المحاضرة ٧

بر الله المنسجم مع طرق تدبيره

القسم ٢ : التدبيري

الإصحاحات ٩ – ١١

علاقة الله الماضية مع إسرائيل في اختيار النعمة

الأصحاح ٩

إذ حملنا طوال الطريق من البعد والعبودية والدينونة في الإصحاحات ١, ٢, ٣ إلى الحرية المجيدة والتبرير والاتحاد الأبدي بالمسيح في الأصحاح ٨، نجد الرسول بولس ينبري الآن إلى معالجة وجه آخر من الأمور بشكل إجمالي. لقد كان يعرف جيداً أن العديد من قرائه سيكونون يهوداً أتقياء ورعين قد اقتبلوا المسيح على أنه المسيا والمخلص لهم, ولكنهم كانوا يمرون بمرحلة من الحيرة الكبيرة والارتباك وقد رأوا أمتهم تقسوا بشكل واضح وتتحول إلى معارضة للإنجيل, بينما الخاطئون من الأمميين يتحولون إلى الرب. لقد كانوا يدركون أن الأنبياء تنبأوا بصنيع عظيم سيفعله الله بين الأمميين, ولكنهم كانوا معتادين على التفكير بأن هذا سيأتي بعد التجديد الكامل ومباركة إسرائيل, وفعلياً سينبع هذا منها. كان على إسرائيل أن تزهر وتبرعم وتملأ وجه الأرض بالثمار. وعلى الأمميين أن يهتدوا بنورها ويجدوا السعادة في الإذعان لها. ولكن بدا الآن أن جميع النبوءات التي استندوا إليها في توقعاتهم قد أخفقت ولم تتحقق. كيف يستطيع بولس أن يوفق بين إعلانه بالنعمة المجانية للأمميين في كل مكان في منأى عن خضوعهم للحقوق المرتبطة بالعهد القديم؟ في الإصحاحات الثلاثة التي سنتناولها الآن يجيب الرسول على هذا السؤال, وذلك ببراعة, فيظهر كيف أن بر الله منسجم مع طرق تدبيره. يمكن تقسيم هذا الجزء من الرسالة إلى ثلاثة تقسيمات فرعية: الإصحاح ٩ يعطينا فكرة عن علاقة الله الماضية مع إسرائيل في اختيار النعمة, والإصحاح ١٠ يطرح علاقة الله الحالية بإسرائيل من ناحية التأديب التدبيري, والفصل ١١ يظهر علاقة الله المستقبلية بإسرائيل في تحقيق النبوءة.

إن فتحنا كتبنا المقدسة على الإصحاح التاسع, من ستفوته ملاحظة الكلمات الجدية التي يخاطب بها بولس أنسباءه حسب الجسد؟ إنه يؤكد لهم بأنه يحبهم بعمق وأن قلبه متوجع على الدوام بسببهم. ما كان أحد ليستطيع أن يحبهم مثله. ولعلهم اعتقدوا انه ابتعد عنهم بسبب مهمته في إعلان الإنجيل للأمم, ولكن من الواضح جداً, هنا وفي بقية سفر الأعمال, أنه ورغم مبالغته في تقدير مهمته كرسول للأمم, إلى أنه كان في قلبه سعي كبير لأن يصل إلى أنسبائه وأن يشهد لهم. لقد كانت خدمته لليهود أولاً ثم لليونانيين (الأمميين).

هناك خلاف في الرأي بين أهل التقوى والدارسين فيما يتعلق بالمعنى الدقيق للآية ٣: هل كانت تقصد أنه كانت هناك أوقات رغب فيها بولس فعلاً, لو أمكنه, أن يخلص إخوته بأن يكون هو نفسه محروماً من المسيح؛ وأنه كان مستعداً للانسياق وراء ذلك؟ أم أن الأمر ببساطة هو أنه يفهم بشكل كامل شعور اليهودي الأكثر جدية, الذي بحماسته المغلوطة يمقت المسيح, لأنه هو نفسه رغب في وقت ما لو كان محروماً من المسيح تعاضداً مع أنسبائه بحسب الجسد؟ لو قبلنا الرأي الأخير لرأينا في هذه الآية ببساطة تعبيراً عن شدة وقوة مشاعره كيهودي مهتدٍ. ولكن إن قبلنا وجهة النظر السابقة فإننا سنضعه على نفس المنصة مع موسى الذي هتف صارخاً: "إن أمكن, امحني من كتابك, ودع الشعب يعيش". ولكن أياً كانت وجهة النظر التي سنتبناها, فإن إحساسنا باهتمامه العميق بشعبه يصبح أشد كثافة كلما تابعنا القراءة.

يعلن في الآيات ٤, ٥ البركات العظيمة التي تمتع بها شعب إسرائيل. فيقول أن الله اختصهم بالتبني (أي حرفياً: جعلهم في مكانة الابن), وبالمجد , وبالعهود, وبالاشتراع, وبالخدمة العبادية, والمواعيد. "َلَهُمُ الآبَاءُ وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلَهاً مُبَارَكاً إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".

تأملوا في هذه البركات بالتسلسل:

أولاً: إعطائهم مكانة الابن, كان الله يعتبر شعب إسرائيل كابن له. وهذا يختلف عن مفهوم التبني الفردي في العهد الجديد كما نراه في الرسالة إلى أهل أفسس وكما رأيناه الآن في (رومية ٨). في الواقع إن التبني ليس فردياً هنا على الإطلاق, بل هو خاص بالشعب. أمكن لله أن يقول لإسرائيل: "من مصر دعوت ابني" وأَيضاً "وحدك عرفت من بين جميع الأمم التي على الأرض". لقد كانوا خاصته, وكان يعتبرهم هكذا.

ثانياً: المجد. لقد تجلى المجد بامتياز. ومن خلالهم سيعلن الله امتياز اسمه العظيم. لقد كانوا شهوداً له.

ثالثاً: العهود. لاحظوا أن كل العهود قد اختص الله إسرائيل بها: أي العهد الإبراهيمي, والعهد الموسوي, والعهد الداودي, والعهد الجديد. كلها أُعطيت إليهم. ويأتي المؤمنون من الأمميين تحت البركات التي للعهد الجديد, لأنه عهد النعمة الصافية. ولكن الله كان يضع إسرائيل واليهودية نصب عينيه عندما قال من خلال النبي: "سأقيم عهداً جديداً معك". وعندما أقام ربنا العشاء التذكاري, قال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي, الذي يهرق عنكم لمغفرة الخطايا". إن دم العهد قد أهرق للتو, ولكن العهد الجديد لم يكن قد أعطي بعد, رغم أنه سيكون في نهاية الأمر مع الناس الدنيويين. في أثناء ذلك فإن الأمميين المفتدين سيأتون تحت البركات الروحية لذلك العهد, وفي الواقع جميع الآخرين بطريقة بعيدة جداً عما توقعه أنبياء العهد القديم على الإطلاق.

رابعاً: إعطاء الناموس. لقد كان موجهاً للإسرائيليين. لم يُعْطَ للأمميين, رغم أن كل البشر يصيرون مسئولين فيما يتعلق ببنوده عندما يصبح معروفاً لهم.

خامساً: خدمة العبادة. أقام الله خدمة طقسية شعائرية ذات معنى رائع وجمال مدهش فيما يتعلق بالخيمة والهيكل لشعب العهد القديم؛ ولكن ليس هناك إشارة لممارسات طقسية من أي نوع في كنيسة الله مثل هذه بل إننا في الواقع نتلقى تحذيراً ضدها في عبارات (كولوسي ٢) التي لا لبس فيها.

سادساً: المواعيد. والإشارة هنا بالطبع إلى المواعيد الكثيرة للبركة الزمنية المؤقتة في عهد المسيا في فترة الملكوت.

سابعاً: الآباء. إبراهيم واسحق ويعقوب, البطاركة, هؤلاء الذين ينتمون إلى الشعب الدنيوي. أما السماويين فليس لهم قائمة سلسلة نسب لاستشارتهم. إنهم منفصلون كلياً عن سلسلة النسب الدنيوية. لقد اختيرت الكنيسة بالمسيح قبل تأسيس العالم. ولكن في إسرائيل نرى سلسلة الآباء, رغم أننا نرى, مع المضي قدماً في الإصحاح, أنه ليس كل من كان من إسرائيل بحسب الجسد يعتبر إسرائيلياً.

لهذا الشعب جاء المسيح, مولوداً من عذراء، إنسانٌ حقيقي في جسد حقيقي من لحم ودم بروح عاقلة ونفس. ومع ذلك, ولسر شخصه, باركه الله, فوق كل شيء, وللأبد.

بالنسبة لليهودي المخلص الذي اعتمد على وعود الله لإسرائيل, سيبدو واضحاً أن هذه الوعود لم تتحقق. وإلا لماذا سيوضع شعب إسرائيل جانباً ويأتي الأمميون إلى موضع البركة؟ ويتابع الرسول كلامه ليظهر أن الله كان يسلك دائماً بحسب مبدأ النعمة. وكل الإمتيازات الخاصة التي كان شعب إسرائيل يتمتع بها كانت تعزى إلى هذا المبدأ. لقد أخرجهم الله من بين الأمم كشعب منتقى وفرزهم لنفسه. ولكن كان في ذهنه دائماً فكرة الشعب المتجدد ليكون شعب العهد. ليس كل من ولدوا من دماء إسرائيلية كانوا ينتمون إلى شعب إسرائيل, في نظر الله. فهم لم يكونوا أولاد العهد بالضرورة لأنهم من بذرة إبراهيم الطبيعية. في نعمة الاختيار قال الله لإبراهيم: "بإسحاق يدعى لك نسلٌ". لقد شاء أن يتجاوز إسماعيل, الرجل المولود بحسب الجسد, وأن يتبنى إسحاق الذي كانت ولادته عجائبية. وبهذا يوضح مبدأ أن "لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً ". يا لهذه الآية من ضربة صاعقة للمزاعم التي يدعيها أولئك الذين يتبجحون بصوت عال في أيامنا منادين بما يسمى (الأبوة العالمية لله والإخوة بين البشر). يخبرنا بولس بوضوح أن الأولاد بحسب الجسد ليسوا أولاد الله. ويؤكد لنا بهذا القول نفس الحقيقية التي سبق الرب فأعلنها لنيقوديموس: "ما لم يولد الإنسان ثانية لا يستطيع أن يرى ملكوت الله".

لقد كان إسحق ابن الموعد. قال الله: "أَنَا آتِي نَحْوَ هَذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ". لقد كان من المستحيل لهذا الوعد أن يتحقق بشكل طبيعي, ولكن الله عمل بقوة القيامة فدب الحياة في أجساد والدي إسحاق المائتة العقيمة, فصدقت الكلمة.

ومن جديد نرى في حالة أولاد إسحق ورفقة إظهاراً لنفس المبدأ في اختيار النعمة. ونعلم من الكتاب ما يلي: "لأَنَّ (الطفلين) وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّاً لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»" (آيات ١١ - ١٣).

يا لمقدار الجدل الكبير، الذي لا حاجة له، الذي أثير حول هذه الآيات! في حين أنها في غاية الوضوح والبساطة إذا نظرنا إليها على ضوء علاقة الله التدبيرية. ليست المسألة هنا قضية القدرية المسبقة للسماء أو القضاء المسبق للجحيم. ففي الواقع إن مسائل الخلود لا يتم طرحها أبداً في هذا الإصحاح, رغم أنها تأتي تالية, بالطبع, كنتيجة لاستخدام أو سوء استخدام الإمتيازات التي منحها الله. ولكن النص لا يخبرنا هنا ولا في أي مكان آخر أن هدف الله وقبل ولادة الأولاد هو أن يرسل واحداً إلى السماء والآخر إلى الجحيم: أن يخلّص واحداً بالنعمة, على الرغم من كل أعماله الشريرة وأن يحكم على الآخر بالهلاك, بالرغم من كل توقه لشيء أعظم وأنبل مما وجده. إن المقطع يتعلق بموضوع الامتياز على الأرض هنا. لقد كان هدف الله أن يكون يعقوب أباً لشعب إسرائيل, وأن تخرج من خلاله البذرة الموعودة, ربنا يسوع المسيح, إلى العالم. لقد كان قد قرر مسبقاً أيضاً أن عيسو سيكون رجل براري – أبا أمة من البدو, كمثل أهل أدوم. هذا ما كان في القرار السابق للولادة: "الكبير سيخدم الصغير". ويجدر بنا أن نلاحظ أنه وقبل ولادة الطفلين, وبدون أن يكون للأمر علاقة بأيهما فعل الخير أو الشر, قد قال الله: "أحببتُ يعقوب وأبغضتُ عيسو". هذه الكلمات مقتبسة من السفر الأخير في العهد القديم. نجدها في (ملاخي ١: ٢, ٣). دعوني أقرأ لكم:

"أحبَبْتُكم قالَ الربُّ. وقلْتُم بِمَ أحبَبْتَنا. أليسَ عيسو أخاً ليعقوبَ يقولُ الربُّ. وأحبَبْتُ يعقوبَ وأبغضتُ عيسو وجعلتُ جِبالَه خراباً وميراثَه لذئابِ البرّية."

لاحظوا الموضوع المطروح: الله يلتمس من أبناء يعقوب أن يخدموه ويطيعوه, على أساس من أنه جدير بطاعتهم من ناحيتين: أولاً لأنه خلقهم, وثانياً بسبب الإمتيازات, البركات الأرضية التي منحها لهم. وبالمقارنة نجد أنه أحب يعقوب ومقت عيسو. ومن هنا فإنه أعطى يعقوب موطناً جميلاً, ومروياً وخصباً, ومبهجاً في موقعه, وأعطاهم, أيضاً, ناموساً مقدساً, وكهنة, ورعاة, وملوكاً لتوجيههم, وأنبياء لإرشادهم, ونظاماً طقسياً حافلاً ومعبراً ليقود قلوبهم في العبادة والتسبيح. كل هذه الأشياء أُنكرت على أدوم. لقد كانوا أولاد البراري. لم نقرأ أبداً أن نبياً أرسل إليهم رغم أنهم لم يُتْرَكوا في منأى عن معرفة الله. لقد تلقى عيسو تعليمه من شفاه والديه, ولكن مقابل كسرة من الخبز باع حق البكورية. وسلالته تميزوا دائماً بنفس روح الرذيلة الميالة إلى الاستقلال. تدبيرياً, أحب الله يعقوب, وأبغض عيسو. ليس هناك إشارة إلى الأفراد, "هكذا أحب العالم" ولذلك فكل ابن ليعقوب أو لعيسو كان يمكنه أن ينال الخلاص لو شاء. لكن ما من أحد يشك في أن يعقوب وسلالته استمتعوا بالامتيازات الدنيوية, والروحية أيضاً, وتلك لم يكن عيسو وأولاده قد عرفوها أبداً. أيكون الله غير عادل في هكذا تمييز بين الشعوب؟ أهو غير عادل, مثلاً, اليوم إذ يعطي شعوب شمال أوربا وأمريكا امتيازات لم يحصل عليها أبداً سكان أمريكا الوسطى وداخل أمريكا الجنوبية؟ لا, محال. إنه ذو سيادة. إنه يوزع شعوب البشر على الأرض كما يحسن في عينيه, ورغم أنه يختص أمة معينة بنعمة خاصة ويتجاوز أمة أخرى إلا أنه هذا لا يعني أبداً ألا يتحول أي فرد من أي أمة إلى الله بالتوبة, فالله لن يرفض أي كائن تحت الشمس, وفي أي ظروف, إذا رفع ناظريه إلى الله, رغم كل جهله, معترفاً إلى الله بخطاياهم ويطلب الرحمة, فقد كتب: "كل من يدعو اسم الرب يخلص".

يقتبس بولس مستشهداً بقول الله لموسى: "إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ".

ولنلاحظ أننا لا نجد الموقف الآخر المغاير السلبي. فهو لا يقول: "سأدين من أدين, وأرسل إلى الهلاك الأبدي من أرسل". ليس من فِكْرٍ كهذا في ذهن الله, الذي "لا يرغب أن يموت الخاطىء بل أن يعود إليه ويحيا". متى قيلت هذه الكلمات لموسى؟ عد إلى (سفر الخروج ٣٣: ١٩), اقرأ المقطع بأكمله ولاحظ المناسبة التي قال الله فيها هذه الكلمات. لقد كان إسرائيل قد خسر كل ادعاء بالبركة على أساس الناموس: فقد صنعوا عجلاً من ذهب وسجدوا أمامه, حتى في الوقت الذي كان فيه موسى على الجل يستلم لوْحَيّ العهد. وبهذا انتهكوا أول وصيتين قبل أن يأتوا إلى المعسكر, بعد أن كانوا قبل بضعة أيام قد أعلنوا قائلين: "سنفعل كل ما قاله الرب وسنكون طائعين" . بسبب ذلك, كان الله على وشك أن يمحوهم من على وجه الأرض, ولكن موسى, الوسيط, توسل لأجلهم في حضرة الله. بل حتى أنه عرض, كما رأينا, أن يموت بدلاً عنه, إن كان ذلك يزيل غضب الرب عليهم. ولكن انظروا الآن إلى روائع هذه النعمة الجليلة: لقد أجاز الله جودته وأرجأ حكمه على الشعب إذ ما أرضوه. ولذلك قال: "سَأَتَرَأَّفُ عَلَى مَنْ أَتَرَأَّفُ وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ". لقد صفح عن الشعب وبذلك جعلهم شاهداً رائعاً على نعمته. فلولا نعمته العظيمة هذه لما خلص أحد, لأن كل البشر فقدوا الحق بالحياة بارتكابهم الخطيئة. وإسرائيل, كشعب, كان يدين ببركته لرحمة الله وحنوه, عندما كان سيُفصل من أرض الأحياء في البر.

لذلك نجد الرسول بولس يهتف هنا قائلاً: "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ". إنه لا يلغي إرادة الإنسان: إنه لا يقول أنه ليس من مسئولية للنجاة من البر الملقى على عاتق الإنسان؛ ولكنه يعلن أنه لولا رحمة الله العظيمة لما أمكن لإنسان أن يخلص أو يهرب من طريق وصاياه.

ثم ينتقل بولس للحديث عن فرعون, إذ أنه من الواضح أنه ما من أحد يتقبل منطقياً الحقيقة التي تم إعلانها للتو دون أن يميز حقيقة أن الله يتخلى عن البعض للدمار ويتركهم يهلكون في حمأة خطاياهم. فرعون كان أممياً, كان مضطهِداً لإسرائيل. وإليه أرسل الله خدامه يطلبون منه الخضوع. وبدافع كبريائه وتعجرفه وصفاقته ومكره قال: "من هو هذا الرب الذي علي أنا أن أطيعه؟" لقد تجرأ على تحدي القدير, فتنازل الله وقبل التحدي. فيقول:

"إِنِّي لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ".

إنه لا يتحدث هنا عن غِرٍّ عاجز. لا تشير الكلمات إلى ولادة فرعون؛ إن الكلمات تشير حصرياً إلى الوضع القائم الذي أراد الله أن يعطي به درساً للأجيال التالية القادمة على حماقة مقاتلة الله. لقد اعتاد اليونانيون (الإغريق) على القول: "من ستدمره الآلهة تجعل منه أحمق أولاً". وكان هذا مبدأ يستطيع حتى الوثنيون أن يدركوه بوضوح ونجد نفس المبدأ على مر الأيام: فالإسكندر, والقيصر, ونابليون, سمح لهم بالاعتلاء حتى كادوا يصلون إلى قمة الطموح البشري, وذلك فقط لكي يقذف بهم على نحو مخز إلى أعماق هاوية اللعنة في نهاية الأمر.

وهكذا يُظهر الله رحمته على أولئك الذين يريد أن يرحمهم, ويقسو على من يشاء. إنه الحاكم الأخلاقي للكون وهو يعمل كل الأشياء حسب مشيئته. "ما من أحد يستطيع أن يصمد أمام قبضة الله, ولا أن يقول له: من أنت؟" فإن جرؤ أحد من البشر على أن يعصى الله القدير فإنه سيقع تحت قبضة غضبه الحق.

لنبدأ من الآية ١٩ ونتابع حتى نهاية الإصحاح. إن الرسول يتولى أمر الرد على اعتراض المؤمنين بالقضاء والقدر, فلسان حال هؤلاء يقول: "حسناً, إذا سلمنا بما تقول, فإن أحكام الله لا تقاوَم وما أنا إلا رجل آلي أوتوماتيكي يتحرك عندما يشاء الله, وبالطبع دون مسئولية. لماذا سيلومني على الخطأ؟ على أي أساس تتم دينونة مخلوق لا يريد ولا يفعل شيئاً إلا بحسب توجيه الله؟ ثم أن تقاوم إرادته أمر مستحيل. فأين تكمن المسئولية الأخلاقية إذاً؟"

هذه الاعتراضات على عقيدة السيادة الإلهية المطلقة نشأت منذ الأيام الأولى للمسيحية, لكن, وكما رأينا للتو, فإن الرسول وببساطة يرى الإمتيازات التي هنا على الأرض, ومن هنا تسقط هذه الاعتراضات التي لا يصبح لها أساس, إن اليهودي الذي يتمتع بالإمتيازات قد يخفق كلياً في تقدير البركات المتدفقة عليه, ولذلك يصير تحت وطأة الدينونة الإلهية؛ بينما البربري الجاهل, المحروم من كل بركات الحضارة والتنوير, فلربما يكون لديه, رغم ذلك, ضمير مختبر يرشده إلى حضرة الله. مهما يكن من أمر, إنها قمة العقوق واللا تقوى للإنسان الضئيل الهزيل أن يحاكم الله أو يدينه. فإنه هكذا كمثل الآنية الخزفية قيد الصنع على العجلة إذا ما التفتت إلى الخزاف تسأله باعتراض: "لماذا تصنعني على هذا الشكل؟" من الواضح أن من له الفكر المدبر ليصنع الأواني من الطين له الحق في أن يشكلها كما يشاء ويعدها للاستخدام الملائم الذي يجده أفضل. ومن كتلة الطين نفسها قد يصنع إناء للكرامة, ليعرض على نضد المائدة لإثارة إعجاب الناس المحتشدين, وقد يصنع إناء آخر للهوان, ليستخدمه في حجرة غسل الأطباق ويكون خلواً من الجمال والجاذبية. إذا كان الله, الخالق العظيم لكل الأشياء, قادراً على إظهار كلا غضبه وقوته, محتملاً, وبأناة كثيرة, على آنية تثير سخطه لأن لها إرادة غير موجودة عند آنية الخزاف, والتي تستجلب على نفسها الدمار, فهل من الخطأ أن يظهر غنى مجده في تعامله مع آنية رحمة أخرى كان قد سبق فأعدها مسبقاً لمجد ابنه من الأزل؟ وآنية الرحمة هذه مدعوة من الله, سواء كانت من اليهود بالولادة أم أمميين أيضاً. نلاحظ أن بولس يأتي بالمقطع تلو الآخر من العهد القديم وذلك لكي يُظهر أن هذه الأمور ليست جديدة في سبل الله وطرقه وعلاقته مع البشر, وأن الأنبياء سبق وتنبأوا عن هكذا تنحية لشعب إسرائيل والتزام بالأمميين, وذلك من قبل الله. كما حدث بالفعل. لقد شهد هوشع بأن الله قال: «سَأَدْعُو الَّذِي لَيْسَ شَعْبِي شَعْبِي وَالَّتِي لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً. وَيَكُونُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ لَسْتُمْ شَعْبِي أَنَّهُ هُنَاكَ يُدْعَوْنَ أَبْنَاءَ اللهِ الْحَيِّ». لقد فسر إسرائيل كل حق بأن يدعى شعب الله. وفي ظل التدبير الحالي, وإذ تذهب النعمة إلى الأمميين, فتتم تنحيتهم كشعب, وفي المستقبل, هذه النعمة نفسها التي تستعلن الآن للأمم سوف تستعلن لهم ثانية, وسيدعون من جديد أولاد الله الحي. تنبأ هوشع أنه رغم عدد أولاد إسرائيل الذي سيكون كرمال البحر, إلا أن قلة فقط من ذلك الحشد الكبير سوف يخلص, وذلك في يوم غضب الرب, عندما سينفذ قضاءه على الأرض. هذا النبي نفسه رأى خطيئة الشعب كمثل خطيئة مدن الأرض المنبسطة, وصرخ قائلاً: "«لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلاً لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ»".

ما النتيجة إذاً؟ نصل ببساطة إلى القول أن الأمميين الفجار قد نالوا, بالنعمة, البر الذي بالإيمان. هم لم يسعوا وراء البر, ولكن الله بالبر سعى وراءهم وأعلن لهم إنجيله لكي يؤمنوا ويخلصوا. أما إسرائيل, الذين أعطاهم الله ناموس البر, فقد كان ذنبهم يفوق ذنب الأمميين لأنهم رفضوا أن يسلكوا وفق ذلك الناموس ولذلك فلم يدركوا ذلك البر الذي طبعه الناموس.

لماذا لم يدركوا؟ لأنهم لم يدركوا أنهم يحصلون عليه بالإيمان فقط, وأنه ما من إنسان يمكنه, بقدرته الذاتية, أن يحفظ الناموس المقدس والكامل. عندما أرسل الله ابنه إلى العالم, ذاك الذي هو تجسيد لكل الكمال, والذي فيه تحقق الناموس بالتمام, لم يعرفوه, بل تعثروا بحجر العثرة الذي هو المسيح المتواضع بينما كانوا يتوقعون ملكاً منتصراً. لم يدركوا أنهم في حاجة إلى شخص يمكنه أن يتم البر لأجلهم, لأنه كان يعوزهم الإيمان, ولذلك فقد حققوا الكتب بإدانتهم له. ولكن, ومع ذلك, فإنه كلما تقبله أحد بشكل فردي بالإيمان, فإنه يخلص النفس التي تؤمن به, رغم أن الشعب تعثر وسقط. وبحسب ما كتب: "«هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى»". عندما جاء في المرة الأولى, رفضه إسرائيل. ولكن "الحجر الذي رفضه البناؤون صار حجر الزاوية". وعندما يأتي ثانية سيكون كالصخرة, فيلقي الدينونة على الأمميين, في حين تكون إسرائيل تائبة ونادمة عندئذ وسترى فيه حجر رأس الزاوية.