الفصل الرابع

تأثيرات الفرق النصرانيّة الهرطوقيّة

الاهرامات
الاهرامات

في عصر مُحَمَّد عاش كثيرون من النصارى في بلاد العرب، منغمسين في الجهالة والبدع والضلالة. ولما طُرد كثير منهم من حدود مملكة الروم بسبب تعاليمهم الفاسدة لجأوا إلى بلاد العرب. ولما لم تكن لهم معرفة كثيرة بالإنجيل تداولوا بعض الكتب الملفَّقة الملآنة من الخرافات التي لا أصل لها يتلونها ويروون القصص المدونة فيها ويتناقلونها.

وقال الناقدون لدين الإِسْلام إن مُحَمَّداً لم يكن له إلمام تام بالإنجيل الشريف، وإنه اختلط مع أصحاب هذه البدع، فتوهَّم أن ما سمعه منهم كان مدوناً في الإنجيل. وبما أنه وجَّه نظره لتأسيس دين يدين به جميع سكان شبه جزيرة العرب، ويتَّحدون بواسطته ويصيرون جماعة واحدة، قبِل كثيراً من خرافات جهلة النصارى ومذاهبهم الفاسدة وأدخلها في قرآنه. وبما أنه لا يصح تصديق رأي هؤلاء المعترضين بدون النظر والفحص، رأينا أن نتحرى بالتدقيق هذه القضية في هذا الفصل، لنعرف إن كانت مثل هذه الخرافات هي أحد مصادر الإِسْلام أم لا.

(١) قصة أصحاب الكهف:

ويسميها المسيحيون ﴿السبعة النيام﴾. وقد وردت في سورة الكهف (١٨/ ٩ ـ ٢٦)، وهي إحدى خرافات اليونان الواردة في كتاب لاتيني اسمه ﴿مجد الشهداء﴾ تأليف غريغوريوس (كتاب ١ فصل ٩٥). وتقول القصة إنه لما كان ﴿دِكيوس﴾ إمبراطور روما يضطهد المسيحيين بغاية القسوة ليمحو حتى اسمهم من أذهان الناس، هرب سبعة شبان من سكان مدينة أفسس، ١ واختبأوا في كهف قريب من تلك المدينة، فناموا نحو ٢٠٠ سنة تقريباً، لأنهم دخلوا الكهف في عهد ﴿دِكيوس﴾ (بين سنة ٢٤٩ و٢٥١ م) ولم يخرجوا منه ثانية إلا في سنة (٤٤٧ م) في ولاية الملك ثيودوسيوس الثاني. فلما استيقظوا ورأوا أن المسيحية قد انتشرت انتشاراً عظيماً في تلك المدة ذهلوا، لأنهم لما ناموا كان الناس يعتبرون الصليب علامة احتقار وعار، ولما استيقظوا رأوه يتلألأ على تاج الإمبراطور وعلى أعلام مملكته، وأن جميع رعايا المملكة الرومانية قد دانوا بالمسيحية، وأن هذه الديانة كادت تزيل غيرها من الأديان.

ولا شك أن قصة السبعة النيام خرافة. ولكن بعض ذوي العقول الوقادة قالوا إنها لا تخلو من حكمةٍ وفائدة. ولم يقصد واضع هذه الرواية إضلال الناس وغشهم، بل أوردها على سبيل المجاز، ليُظهِر لقارئها انتشار الديانة المسيحية بسرعة عجيبة بنعمة الروح القدس وبسفك دماء الشهداء. ولا يُحتمل أن مسيحياً يتوهم حدوث هذه القصة حرفياً، بل إن جميع المسيحيين يعتقدون أنها قصة رمزية. غير أن مُحَمَّداً اقتبسها وأوردها في قرآنه وعلّمها لصحابته كأنها حكاية حقيقية. وبما أنه لا أصل لهذه القصة فمن الواضح أن الله العليم الحكيم لم يكتبها في لوح محفوظ، بل أخذها مُحَمَّد من روايات بعض جهلة النصارى.

(٢) قصة مريم :

ورد في سورة مريم (١٩/ ٢٧ و٢٨) أن مريم أتت إلى قومها بعد ولادة المسيح فقالوا لها: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}. فيتضح من هذا أن مُحَمَّداً قال إن العذراء مريم هي أخت هارون وموسى. وما يزيد هذا الأمر وضوحاً ما ورد في سورة التحريم (٦٦/ ١٢): {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ}. ٢ وجاء في سورة الفرقان (٢٥/ ٣٥): {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}. فثبت من هذا أن عمران وموسى وهارون ومريم هم ذات الأشخاص الذين ورد ذكرهم بهذه الأسماء في أسفار موسى الخمسة، ولو أن التـوراة قالت إن الاسم هو ﴿عمرام﴾ عوضاً عن ﴿عمران﴾ كما في سفر العدد (٢٦/ ٥٩): ﴿واسم امرأة عمرام يوكابد بنت لاوي، التي وُلدت للاوي في مصر. فوَلدت لعمرام هرون وموسى ومريم أختهما﴾. وورد في سفر الخروج (١٥/ ٢٠) أن: ﴿مريم النبية﴾ كانت ﴿أخت هرون﴾ كما رأينـا في سورة مريم حيث قيل: {يَا مَرْيَمُ... يَا أُخْتَ هَارُونَ}. فلا شك أن مُحَمَّداً توهَّم أن مريم أخت هارون التي كانت أيضاً ابنة عمرام (أي عمران) هي نفس مريم العذراء التي صـارت أم المسيح بعد ذلك بنحـو ١٥٧٠ سـنة! وهـذا القول يشبه الـرواية الـواردة في ﴿الشاهنامة﴾ بخصوص فَريدون وأختي جمشيد، فقد جاء فيها أنه بعد أن هزم فريدونُ الضحاكَ واستولى على بيته وجد فيه أختي جمشيد اللتين أقامتا في بيت الضحاك من أوائل حكم الضحاك، نحو ألف سنة تقريباً من قبل ذلك. فلما رآهما فريدون راعه جمالهما إلى آخر تلك الحكاية. وقد حاول بعض المفسرين المسلمين أن يفنِّدوا هذا البرهان الذي أُقيم ضد القُرْآن، ولكنهم عجزوا. وربما كان سبب هذا الغلط أنه ورد في إحدى خرافات اليهود عن مريم أخت هارون: ﴿إن ملاك الموت لم يتسلط عليها، بل ماتت بقُبلة إلهية. ولم يتسلط عليها الدود ولا الحشرات ﴾. وعلى كل حال فهذا خطأ جسيم، لأنه لم يقل أحد من اليهود إن مريم هذه بقيت على قيد الحياة إلى أيام المسيح.

وقد وردت في القُرْآن معلومات كثيرة عن العذراء مريم تخالف ما ورد في الأناجيل الأربعة الصحيحة، لأن روايات القُرْآن مأخوذة من خرافات أصحاب البدع والضلالة، فقد ورد فيه:

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؟ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا؛ قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى، وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً؛ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً، قَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ. إنَّ اللّهَ يَرْز ُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

وقال البيضاوي وغيره من المفسرين إن امرأة عمران كانت عاقراً عجوزاً، فلما رأت مرة طيراً يطعم فرخهُ حنَّت إلى الذرية وتوسلت إلى الله أن يرزقها ولداً، وقالت: ﴿اللهم إنْ رزقتني ولداً ذكراً أو أنثى فأقدِّمه كهِبةٍ في حضرتك لبيت المقدس﴾. فأجاب المولى طلبها، فحملت وولدت بنتاً هي مريم. وقال جلال الدين: بعد مضي سنين حملت أم مريم، وكان اسمها حنّة، فأتت بابنتها إلى المسجد وسلمتها إلى الأحبار سَدَنة بيت المقدس، فقالت: دونكم هذه النذيرة. فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم. فأخذها زكريا وبنى لها غرفة في المسجد بسُلَّم لا يصعد عليه غيره، وكان يأتيها بأكلها وشربها فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فإن ملاكاً كان يأتيها بأكلها، ثم ورد في هذه السورة:

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ؛ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. ٣

وقال البيضاوي والجلالان عن الاقتراع وإلقاء الأقلام إنه لما تنافست الأحبار قال زكريا: أنا أحقُّ بها، فقالوا: لا حتى نقترع. فانطلق زكريا وستة وعشرون إلى نهر الأردن وألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، فثبت قلم زكريا. فأخذ مريم وتكفل بها. فورد في سورة مريم:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيّاً؛ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً. قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّا. قَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيّاً. قَالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ: كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا، وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيّاً. فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّصاً. فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ؛ قَالَتْ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً.  يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ؛ قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}. ٤

فهذه هي قصة مريم حسب ورودها في القُرْآن وفي كتب أقدم مفسري المسلمين.

وقال المحققون المدققون إن هذه الأمور لم تؤخذ من الأناجيل الصحيحة، بل أُخذت من كتب الخرافات التي كانت متداولة في الأزمنة القديمة بين أصحاب البدع الباطلة. وبما أننا لا نقبل قولاً بدون براهين كافية وجب علينا أن نمعن النظر في الأدلة التي يقيمونها، وهي:

ورد في كتاب ﴿ﭙروتو إﭭَنجيلوم﴾ ليعقوب الصغير (أصحاحات ٣ ـ ٥): ﴿فرفعت حنة عينيها إلى السَّماء فرأت عش عصافير في شجرة غار، فتنهدت قائلة: ﴿يا أحاح يا أحاح، من ولدني أح أح.. ومن أُشبِه؟ فلستُ مثل طيور السَّماء لأن طيور السَّماء أيضاً هي ذات ثمار أمامك يا رب﴾.. وإذا بملاك الرب وقف بجانبها قائلاً لها: يا حنة، إن الرب استجاب طلباتك فستحبلين وتلدين ويُذاع صيت نسلك في جميع أنحاء العالم. فقالت حنة: حيٌّ هو الرب إلهي، إذا ولدت ذكراً كان أو أنثى نذرته للرب إلهي وسيخدمه طول أيام حياته.. وتمت أشهرها وولدت حنة في الشهر التاسع.. وأرضعت الطفلة وسمَّتها مريم﴾.

وورد في كتاب عربي مشكوك بصحته يسمى ﴿قصة نيـاحة أبينا القديس الشيخ النجار﴾ (فصل ٣) بخصوص مريم: ﴿قدمها أبواها إلى الهيكل وهي ابنة ثلاث سنين، وأقامت في هيكل الرب تسع سنين. ولما رأى الكهنة العذراء القديسة المتَّقية الرب قد نشأت، خاطبوا بعضهم بعضاً قائلين: سلوا عن رجل يخاف الله لتودعوا عنده مريم إلى زمان العرس لئلا تبقى في الهيكل﴾.

ولكن قبل ذلك لما أحضر والدا مريم ابنتهما إلى الهيكل حدثت أشياء أخرى وردت في سياق القصة في ﴿ﭙروتو إﭭَنجيلوم﴾ (أصحاحات ٧و١١):

﴿إن الكاهن قـَبَلها وقبّـلها وباركها قائلاً: إن الرب الإله عظَّم اسمك بين جميع أجيال الأرض، وعليك في آخر الأيام يعلن الرب الإله فداء بني إسرائيل.. وربيت مريم كحمامة في هيكل الرب، وكانت تتناول الأكل من يد ملاك حتى ١٢ سنة من العمر. ثم التأم مجلس الكهنة فقالوا: إذا بلغت مريم اثنتي عشرة سنة من العمر في هيكل الرب، فما الذي يجب فعله بها؟.. فوقف ملاك الرب بجانب زكريا وقال له: يا زكريا، اخرج واجمع أرامل القوم، وليأت كل واحد بقلم، ومن يريه الرب الإله علامة تكون زوجةً له. فخرج المنادون في جميع نواحي اليهودية وبوَّقوا ببوق الله، فأتى الجميع مسرعين. فألقى يوسف قدّومه أيضاً وولج في المجلس. ولما اجتمعوا توجَّهوا إلى الكاهن، فأخذ الكاهن أقلام الجميع ودخل الهيكل وصلى. ولما تمت صلاته خرج وردَّ لكل واحد قلمه، فلم تظهر علامة فيه، غير أن يوسف أخذ القلم الأخير، فخرجت من القلم حمامة وطارت على رأس يوسف.. فقال له الكاهن صار لك حق بواسطة القرعة أن تتخذ عذراء الرب، فخُذها وديعة عندك.. ولما كان يوسف منزعجاً أخذها وديعة عنده.. فأخذت مريم جرَّة وخرجت لتملأها ماء، وإذا بصوت قائل: السلام لك أيتها المنعَم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. فأخذت تلتفت يميناً ويساراً لترى من أين أتى هذا الصوت. ولما انزعجت توجهت إلى بيتها ولما وضعت الجرة.. جلست على الكرسي.. وإذا بملاك الرب قد وقف بجانبها وقال لها: لا تخافي يا مريم لأنك وجدتِ نعمة أمام الله، وستحبلين بكلمته. ولما سمعت هذا قالت مريم في نفسها: هل أحبل كما تلد كل امرأة؟ فقال لها الملاك: ليس كذلك يا مريم، لأن قوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله وتسمينه يسوع﴾.

ويظهر من آخر هذه القصة أن كلمات الملاك هذه مأخوذة من إنجيل لوقا (١/ ٢٨ ـ ٣٥)، لكن بقية الحكاية لا أصل ولا صحة لها. أما قصة مريم في هيكل الله فقد وردت في كتب أخرى ملفَّقة، ولاسيما في بعض المؤلفات القبطية، فقد ورد في الكتاب القبطي ﴿سيرة العذراء﴾ أنه لما وضعت حنة ابنتها مريم في الهيكل ﴿كانت ترزق في الهيكل كحمامة، وكان ملائكة الله يأتون إليها برزقها من السَّماء. ولما كانت تسجد في الهيكل كانت ملائكة الله يخدمونها، وكثيراً ما حدث أنهم كانوا يأتون لها بأثمـار من شجرة الحياة فكانت تأكلها بانشراح﴾.

وورد أيضاً في كتاب قبطي عنوانه ﴿حكاية رحلة يوسف﴾ :

﴿كانت مريم تقيم في الهيكل وتعبد الله هنا بطهارة النية، وكانت تنمو إلى أن بلغت سن الاثنتي عشرة سنة، فأقامت في بيت والديها مدة ثلاث سنين وفي هيكل الرب تسع سنين أيضاً. ثم لما رأت الكهنة أن تلك العذراء اشتهرت بالعفاف ولم تزل خائفة الرب تشاوروا بعضهم مع بعض قائلين: لنفتش على رجل صالح لتكون خطيبة له إلى أن يحل وقت عرسها.. ودعوا فوراً سبط يهوذا واختاروا منه اثني عشر رجلاً بحسب عدد أسباط بني إسرائيل، فوقعت القرعة على يوسف ذلك الرجل الشيخ الصالح﴾.

وبعد ذلك لمـَّا حبلت مريم أحضروها مع يوسف أمـام الكاهن واشتكوها. وورد في ﴿ ﭙروتو إﭭَنجيلوم﴾ (فصل ١٥):

﴿فقال الكاهن: يا مريم، لماذا فعلتِ ذلك وثلَمْتِ عَرْضك؟ أنت نسيت الرب إلهك مع أنك تربيتِ في قدس الأقداس وكنت تتناولين الطعام من يد الملاك وكنت تسمعين الترنيمات (الإلهية)؟.. لماذا فعلتِ هذا؟ فبكت بشدة وقالت: حي هو الرب إنني طاهرة أمامه ولا أعرف رجلاً﴾.

ثم ذكر أن يوسف ومريم خرجا من الناصرة إلى بيت لحم ولم يجدا محلاً في الخان، فأقاما في مغارة حيث ولد فيها المسيح (فصل ١٨ من ذلك الكتاب) إذ يقول: ﴿إن يوسف وجد مغارة وأدخلها فيها.. وأنا يوسف.. شخصت بعيني إلى السَّماء فرأيت قبة السَّماء واقفة وطيور السَّماء ترتعد. ثم نظرت إلى الأرض فرأيت قصعة موضوعة والعملة جالسين وأيديهم في القصعة. فالذين كانوا يتناولون الطعام لم يتناولوه. والذين كانوا يضعونه في أفواههم لم يضعوه، بل كانت وجوههم جميعاً مرتفعة إلى فوق. ورأيت غنماً مسوقة وقد وقفت، فرفع الراعي يده ليضربها فوقفت يده مرفوعة. ثم حوَّلتُ نظري إلى مجرى ماء فرأيت بعض الجداء وكانت أفواهها مرتفعة فوق الماء ولم تشرب، فنظرت أن كل شيء كان في غاية الدهشة﴾. وهذه الخرافة هي أصل القصة الواردة في ﴿روضة الأحباب عن الغرائب والعجائب﴾ التي يُقال إنها حصلت عند مولد مُحَمَّد.

وربما ردَّ بعض علماء المسلمين على هذه الأدلة بقولهم إن هذا برهان على صحة النبأ الوارد في القُرْآن بخصوص مريم، لأننا نعلم الآن أن كثيراً من كتب المسيحيين القديمة المشابهة لهذه الكتب تؤيد ما أورده القُرْآن في هذا الصدد.

قلنا: لا يخفى على العاقل أنه يلزم قبل الاعتماد على شهادة شاهد أن نبحث عن صفاته وصحة أقواله. فإذا فحصنا كتب البدع بموجب هذا القانون انهارت دعائم بنائها وشهاداتها، لأنها أولاً لا يُركن إليها، وثانياً لأنها ليست قديمة جداً فإن النصوص الواردة في الأناجيل القانونية الصحيحة أقدم منها عهداً جداً. وثالثاً لم يعتمد ولن يعتمد عليها أحد من العلماء، لأنها مجرد خرافات ألَّفها بعضُهم عن وهمٍ وظن. وبصرف النظر عن كل هذا فهي تدل على جهل، لأنه لم يكن يجوز تربية أية أنثى كانت في الهيكل بين الكهنة، ولم يكن مسموحاً لأحد أن يقيم في قدس الأقداس، بل لم يكن مسموحاً لأحد أن يدخله إلا رئيس كهنة اليهود فقط مرة واحدة في السنة، بمناسبة يوم الكفارة العظيم، عندما كان يقدِّم الذبيحة ويأتي بالدم ليقدمه أمام الله في قدس الأقداس. ٥

ولـم يرد في الأناجيل ذكر لاسم أم مريم. ولكـن أصحاب البدع زعمـوا أن اسمها ﴿حنة﴾ لسببين: أولهما، إنه ورد في إنجيل لوقا (٢/ ٣٦) أن نبية عجوزاً تُدعى حنة؛ وثانياً أن ﴿حنة﴾ هو اسم أم صموئيل النبي. أما قصة نذر مريم لله قبل الحبل بها في بطن أمها، وأنها تربَّت في الهيكل فمُخترَعة وملفَّقة، تقليداً لقصة صموئيل النبي الحقيقية الواردة في ١صموئيل (١/ ١١ و٢٤ و٢٨؛ ٢: ١١ و١٨ ـ ١٩). وما دروا أن هذا كان جائزاً في الحالة التي يكون فيها النذير صبياً، ولكنه لا يجوز في الحالة التي يكون فيها النذير صبية، كما يسلم بذلك كل من يعرف العادات الشرقية. فبناء على ذلك تكون شهادة هذه الخرافات لتأييد القُرْآن ساقطة. على أن المشابهة بينها وبين ما ورد في القُرْآن تدل على أن مُحَمَّداً اقتبسها من مثل هذه الخرافات.

ثم أن ما ورد في سورة مريم (١٩/ ٢٥) عن الرطب الجني الذي تساقط من النخلة على مريم مأخوذ من كتاب ملفق يدعى ﴿حكاية مولد مريم وطفولية المخلّص﴾ ويقول:

﴿ولكن في اليوم الثالث بعد ارتحاله حدث أن مريم تعبت في البرية من شدة حرارة الشمس. فلما رأت شجرة قالت ليوسف: لنسترِح هنيهة تحت ظل هذه الشجرة. فبادر يوسف وأتى بها إلى تلك النخلة وأنزلها من على دابتها. ولما جلست شخصت بعينيها إلى أعلى النخلة فرأتها ملآنة بالثمر، فقالت ليوسف: يا ليتني آخذ قليلاً من ثمر هذا النخل. فقال لها يوسف: يا للعجب! كيف تقولين هذا وأنت ترين أن أفرع هذه النخلة عالية جداً؟ لكني في غاية القلق بخصوص الماء، لأن الماء الذي في قربتنا قد نفد ولا يوجد مكان نملأها منه لنروي ظمأنا. ثم قال الطفل يسوع الذي كان متكئاً على صدر أمه مريم العذراء ووجهه باش: يا أيتها الشجرة، أَهبِطي أفرعك لتنتعش أمي بثمرك. وحالما سمعت النخلة هذا الكلام طأطأت فوراً برأسها عند موطئ قدمي مريم، فالتقط الجميع من الثمر الذي كان عليها وانتعشوا، وبعد ذلك لما التقطوا جميع ثمرها استمرت النخلة مطأطئة رأسها، لأنها كانت تنتظر الارتفاع بأمر مَن قد طأطأت رأسها بأمره. فقال لها يسوع: ارفعي رأسك يا أيتها النخلة وانشرحي صدراً وكوني من أشجاري التي في جنة أبي. ولكن افتحي بجذورك الينبوع المستتر في الأرض، ولتفِض المياه من هذا الينبوع.. ففي الحال انتصبت النخلة ونبعت من جذورها مجاري مياه زلال صافية باردة آية في غاية الحلاوة. ولما رأوا مجاري المياه هذه فرحوا فرحاً عظيماً جداً، فرووا ظمأهم مع جميع بهائمهم وخدمتهم وحمدوا الله﴾.

فلا فرق بين هذه الخرافة وبين القصة القُرْآنية إلا في أن رواية القُرْآن ذكرت أن هذه الحادثة العجيبة حصلت عند ولادة المسيح، بينما القصة القديمة تقول إنها حدثت لما كان يوسف في مصر بعد ذلك بمدة قليلة.

وإذا قيل: من أين اتخذ أصحاب البدع والخرافات هذه القصة؟ قلنا إنها واردة كما جاءت في القُرْآن وفي كتب أصحاب البدع في كتب ﴿أصحاب بوذا﴾ الذي وُلد في الهند نحو سنة (٥٥٧ ق م)، فقد ورد في أحد هذه الكتب المسمى ﴿نِدانه كتها جاتكم﴾ (فصل ١ ص ٥٠ ـ ٥٣) ذكر ولادة بوذا، وقيل إنه لما حبلت أمه توجهت من قصر زوجها إلى قصر الملك أبيها لتلد هناك. ولما كانت سائرة في الطريق عرجت مع خادماتها على غابة جميلة، ثم قيل:

﴿إنها قربت من أسفل شجرة ﴿سال﴾ طيبة الفال، وتمنَّت لو تمسك فرعاً من شجرة السال هذه، فانثنى فرعها كأنه قصوي عصا صار تليينها ببخار وقرُب من قبضة يد السائرة، فمدَّت يدها وأمسكت الفرع فأجاءها المخاض، ووضعت لما كانت واقفة ممسكة بفرع شجرة السال﴾.

ووردت هذه القصة بصورة أخرى في كتاب من كتب أصحاب بوذا في حياته السالفة (على مذهب التقمُّص) كان أميراً يدعى ﴿ويسنترو﴾ طُرد ونُفي مع قرينته وولديه الصغيرين من المملكة، فقطعا الصحاري والجبال باحثين عن ملجأ. فاشتد الجوع بالولدين وقيل في نص الكتاب ﴿فإذ رأى الطفلان أشجاراً حاملة ثماراً عند سفح الجبل بكيا للحصول على ثمرها. فلما رأت الأشجارُ الباسقةُ الولدين باكيين، طأطأت رؤوسها واقتربت منهما﴾. ٦

وواضح أن أصحاب البدع ومؤلف القُرْآن اقتبسوا قصصهم من هذه القصة، وإن كانوا لم يعرفوا أصلها الحقيقي. وما أكبر الفرق بين الأناجيل الصحيحة الصادقة وكتب أصحاب البدع الموضوعة، فإن الحواريين الذين كتبوا أناجيلهم الصادقة الصحيحة بوحي الله المقبولة عند جميع المسيحيين في غنى عن الاقتباس من قصص الوثنيين، لأنهم دوَّنوا كتبهم مما شاهدوه وعرفوه، أو ما بلغهم من شهادة الذين عاينوا الحوادث بأعينهم (لوقا ١/ ١ ـ ٤). وكانوا في كل الأحوال تحت إرشاد الوحي الإلهي والإلهام الرباني، وعاشوا في عصر المسيح ذاته. ولكن لما كان أصحاب البدع قد كتبوا كتبهم في الأزمنة المتأخرة، وكانوا جهلة مولعين بتصديق الخزعبلات، دوَّنوا في كتبهم التي ألَّفوها للجهلة والعوام المغرمين بحب الغرائب قصصاً كثيرة لم يعرفوا أصلها. فظهر من هذه الخرافة وأمثالها أن المعترضين على القُرْآن أوردوا أدلة كثيرة لتأييد قولهم من أن ﴿النبي الأمي﴾ انخدع بمثل هذه الخرافات.

(٣) قصة طفولية المسيح عيسى:

ورد في سورة آل عمران (٣/ ٤٦ و٤٩) أنه قبل مولد المسيح قال الملاك عنه:

{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ... أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ}.

وورد في سورة المائدة:

{إِذْ قَالَ اللّهُ: يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً؛ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ؛ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي؛ وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي؛ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي؛ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ: إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}. ٧

ولقد اقتبس القُرْآن هذه المعلومات من كتب كاذبة، لا من إنجيل صحيح، لأنه اتضح مما تقدم أن مخاطبة المسيح الموهومة لشجرة النخل مبنيَّة على ما توهَّمه البعض من أنه تكلم في المهد. أما معجزة إحياء الطير المصنوع من الطين فأُخذت من كتاب يوناني اسمه ﴿بشارة توما الإسرائيلي ﴾ (فصل ٢):

﴿لما بلغ الصبي يسوع من العمر خمس سنين كان يلعب في جدول، فجمع المياه الجارية إلى بحيرات، وكان يجعلها على الفور نظيفة، ورتَّبها بمجرد كلمة، ثم جعل بعض طين ناعماً وصنع منه اثني عشر عصفوراً. وكان يوم السبت لما فعل هذه الأشياء. ومع أنه كان يوجد أولاد كثيرون يلعبون معه إلا أن أحد اليهود لما رأى ما فعله يسوع وأنه كان يلعب في يوم السبت، ذهب وأخبر والده يوسف قائلاً: إن ابنك هو عند جداول المياه وقد أخذ طيناً وصنع منه اثني عشر طيراً ونقض يوم السبت. فأتى يوسف إلى المكان وعاين ما فعله الولد فصرخ قائلاً له: لماذا تفعل في السبت هذه الأشياء التي لا يحل فعلها؟ فطبق يسوع كفيه الواحد على الآخر وصاح بالعصافير قائلاً لها: اذهبي. فطارت العصافير! فذُهل اليهود الذين شاهدوا هذه الأمور. ولما انصرفوا أخبروا رؤساءهم بما فعله يسوع﴾.

وهذه الخرافة كلها توجد أيضاً في كتاب عربي يُسمى ﴿إنجيل الطفولية ﴾ (فصل ٣٦) وذكرت بصورة أخرى في فصل ٤٦ من نفس الكتاب، لأن آخره مأخوذٌ من ﴿بشارة توما الإسرائيلي ﴾.

ولنرجع إلى ما ذُكر من أن المسيح تكلم لما كان طفلاً في المهد. جاء في سورة مريم ٨ أنه لما وبَّخ القومُ مريم، أشارت إلى الطفل يسوع ليجيب عنها. فلما قالوا لها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟} أجـاب: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتـَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّـاً}. وورد في ﴿إنجيل الطفولية ﴾ (فصل ١): ﴿قد وجدنا في كتاب يوسيفوس رئيس الكهنة الذي كان على عهد المسيح، وقد قال أناسٌ إن قيافا قال إن يسوع تكلم حين كان في المهد، وقال لمريم أمه: إني أنا المسيح ابن الله الـذي ولدتِني كمـا بشَّرك جبرائيل الملاك، وأبي أرسلني لخلاص العالم﴾.

فإذا قارنا بين هذا القول وما ورد في القُرْآن نرى أن مُحَمَّداً غيَّر في هذه الأقوال الوهمية المنسوبة إلى المسيح بكيفية تلائم اعتقاده وتعليمه. ولكن مما لا شك فيه أن مُحَمَّداً أخذ هذه القصة الكاذبة من الكتاب المذكور. وإذا سأل سائل: كيف توصَّل إلى انتحالها وأين تيسَّر له ذلك؟ قلنا: إن الكتاب المسمى ﴿إنجيل الطفولية ﴾ مترجم من القبطية إلى اللغة العربية. وبما أن ماريا القبطية كانت من سراري مُحَمَّد فلا بد أنه سمع هذه الخرافة منها لأنها كانت جاهلة، فتوهَّمت أن هذه القصة كانت في الإنجيل الصحيح الأصلي، فأخذها منها وتصرف في روايتها الشفاهية قليلاً ونقحها ودوَّنها في القُرْآن.

فإذا أصرَّ إنسان وقال: ربما تكون هذه القصة صحيحة، نقول: لا يمكن أن تكون صحيحة، لأنه يؤخذ من إنجيل يوحنا (٢/ ١١) أن المسيح لم يفعل معجزة في طفولته، وقيل تعليقاً على معجزته في عرس قانا الجليل، التي صنعها لما بلغ من العمر أكثر من ثلاثين سنة، إنها كانت بدء معجزاته وآياته.

غير أن باقي معجزات المسيح المذكورة في القُرْآن هي حقيقية وحدثت فعلاً، ما عدا معجزة المائدة التي ادَّعى القُرْآن أن المسيح أنزلها من السَّماء. فقد ذكر القُرْآن أنه طهَّر البرص وأقام الموتى وأعطى بصراً للعميان، وهذا يطابق ما ورد في البشائر الأربع الصحيحة. أما ما ورد في القُرْآن بخصوص المائدة: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء؟ قَالَ: اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. قَالُواْ: نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}. ٩ ولم ترد هذه المعجزة في أي كتاب من الكتب المسيحية، ولا شك أنها لم تحدث، ولكننا نرى أنها نشأت عن عدم فهم بعض عبارات واردة في العهد الجديد. مثلاً ورد في إنجيل متى (٢٦/ ٢٠ ـ ٢٩) وإنجيل مرقس (١٤/ ١٧ ـ ٢٥) وإنجيل لوقا (٢٢/ ١٤ـ٣٠) وإنجيل يوحنا (١٣/ ١ ـ ٣٠) ذكر العشاء الرباني الذي اشترك فيه المسيح مع الحواريين في آخر ليلة من وجوده بالجسد في هذه الحياة الدنيا وذلك قبل يوم صلبه. ومن ذلك الوقت إلى يومنا يمارس المسيحيون الحقيقيون العشاء الرباني حسب أمره تذكاراً لصلبه. وقد ورد في إنجيل لوقا (٢٢/ ٣٠) بخصوص مائدة المسيح: ﴿لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكـوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسـباط إسرائيل الإثني عشر﴾. فإذا سأل سائل: لماذا يقول المسلمون إن هذه المائدة نزلت من السَّماء؟ قلنا: ربما توهموا أن لهذا علاقة بما ذكـر في أعمال الرسل (١٠/ ٩ ـ ١٦)، وهو: ﴿ثم في الغد فيما هم يسافرون ويقتربون إلى المدينة صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة فجاع كثيراً واشتهى أن يأكل. وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة فرأى السَّماء مفتوحة وإناء نازلاً عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض، وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السَّماء. وصار إليه صوت: قم يا بطرس اذبح وكُل. فقال بطرس: كلا يا رب لأني لم آكل قط شيئاً دنساً أو نجساً. فصار إليه أيضاً صوت ثانية: ما طهَّره الله فلا تدنِّسه أنت. وكان هذا على ثلاث مرات، ثم ارتفع الإناء أيضاً إلى السَّماء﴾. غير أن هذه كانت رؤيا فقط، ولا شك أن عدم فهم الكتاب المقدس حق الفهم هو منشأ حكاية المائدة في القُرْآن.

ونتقدم الآن إلى بعض ما ورد في القُرْآن عن المسيح وأمه مريم العذراء، فمن ذلك سورة المائدة: {وَإذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ؟}. ١٠ وورد في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}. ١١ وورد في سورة المائدة: { لَقْد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ١٢ فيتضح من هذه الآيات أن مُحَمَّداً سمع (كما قال جلال الدين ويحيى) من بعض أصحاب البدع من النصارى أنه يوجد ثلاثة آلهة حسب وهمهم، هم الله سبحانه، ومريم، وعيسى. فردَّ القُرْآن على آراء أصحاب البدع الكفرية وكرر المرة بعد الأخرى أن الله واحد. وكل من له إلمام بالتوراة والإنجيل يعرف أن وحدانية الله هي أساس الدين المسيحي، فقد ورد في التوراة: ﴿اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا إله واحد﴾. ١٣ وفي إنجيل مرقس (١٢/ ٢٩) استشهد المسيح بهذه الآية وأيَّد صحتها بغاية التأكيد. ولم يقل مسيحي حقيقي إن مريم هي إله. نعم إنه مما يحزن القلب أن عبادة مريم دخلت بعض الكنائس، ولكنها في الحقيقة عبادة أصنام تناقض وصايا الله وتعاليم التوراة والإنجيل، إلا أنها موافقة لبعض الكتب الموضوعة التي اقتبس منها مُحَمَّد القصص المذكورة عن مريم العذراء. فقد ورد في سورة النساء ١٤ أن اليهود قالوا: { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ، وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } فتعليم القُرْآن في هذه العبارة منافٍ على خط مستقيم لجميع كتب الأنبياء والإنجيل، ولكنه يطابق غاية المطابقة مذاهب بعض أصحاب البدع الضالين، لأن إيرينيوس ١٥ قال إن باسليديس ١٦ كان يعلّم أتباعه أن المسيح ﴿لم يتألم، وأن شخصاً اسمه سمعان من قيروان التزم أن يحمل صليبه لأجله، وأن هذا الرجل هو الذي صُلب جهلاً وخطأً، فإن المسيح غيَّر شكل هذا الرجل ليتوهَّموا أنه هو عيسى نفسه﴾.

فمن هنا يظهر أن مُحَمَّداً اتخذ هذا المذهب عن أتباع باسليديس. ومع ذلك فكل من ينكر أن المسيح صُلب حقيقة ومات على الصليب يناقض تعاليم الأنبياء والإنجيل، لأن الأنبياء سبق أن تنبأوا أنه لا بد أن المسيح الموعود به أن يبذل حياته الكريمة ليكفِّر عن خطايا جميع البشر. وشهد تلاميذ المسيح أنهم شاهدوا بأعينهم مخلِّصهم مصلوباً، ولكن مُحَمَّداً لم يدرِ أن إنكار باسيليديس الزائف لصلب المسيح هو بدعة مبنية على ضلالة من ضلالاته، فإنه قال إن المسيح لم يتَّخذ طبيعة بشرية حقيقية، ولكنه اتخذ شِبه جسد لا وجود له حقيقة، وإنه كان لا يمكن أن يولد أو يتألم أو يُصلب، ولكنه خدع الناس وأغراهم على التصديق بأنه تألم وصُلب. ولكن هذا المذهب الضال ينافي كل ما في الإنجيل والقُرْآن، فكان لابد أن ينهار بناؤه وأركانه. وإن كانت أصوله كاذبة فكيف تثبت فروعه التي هي أقل قيمة من أساسه؟ ولكن مُحَمَّداً قبِل الفروع ودوَّنها في قرآنه، وصرف النظر عن الأصل والمبدأ!

(٤) الفارقليط:

وقال المسلمون إن المسيح أوصى تلاميذه أن ينتظروا مجيء نبي آخر اسمه ﴿أحمد﴾ وأوردوا آية من القُرْآن لتأييد هذا الوهم والزعم، فقد ورد في سورة الصف: {إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. ١٧ ولا شك أن هذه الآية تشير إلى ما ورد في إنجيل يوحنا (١٤/ ١٦ و٢٦ و١٥/ ٢٦ و١٦/ ٧) بخصوص الفارقليط أو البارقليط وهو المعزي. لكن كل من طالع هذه الإصحاحات بتروٍ وإمعان يرى أنه لم يرد فيها ذكرٌ لنبي يأتي بعد المسيح بل بالعكس، فإن المسيح كان يتكلم عن الروح القدس، كما هو واضح من هذه الآيات. وقد تم وعد المسيح بعد صعوده بأيام قليلة. وورد في أعمال الرسل (٢/ ١ ـ ١١) نبأٌ عن تتميم هذا الوعد وحلول الروح القدس على التلاميذ. ومنشأ خطإ القُرْآن هو أنه لمـَّا كان العرب يجهلون معنى ﴿فارقليط﴾ توهَّموا أن ترجمة هذه الكلمة الحقيقي هو ﴿أحمد﴾. والحقيقة أن معنى الكلمة اليونانية الصحيح هو ﴿مُعزٍّ﴾. ولكن توجد كلمة أخرى باللغة اليونانية يجيء النطق بها إلى آذان الأجانب (مثل العرب) قريبة مما يلفظه العرب ﴿فارقليط﴾ ومعنى هذه الكلمة الثانية هو المشهور الذائع الصيت. فيُحتمل أن أحد العرب الذين يجهلون اليونانية سمع هاتين الكلمتين فالتبستا عليه، فتوهَّم أن معنى ﴿فارقليط﴾ أحمد. ويسهل وقوع العرب في مثل هذا الخطأ، لأنه إذا سمع أجنبيٌّ عربياً يتكلم عن ﴿قلب﴾ تعذَّر عليه التمييز بين ﴿قلب﴾ و ﴿كلب﴾. وقد يتوهم أن المقصود ﴿كلب﴾ فتلتبس عليه العبارة. ولا يخفى أن ﴿ماني﴾ المصور الشهير نبغ في بلاد الفرس، وادَّعى النبوَّة وقال إنه الفارقيلط وإن المسيح شهد له. غير أن المسيحيين رفضوا دعواه لإطلاعهم على حقيقة تعاليم الإنجيل، ولمعرفتهم أن المسيح لم يتنبأ عن نبي حقيقي يأتي بعده.

وورد في الأحاديث أنه لما ينزل المسيح من السَّماء يقيم في هذه الحياة الدنيا أربعين سنة ويتزوج. ١٨ وكل من له إطلاع على التوراة والإنجيل يعرف منشأ هذا الخطأ، فقد ورد في سفر الرؤيا (١٩/ ٧ و٩): ﴿لنفرح ونتهلل ونعطه المجد، لأن عرس الحمل قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأُعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً لأن البز هو تبررات القديسين. وقال لي: اكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الحمل﴾. ومن المعلوم أن ﴿الحمل﴾ هو أحد ألقاب المسيح. وهنا ذُكر صريحاً عرسه عند رجوعه إلى الأرض. ولكن إذا سأل سائل: من هي العروس؟ وما معنى هذه الآيات؟ قلنا: إنه ورد في سفر الرؤيا (٢١/ ٢): ﴿وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السَّماء من عند الله مهيَّأة كعروس مزينة لرجلها﴾. وأورشليم الجديدة تعني الكنيسة المسيحية المكملة المطهرة كما في أفسس (٥/ ٢٢ ـ ٣٢). هي العروس التي يقترن بها المسيح، أي التي يقبلها ويضمها عند رجـوعه. والمقصود بقوله ﴿يتزوجها﴾ الإشارة إلى المحبة الكاملة والاتحاد التام بين المخلِّص والمخلَّصين. ومن هنا نرى أن هذه القصة الواردة في الأحاديث نشأت عن عدم فهم أقوال العهد الجديد. أما قولهم إن المسيح يقيم في هذه الدنيا أربعين سنة بعد رجوعه فناشئ عن قول أعمال الرسل (١/ ٣) ومعناها أنه أقام مع تلاميذه أربعين يوماً بعد قيامته. أما ما ورد في الأحاديث والتفاسير من أن المسيح يموت بعد رجوعه فمبنيٌّ على مـا ورد في سـورة آل عمران: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}. ١٩ لكنا لا نجزم بأن هذا معنى الآية الحقيقي، لأن هذا التعليم يناقض نصوص الكتاب المقدس الصريحة، فقد ورد في سفر الرؤيا (١/ ١٧ و١٨) قول المسيح: ﴿أنا هو الأول والآخِر، والحيُّ، وكنت ميتاً وهـا أنا حي إلى أبـد الآبدين. آمين. ولي مفاتيح الهاوية والموت﴾. غير أن أصل ما ورد في الأحاديث بخصوص هذا الأمر عبارة وردت في كتاب ﴿نياحة أبينا القديس الشيخ يوسف النجار﴾ (فصل ٣١) بخصوص النبييْن أخنوخ وإيليا اللذين صعدا إلى السَّماء بدون أن يذوقا الموت ﴿ينبغي لأولئك أن يأتوا إلى العالم في آخر الزمان في يوم القلق والخوف والشدة والضيق ويموتوا﴾. وورد كذلك في كتاب قبطي عنوانه ﴿تاريخ رقاد القديسة مريم﴾ : ﴿أما من جهة هذين الآخَرين ـ أي أخنوخ وإيليا ـ فينبغي أن يذوقا الموت أخيراً﴾.

وبما أن أنصار مُحَمَّد وأصحابه سمعوا هذا القول من الذين اطلعوا على هذين الكتابيْن الساقطيْن، قالوا بطريق الاستنتاج إن المسيح لابد أن يذوق الموت أيضاً مثل أخنوخ وإيليا، لأنهم توهَّموا أنه صعد إلى السَّماء مثلهما بدون أن يذوق الموت، فلا بد أنه سيموت بعد مجيئه ثانيةً. وفسروا آية سورة آل عمران (٣/ ٥٥) حسب هذا الزعم، مثل قوله في سورة العنكبوت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. ٢٠ ومثلها في سورة آل عمران (٣/ ١٨٥) هو مبني على هذا المذهب (ما عدا حادثة موت المسيح بعد رجوعه) الذي منشأه أصحاب البدع والضلالة.

في ذكر بعض أشياء شتى أخذت من كتب المسيحيين أو من مؤلفات أصحاب البدع والضلالة: فمن هذا القبيل الحكاية الواردة في ﴿قصص الأنبياء﴾:

﴿لما أراد الله أن يخلق آدم، أرسل الملائكة المقربين واحداً بعد الآخر لكي يأتوا بقبضة من أديم الأرض. ولما خاب مسعاهم نزل أخيراً عزرائيل ووضع يده وأخذ قبضة من أديم كل الأرض، وأتى بها إلى المولى قائلاً: يا الله أنت تعرف ها أتيت بها﴾.

وقال أبو الفداء نقلاً عن ﴿الكامل في التاريخ﴾ لابن الأثير:

﴿قالَ النَّبِيُّ صَلعَم إنّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ آدَمَ من قبضَةٍ قبضَها من جَميع الأرض... وَإِنَّما سُمِّيَ آدم لأَنَّه خُلِقَ من أديم الأرض﴾.

أما قضية نزول الملاك من السَّماء لأخذ شيء من أديم الأرض، وأنه طلب قبضة من الأرض حسب الأحاديث، فمأخوذة من أقوال ﴿مرقيون﴾ وهو يوناني من أصحاب البدع الذين انحرفوا عن الدين القويم، لأن ﴿يذنيق﴾ أحد المؤلفين الأرمن القدماء أورد في كتابه ﴿ ردُّ البدع﴾ (فصل ٤) العبارة الآتية من أحد كتب مرقيون وترجمتها:

﴿ولما رأى إله التوراة أن هذا العالم كان جميلاً عزم على عمل الإنسان منه ـ أي من هذا العالم ـ . ولما نزل إلى الأرض إلى المادة ـ أو الهيولي ٢١ ـ قال: أعطيني شيئاً من طينك وأنا أعطيك نسمة من عندي.. ولما أعطته المادة شيئاً من أديمها خلقه ـ أي آدم ـ ونفخ فيه النسمة.. ولهذا السبب سُمي آدم لأنه خُلق من أديم الأرض﴾.

وتقول بدعة مرقيون إن الشخص الذي يسميه ﴿إله التوراة ﴾ الذي أخذ قبضة من الأرض ليخلق منها الإنسان هو ملاك لا غير، لأن مرقيون المبتدع وأتباعه قالوا إن التوراة نزلت من عند أحـد الملائكة الذي كان عدواً لله، وكانوا يسمون هذا الملاك ﴿رب العالمين﴾ و﴿خالق المخلوقات﴾ و﴿رئيس هذا العالم﴾. ولا يخفى أن قولهم ﴿رئيس هذا العالم﴾ مأخوذ من الإنجيل وصفاً للشيطان (يوحنا: ١٤/ ٣٠). وقد قال المسلمون إن هذه الآية نبوَّة عن مُحَمَّد لأنهم جهلوا معناها الحقيقي.

وقال مرقيون إن هذا الملاك أقام في السَّماء الثانية، وإنه لم يكن يعرف في أول الأمر بوجود الله. ولكنه لما عرف بوجوده عاداه. وقال مرقيون إن اسم المولى واجب الوجود هـو ﴿الإله المجهول ﴾. وحاول الملاك منع الناس عن معرفة الله الإله الحقيقي لئلا يكرموه ويعبدوه. فكل هذه الآراء والمذاهب تشبه ما قاله المسلمون من أن عزازيل كان مقيماً أيضاً في السَّماء الثانية. ويوجد منشأ باقي قصة عزازيل في كتب أشياع زارادشت كما سنبينه في الفصل الخامس من هذا الكتاب.

وورد في سورة مريم:

{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً. ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً. وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيّاً. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}. ٢٢

واختلف المفسرون في معنى هذه الآيات، فقال البعض إنه لابد أن كل المؤمنين يردون جهنم ولكن لا يضرُّهم لهبها. وقال البعض الآخر إن الإشارة هي إلى ﴿الصراط﴾ الذي لابد أن يمر عليه الجميع وهو ممدود على جهنم. وسنتحدث عن الصراط في الفصل الخامس.

ولكن تعليقنا على القول: { إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} أنه يُحتمل أن هذه العبارة تشير إلى ما استنتجه المسيحيون من إنجيل مرقس (٩/ ٤٩) و١ كورنثوس (٣/ ١٣)، وهو أنه يوجد مكان يتطهَّر فيه عصاة المسيحيين من خطاياهم بواسطة النار. أما إذا كانت عبارة القُرْآن تشير إلى ﴿الصراط﴾ فيكون قد أخذ هذا المذهب من أصحاب زارادشت وليس من المسيحيين، كما سنوضح في ما بعد.

(٥) الميزان:

وقد ورد ذكر الميزان في سورة الشوري: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}. ٢٣ وكذلك ورد في سورة القارعة : {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ؛ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ }. ٢٤ ولا لزوم لأن نذكر كل ما ورد في الأحاديث بخصوص الميزان الهائل، لأنها معروفة. فإذا بحثنا عن أصل هذه القصة نجد أنها مأخوذة من كتاب ﴿عهد إبراهيم﴾ الذي أُلف في مصر أولاً ثم ترجم إلى اللغة اليونانية والعربية، فنرى في هذا الكتاب ما يشبه ما ذكره القُرْآن بخصوص وزن الأعمال الصالحة والطالحة. فقد ورد فيه أنه لما شرع ملاك الموت بأمر الله في القبض على روح إبراهيم، طلب منه خليل الله أن يعاين غرائب السَّماء والأرض قبل أن يموت. فلما أُذِن له عرج إلى السَّماء وشاهد كل شيء، وبعد هنيهة دخل السَّماء الثانية ونظر الميزان يزن فيه أحد الملائكة أعمال الناس. ونص تلك العبارة:

﴿إن كرسياً كان موضوعاً في وسط البابين، وكان جالساً عليه رجل عجيب، وأمامه مائدة تشبه البلور وكلها من ذهب وكتان رفيع. وعلى المائدة كتاب سُمكه ست أذرع وعرضه عشر أذرع. وعلى يمينها ويسارها ملاكان يمسكان بورقة وحبر وقلم. وأمام المائدة ملاكٌ يشبه النور يمسك ميزاناً بيده. وعلى اليسار ملاك من نار عليه علامات القسوة والفظاظة والغلظة يمسك بوقاً فيه نار آكلة، لامتحان الخطاة. وكان الرجل العجيب الجالس على الكرسي يدين ويمتحن الأرواح، والملاكان اللذان عن اليمين واليسار يكتبان ويسجّلان أعمال الناس. فكان الملاك الذي على اليمين يكتب ويسجّل الأعمال الصالحة، والملاك الذي على اليسار يكتب الخطايا. أما الملاك الذي أمام المائدة والممسك الميزان فكان يزن الأرواح، والملاك الناري الممسك بالنار كان يمتحن الأرواح. فاستفهم إبراهيم من ميخائيل رئيس الملائكة: ما هذه الأشياء التي نشاهدها؟ فقال له رئيس الملائكة: إن ما تراه أيها الفاضل إبراهيم هو الحساب والعقاب والثواب﴾. ٢٥

وذكر بعد هذا أن إبراهيم رأى أن الروح التي تكون أعمالها الصالحة والطالحة متساوية لا تُحسب من المخلَّصين ولا من الهالكين، ولكنها تقيم في موضع وسط بين الاثنين. وهذا المذهب يشبه ما ورد في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ}. ٢٦

فيتَّضح مما تقدم أن مُحَمَّداً اقتبس مسألة الميزان الذي ذكره في القُرْآن من هذا الكتاب الموضوع، الذي أُلف في مصر نحو ٤٠٠ سنة قبل الهجرة، والأرجح أنه عرف مضمون هذا الكتاب من مارية القبطية التي كانت سريته. غير أن منشأ قضية الميزان الواردة في عهد إبراهيم ليست من التوراة والإنجيل، ولكن منشأها كتاب قديم جداً عنوانه ﴿كتاب الأموات﴾ وُجدت منه نُسخ كثيرة بخط اليد في قبور المصريين عبدة الأصنام. ودفنوا هذا الكتاب مع الموتى، لأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن أحد آلهتهم الكذبة واسمه ﴿تهوتي﴾ ألَّفه، وزعموا أن الموتى يحتاجون إلى التعلم منه بعد موتهم. وفي أول فصل ١٢٥ من هذا الكتاب صورة إلهين اسمهما ﴿حور﴾ و ﴿أنبو﴾. وضعا في كفة من هذا الميزان قلب رجل بار صالح توفي. ووضعا في الكفة الأخرى تمثال إله آخر من آلهتهم اسمه ﴿مأت﴾ أو الصدق. أما إلههم ﴿تهوتي﴾ فكان يقيد أعمال الميت في سجل.

المقارنة بين وزن القلب وريشة الحق في ميزان ماعت
المقارنة بين وزن القلب وريشة الحق في ميزان ماعت

فيتضح مما ذكر أن القُرْآن اتخذ مسألة الميزان من كتاب ﴿عهد إبراهيم﴾ وأن مسألة الميزان فيه مأخوذة من الروايات الشفاهية التي وصلت من السلف إلى الخلف من اعتقادات قدماء المصريين المدوَّنة في ﴿كتاب الأموات﴾ الذي هو مصدر ذكر الميزان الأصلي.

(٦) صعود إبراهيم إلى السَّماء

وورد في الأحاديث أن مُحَمَّداً رأى في ليلة المعراج آدم أب البشر تارة يبكي ويولول وأخرى يفرح ويهلل، فور في كتاب مشكاة المصابيح:

﴿فلما فُتِحَ علونا السّماء الدّنيا إذا رجلٌ قاعد على يمينه أسوَدةٌ وعلى يساره أسوَدَة. إذا نظر قِبل يمينه ضحك، وإذا نظر قِبل شماله بكى. فقال: مرحباً بالنبي الصّالح والابن الصّالح. قلت لجبرائيل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَمَ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنّة، والأسودة التي عن شماله أهل النّار. فإذا نظر عن يمينه ضحِكَ، وإذا نظر عن شماله بكى﴾. ٢٧

وأصل هذا الحديث أيضاً من كتاب ﴿عهد إبراهيم﴾ فقد ورد فيه:

﴿فحوَّل ميخائيل العربة وحمل إبراهيم إلى جهة الشرق في أول باب السَّماء، فرأى إبراهيم طريقين إحداهما طريق كرب وضيقة والأخرى واسعة وعريضة. ورأى هناك بابين أحدهما واسع يوصل إلى الطريق الواسعة، وباب ضيق يوصل إلى الطريق الضيقة. ورأيت هناك خارج البابين رجلاً جالساً على كرسي مرصع بالذهب وكانت هيئته مهيبة كهيبة السيد. ورأيت أرواحاً كثيرة تسوقها الملائكة وتُدخِلها من الباب الواسع، ورأيت أرواحاً أخرى وهي قليلة العدد تحملها الملائكة وتُدخِلها في الباب الضيق. ولما رأى الرجل العجيب الذي كان مستوياً على الكرسي الذهبي أن الذين يدخلون من الباب الضيق قليلون، والذين يدخلون من الباب الواسع كثيرون، أمسك حالاً هذا الرجل العجيب شعر رأسه وجانبَي لحيته وألقى بنفسه من الكرسي إلى الأرض ينوح ويندب. ولما رأى أرواحاً كثيرة تدخل من الباب الضيق كان يقوم من على الأرض ويجلس على كرسيه مهللاً. ثم استفهم إبراهيم من رئيس الملائكة وقال له: يا مولاي الرئيس، من هذا الرجل العجيب الموشح بمثل هذا المجد وهو تارة يبكي ويولول وأخرى يفرح ويهلل؟ فقال له: إن هذا الشخص المجرد من الجسد (الملاك) هو آدم، أول شخص خُلق، وهو في هذا المجد العظيم يشاهد العالم لأن الجميع تناسلوا منه. فإذا رأى أرواحاً كثيرة تدخل من الباب الضيق يقوم ويجلس على كرسيه فرحاً ومهللاً من السرور، لأن الباب الضيق هو باب الصالحين المؤدي إلى الحياة، والذين يدخلون منه يذهبون إلى جنة النعيم. ولهذا السبب يفرح لأنه يرى الأنفس تفوز بالنجاة. ولما يرى أنفساً كثيرة تدخل من الباب الواسع ينتف شعر رأسه ويلقي بنفسه على الأرض باكياً ومولولاً بحُرقة، لأن الباب الواسع هو باب الخطاة الذي يؤدي إلى الهلاك والعقاب الأبدي﴾. ٢٨

ومع أنه يسهل على كل عالم إقامة الدليل على أن القُرْآن أخذ أشياء أخرى كثيرة من كتب جهلة المسيحيين الكاذبة، ومن تأليف أصحاب البدع الساقطة، فقد اكتفينا بما تقدم.

ويناسب قبل ختام هذا الفصل أن نسأل: بما أن مُحَمَّداً اقتبس مقاطع كثيرة من كتب باطلة لا أصل لها، فهل اقتبس أيضاً بعض آيات الأناجيل أو رسائل الحواريين، خلاف ما اقتبسه عن ولادة المسيح، وعن معجزاته الكثيرة؟

الجواب على هذا السؤال المهم هو: اقتبس القُرْآن من الإنجيل آية واحدة، وكذلك وردت عبارة في الأحاديث ربما تكون مقتبسة من رسائل بولس الرسول:

(١) ورد في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}. ٢٩ فالشطر الأخير من هذه الآية مأخوذ من قول المسيح: ﴿دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله﴾. ٣٠

(٢) ورد في الأحاديث عن أبي هريرة أن مُحَمَّداً قال: ﴿إن الله قال: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر﴾. ٣١ وهي مقتبسة من رسالة كورنثوس الأولى (٢/ ٩): ﴿ما لم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أذنٌ ولم يخطرْ على بال إنسانٍ ما أعدَّه اللهُ للذين يحبونه﴾.

ولا يمكن إنكار أقوال المعترضين من أن مُحَمَّداً أخذ من الإنجيل وباقي كتب المسيحيين، ولاسيما مؤلفات أصحاب البدع الباطلة، فهي أحد مصادر تعاليم الديانة الإِسْلامية.


١. لا تزال أطلالها باقية إلى الآن في تركيا.

٢. ومثل ذلك في سورة آل عمران: ٣/ ٣٥.

٣. سورة آل عمران: ٣/ ٤٢ ـ ٤٧.

٤. سورة مريم: ١٩/ ١٦ ـ ٣٠.

٥. لاويين: ١٦/ ٢؛ عبرانيين: ٩/ ٧.

٦. انظر الأبيات ٣٤ و٣٥.

٧. سورة المائدة: ٥/ ١١٠.

٨. ١٩: ٢٩ و٣٠.

٩. سورة المائدة: ٥/ ١١٢ ـ ١١٥.

١٠. سورة المائدة: ٥/ ١١٦.

١١. سورة النساء: ٤/ ١٧١.

١٢. سورة المائدة: ٥/ ٧٣.

١٣. تثنية: ٦/ ٤.

١٤. ٤: ١٥٧ و١٥٨.

١٥. أحد علماء المسيحيين القدماء.

١٦. أحد زعماء أصحاب البدع في الأزمنة القديمة.

١٧. سورة الصف: ٦١/ ٦.

١٨. انظر عرائس المجالس، ص ٥٥٤.

١٩. سورة آل عمران: ٣/ ٥٥.

٢٠. سورة العنكبوت: ٢٩/ ٥٧.

٢١. υλη .

٢٢. سورة مريم: ١٩/ ٦٨ ـ ٧٢.

٢٣. سورة الشوري: ٤٢/ ١٧.

٢٤. سورة القارعة: ١٠١/ ٦ ـ ٨.

٢٥. كتاب عهد إبراهيم، صورة ١ فصل ١.

٢٦. سورة الأعراف: ٧/ ٤٦.

٢٧. مِشكاة المصابيح ، محمد بن عبد اللَّهِ الخطيب التبريزي، ص ٥٢١.

٢٨. كتاب عهد إبراهيم، صورة ١ فصل ١١.

٢٩. سورة الأعراف: ٧/ ٤٠.

٣٠. متى: ١٩/ ٢٤؛ مرقس: ١٠: ٢٥؛ لوقا: ١٨/ ٢٥.

٣١. مشكاة المصابيح، ص ٤٨٧.