راعوث الغريبة

راعوث ١

"الرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ الْعُمْيِ. الرَّبُّ يُقَوِّمُ الْمُنْحَنِينَ. الرَّبُّ يُحِبُّ الصِّدِّيقِينَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ" (مزمور ١٤٦: ٨، ٩).

من الآية الافتتاحية نعرف أن سفر راعوث يتناول الأحداث التي جرت "فِي أَيَّامِ حُكْمِ الْقُضَاةِ". من الآية الأخيرة في السفر السابق نعرف أن أيام حكم القضاة تميزت بأمرين: فأولاً، "لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ". وثانياً، "كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ".

إنها لأمرٌ خطيرٌ وصعبٌ تلك الحالة عندما يتخلى أي شعب عن حاكمه، إذ أن هكذا شعب سيكون بلا رأس يوجّهه أو سلطة تحكمه. وعندما تكون الحالة هكذا فإن كل إنسان يفعل ما يراه صواباً في عينيه وهذا يؤول إلى أنه ما من شيء صائب يحدث.

فقدان الملكية يؤدي إلى صعود الديمقراطية التي تؤدي إلى حكم الإرادة الذاتية، وهذا قد يرمي جانباً كلَّ قيود ويؤدي إلى التساهل مع كل أنواع الإنحرافات. تحت وطأة هذه الظروف كان شعب الله مسحوقاً في أيام القضاة. وللأسف، هذه الحالة المتردية المتدنية نجد نسخةً عنها في عالمنا اليوم وسط شعب الله المعترِف. نفسُ المبادئ نجدها فعالة ومؤثرةً ومؤديةً إلى نفس النتائج. إرادة الإنسان الذاتية، وتحرره من القيود، يجعله يرفض كل سلطة. إن الملكية تتلاشى أمام إرادة الشعب حيث يسعى كل إنسان ليفعل ما يراه صائباً في عينيه. الديمقراطية سلطة ضعيفة واهنة في كل دوائر الحياة. الناس يسعون ليحكموا بدلاً من الملك وممثليه: الناس يسعون ليحكموا بدلاً من المعلمين، والأطفال بدل الآباء. والنتيجة أن نظام العالم كله يصير فاسداً أخلاقياً وسرعان ما يسقط ويتحول إلى دمار وفوضى.

ولكن للأسف نفس المبادئ التي تأتي بالفوضى والشواش إلى العالم، نجدها فاعلةً وسط شعب الله، مع نفس النتائج المحزنة المؤسفة. ولذلك فإننا نجد أنهم هم أيضاً منقسمون ومبعثرون ومتفرقون، وعملية الانحلال لا تزال مستمرة. إن ممارسة الإرادة الذاتية تغلق الباب أمام سلطة الرب وإرشاد الرأس. وكما العالم كذا جمهور مسيحيين يفعلون ما يرون أنه صائب في أعينهم. هذه المبادئ كانت سائدة حتى في أيام الرسول بولس، ولذلك قد توجب عليه أن يحذّرَ القديسين من أن يكونوا في خطر عدم اتّباع الرأس، ويعترف بأسى أن "الْجَمِيع يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ".

في اللحظة التي نتوقف فيها عن أن نستمد كل معونتنا ومواردنا من المسيح، الرأس الصاعد لجسده الذي هو الكنيسة، في هذه اللحظة نتوقف عن أن نسلك تحت إرشاد الرب وتوجيه الروح القدس، فنبدأ بالقيام بما يحسن في أعيننا. قد لا نفعل ما هو خطأ أخلاقي في نظر العالم، ولكننا نكون فعالين في العمل، وربما مخلصين بشكل كامل؛ ولكن إن كانت مطالب الرب في نشاطاتنا وفعاليتنا، وتوجيه الرأس، موضع تجاهل، فإننا إنما نفعل إرادتنا الذاتية فيما هو صواب في أعين أنفسنا.

  النتيجة المُحزِنة للحالة المتردّية لإسرائيل نجد وصفها في الآية الافتتاحية من الأصحاح الأول هذا. فقد أدت إلى "جُوع فِي الأَرْضِ". في الأرض التي كان يُفترض أن تكون مكان وفرة في هذا العالم، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً- لم يكن هناك ما يكفي من المؤونة لسد حاجات شعب الله.

يا للأسف! نفسُ الشرور قد دخلت إلى العالم المسيحي وبنفس النتائج السيئة. فالمسيحيون ما عادوا ينظرون إلى الرأس أو يلتزمون به، وما عادوا يعطون الرب مكانته من السلطان، وقد شرعوا يفعلون ما يعتبرونه الأفضل في نظرهم، مشكّلين بذلك طوائف لا عدد لها فيها يتضور شعب الله جوعاً إلى الغذاء الروحي. بيت الله الذي يجب أن يكون مكان وفرة لكثيرين، قد صار في أيدي الناس مكان مجاعة وجوع.

١.

زمن الجوع يصبح زمناً للاختبار للمؤمن الفرد. إن المجاعة تختبر إيماننا. كان أليمالك في أرض الله مع بني إسرائيل. وكانت خيمةُ الاجتماع هناك؛ والكهنة كانوا هناك؛ والمذبح كان هناك. ولكن في طرق الرب التدبيرية مع شعبه، كانت المجاعة هناك أيضاً؛ وكان هذا اختبار أليمالك، فيما إذا كان سيثق بالله خلال المجاعة ويبقى في الطريق المحدد له من قبل الله رغم المجاعة؟ للأسف هذا الرجل من بيت لحم لم يكن أهلاً للامتحان. لقد كان مستعداً لأن يسكن في أرض الله منفصلاً عن الشعوب الأخرى في زمن الوفرة، ولكنه يهجر الأرض تحت وطأة ظروف المجاعة والجوع.

وهكذا ففي تاريخ الكنيسة، كان هناك كثيرون قانعين بأن يكونوا على ارتباط مع شعب الله، والشهادة للرب، عندما كان آلاف يهتدون، وعندما كان كل أولئك الذين يؤمنون بقلب واحد ونفس واحدة، وعندما كانت عليهم جميعاً "قوة عظيمة" و"نعمة عظيمة". ولكن عندما بدأ المسيحيون المعترفون بأن يفعلوا ما كان صائباً في أعينهم، عندما سعى الجميع ليقوموا بأمورهم الذاتية، وبولس الرسول العظيم كان في السجن، والبشارة كانت في بلوى، عندها ظهرت المجاعة بالفعل. ومع المجاعة جاء زمن الاختبار، وتحت وطأة اختبار الإيمان انهار كثيرون، حتى اضطر بولس إلى القول: "جَمِيعَ الَّذِينَ فِي أَسِيَّا ارْتَدُّوا عَنِّي" وأيضاً: "الْجَمِيع يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ".

حتى في يومنا هذا لا يمكننا أن نتجنب اختبار المجاعة. إن الله برحمته أنار من جديد كثيرين إلى الأساس الحقيقي الذي يستطيع شعبه أن يلتقي معاً على أساسه، وانجذب كثيرون بخدمة الكلمة وقبِلوا بفرحٍ طريقَ الفصل. ولكن عندما يأتي الاختبار، عندما تكون الأعداد قليلة، عندما يكون الضعف الخارجي ظاهراً متجلياً، وعندما لا يكون هناك سوى خدمة ضئيلة، عندها يجدون أن الطريقَ قويمٌ جداً بالنسبة لهم، والضعفَ ذو وطأة شديدة عليهم، والصراعَ شديدٌ للغاية. وتحت ضغط الظروف ينكرون المكانة التي هم فيها ويتيهون إلى مكان ما يختارونه من تلقاء أنفسهم يأملون به أن يجدوا مفراً من التجربة وراحةً من الصراع.

كان هذا هو الحال مع أليمالك. إن اسمه ذو مغزى مناسب جداً إذ يعني "الذي إلهه ملك". لعل والداه كانا تقيين، وأدركا أنه ليس هناك ملك في إسرائيل، فرغبا في أن يكون الله ملكاً على ابنهما. ولكن للأسف، كما هو الحال غالباً، فإننا لا نكون صادقين وأوفياء لأسمائنا. عندما جاء الاختبار أخفق أليمالك في إظهار الولاء والطاعة للملك. إن كان الله ملكاً فهو يستطيع أن يؤازر وأن يساند المؤمنين في أيام المحنة كما في أيام الوفرة والراحة؛ إن إيمان أليمالك لم يكن بمستوى الاعتراف الذي يوحي به اسمُه، وهكذا لم يكن مؤهلاً لضغط الظروف. ولذلك عندما وُضِعَ على المحك، فإنه أخذ طريق المرتدين، وليس هذا فقط، بل أن آخرين تنحوا جانباً أيضاً بسبب نقص إيمانه. ومن الطبيعي أن تتبعه زوجتُه وابناه.

أما وقد ترك أرض الرب، فإنه جال وتاه إلى مكان اختاره بنفسه. والأسوأ من ذلك، وإذ قد وصل إلى أرض موآب، فقد "استمر هناك". من السهل أن نستمر في مكان زائف أكثر من أن نقيم في المكان الصحيح الحقيقي. المكان الذي يختاره ذو مغزى. فالبلدان التي تحيط بأرض الموعد، كانت ترمز بلا شك إلى العالم بأشكال مختلفة. مصر تمثّل العالم بكنوزه من الثروة والمسرات الناتجة عن الخطيئة؛ وعلاوة على ذلك عبودية الشيطان التي سيستجرها ذلك السعي وراء المسرات. بابل كانت تمثل العالم في فساده الديني. تمثّل موآب أيضاً مظهراً مختلفاً من العالم. مغزاها الروحي يشير إليه النبي إرميا عندما يقول: "مُسْتَرِيحٌ مُوآبُ مُنْذُ صِبَاهُ وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى دُرْدِيِّهِ وَلَمْ يُفْرَغْ مِنْ إِنَاءٍ إِلَى إِنَاءٍ" (إرميا ٤٨: ١١). إن موآب تمثل حياة الراحة التي يسعى إليها المرء متقاعداً ومستريحاً من كل ارتباك، حيث ليس هناك سوى حركة ضئيلة، وتتدفق الحياة بدون تغيير كبير. إن استخدام التشبيه الاستعاري للنبي ليس فيه تفريغ من إناء إلى إناء. مصر، بمتعها الكبيرة، وبابل بدينها الفاسد، لم تكن تجتذب أليمالك. ولكن موآب بالراحة والخلوة والتقاعس الذي فيها، كانت تروق كثيراً له كمنفذ به يهرب من الصراع والتجربة. وبوجود المجاعة تبقى موآب الفخ الكبير لأولئك الذي قبلوا يوماً الله وصاروا شعباً له. في حضور المجاعة مثل هكذا إنسان يجد الصراعَ من أجل الحفاظ على طريق الانفصال مؤلماً جداً، والحركة المطردة المستمرة في الطريق تكون فاحصة جداً، فيتعرضون للإغواء للتخلي عن الكفاح الصالح للإيمان ويستقرون بهدوء في وادي موآب المنعزل الهادئ، ولا يعودوا ينتقلون من إناء إلى إناء، بل يركدون في أمورهم الذاتية. ولكن على مثال أليمالك علينا أن نتعلّم، وغالباً من خلال خبرة مؤلمة، النتيجة المريرة للإرتداد والإنغماس في المعاصي.

كما رأينا ، لم يأتِ أليمالك وحدُه فقط إلى موآب، مع زوجته وابنيه، بل إنهم "أقاموا هناك". لم يكن هناك شفاء لأليمالك. فبالنسبة له صارت أرض موآب وادي ظلال الموت. لقد سعى إلى تجنب الموت بالمجاعة في أرض يهوذا، فسار مباشرة إلى أذرع الموت في أرض موآب. الخطوة نفسها التي اتّخذها ليتحاشى الموتَ جلبتْ عليه الموت. إن الخطوة الخاطئة التي يتخذها المرء ليتجنب الإشكال والصعوبات تؤدي إلى الإشكالات والصعوبات التي نسعى إلى تحاشيها. إضافة إلى ذلك أن نطلب الراحة في هذا العالم، حتى في الأشياء التي ليس فيها خطأ أخلاقي، هو أن نطلب الراحة في الأشياء التي يأخذها الموتُ منا، أو التي نُؤْخَذُ منها بالموت. في أجمل مشاهد الأرض هناك ظل الموت. ولكن المسيح قائم، وما عاد للموت سطوة عليه، ومن الأفضل بكثير أن نكون مع المسيح القائم في مجاعة من أن نُحاط بوفرة هذا العالم في رفقة مع الموت .

يموت أليمالك. التأثيراتُ السيئة لخطوته الباطلة، لم تكن مقتصرة عليه. فنعمي- زوجتُه، وابناه قد تبعاه إلى موآب. وشكّل الابنان أحلافاً مع نسائهم من موآب، بعكس ناموس الرب. عشر سنوات تمر ثم يأخذُ الموتُ روحَ الابنين. أما نعمي، وإذ قد حُرِمَتْ من الزوج والأبناء، فإنها تُترك كأرملة معزولة وبلا أولاد في أرض غريبة. لقد جردها الرب ممن يخصّونها وأتى بها إلى الإقفار والأسى، ولكنه لم يتخَلَّ عنها. اليدُ التي ضربتْ هذه المرأة المبتلية المتفجعة بقوة حركها نفسَها قلبٌ محب. إن تأديب الرب يعد الطريق لتجددها واستعادتها.

٢.

إذا رأينا في أليمالك طريق الارتداد والتخاذل، فإننا نرى في نعمي طريق الإستعادة. بعيداً عن أرض الرب وبعد عشر سنوات طِوال، طلبت الراحةَ في أرض موآب فلم تجدْ سوى الألم والحزن. ولكن تأديبَ الرب أخيراً لها، أثَّرَ في حياتها كثيراً، وأتى بمفعوله، إذ نقرأ أن: "قَامَتْ هِيَ وَكَنَّتَاهَا وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ" (الآية ٦). ما الذي حفَّزها لكي تعود؟ أكان ذلك هو الآلام التي احتملَتْها والخسارات التي تعرضتْ لها؟ لا. بل النبأ السار عن نعمة الرب هو الذي أعادها. إذ عندما "سَمِعَتْ فِي بِلاَدِ مُوآبَ أَنَّ الرَّبَّ قَدِ افْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزاً"، هنا "َقَامَتْ ..... وَرَجَعَتْ" (الآية ٦). إن الآلام لن تحركنا للعودة إلى الرب، رغم أنها قد تعلّمنا كم هو مر التجوال والتيهان بعيداً عن الله، وهكذا يعد القلب للإصغاء إلى النبأ السار المتعلق بالرب ونعمته نحو شعبه. لم يكن البؤس والحاجة أو العبودية المريرة أو خشونة الحياة والجوع في البلد البعيد هي ما أعاد الابن الضال إلى دياره، بل تذكّره للوفرة في بيت أبيه. والنعمة والرحمة في قلب الأب هي التي قادته إلى أن يقول: "أقوم وأمضي إلى أبي". لم يكن البؤس في ذلك البلد البعيد هو الذي قاده إلى العودة، بل رحمة قلب الله ونعمته هي التي اجتذبَتْه فعاد. وهكذا الحال مع نعمي، في أرض موآب، حيث أُخذ الجميع منها، فقد سمعت عن أرض يهوذا حيث كان الرب "يعطي" شعبَه. وبوجود الرب أمامها، رُفعت فوق كل إخفاقها ونهضت لتعود. وكما نرنم أحيانا:

"فكرة محبة يسوع،

ترفع قلوبنا البائسة فوق هذا العالم المتعب"

خطوتها الأولى في طريق العودة إلى الديار هي أن تتخلص من الرفقة الزائفة في موآب. "وَخَرَجَتْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ فِيه" (الآية ٧). وهذه الخطوة العملية نفسها كان لها تأثير مباشر على آخرين. إن كنتيها ذهبتا "معها". أن ننتقد مكاناً غير ملائم ومع ذلك نبقى فيه، سوف لن يكون له تأثير على الآخرين، إن كان المكان غير صحيح أو سليم فإن أول خطوة يجب أن تكون هي أن ننفصل عن هذا المكان الخطأ.

 هكذا كانت الحال مع نعمي. لقد انطلقت وكنَّتيها معها. لقد تركن رفقاء السوء وذهبن إلى المكان الصحيح المتاح أمامهن "وَسِرْنَ فِي الطَّرِيقِ لِلرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا".

٣.

يا للأسف، الانفصال عن المكان الساقط، وأن يكون لدينا مكان صحيح في نظرنا، سوف لن يدل بالضرورة على صدقية كل من يتصرف على هذا النحو. من بين هؤلاء النساء الثلاث كانت نعمي القديسة المترددة في طريق الإسترداد؛ لقد تميزت راعوث، الشاهدة على نعمة الله الفياضة الجديدة، بالإيمان وبالمشاعر المتكرسة المخلصة، وكانت عرفة مثالاً عن المعترف الفارغ ومع ذلك الذي لن يصل إلى أرض الموعد.

إن راعوث وعرفة كلتيهما تشكلان إقرارا بالتكرس الذي لدى نعمي. كلتاهما تعبران عن رغبتهما بمغادرة أرض والديهما، وكلتاهما تتوجهان نحو أرض الرب. ولكن، وكما دائماً، الاعترافُ يُوضَعُ على المحك. فتقول نُعْمِي: "اذْهَبَا ارْجِعَا كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ أُمِّهَا" (الآية ٨). لقد كانت لديهم الفرصة لكي يرجعوا. وهذا سيلقي ضوءً يبين إذا ما كان فكرهما متوافقاً مع اعترافهما الخارجي الظاهر. إن كانتا مدركتين وواعيتين لذلك البلد الذي خرجتا منه فقد كانت لديهما الفرصة للعودة (عبرانيين ١١: ١٥). وسرعان ما ينكشف فكر عرفة، فقلبها متشبث بأرض مولدها. وراعوث، كما سارة، سترغب "ببلد أفضل". ورغم ذلك، فإن عرفة تظهر إقراراً جميلاً، ولكنه مجرد إقرار وحسب. فمشاعرها كانت متأثرة بعمق، إذ رفعت صوتها وبكت (الآية٩):  لقد تأثّرت عاطفياً "فَقَبَّلَتْ.... حَمَاتَهَا" (الآية ١٤). لقد كانت كلماتها جميلة حين قالت: "إِنَّنَا نَرْجِعُ مَعَكِ إِلَى شَعْبِكِ" (الآية ١٠). إنه لأمر ذو مغزى، على كل حال، أن راعوث تذكر إله نعمي، ولكن مع عرفة ليس هناك سوى نعمي وشعب نعمي. وهكذا، ورغم ما قالته، ورغم دموعها، وقبلاتها، فإنها تدير ظهرها لنعمي، وإله نعمي، وأرض البركة، وتعود إلى "شعبها"، و"آلهتها"، وأرض ظل الموت.

٤.

كم هو مختلفٌ تاريخ أو قصة راعوث؛ إذ أنها تصبح الشاهدة على نعمة الله. تبدي راعوث أيضاً اعترافاً جيداً؛ وهي أيضاً تنطق بكلمات جميلة؛ هي أيضاً تأثرت بعمق، إذ أنها، مثل عرفة، رفعت صوتها وبكت. ولكن مع راعوث هناك أكثر من ذلك، إذ معها نجد "الأشياء التي ترافق الخلاص"، الإيمان، والمحبة، والرجاء (عبرانيين ٦: ٩-١٢).

مع عرفة كان هناك فقط التعبير الخارجي عن المحبة. لقد أمكنها أن تقبّل نعمي وأن تغادرها، تماماً كما نرى في زمان بعيد لاحق كيف أن يهوذا أمكنه أن يقبّل ويسلم الرب. لا يقال عن راعوث أنها قبّلت نعمي؛ ولكن إن لم يكن هناك تعبير خارجي عن المحبة فقد كانت هناك محبة حقيقية، إذ نقرأ: "وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا" (الآية ١٤). إن المحبة، إن كانت حقيقية، فلا يمكن أن تتخلّى عن المحبوب، ويجب أن تكون مترافقةً مع المحبوب، ولذلك تضيف راعوث قائلة: "لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجِعَ عَنْكِ".

إضافة  إلى ذلك، فإن إيمانها يعادل مشاعرها. ففي اتقاد إيمانها تتغلب على اجتذاب أرض مولدها، وطن أمها، وشعبها، وآلهتها. وتقبل خوض طريق الحج، إذ تقول: "حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ". إنها تتمسّك بنصيب الإنسان الغريب، لأنها تقول: "حَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ". فتطابق بينها وبين شعب الله إذ تقول: "شَعْبُكِ شَعْبِي". وفوق كل شيء تضع ثقتها في الله الحقيقي، فهي لا تقول فقط: "شَعْبُكِ شَعْبِي"، بل تضيف قائلة: "إِلَهُكِ إِلَهِي". فالموت نفسه لا يمكن أن يعيدها إلى ديارها، إذ تقول: "حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ". فتوحّد ذاتها كلياً مع نُعمي، في الحياة وفي الممات، ومن هنا تقول أن شعب نعمي هم شعبها وأن إله نعمي هو إلهها. ففي تلك اللحظة ليس أمام ناظرها سوى امرأة عجوز مُحطَّمة الفؤاد واختارت أن تكون معها. فكما قال أحدهم، فإن راعوث ألقت قرعتها على نعمي "مُراهنةً عليها في ساعة ترمّلها، وتغرّبها وافتقارها".

بالنسبة لإنسان العالم المتعقل الحصيف، يبدو خيار راعوث حماقة. أن تترك اليسر في موآب، والراحة في الديار، ومسقط رأسها، وأن تسلك رحلة البرية التي لا تعرف عنها شيئاً، إلى أرض لم ترها إطلاقاً، في رفقة أرملة مبتلية بالفقر، يبدو بالفعل ذروة الحماقة. ولكن ما هذه إلا بداية القصة، والنهاية لم تأتِ بعد. لا يظهر حتى الآن كيف ستكون عليه الخاتمة. إن الإيمان يمكن أن يتخذ خطوته الأولى في ظروف الفقر والضعف، ولكن في النهاية سيتبرر الإيمان، وستكون له مكافأة مشرقة، في ظروف القوة والمجد. في بداية القصة نجد راعوث متعلقة قلبياً بالأرملة الوحيدة الطاعنة في السن؛ وفي النهاية تظهر لنا كعروس لبوعز المقتدر الغني؛ وفوق ذلك فإن اسمها تتناقله الأجيال ويكون لها مكانة في سلسلة نسب الرب.

موسى، في أيامه وبكل الأفضلية أو الميزات التي كان يمكن للطبيعة أن تمنحها، وبكل مجد هذا العالم الذي كان في قبضته، صار مثالاً ساطعاً عن هكذا إيمانٍ. إذ أدار ظهره إلى مُتَع الخطيئة وكنوز مصر، مُقدّراً أن خزي المسيح هو غنىً أعظم بكثير من كنوز مصر، فإنه تخلى عن العالم وكل أمجاده ليجد نفسه في مشهد البرية في صحبةٍ مع الشعب البائس الفقير والمتألم. كم كان ذلك التصرف يبدو حماقة كلية في نظر العالم! ولكن في عصره أمكن للإيمان أن يقول حقاً: "لم يبدُ بعد كما سيكون عليه". كان على الإيمان أن ينتظر ستة عشر قرناً قبل أن يبدأ بالظهور على ما سيكون عليه؛ وعندها يُسمح لنا بأن نرى موسى ظاهراً في المجد على جبل التجلي في رِفقة ابن الإنسان، تلك الرؤيا العابرة لمجدٍ لن يزول. وعندما يدخل موسى في نهاية الأمر إلى أمجاد الملكوت  الآتي برفقة ملك الملوك، فسيتجلى عندئذ أن أمجاد هذا العالم التي رفضها (موسى) كانت صغيرة جداً بالمقارنة مع المجد الأبدي العظيم الذي سيكون قد جناهُ.

وليس الحال هكذا في أيامنا. إن طريق الإيمان قد يبدو في نظر هذا العالم طريق حماقةٍ شديدة. أن ترفض مجدَ العالم- في أن تتطابق مع الشعب الله الفقير والمحتقر، وأن تمضي إلى المسيح خارج المحلة حاملاً خزيه- قد يبدو للعقل البشري، والنظر الطبيعي، جنوناً مطبقاً. ولكن الإيمان لا يزال يجيبنا قائلاً: "لم يبدُ بعد كما سيكون عليه". والإيمان يُقدِّر أن "خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً". وسينالُ الإيمانُ مكافأته المتألقة؛ فعندما يحل يوم المجد، في نهاية الأمر، ويصبح الإيمانُ منظوراً- عندما يأتي يوم زفاف الحمل العظيم- عندها سيظهر معه قديسوه الفقراء البائسون المحتَقَرون، كالعروس، عروس الحمل.

إضافة إلى ذلك، فإن الأشياء التي ترافق الخلاص- الإيمان والمحبة والرجاء، إن وُضِعت في التنفيذ فإنها ستؤدي إلى مسرَّة القلب. هكذا كان الحال مع راعوث؛ فلم يكن عندها تقدير للبلد الذي كانت تغادره، ولم تشعر بالأسف الفارغ. بل كانت "مُشَدِّدَة عَلَى الذَّهَابِ". وهكذا صار أن "ذَهَبَتَا كِلْتَاهُمَا حَتَّى دَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ". يحسن بنا نحن أيضاً، مدفوعين بالإيمان والمحبة والرجاء، أن ننسى الأشياء التي وراءنا، وأن نتطلَّع إلى الأمور التي أمامنا، ونسعى للحصول على المكافأة التي سيُقدِّمها لنا الله في الأعالي بالمسيح يسوع.

٥.

هذا الجزء من قصة راعوث يُختتم بشكل طبيعي باقتبال النفس المُسْتَرَدة المتجددة. لقد رأينا مرارة طريق المرتد وتعقّبْنا آثار طريق الرب الكريمة السمحة في التجديد والاسترداد. وعلينا الآن أن نتعلّم أن الجواب الصحيح على استعادة الرب لنا يوجد في القبول في شعب الرب. وبعيون تتجه نحو أرض الله وشعب الله، يحثُّ القديسُ المتجددُ والنفسُ المتجددة حديثاً الخُطى إلى أن يأتي إلى بيت لحم. وحدث عندما جاؤوا إلى بيت لحم أن "الْمَدِينَةَ كُلَّهَا تَحَرَّكَتْ بِسَبَبِهِمَا". يا للأسف! علينا أن نقرّ أن هناك قوة ضئيلة للتجديد اليوم. أليس السبب هو ضعف الشغف والمحبة عند ونحو أولئك الذين يُخفِقون. إن القديسين يخفِقون، والشر يمكن رفضه، وصانع الإثم يمكن أن يتم التعامل معه على نحو صحيح، ولكننا قلّما "نتحرّك لأجلهم"، ولذلك ضئيلةٌ هي فرصة أن يجد المرتدُّ طريقَ العودة إلى شعب الله. إن العالم ملئ بالقلوب الحزينة والمنكسرة، والقديسين التائهين، ونادراً ما تتم استعادتهم أو تجددهم، وقلّما نتأثر بما يجري لهم.

ما من شيء سيُكمل عمل التجديد في النفس مثل الشغف والمحبة في القديسين نحو تلك النفس. لقد كان الحالُ هكذا مع نعمي. الاستقبالُ المُحِب الذي تلقّتْهُ يفتحُ قلبَها ويدفعها إلى الإقرار الجميل الذي يشهد على حقيقة تجددها.

١- إنها تقرّ بأنها ومهما أخفقت، فإن الرب لم يتخلَّ عنها. وفي حديثها عن أيام تيهها تعترف بأن "الْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي". ربما نتوقف عن التعامل مع الرب، ولكنه يحبنا جداً ولا ينقطع عن التعامل معنا. وهذا أمر حسن، فكما يقول الرسول (بولس): "إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ" (عبرانيين ١٢: ٧، ٨).

٢- تعترف نعمي بأنه إن تعامل معنا الله خلال ارتدادنا، فإن تعامله معنا سيكون مراً جداً، ولذلك فقد قالت أن الله تعامل معها "بمرارة". ومن هنا يذكِّرنا الرسول بولس أيضاً بأن "كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ" (عبرانيين ١٢: ١١).

٣- وتضع نعمي كلَّ اللوم على نفسها بسبب تيهها. فتقول: "ذَهَبْتُ" (أي خرجتُ). ونقرأ في القصة أنه "ذَهَبَ رَجُلٌ.... لِيَتَغَرَّبَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ"، ولكنها لا تنطق بأية كلمة إدانة لزوجها. فلا تلوم الآخرين، ولا تبرر لنفسها.

٤- إن كانت نعمي تلقي اللوم على نفسها في تيهانها، فإنها بحقٍ تنسب فضل تجديدها للرب. فيمكنها أن تقول: لقد "أَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ". أنا خرجتُ والرب أعادني. وعلى نفس المنوال أمكن لداود أن يقول: "يردُّ نفسي" (مزمور ٢٣: ٣). لعلنا نعتقد في لحظات ثقتنا بأنفسنا وإحساسنا بأهليتنا الذاتية أننا يمكن أن نعود إلى الرب عندما نفكر بشكل جيد، ولكن ما من مرتدٍ سيعود إلى الرب ما لم يعيدُه الربُّ إليه. لقد كانت صلاة الرب لبطرس قبل أن يخفق، ونظرة الرب له عندما أخفق، قد أثّرتا على قلب بطرس وقادتاه إلى التجدد. لقد تبعه بطرس من بعيد، وأخفق، ولكن الرب هو الذي أعاده إليه.

٥- إضافةً إلى ذلك، فإن نعمي لا تقول ببساطة أن الرب أعادها بل "أعادني الرب إلى البيت". عندما يعيدُ الربُّ النفسَ، فإنه إنما يعيدُها إلى كل الدفء والمحبة التي في دائرة البيت. عندما وجد الراعي الخروف الضال، أتى به إلى بيته ذاته. فكأنه كان يقول: "لا يليق لخروفي سوى بيتي على أقل تقدير".

٦- ومع ذلك، كانت لديها تلك الفكرة المؤثّرة التي جعلتها تقر بأن الرب هو الذي "أعادها إلى الديار". لقد "أَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً". إننا لا ننجز أي تقدم روحي في الأيام التي نكون فيها بعيدين تائهين عن الرب. إن الرب يتعامل معنا فعلياً ليخلِّصَنا من الكثير من المعوقات التي تعرقل تقدُّم النفس. وكما نعمي فإن علينا أن نقر: "إنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً". وكما الحال مع جميع الذين يضلّون أو يتيهون، كان على نعمي أن تعاني. وببركة عظيمة تمت استعادتُها؛ وبالحقيقة تعود إلى ديارها، شعب الرب وأرض الرب، ولكنها لا تستعيدُ أبداً زوجها أو ابنيها. لقد ذهبوا إلى الأبد. لقد كانت تسعى إلى الراحة واليسر والخلاص من العناء والصراع؛ فلم تجد سوى الموت والخسران. لقد عادت خاوية الوفاض.

٧- ولكن إن كان الرب يعيدنا فارغين، فإنه سيرجعنا إلى مكان وفرة. فهكذا كان الحال مع نعمي، إذ أنها استُرِدَّت "فِي ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ".

كم يعزي قلوبَنا أن نعرف أنه إن أخفقنا في مشاعرنا نحو بعضنا البعض لن يكون هناك أي إخفاق مع الرب. فما هي إلا هنيهة ونجد الربَّ يعيدُ إلى الديار خروفَه الضال البائس، وما من أحد سيكون ضالاً أو مفقوداً في نهاية الأمر. وعندها، وفي بيت المحبة الأبدي، سوف نستمتع بكامل حصاد السماء العظيم- فستكون "بداية" حصاد بركة وسرور ليس له انقضاء.