوله اثني عشر رئيساً يلد نبوة عن الاثني عشر إماماً الذين يعتبرونهم خلفاء محمد الشرعيين في الإمامة ورداً على ذلك لا نقول شيئاً سوى أن نستلفت نظرهم إلى هذا السفر عينه الذي اقتبسوا منه هذه الآية (٢٥:‏١٣-١٦) حيث نجد الوعد المشار إليه قد تم وولد إسماعيل اثني عشر رئيساً وذكرت أسماؤهم وبعدها قيل هؤُلاءِ هُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَهذِهِ أَسْمَاؤُهُمْ بِدِيَارِهِمْ وَحُصُونِهِمْ. اثْنَا عَشَرَ رَئِيساً حَسَبَ قَبَائِلِهِمْ وعليه فقد تمت هذه النبوة بدون احتياج إلى محمد وخلفائه.

(١٩) إرميا ٤٦:‏١٠ "فَهذَا الْيَوْمُ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ يَوْمُ نَقْمَةٍ لِلاِنْتِقَامِ مِنْ مُبْغِضِيهِ، فَيَأْكُلُ السَّيْفُ وَيَشْبَعُ وَيَرْتَوِي مِنْ دَمِهِمْ. لأنَّ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً فِي أَرْضِ الشِّمَالِ عِنْدَ نَهْرِ الْفُرَاتِ" قالوا أن قوله لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً الخ نبوة عن قتل الحسين في واقعة كربلاء زاعمين أن الحسين مات كفارة عن الخطية ودحضاً لهذه الدعوى نقول إذا تأملنا في العدد الثاني من هذا الإصحاح عينه نجد الإشارة إلى جيش فرعون ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش الذي ضربه نبوخذ نصر ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم ملك يهوذا سنة ٦٠٦ ق م ولا أحد من المسلمين يقدر أن يدعي بأن مذبحة المصريين، الذين كانوا من عبدة الأصنام حينئذ، تكون كفارة عن الخطية فضلاً عن أن الكلمة المستعملة للدلالة على ذبيحة استعملت أيضاً للدلالة على مذبحة كما في هذه المواضع (إشعياء ٣٤:‏٦-٨ وحزقيال ٣٩:‏١٧-٢١ وصفنيا ١:‏٧ و٨). ونقول أخيراً لا يمكن أن يكون أرميا النبي عنى كربلا بقوله أرض الشمال.

ولنأتِ الآن إلى أسفار العهد الجديد ونفحص باعتناء ودقة الفصول التي يوردها المسلمون للاستدلال على نبوة محمد.

(١) متى ٣:‏٢ "تُوبُوا، لأنَّهُ قَدِ  اقْتَرَبَ  مَلَكُوتُ  السَّماوَاتِ"  هذه  كلمات  يوحنا  المعمدان  وكررها  الرب  يسوع (متى ٤:‏١٧) زعم المسلمون أن ملكوت السماوات إشارة إلى مملكة الإسلام (انظر متى ١٣:‏٣١ و٣٢) وأما القرآن فهو شريعة هذه المملكة .. الخ، ونحن نقول يجب لفهم معنى ملكوت السماوات أو ملكوت الله أن نراجع المواضع التي وردت فيها هذه العبارة ففي (متى ١٢:‏٢٨) قال المسيح "وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللّهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ." وفي مرقس ٩:‏١ قال يسوع لتلاميذه "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:‏إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْماً لا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللّهِ قَدْ أَتَى بِقُّوَةٍ." وفي مواضع أخرى يصرح بأن هذا الملكوت يبدأ به إلى حد ما في حياته ثم يمتد بعد موته ويكمل بعد مجيئه ثانياً ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال ٧:‏١٣ و١٤ ورؤيا يوحنا ١١:‏١٥). وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى ٢٨:‏٨-٢٠) واعلم أنه ليس ملكوت السموات نظير ممالك العالم (يوحنا       ١٨:‏٣٦) وأنه لا يأتي بأبهة وزخرفة عالمية (لوقا ١٧:‏٢٠) ويخص المساكين بالروح (متى ٥:‏٣) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر الذين يبطلون ولا يقدر أحد كائناً من كان أن يتتبع لهذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا ٣:‏٣ و٥) ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (كورنثوس الأولى ٦:‏٩ و١٠ وغلاطية ٥:‏٢٠ و٢١ وأفسس ٥:‏٥). ولهذه البراهين والأدلة لا مناسبة بين المملكة التي أسسها محمد وخلفاؤه وبين ملكوت السماوات.

(٢) مت ١٧:‏١١ "فَأَجَابَ يَسُوعُ:‏إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَّوَلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْ"، وظن بعضهم أن قوله إِيلِيَّا يَأْتِي أَّوَلاً نبوة عن مجيء محمد إلا أننا إذا قرأنا العدد التالي نجد أن إيليا قد أتى وعلى ذلك قوله "إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإنْسَانِ أَيْضاً سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ . حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ." (متى ١٧:‏١٢ و١٣) نعم أن يوحنا غير إيليا في شخصه لأن التناسخ ليس من تعاليم الكتاب المقدس لهذا لما سئل يوحنا إن كان هو إيليا أم لا أجاب لست أنا وإنما كان سابقا للمسيح ليعد الطريق أمامه بروح إيليا وقوته (لوقا ١:‏١٧) كما أنبأ جبريل أباه زكريا (لوقا ١:‏١٩). وبهذا المعنى كما تنبأ ملاخي أيضاً (ملاخي ٤:‏٥) كان يوحنا المعمدان إيليا النبي لأن كليهما عاشا  بكيفية  واحدة  (قابل متى ٣:‏٤ مع ملوك الأول ١٧:‏١-٦).

(٣) متى ٢٠:‏١-١٦ فسر المسلمون هذا المثل بكيفية غريبة لإثبات نبوة محمد فقالوا الفعلة الذين اشتغلوا من الصباح هم اليهود والذين اشتغلوا من الظهر هم النصارى والذين اشتغلوا في المساء هم المسلمون. ١ ورداً على ذلك نقول أن المساء المشار إليه في عدد ٨ هو عبارة عن الوقت الذي ذكره في متى ١٩:‏٢٨ أي وقت التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده كأنه عنى بالمساء آخر الدهور الذي فيه يأتي الرب يسوع على سحاب السماء بقوة ومجد كثير لكي يدين الأرض (متى ٢٤:‏٣٠ و٣١ ومرقس ١٣:‏٢٦ و٢٧ ولوقا ٢١:‏٢٧ ورؤيا يوحنا ١:‏٧ و٢٠:‏١١-١٥) يظهر صحة تفسير المساء بما ذكرناه من مقدمة المثل وخاتمته لأنه يبتدئ بتعليل السبب الذي من أجله يكون الأولون آخرين والآخرون أولين وينتهي بهذه النتيجة والآن قد أقبل المساء وكادت تغرب شمس الدهر الحاضر وكل من النصارى والمسلمين ينتظرون رجوع المسيح، ثانياً، ويتوقعون حدوث ذلك قريباً جداً ومتى جاء يملك على كل الأرض إلى ما شاء الله ويدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته (تيموثاوس الثانية ٤:‏١). ومما تقدم يظهر أن لا فرصة في وقت المساء للعصر الإسلامي وبالتالي لا نبوة في المثل المذكور عن محمد.

(٤) متى ٢١:‏٣٣-٤٤ (انظر مرقس ١٢:‏١-١١ ولوقا ٢٠:‏٩-١٨) قالوا أن المسيح انبأ في هذا المثل عن مجيء محمد وقوته بطشه وسلموا أن رب البيت هو الله وأن ابنه هو المسيح وأنه تكلم عن نفسه كأن اليهود قتلوه وكان يجب عليهم ما دام المسيح قائل هذه الأقوال أن يسلموا بها ويقروا أن المسيح ابن الله وأنه مات عن خطايا العالم. ولو أقروا بذلك ما كان أغناهم عن البحث في شؤون محمد ولكن إذا كانوا لا يسلمون أن المسيح هو الضارب لهذا المثل، فمن العبث أن يحتجوا بكلام يعتقدون بطلانه. ومما يجب ملاحظته في هذا المثل أنه من بعد إرسال الابن لم يرسل رسول آخر وحيث أنهم سلموا أن المرسلين الأولين كانوا خداماً وعبيداً لرب البيت كان الرسول الأخير الابن فليس من المعقول أنه من بعد ما أرسل الابن يمشي القهقرى ويرسل العبيد ومن هنا يظهر بطلان دعواهم مرة أخرى. عدا ذلك فإن المسيح اقتبس هنا خبر الحجر الذي رفضه البناؤون (مزمور ١٨:‏٢٢) وأن بطرس الرسول صرح بأن صاحب سفر المزامير عنى بالحجر الذي رفضه البناءون المسيح نفسه حيث يقول "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ بِا سْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ الَّذِي أَقَامَهُ اللّهُ مِنَ الأمْوَاتِ. بِذَاكَ وَقَفَ هذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحاً. هذَا هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي احْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا البناءون الَّذِي صَارَ رَأْسَ الّزَاوِيَةِ" (أعمال الرسل ٤:‏١٠ و١١ وبطرس الأول ٢:‏٤-٨). وعليه فالبناءون كانوا يهود عصره لا إبراهيم ولا إسماعيل اللذين بنيا الكعبة على زعمهم وقال المثل خطاباً لليهود "إِنَّ مَلَكُوتَ اللّهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ" (متى ٢١:‏٤٣) وقالوا معنى هذا الكلام هو أن يؤخذ ملكوت الله من اليهود ويعطى للإسماعيليين إلا أن العهد الجديد يبين أنه يعطى للذين يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً الذين هم "جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ وقال لهم لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللّهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ" (بطرس الأولى ٢:‏٩ و١٠) وهنا تلميح لطيف إلى الأثمار التي يطلبها رب البيت من الأمة التي تتولى الكرم وورد ذلك بأكثر تصريح في كلام الرسول عن المسيح حيث يقول "ا لَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأجْلِنَا لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ" (تيطس ٢:‏١٤ وغلاطية ٥:‏٢٢-٢٤). وإلى هنا نكون قد انتهينا من إظهار الأمة التي أعطي لها الكرم ألا وهي الكنيسة المسيحية والكرم هو ملكوت الله (متى ٢١:‏٤٣ يشرح عدد ٤١). وعليه فلا إشارة في هذا المثل إلى محمد ولا أمته كما أنه قد ثبت أن الحجر الذي رفضه البناءون هو المسيح نفسه لا الحجر الأسود الذي بحائط الكعبة ولا محمد ولا هاجر.

وأما مقاومة المسيح وعدم الرضوخ له فأبان المثل أنه هو الأمر المثير لسخط الله وحلول نقمته على أعدائه وقد تم شيء من ذلك عند خراب أورشليم وتمثيل الرومان باليهود تمثيلاً فظيعاً في سنة ٧٠ للميلاد أو بعد صلب المسيح بنحو أربعين سنة وظن بعض المسلمين أن المراد برب البيت المشار إليه في المثل هو محمد ولكن ذلك ما لا يمكن إثباته لأن المسيح في عدد ٣٧ بحسب ما جاء في المثل كان ابن رب البيت ولا يتصور أحد أن المسيح ابن محمد وعليه فلا يمكن تطبيق هذا المثل على ما زعمه المسلمون وإثبات دعواهم إلا بثلاثة أشياء الأول تحريف المثل والثاني إغفال القرينة وسياق الكلام والثالث إغفال النصوص الكثيرة الواردة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد.

(٥) "وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً:‏يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (مرقس ١:‏٧) قالوا أن الإنجيل كلام المسيح وهذه الآية من الإنجيل فهي من كلام المسيح وعليه يكون المسيح أنبأ بمجيء نبي أفضل منه بكثير هو محمد. من يتأمل هذه الأقوال الدالة على إثبات نبوة نبيهم بما في ذلك عدد ٦ أي ما قبل آية الاستدلال نجد أنها تُصرح باسم القائل لها ألا وهو يوحنا المعمدان لا يسوع وصرح يوحنا في (يوحنا ١:‏١٦-٣٤) أن الآتي بعده هو المسيح لا محمد ومن ذلك قوله "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ:‏هُوَذَا حَمَلُ اللّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يوحنا ١:‏٢٩ و٣٠ انظر متى ٣:‏١١-١٤ ولوقا ٣:‏١٦ و١٧). فإذا قيل أن يسوع كان معاصراً ليوحنا فلا يصح أن يقول عنه أنه يأتي بعده فنجيب وإن كان معاصراً له إلا أنه لم يبدأ بخدمته كرسول إلا من بعد طرح يوحنا في السجن (مرقس ١:‏١٤ ومتى ٤:‏١٢ و١٧) وانتهاء خدمته لأن هيرودس ملك اليهود أمر بقطع رأسه.

(٦) يوحنا ١:‏٢١ "فَسَأَلُوهُ:‏إِذاً مَاذَا إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ:‏لَسْتُ أَنَا. أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟ فَأَجَابَ:‏لا." قال المسلمون أن نبيهم قد ذكر في هذه الآية وذلك لأن اليهود سألوا يوحنا المعمدان متحرين عن ثلاثة أنبياء بالتوالي المسيح وإيليا والنبي ولم يخالفهم في ما سألوا عنه فاستنتجوا من ذلك أن النبي المشار إليه هنا لا هو إيليا ولا هو المسيح بل محمد كذلك النبي الذي تنبأ عنه موسى (تثنية   ١٨:‏١٨) هو محمد لا المسيح ولا إيليا. ورداً عليهم نقول أنه من حيث النبي الذي كتب عنه موسى (تثنية ١٨:‏١٨) فقد أثبتنا في ما تقدم أنه لا يمكن أن يكون محمداً وإنما هو المسيح راجع ذلك في موضعه، وعليه فالنبي المشار إليه في سؤال اليهود ليوحنا المعمدان هو المسيح بذاته وسأل اليهود عن الثلاثة مبتدئين بالأخير إلى الأول باعتبار ترتيب زمان ظهورهم فقالوا ليوحنا أنت المسيح ظناً منهم ربما يكون إياه فلما أنكر يوحنا كونه المسيح عادوا فسألوه إن كان هو سابقه إيليا (ملاخي ٤:‏٥ ومتى ١٧:‏١٠ ومرقس ٩:‏١١) فأنكر أيضاً كونه إيليا بالذات لأنهم كانوا ينتظرون أن يرجع إيليا بنفسه إلى الأرض في آخر الزمان مع أن يوحنا، وإن لم يكن إيليا بالذات، لكنه جاء بروحه وقوته لإعداد طريق المسيح كما تقدم الكلام (راجع ملاخي ٤:‏٥ بالمقابلة مع متى ١١:‏١٤) ولما لم يفهم اليهود من هو يوحنا المعمدان إذا لم يكن المسيح ولا إيليا حاروا في أنفسهم والتجئوا إلى رأي آخر. وهو أن النبي الذي كتب عنه موسى هو سابق آخر للمسيح وليس من المعقول ولا المحتمل أن يكون سؤالهم ليوحنا عن نبي يأتي بعد المسيح بمئات من السنين في حين أن المسيح نفسه لم يكن قد ظهر بعد، ولهذا يلزم أن يكون سؤالهم إما عن المسيح أو أحد سابقيه لا عن نبي يأتي بعده.

(٧) يوحنا ٤:‏٢١ "قَالَ لَهَا يَسُوعُ:‏يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لا فِي هذَا الْجَبَلِ وَلا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ للآبِ". بنى بعض المسلمين على هذه الآية أن أورشليم من ذلك الوقت فصاعداً لا تكون قبلة للمصلين ويحل محلها الكعبة إلا أن عدد ٢٣ و٢٤ التاليين لهذه الآية يظهران ما قصده المسيح بقوله لا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ لأنه علمنا أن العبادة التي تحوز القبول عند الله لا تتوقف على المكان التي نقدم فيه بل تتوقف على حالة قلب العابد وقضى قضاء مبرماً على كل ما يقال له قبلة للصلاة بعد ذلك التاريخ.

(٨) يوحنا ١٤:‏٣٠ "لا أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ." قال المسلمون أن رئيس العالم الذي بشر بمجيئه المسيح إنما هو محمد. ورداً عليهم نقول أنه يظهر من سياق الكلام والقرينة أن المسيح لم يعن برئيس العالم هنا نبياً ولا رسولاً بل عنى إبليس بدليل قوله ليس له فيّ شيء فإن هذه العبارة لا تشير إلى حبيب موال كشأن النبي إلى زميله النبي بل تشير إلى عدو مقاوم. وورد في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس ذكر إبليس موسوماً بألقاب فخمة من ذلك قوله "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجاً" (يوحنا ١٢:‏٣١) وقوله "الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلا تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ .. الخ" (كورنثوس الثانية ٤:‏٤) ودعي إبليس "رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ"(أفسس ٢:‏٢ و٦:‏١١ و١٢).

(٩) (يوحنا ١٤:‏١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:‏٢٦ و١٦:‏١٣ .. الخ) يجزم المسلمون أن كلمة الباراكليت المترجمة المعزي يجب أن تترجم محمد وعليه يكون المسيح تنبأ عن محمد في هذه الآيات ويقولون أن القرآن الذي جاء به هو من عند جبريل وهو عندهم الروح الأمين أي الروح القدس وأنه شهد للمسيح (يوحنا ١٥:‏ ٢٦ ومجده يوحنا ١٦:‏١٤) كما مجده القرآن وذلك لأن القرآن رفع مقام المسيح كمولود من عذراء وكنبي ورسول مؤيد بالمعجزات والآيات وقال أنه صعد إلى السماء حياً وأن الله آتاه الإنجيل ونفى عنه البنوة لله التي زعمها النصارى .. الخ. وقالوا أيضاً أن النصارى الأولين فهموا من أقوال المسيح بخصوص إرسال الباراكليت أن نبياً آخر عظيماً سيأتي بعده بدليل أن رجلاً يسمى ماني الفارسي ادعى أنه الروح القدس بعد المسيح ببضعة قرون وراجت دعوته عند بعضهم استناداً على هذه النبوة إلى آخر ما قالوا. أما نحن فنقول ليس أحد خبيراً بالإنجيل يقدر أن يستنتج من كلام المسيح عن إرسال الروح ما استنتجه إخواننا مما ورد في (يوحنا ١٤ و١٥ و١٦) وذلك لما يأتي:‏ أولاً أن كلمة باراكليت لا تعني محمداً بل تعني المعزي أو المؤيد كما في قوله وأيدناه (المسيح) بروح القدس (قرآن) أو الوكيل وهذه لا تناسب محمداً مطلقاً لأن المعنى الأول أي المعزي لا يلائم حامل السيف بل هما ضدان والمعنيين الأخيرين المؤيد والوكيل لا يصح إسنادهما إلى مخلوق كائن ما كان لأنهما من ألقاب الله سبحانه وتعالى كما ورد في القرآن وما أرسلناك عليهم وكيلاً (سورة الأسرى عدد ٥٥ وسورة النساء عدد ٨٠). ثانياً، أن كلمة الباراكليت لم تستعمل في أسفار العهد الجديد إلا للدلالة على الروح القدس (يوحنا ١٤:‏١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:‏٢٦ و١٦:‏١٣) وجاءت أيضاً للتلميح إلى المسيح (يوحنا ١٤:‏١٦ وانظر يوحنا الأولى ٢:‏١). ثالثاً، أن الباراكليت حسبما ورد في هذه الآيات لا يمكن أن يكون إنساناً ذا روح وجسد بل هو روح محض غير منظور وهو روح الحق الذي عندما تكلم المسيح عنه بأنه يأتي. إنه الروح الذي مكث مع التلاميذ (يوحنا ١٤:‏١٧ و١٦:‏١٤). رابعاً، أن الذي يرسله هو المسيح كما في (يوحنا ١٥:‏٢٦ و١٦:‏١٧) وإخواننا المسلمون لا يقبلون على محمد أن يكون رسول المسيح. خامساً، كان محمد رجل حرب وغزو يفتح البلاد بسيفه ويدوخ العباد بجيشه وأما الروح القدس فعمله أن يبكت العالم على الخطية وجوهر الخطية عدم الإيمان بالمسيح (يوحنا ١٦:‏٩) فما أعظم الفرق. سادساً، قيل عن الروح القدس أنه متى جاء يمجد المسيح لا يمجد نفسه لأنه يأخذ مما للمسيح ويخبرنا (يو ١٦:‏١٤ و١٥). سابعاً، أن محمداً والقرآن ينكران بنوة المسيح لله وقد صرح أنه ابن الله بقسم (في مرقس ١٤:‏٦١) وكذا ينكران لاهوته مع كونه مثبوتاً في كل أسفار العهد القديم (إشعياء ٩:‏٦ ومزمور ٤٥:‏٦) والعهد الجديد (يوحنا ١٠:‏٣٠ وعبرانيين ١) وبناء عليه لا يكون محمد وقرآنه ممجدين للمسيح بل مضادين له على خط مستقيم وبالتالي لا يكون محمد الروح القدس كما زعموا. ثامناً، أن محمداً وقرآنه ينكران صلب المسيح الذي به صار التكفير عن خطايا العالم وبهذا قد أنكرا حقيقة جوهرية من أعظم حقائق الكتاب المقدس (انظر مزمور ٢٢:‏ وإشعياء ٥٢:‏١٣-٥٣ كله ومتى ٢٠:‏١٩ .. الخ) والتي يترتب عليها خلاص الجنس البشري. تاسعاً، أن إنكار المسيح يترتب عليه إنكار قيامته التي هي رجاء جميع المسيحيين (كورنثوس الأولى    ١٥:‏١٧-١٩)، وحيث أن محمداً يخالف الإنجيل في هذه النقط الرئيسية وغيرها ويعارض التعاليم التي أمر رسله أن يكرزوا بها للعالم (متى ٢٨:‏٢٠) فلا يصح أن يقال عنه أنه متمم لنبوة إرسال الروح القدس الذي إنما جاء ليذكر التلاميذ بكل ما قاله لهم المسيح (يوحنا ١٤:‏٢٦). عاشراً، أن احتجاجهم بما ادعاه ماني من أنه الروح القدس وتطبيقهم دعوة محمد على قول ماني دعوة باطلة وشاهد زور وإذا كان أحد منا يضاهي بين محمد وماني وبين قرآن الأول وكتاب الآخر الذي ادعى كما ادعى محمد أنه جاء به من السماء وأنه ليس في طاقة البشر أن يأتوا بمثله ولم يأتوا بمثله لجرحنا مشاعر إخواننا المسلمين وأغضبناهم ولكن ليكن معلوماً أن كاتب هذه السطور يتحاشى على قدر إمكانه أن يبدي مضاهاة كهذه حفاظاً على السلام.

واعلم أن المطلعين من المسيحيين رفضوا دعوة ماني بأنه الروح القدس لجملة أدلة منها أن النبوات المتعلقة بالباراكليت لا تشير إلى إنسان بل إلى روح، ومنها أن هذه النبوات تمت بعد صعود المسيح ببضعة أيام وذلك بحلول الروح القدس على المائة والعشرين مسيحياً الذين كانوا يسبحون الله في العلية في مدينة أورشليم وأخذوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا (راجع أعمال الرسل ٢:‏١-٣٦). ومن هنا يظهر أن تعليم العهد الجديد في عصر ماني هو كما في العصر الحاضر وأن المسيح وهو على الأرض أخبر بظهور أنبياء كذبة وذلك في مواضع كثيرة من الإنجيل وحذرنا من الانقياد لأي نبي يأتي بعده (متى ٢٤:‏١١ و٢٤ ومرقس ١٣:‏٢٢ قابل متى ٧:‏١٥). لهذا عندما ظهر ماني وادعى النبوة رفضه مسيحيو عصره بناء على ما سبق التحذير منه في الإنجيل واعتبروه نبياً كذاباً كما يعتبره إخواننا المسلمون. حادي عشر، أن الباراكليت قيل عنه أنه سيسكن في قلوب المسيحيين الحقيقيين (يوحنا ١٦:‏١٤ قابل كورنثوس الأولى ٦:‏١٩ ورومية ٨:‏٩) وهذا لا يمكن أن يصدق على محمد. ثاني عشر، قد وعد المسيح بأن الروح القدس (يوحنا ١٤:‏٢٦) يجب أن ينزل من السماء على التلاميذ بعد صعوده بأيام قليلة وأمرهم أن لا يباشروا خدماتهم كرسل (متى ٢٨:‏١٩-٢٠) حتى يحل عليهم الروح القدس (أعمال الرسل ١:‏٢٥) وبناء على أمره مكثوا في أورشليم إلى أن تم هذا الوعد (انظر لوقا ٢٤:‏٤٩ وأعمال الرسل ١:‏٤ و٨ و٢:‏١-٣٦). فهل تظنون أن مراد المسيح أن ينتظر تلاميذه بدون أن يمارسوا عملهم مدة ستمائة سنة إلى أن يأتي محمد؟ هذا محال وعليه فلا تشير النبوة هنا إلى محمد بوجه من الوجوه بل إلى الذي تم يوم الخمسين بعد صعود المسيح بأيام قليلة كما قدمنا ذكره (انظر أعمال الرسل الإصحاح ٢)، وبعد ذلك الوقت نالت جماعة الرسل قوة فائقة وحكمة واسعة وجالوا يكرزون بالإنجيل في الأرض كلها.

(١٠) يوحنا الأولى ٤:‏٢ و٣ "بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللّهِ:‏كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللّه، وَكُلُّ رُوحٍ لا يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ." ظن بعض المسلمين أن قوله روح الله يشير إلى محمد بدليل أنه اعترف بأن المسيح قد جاء في الجسد كما تقول الآية ومعنى ذلك عندهم هو حيث أن محمداً أنكر لاهوت المسيح في الجسد وصرح أنه إنسان كسائر الناس يكون قد اعترف بأن المسيح قد جاء في الجسد مع أن قوله جاء في الجسد يراد به نفي ضلالة ظهرت في ذلك الوقت ألا وهي أن جسد المسيح لم يكن جسداً حقيقياً بل خيالياً لأنه إذ كانوا يعتقدون بأنه إله شق عليهم أن يؤمنوا أيضاً بأنه ذو جسد حقيقي وعللوا أعراضه الجسدية المذكورة في الإنجيل مثل كونه أكل وشرب وتعب ونام واستيقظ ومات وقام الخ من قبيل التصورات الخيالية التي لا وجود لها في الحقيقة. فإذا قيل لهم كان المسيح يأكل الطعام فكيف لا يكون جاء في الجسد أجابوك لم يأكل المسيح ولم يشرب حقيقة ولكن شبه لهم وإذا قيل لهم كان المسيح ينام وينتبه من النوم قالوا كلا بل شبه لهم. وإذا قيل مات المسيح وقام قالوا لم يمت حقيقة ولم يقم ولكن شبه لهم. ودفعاً لشر هذه الضلالة أنذرنا الوحي على لسان يوحنا الرسول بأن كل من يعترف بأن المسيح جاء في الجسد أي يعترف بأن أعراضه الجسدية التي ذكرت في الإنجيل كانت حقيقية فهو من الله وكل من ينكر كونه جاء في الجسد أي ينكر كون أعراضه الجسدية كانت حقيقية فليس من الله ومحمد أنكر موت المسيح وهو من أعظم أعراضه الجسدية وكانت طريقة إنكاره مثل طريقة أصحاب تلك الضلالة بمعنى أنه حول واقعة الحال إلى واقعة خيال فقال ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم فتأمل.

(١١) يهوذا ١٤ و١٥ "وَتَنَبَّأَ عَنْ هؤُلاءِ أَيْضاً أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً:‏هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمُ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا .. الخ." تجرأ بعض المسلمين وقالوا أن الرب في هذه العبارة يراد به محمد وقوله يصنع دينونة يشير إلى كونه متقلداً بالسيف ومثيراً للحرب على أعدائه ولكن لا مسلم حقيقي يقدر أن يسند لقب الرب إلى مخلوق كائناً من مكان لأنه من ألقاب الله انظر سورة التوبة آية ٢٢. والحقيقة أن أخنوخ تنبأ عن المسيح باعتبار مجيئه الثاني عندما يملك على الأرض (ودانيال ٧:‏١٣ و١٤ ومتى ٢٤:‏٢٩-٥١ وتسالونيكي الثانية ١:‏٦-١٠ ورؤيا يوحنا ١:‏٧ و١٩:‏١١-٢١) واسم الرب من ألقاب المسيح التي كثر إسنادها إليه في أسفار العهد الجديد وأسندت إليه بحق كما نعلم من فيلبي ٢:‏٩-١١.

(١٢) رؤيا يوحنا ٢:‏٢٦-٢٩ "وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَاناً عَلَى الأمَمِ فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً مِنْ عِنْدِ أَبِي وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ .. الخ." قالوا أن هذا نبوة عن محمد بدليل أنه حارب الأمم بسيفه وأخضع كثيراً منهم تحت سلطانه فإن صحت دعواهم ينتج أن محمداً استمد هذه القوة والسلطان من المسيح جزاء له على تمسكه بوصاياه وحفظه أعماله إلى النهاية وبالتالي كان مقامه دون مقام المسيح إلا أن إخواننا المسلمين لا يرضيهم ذلك ولا يرضيهم أن يكون مقامه كمقام المسيح بل أعظم منه. وكيف لا وهو عندهم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين والحقيقة هي أن من يراجع الإصحاح الثاني والثالث من هذا السفر يجد أن المتكلم هو المسيح يحث أعضاء الكنائس السبع على الغلبة واعداً من يغلب بأحسن الجزاء وكرر ذلك سبع مرات فلا يشير إلى محمد ولكنه يتكلم كلاماً عمومياً لترغيب شعبه في الغلبة لا غلبة السيف والسهم بل غلبة الخطية والجسد والعالم والشيطان.

إلى هنا انتهينا من النبوات الواردة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي خالها المسلمون تشير إلى محمد ورأينا أن لا نبوة منها تشير إليه. هذا وقد علمنا من الإنجيل تمام العلم أنه لا يوجد كتاب يلي الإنجيل ولا نبي يأتي بعد المسيح والعصر الوحيد الآتي هو رجوع المسيح من السماء ليملك على الأرض الملك الدائم. وعلى ما تقدم سقطت دعوى محمد بالرسالة من الله سقوطاً ليس من ورائه مجالاً للشك.

حقاً أن بعضاً من المسلمين اندهشوا عندما قرءوا عن الجراد في (رؤيا يوحنا ٩:‏٣ و٤) حيث يقول "وَقِيلَ لَهُ أَنْ لا يَضُرَّ عُشْبَ الأرْضِ وَلا شَيْئاً أَخْضَرَ وَلا شَجَرَةً مَا إِلا النَّاسَ فَقَطِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ خَتْمُ اللّهِ عَلَى جِبَاهِهِمْ،" لأنهم يقصون علينا أنه حدث في زمن خلافة أبي بكر الصديق أنه زود جنوده عندما ساروا لفتح الشام بأوامر تمت معها هذه النبوة حرفياً. ومما يستحق الأخذ في الاعتبار أن نجد اثنين من مؤرخي المسلمين لا يعلمان غالباً بهذه النبوة يرويان لنا حديثاً يذكرنا بها قال جلال الدين السيوطي لما بعث أبو بكر الصديق ابن أبي سفيان لفتح الشام أمره أن لا يقتل امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا يقطع أشجاراً منتجة ثماراً ولا يتلف أرضاً مزروعة ولا ينحر شاة ولا دابة إلا ما دعت إليه حاجة الطعام ولا يقلع نخلة منتجة ولا يحرقها قبل قلعها ولا يغدر بأحد ولا يخشى أحداً وروى الواقدي الرواية عينها بأكثر تفصيل قال أمر أبو بكر الصديق ليزيد ابن سفيان أنه إذا ظفر بأعدائه لا يذبح ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا يقرب نخلة ولا يحرق مزرعة ولا يقلع أشجاراً مثمرة ولا ينحر ماشية إلا لضرورة الطعام ولا يغير ما اتفق عليه ولا ينقض محالفة صلح وإذا مر بأديرة الرهبان الذين انقطعوا لعبادة الله يدعهم وما انقطعوا إليه لا يقتلهم ولا يهدم أديرتهم وأما إذا مر بتلك الطائفة التي تعبد الشيطان والصلبان ذوي الرؤوس المحلوقة من الوسط يضربهم بسيفه إلى أن يعتنقوا دين الإسلام أو يدفعوا الجزية وهم صاغرون.

لا شك أن المشابهة عظيمة بين ما ورد في سفر الرؤيا وبين ما أمر به أبو بكر جنوده ولكن لم ترد إشارة إلى نبي ما في ذلك الموضع مما يؤيد دعوة محمد كما أنه لا مسلم خبير يقدر أن يستشهد بالآيات المذكورة ولو سلمنا أنها نبوة تمت بعد موت محمد بجملة سنين.


١. ان الذي فسر هذا المثل بهذه الكيفية هو محمد نفسه كما في البخاري وغيره اهـ مصحح