المحاضرة ١١

إرادة الله فيما يخص علاقة المؤمن بالحكومة والمجتمع

والمقاطع الختامية
الإصحاح ١٣ – ١٦

إن وضع المسيحي في هذا العالم, وبسبب نظام الأمور القائم, صعب لا محالة وغير سوي. إنه مواطن في عالم آخر, ويمر كغريب وسائح في أرض غريبة. ومن المفترض أن يكون ولاء قلبه للملك العادل, الذي رفضَه أهل الأرض واعتبروه مستحقاً الصليب كالمجرمين, فيجد المسيحي نفسَه مدعواً للسير بطريقة فاضلة محترسة واعية في عالم صار فيه الشيطان, المغتصب, أميراً ومعبوداً. ومع ذلك فلا ينبغي للمسيحي أن يكون فوضوياً ثائراً على السلطة الحاكمة, ولا أن يفتخر بالنظام القائم للأمور. إن دوره يجب أن يكون دائماً على النحو التالي: "علينا أن نطيع الله لا الإنسان". ومع ذلك فعليه ألا يكون في جناح المعارضة للحكومة البشرية, حتى ولو كان رؤساء هذه الحكومة من أردأ البشر. إذ نأتي إلى دراسة هذا الإصحاح الثالث عشر, يجدر بنا أن نتذكر أنه عندما كتب بولس رسالته هذه التي يطلب فيها الطاعة للسلطات أياً تكن, كان يتربع على عرش الإمبراطورية أحدُ أكثر الوحوش فساداً ورداءة على شكل بشري قد اعتلى عرشاً على الإطلاق– إنه بهيمة شهواني حسي, لم يتورع عن شق جثة أمه لكي يرى الرحم الذي أنجبه – شخص شرير, سمج وقح, أناني وخسيس لم تعرف له البشرية مثيلاً, وأعماله الوحشية ومظالمه لا يمكن وصفها. ومع ذلك فإن الله وبعنايته سمح لهذا التعس الذي يسيطر عليه الشيطان أن يعتمر تاج أعظم إمبراطورية عرفها البشر على وجه البسيطة. ويشير بولس نفسه في مكان آخر إلى هذا الإمبراطور بالوحش عندما يكتب للكارز الشاب تيموثاوس: "لقد خلصني الله من فم الأسد". رغم أن سلطات الإمبراطور كانت مقيدة إلى حد ما بالقوانين وبمجلس الشيوخ, إلا أنه لعب دوراً كبيراً في إنزال الدمار والهلاك بالكثير من المسيحيين الأوائل. كم كان إيمانهم كبيراً آنذاك حتى يطيعوا التعليم المعطى لهم بروح الله في الآيات السبع الأولى من هذا الإصحاح. وإن كان المسيحيون يطالَبون بالطاعة في ظل هكذا حكومة, فبالتأكيد ليس هناك مجال لهم للمشاركة في التحريض على الفتنة أو العصيان تحت سلطة أي حكومة. "كِسَرُ الأرض تجاهد مع كِسَرِ الأرض", وقد تقوم حكومة على حكومة أخرى, ولكن أياً كانت الحكومة التي تمتلك السلطة وفي أي زمان فإن على المسيحيين الخضوع لها. ولهم أن يُصلّوا إذا ما كانت مراسيم أو قوانين هذه الحكومة جائرة أو ظالمة, ولكن ليس لهم أنه يفوروا ضدها, ربما يكون هذا القول ثقيلاً على مسامع البعض, أعلم ذلك, ولكن إن كان أحد يشكّ بهذا الكلام فليقرأ الآن هذه الآيات الموضوعة أمامنا: "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ" (الآية ١).

ليس المقصود هنا إرسال عقيدة الحق الإلهي للملوك, بل يقصد, ببساطة أن يقول: إن الله, الذي يعين شخصاً ما ويقيل آخر بحكمته اللامتناهية, يقيم تلك الأشكال المعينة من الحكومة أو حكام معينين ليكونوا في موقع السلطة في زمن معين. وكما يخبرنا سفر دانيال, فإنه ينصب على الشعوب أقسى الرجال في أوقات يريد فيها أن يعاقب شرهم. ولكن على أية حال, ليس من سلطة تقوم بدون سماح العناية الإلهية وتدخل الله الشخصي. وترينا الآية الثانية أن مقاومة هذه السلطة يعني مقاومة الترتيب الإلهي. ولكن من غير المناسب بالتأكيد القول أن من يقاومون ذلك يتلقون اللعنة, إن كانت "اللعنة" تعني العقاب الأبدي. إن الكلمة هنا, كما في كورنثوس ١١, تعني الدينونة ولكن ليس بمعنى الدينونة الأبدية الأخيرة بالضرورة. الحكام ليسوا مصدر قلق بالنسبة لمن يقومون بالأعمال الصالحة, بل للذين يقومون بالأعمال الشريرة. فحتى نيرون كان يحترم أولئك الذين يقدمون الطاعة للقانون. وإن سبب اضطهاده للمسيحيين كان هو الوشاية الباطلة بهم على أنهم معارضون للمؤسسات القائمة. فمن يخشى أولئك الذين هم في السلطة عليه أن يسلك في طاعة الشرائع – أن يفعل الخير, وهكذا يتبين بره وصلاحه. فأولاً وأخيراً, الحاكم هو وكيل الله أمام كل امرىء للخير. ولكن من يفعل الشر وينتهك مؤسسات المملكة والحكم, فذاك من عليه أن يخَفْ, لأن الله نفسه أودع السيفَ في يد الحاكم والله نفسُه عينَه وكيلاً في الحكومة الدنيوية لكي ينفّذ العدالة تجاه أولئك الذين يسلكون طريق الجريمة. ولذلك فإن على المسيحي أن يخضع للحكومة, ليس لكي يتجنب الإهانة فحسب, بل أيضاً لكي يحافظ في ذاته على ضمير صالح أمام الله. على المسيحيين أن يدفعوا الجزية, حتى ولو كانت المطالب غير منصفة, وعليهم أن يدفعوا جميع ضرائبهم بصدق, وبهذا يُظهر المسيحي أنه يرغب في كل الأشياء أن يكون خاضعاً للحكومة.

لا بد أن نلاحظ أن كل التعليم الذي نجده هنا يضع المسيحي في موضع الطاعة للسلطة وليس السلطة؛ ولكن إن وُلِدَ، بعناية الله, من أجل منزلة رفيعة, أو وُضِعَ في موقع السلطة, فعليه أيضاً أن يكون ملتزماً بكلمة الله كما يشرحها بولس هنا.

إن ثقل هذا الإصحاح يتركز على علاقة المسيحي للمجتمع بشكل عام, وفيما يخص مجيء الرب والتدبير الحالي الوشيك على الإنجاز حتى التمام. على المسيحي أن يكون له، ليس موقف المدين بل المعطي؛ ألا يدين لأحد بشيء؛ بل أن يدع الحب يفيض مجاناً على الجميع. إن كل مبدأ أخلاقي في اللوح الثاني للناموس, الذي يحدد علاقة الإنسان بقريبه, يمكن إيجازه في هذه الكلمات: "أحبب قريبك كنفسك". فمن يحب, لا يمكن أن يرتكب إثماً من نوع الزنى, أو القتل, أو السرقة, أو الكذب, أو اشتهاء ما للغير. من المستحيل للمحبة أن تتتبدى في أي مظهر من هذه المظاهر. "اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ". بهذه الطريقة, فإن المتطلبات الواجبة تجاه الناموس تتحقق فينا, نحن الذين نسلك, ليس بحسب الجسد, بل بحسب الروح, كما رأينا لتونا خلال دراستنا الإصحاح ٨: ١- ٤.

كل يوم ينقضي يقرّب تدبير النعمة إلى نهايته ويعجّل عودة الرب. فليس للمسيحيين, إذاً, أن يرقدوا في النوم, بل أن يكونوا في يقظة كاملة لمسؤولياتهم وامتيازاتهم, مدركين أن الخلاص الذي نترقبه – افتداء الجسد – هو وشيك الآن أكثر منه عندما آمنّا. لقد أوشكت الليلة التي يسود فيها حكم الشيطان على الأرض على النهاية. وقد بدأ أول بزوغ الفجر يظهر. فليس لهؤلاء الذين خلصوا بالنعمة أن يفعلوا أي شيء يمتّ بصلة إلى أعمال الظلمة, بل عليهم أن يلبسوا, كجنود, درعَ النور, لعمل الصلاح الذي هو من الله, فيعيشوا بلا فساد كما في وضح النهار, وليس في أي نوع من الفسوق والفجور, وليس في الخصام والحسد, بل لابسين الرب يسوع المسيح وقد اعترفوا بأنهم متحدين معهم, إذ أزال الموت بموته عملياً, وهكذا نبتعد به عن الانغماس في شهوات الجسد. إن هاتين الآيتين الختاميتين من هذا الإصحاح الثالث عشر تعبّران عن لسان حال أغسطينوس الذي من هيبو بعد السنوات التي قضاها في المحنة فقد كان يخشى أن يعترف بالمسيح علانية, حتى عندما كان مقتنعاً عقلياً بأن عليه أن يكون مسيحياً لئلا يجد نفسه عاجزاً عن ضبط طبيعته الجسدانية الشهوانية, وهكذا يشكك الآخرين بمصداقية القضية التي كان يناضل لأجلها. ولكن عندما قرأ هذه الكلمات: "لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَالْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ", فتح الروح القدس عينيه ليرى أن قوة الانتصار ليست في ذاته, بل في حقيقة أنه كان مطابقاً ذاته مع المخلص المصلوب والقائم.

حين كان يحدق بالإيمان إلى وجه المبارك وأراه الروح القدس شيئاً من حقيقة الاتحاد بالمسيح, دخل في يقين الخلاص وأدرك النصر على الخطيئة. وعندما مرّ في طريقه صدفة وجهاً لوجه بإحدى صديقاته الجميلات ولكن السيئات من أيامه السابقة, استدار ولاذ بالفرار. فتبعته تناديه: "أغسطين, يا أغسطين, لماذا تهرب؟ إنها أنا". فأجابها وهو يسرع الخطى في طريقه: "أهرب, لأني لست أنا". وهكذا لم يستسلم للجسد.

في الإصحاح ١٤والآيات السبع الأولى من الإصحاح ١٥ يؤكد الروح القدس على مسؤوليات المؤمن نحو أخيه الضعيف في الإيمان. فعلى المؤمن أن يسلك بمحبة نحو أولئك الذين هم أقل استنارة منه.

إن ضعيفي الإيمان, أي أولئك الذين تسبب لهم ضمائرهم المتزعزعة الاضطراب في تحديد ما هو صواب أو خطأ. يجب أن يُقبلوا ويُعاملوا ضمن وصفهم هذا وألا يُدانوا بسبب تساؤلاتهم أو شكوكهم. إن المبدأ سامٍ ويدل على المحبة المسيحية الواسعة التي يجب أن تخيم على روح التشريع لئلا تسقط. ليست الاستنارة هي الأساس الذي تقبّلْنا به الإمتيازات المسيحية بل الحياة. وكل هؤلاء الذين هم أولاد الله يجب النظر إليهم على أنهم أعضاء مشاركين في الجسد طالما أنهم لا يعيشون في فساد واضح, والذين يجب أن يكونوا في حالة انسجام مع مكانهم في الشركة المسيحية الذي اشتُري بالدم. يجب عدم الخلط بين الشر والضعف. فالإنسان الشرير يجب إقصاؤه وتنحيته جانباً (انظر ١ كورنثوس ٥٠). أما الأخ الضعيف فيجب تقبّله وحمايته.

بالطبع هذا لا يعني تقبّله في الشركة التي هو بالأساس فيها. فالضعيف الإيمان هو ضمن الشركة. فلا يجب أن ينُظر إليه ببرود وأن يُدان سبب شكوكه المرتابة, بل أن يُستقبل بحفاوة, وأن يُفحص ضميره الضعيف باهتمام وعناية. قد يكون لا يزال واقعاً تحت الناموس فيما يخص الأشياء الطاهرة وغير الطاهرة, أو لديه صعوبة في تقدير الأيام المقدسة وتكريسها. في الحالة الأولى, إن الأخ القوي الذي يعتقد وبدافع الحرية في المسيح, أن له أن يأكل كل شي, لا يطرح أية أسئلة تتعلق بالطهارة الطقوسية. والأخ الضعيف يخاف الاقتراب من المدنسات بشدة حتى أنه يعيش حمية على الخضراوات أكثر من يشارك في تناول ما يُقدم للأوثان أو ما هو غير "مباح" – أي أنه طاهر بحسب ناموس اللاويين.

يجب على من هو "قوي" ألا ينظر بازدراء واستخفاف إلى أخيه كثير الشكوك والوساوس. من جهة أخرى لا يجوز للضعيف أن يتّهم من هو أقوى منه بالمراءاة والتناقض مع الذات.

وإن كانت المسألة تتعلق بالأيام وإن كان أحد المؤمنين من ذوي الضمائر الناموسية لا يزال ملتزماً بتقديس يوم السبت اليهودي, في حين يرى آخر جميع الأيام متشابهة ومكرسة لمجد الله, فعلى كل منهما أن يسلك كما لو كان في حضرة الله وأن يكون "مقتنعاً تماماً بفكره".

من أين لخادم ما أن يضبط خادماً آخر؟ كلاهما مسؤولان أمام معلم واحد, وهو يميز الأمانة واستقامة القلب, وسيؤيد خاصته. حيث يوجد إخلاص وصدق, ويرى الجميع مجد الله, على كل منهما أن يحاول السلوك كما لو كان في حضرة الله. إن المسألة هنا هي إعلان العضوية الكاملة للأفراد في شركة القديسين وهكذا يستغنون عن الكثير من الإستياءات والإمتعاضات.

إننا لا نحيا لأنفسنا. وسواء شئنا أم لا، فإننا نؤثر على الآخر بشكل مستمر بطريقة إيجابية أو سلبية. لندرك إذاً مسؤوليتنا الفردية تجاه الرب, الذي نحن له والذي علينا أن نخدمه سواء في هذه الحياة أم في الموت. "لأَنَّهُ لِهَذَا مَاتَ الْمَسِيحُ وَقَامَ (وَعَاشَ) لِكَيْ يَسُودَ عَلَى الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ". إن الكلمات "عاش" هي استكمال لا حاجة له قد حذف من كل الطبعات النقدية.

عند كرسي قضاء الله (بحسب القراءة الأفضل للنص), حيث المسيح نفسه هو الحكم, سيخرج الجميع للدينونة, وهو سيظهر ما كان منسجماً مع فكره. حتى ذلك الوقت قدر لنا أن ننتظر, مدركين أن علينا جميعاً أن نقدم حساباً عن أنفسنا أمامه. لذلك, وعلى ضوء ذلك, دعونا "لا نحاكم أيضاً بعضنا بعضاً", بل لتكن هناك إدانة ذاتية فردية, فكل واحد يجاهد لئلا يضع حجر عثرة في طريق أخيه الضعيف.

وحتى عندما يكون المرء متيقناً أن سلوكه الذاتي متوافق مع الحرية المسيحية, فعليه ألا يتباهى بالحرية أمام الضعيف لئلا "يهلك ذلك الذي مات المسيح لأجله". انظر أيضاً (١ كو ٨: ١١). هذا يدل بالطبع على سقوط شهادته. علينا أن نتّعظ من مثال القوي الذي يجسر على تجاوز إملاءات الضمير وهكذا يضع نفسه تحت دينونة, أو قد تثبط همته فيفكر بأن الآخرين متناقضين مع أنفسهم ولذلك ينساق بعيداً عن الشركة المسيحية.

وبعد كل ذلك تصبح مسائل الأكل والشرب ذات أهمية ثانوية. "لأن ملكوت الله ليس مأكلاً ومشرباً". أي أنه ليس له علاقة بالأمور الدنيوية لأنها ممالك بشرية فحسب – إلا أن الملكوت روحي بطبيعته ويتعلق بـ "البر والسلام والفرح في الروح القدس". حيث يكون المرء متمرساً بهذه الأمور (حتى ولو كان مخطئاً بالنسبة للآخرين) فإنه بذلك يخدم المسيح, ويكون مرضياً عند الله ومُزَكاً عند الناس.

كل من يفكر بشكل سليم يقدر الصدق. "فَلْنَعْكُفْ إِذاً عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ".

من الأفضل بكثير أن نمتنع عن الأشياء التي يمكن أن تقلق ضمير الأخ الضعيف من أن ننحّيه جانباً بإصرارنا على موضوع الحرية, لئلا نكون مسئولين عن سقوطه وقطع علاقة شركته مع الإخوة.

إن كان لأحد إيمان بأنه يستطيع أن يفعل، وبدون إحساس منه بالخطأ، ما قد يدينه آخرون على فعله، فليبْقَ وحده أمام الله ولا يتفاخرن بذلك بفظاظة أمام الضعيف. ولكن ليكن على يقين بأنه لا يدين نفسه عندما يقر بأنه متأكد من سلامة مسيره, لأن من يصر على نهج معين فيما ليس هو بمتأكد منه أمام الله لا يسلك بصدق بالإيمان, ولذلك فإنه يُدان (وليس "يُلعن" بالطبع – لأن هذه الكلمة إنما تشير إلى الدينونة الأبدية), لأن "كل ما ليس بالإيمان فهو خطيئة". بمعنى آخر, إذا تصرفت بعكس ما أؤمن أنه صحيح, ومع أن هذا ليس خطأ في سلوكي من الناحية الأخلاقية, فإني أخطئ تجاه الضمير وكذلك تجاه الله.

يلخص الرسول بولس كل هذه الآيات السبع الأولى من الإصحاح ١٥. على القوي أن يحمل أثقال الضعيف – فبتعاطف يدخل إلى مشاكله – وألا يصر على فكرة الحرية لكي يُرضي نفسه بل ليسعَ كل واحدٍ لخير قريبه, ساعياً نحو بنيانه، وليس لتدمير إيمانه بلا مبالاة، بفرض حريته الشخصية بعناد. إن الحرية الحقيقية تظهر بشكل جلي بالامتناع عن عثرة الضعيف.

وفي هذا كان المسيح أعظم مثال. فذاك الذي لم يخضع أبداً لأي تشريع قانوني, خضع طوعاً لكل وصايا الناموس, بل حتى إلى ما ورائه, فلم يسعَ لإرضاء نفسه (ونرى ذلك عندما دفع ضريبة الهيكل, شارحاً السبب الذي لأجله فعل ذلك وهو "لئلا نعثرهم"), وأخذ على نفسه التوبيخات من أولئك الذين وبخوا الله. إن سلوكه الخارجي كان بلا لوم كما حياته الداخلية, ومع ذلك فقد عيره الناس كما عيروا الله.

تشدد الآية ٤ على أهمية كتابات العهد القديم. "لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ". قارن هذه الآية بما جاء في (١ كورنثوس ١٠: ٦, ١١). وإن القول "كل الكتاب ليس عني بل كل الكتاب من أجلي" هو اقتباس يستحق أن نتذكره جيداً.

ويختم بولس هذا الجزء بأن يصلي لعل "إله الصبر والتعزية" يعطي القديسين أن يكونوا فكراً واحداً واهتماماً واحداً فيما بينهم, بالمسيح الذي ضرب به المثل الصالح, وذلك لكي يتحدوا في تمجيد الله أبا ربنا يسوع المسيح, فالفكر والفم سيكونان متوافقين في هذه الحالة. ولذلك يحضهم بولس لأن يقبَلوا بعضهم بعضاً كما قبلنا المسيح أيضاً لمجد الله. فإن كان المسيح قد اقتبلنا بالنعمة – سواء كنا ضعفاء أم أقوياء – وجعلنا أهلاً للمجد, فبالتأكيد يمكننا أن نكون حميمين وشبيهين بالمسيح في شركتنا مع بعضنا البعض. ومن جديد أكرر القول أن المسألة لا تتعلق بقبول دخول شخص إلى الشركة المسيحية هنا, بل هي الاعتراف بمن هم في الداخل الآن.

إن هذه الرسالة تشبه هنا إلى حد بعيد رسالة بحث في بر الله, وتأتي إلى خاتمتها في الآيات ٨– ١٣. وكل ما يأتي بعد ذلك له طبيعة الملحق أو التذييل.

ما الذي يتجلى لنا في رسالة البحث الكاملة هذه؟ "وَأَقُولُ الآن: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. وَأَمَّا الأُمَمُ فَمَجَّدُوا اللهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ". أي أنه أظهر من خلال كل ذلك أن ربنا قد أتى في توافق كامل مع وعود العهد القديم. لقد دخل حظيرة الخراف من الباب (كما يخبرنا إنجيل يوحنا في الإصحاح ١٠), وكان الخادم الإلهي الممسوح من الله لليهود, فأتى ليؤكد المواعيد العهدية. ورغم أن الشعب رفضه, إلا أن هذا لم يلغِ خدمته بل فتح باب الرحمة على أوسعه للأمميين بشكل لم يسبق له مثيل, دون أن يتعارض ذلك مع الكتاب المقدس الذي لليهود. ومن هنا نرى بولس يورد مقطعاً تلو الآخر ليؤكد على الحقيقة التي علّمنا إياها للتو بشكل واضح للغاية, وهي أنه كان معروفاً ومقدراً مسبقاً أن يسمع الأمميون الإنجيل وأن ينالوا نفس فرصة الخلاص التي كانت متاحة لليهود. فهذه "الرحمة" تسمو بالفعل على كل ما كشف في العصور الماضية التي عرفناها منذ "إعلان السر", وهذا ما تشير إليه الآيات الأخيرة من الإصحاح التالي. ولكن وجهة نظره هنا هي أن ذلك لا يتناقض مع نبوءات الأنبياء, بل ينسجم كلياً مع ما سُر الله أن يعلنَه عن سابق تصميم. ومن هنا يختم هذا الكشف البارع للإنجيل ونتيجته فيصل إلى القول: "وَلْيَمْلأْكُمْ إِلَهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلاَمٍ فِي الإِيمَانِ لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُس" (الآية ١٣). الإيمان بماذا؟ ولماذا يكفي مجرد الإيمان بالحقائق العظيمة التي ذكرت في الرسالة – هذه الحقائق الكبيرة المتعلقة بإيماننا المقدس – التي تصف لنا دمار الإنسان بالخطيئة وافتدائه بالمسيح يسوع؟ عندما نؤمن بهذا نمتلىء بالفرح والسلام ونحن نتطلع بالرجاء إلى اكتمال تحقيق كل ذلك لدى عودة ربنا, في حين نسير خلال ذلك أمام الله بقوة الروح القدس الساكن فينا وهو الوحيد الذي يجعل هذه الأشياء الثمينة واقعاً بالنسبة لنا.

إن تركيز هذا الإصحاح هو على الصعيد الشخصي بشكل واضح إذ أن الرسول بولس يؤكد ثقته بالقديسين في رومية ويخبرهم عن قلقه واهتمامه بهم ونيته أن يزورهم. ومما سمعه عنهم كان مقتنعاً أنهم كانوا في حالة روحية سليمة جداً, فهم "مَشْحُونُونَ صَلاَحاً وَمَمْلُوؤُونَ كُلَّ عِلْمٍ قَادِرُونَ أَنْ يُنْذِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً". ولذلك لم تكن لديه فكرة للذهاب إليهم كمنظِّم، بل كان يشعر أنه كانت لديه خدمة قد أوكله الله بها وهذه ستكون لفائدتهم. إضافة إلى ذلك, فإن رومية كانت جزءاً من ذلك العالم الأممي الكبير الذي أُرسل إليه والذي يوجّه خدمته لهم بشكل خاص, " لِيَكُونَ قُرْبَانُ الأُمَمِ مَقْبُولاً مُقَدَّساً بِالرُّوحِ الْقُدُس". لم يعد إسرائيل الشعبَ الوحيدَ المفرز المعزول، بل صار الإنجيلُ للجميع على حد سواء.

لذلك كان من المتوقع أن يزورهم كلما سنحت له الفرصة, وبما أنه, كان يعتبر أن رسالته هي لأولئك الذين في آسيا الصغرى وأوربة الشرقية، وقد تحققت، لذلك فإنه كان ينوي الذهاب عما قريب نحو الغرب ليصل إلى أسبانية وهو يأمل أن يزورهم في مروره. وفي هذه الأثناء كان ذاهباً إلى أورشليم ليحمل تقدمة إعانة من القديسين في مكدونية وأخائية إلى المؤمنين المعوزين في اليهودية. وعندما يتحقق له ذلك فإنه يرجو أن يغادر متجهاً إلى أسبانيا فيزورهم في طريقه إلى هناك. يا للرحمة التي كان يكشفها له المستقبل القريب. كم كان ضعيف الإدراك بأنه سيُدعى عاجلاً ليعاني كرمى لاسم المسيح. "الإنسان يفكر ولكن الله يدبر". فقد كانت لله مخططات أخرى للرسول بولس ومن بينها الزيارة إلى رومية, ولكن مقيداً بالسلاسل.

بالطيع في الوقت الذي يجده الله ملائماً, فإن بولس سيذهب إليهم و"يَجِيء فِي مِلْءِ بَرَكَةِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ", ولذلك يناشدهم أن يصلّوا لنجاح مهمته عند أبناء بلده ولكي يُنْقَذَ من اليهود غير المؤمنين. ولقد استُجيبت صلاتُه, ولكن بطريقة مختلفة جداً عما كان يتوقع ويا للعجب!

إن الإصحاح ١٦ هو في معظمه تحيات إلى الأخوة القديسين الذين يعرفهم, والذين يقطنون الآن في رومية, وتحيات من آخرين كانوا في رفقته. إن أول آيتين هما على شكل رسالة إطراء لفيبي وهي شماسة في الكنيسة في كنخريا, البلدة الواقعة إلى جنوب كورنثوس, في أخائية (انظر سفر الأعمال ١٨: ١٨). مما لا ريب فيه أن أكيلا وبريسكلا كانا يعرفانها (وهذان يُذكران بالاسم – بترتيب معاكس له في الآية التالية), ولكنه لا يتركها معتمدة على تذكارات أصدقائها من الماضي, بل إن هذه الرسالة تؤكد للقديسين موقفها ونشاطها الحالي في الكنيسة.

بريسكلا وأكيلا كانا بالنسبة له بمثابة أعضاء من عائلة – فثمة علاقة حميمة جداً تربطه بهما, ولا يستطيع أن ينسى الخطر الذي وضعا نفسيهما فيه من أجله. ففي منزلهما في رومية كانت إحدى الجماعات المسيحية تجتمع. وقديس آخر من أخائية كان هناك أيضاً: أبينوس, الذي كان باكورة خدمته في كورنثوس.

وإذ نستعرض اللائحة الطويلة ونلاحظ العواطف الرقيقة المؤثرة, والذكريات الغالية, ونفحة الإطراء الخفيفة, نشعر أننا منجذبون إلى هؤلاء المؤمنين الأوائل, وأننا نرغب لو نعرف عن تاريخهم وخبراتهم. إننا مهتمون لمعرفة أنه كان هناك أقارب لبولس في رومية: أندرونيكوس ويونياس, الذي يقول عنهما أنهما "كانا في المسيح قبلي", ونتساءل إلى أية درجة كان لصلواتهما لأجل قريبهما الفتى الرائع علاقة بهذه المحادثات الجديرة بالاعتبار.

في الآية ١١ يرد ذكرٌ بالاسم لنسيب آخر لبولس, هيروديون, ولكن لا نعرف إذا ما اهتدى قبله أو بعده.

هناك لمسة إنسانية مؤثرة في الآية ١٣: "سَلِّمُوا عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ وَعَلَى أُمِّهِ أُمِّي". ففي مكان ما خلال رحلاته, هذه الامرأة الكهلة المسيحية, رغم أنها لا تُذكر بالاسم, قد عاملته كأم وخادمة للمسيح مكرسة وناكرة لذاتها, وإنه يتذكر بامتنان خاص عنايتها به.

إن جميع الأسماء الواردة ذات أهمية, وسيسرنا لو نلتقي بهم جميعاً "في ذلك اليوم" ونعلم أكثر عن تكرسهم للرب وعن معاناتهم لأجل اسمه, ولكننا لا نستطيع أن نطيل النظر إلى هذه الأسماء المدونة هنا.

قبل نقل رسائل من رفقائه، يوجه بولس كلمة تحذير ضد المعلمين الكذبة، في الآيتين ١٧، ١٨: "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ خِلاَفاً لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ. لأَنَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ." إن فاعلي الإثم المشار إليهم هنا هم ليسوا معلمين مسيحيين، ولو اتجه الظن إلى ذلك بالخطأ. إنه لرجال غير أتقياء، كما يخبرنا يهوذا، وقد تسللوا من الخارج. إنهم ليسوا خداماً للمسيح بل أدوات للشيطان أُدخلوا من العالم ليفسدوا ويقسموا شعب الله. ومن المخيف أن نطابق هؤلاء المعلمين بالمسيحيين الحقيقيين الذين، ومهما أخطأوا، فإنهم يحبون الرب ويشفقون على شعبه، ويرجون من الله أن يباركهم. في (فيلبي٣: ١٨، ١٩) نعلم أكثر عن هؤلاء الذين "يخدمون بطونهم"، أي الذين يعيشون فقط لأجل إرضاء الذات. "لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِياً، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ" ١ . وهنا نجد تطابقاً مع صانعي الشقاقات السيئين في إصحاحنا هذا. فلنكن حذرين للغاية عندما نتهم خدام المسيح الحقيقيين بأن يكونوا من هذه الجماعة الآثمة، حتى وإن شعرنا أن الحقيقة تضطرنا لاتخاذ موقف ما منهم بسبب بعض الأمور التي يعملونها أو يفعلونها.

رغم أنه يحذّر القديسين في رومية من خطر الإصغاء إلى رجال من هذا النوع، نجده يدعهم يعرفون أنه قد سمع فقط أخباراً طيبة عنهم، ولكنه كان ليود لو أنهم حافظوا على سمعتهم الحسنة. ولكن للأسف، نرى أن هذه الكنيسة نفسها سرعان ما فتحت أبوابها على هذا النحو لمعلمين كذبة كان قد حذّر منهم، ومن هنا نجد أن تاج البابوية نفسها قد تم ترسيخه في رومية في القرن السابع.

إنه ببساطة يريدنا أن ننتبه إلى الشر وندرك ما هو صالح، دون أن يتملكنا الخطأ بل الحق والصواب. والحق سوف ينتصر عاجلاً عندما يسحق إلهُ السلام الشيطانَ تحت أقدام القديسين.

إن التحيات الختامية من بولس ورفقائه تُنقل في الآيات ٢١- ٢٤. وكان تيموثاوس ولوقا معهم. ونعرف الآن ولأول مرة أن ياسون كان قريباً مقرباً من بولس (انظر أعمال١٧: ٥- ٩)، حيث يرد ذكرٌ لاستقباله لبولس وإخلاصه ومحبته له عند زيارته لتسالونيكي. وسوسيباترس، وهو أيضاً قريب له، تربطه به علاقة معينة.

ويضيف ترتيوس، الكاتب الذي كان يقوم بكتابة الإملاء لبولس، تحياته. ولولا هذا المقطع لما عرفنا أبداً اسم الكاتب الفعلي للرسالة.

وهنا لدينا سؤال: هل "غايس مضيفي" الذي يذكره بولس في الآية ٢٣، هو نفس غايس الذي استقبل الأخوة المسافرين والذي امتدحه يوحنا على حسن ضيافته المسيحية، وذلك في رسالته الثالثة؟ لا نعلم، ولكنه كان رجلاً يتمتع بنفس المواصفات والروح. ولقد سمعنا عن أراستُس في مكان آخر (أعمال١٩: ٢٢، ٢تيموثاوس٤: ٢٠)، ولكن كوارتس لم يرد ذكره في أي مقطع آخر. وإن كلا الاسمين ترتيوس وكوارتس يدلان على أنهما وُلدا على الأرجح لشخصين كانا عبدين يوماً- فأسماؤهما تعني الثالث والرابع على التتالي. فغالباً ما كان العبيد يُدعَون بالأرقام فقط.

إن منح البركة في الآية ٢٤ الذي يوصلنا إلى ختام الرسالة يدلنا على أن هذه من الرسائل الأصلية لبولس. انظر ٢تسالونيكي٣: ١٧، ١٨. "النعمة" هي المفتاح السري، إذا صح التعبير، الذي يؤكد على أصالة الرسالة له. وهذه ترد بشكل بارز في (العبرانيين١٣: ٢٥) وليس من رسالة أخرى تخلو منها.

إن الآيات ٢٥- ٢٧ هي تذييل للرسالة، وفيها يربط كشفه الثمين للإنجيل بذلك "السر" الذي كان عمله الخاص هو أن يجعله معروفاً للأمميين، والذي أظهره بشكل كامل للغاية في (أفسس٣) وكتابات عديدة أخرى.

"وَلِلْقَادِرِ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ حَسَبَ إِنْجِيلِي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ حَسَبَ إِعْلاَنِ السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ الآنَ وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلَهِ الأَزَلِيِّ لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ ِللهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".

عُهدت لبولس خدمةٌ مضاعفة- تلك المتعلقة بالإنجيل (مرتبطاً بالمسيح الممجد) وتلك المتعلقة بالكنيسة- هذا السر الذي أخفاه الله من قبل خلق العالم والذي كشفه الله الآن بالروح. انظر هذه الخدمة المضاعفة الجوانب كما تُطرح في (كولوسي١: ٢٣- ٢٩) و (أفسس٣: ١- ١٢).

"السر" لم يكن شيئاً له طبيعة الصعوبة والغموض، بل سراً مقدساً لم يعرفه أحدٌ من البشر إلى أن حان الزمان الملائم لكشفه بالروح القدس من خلال الرسول بولس، ومنه نُقل إلى كل الشعوب لإطاعة الإيمان. لم يكن مخفياً في الأسفار المقدسة وشق طريقه إلى النور في نهاية المطاف، بل نعلم أن الله كان قد أخفاه إلى أن آن الأوان الذي اختاره هو ليظهره لنا. وهذا لم يحدث إلى أن أُعطي إسرائيل كل فرصة ليقبل المسيح في كل من التجسد والقيامة. وعندما رفضوه على نحو محدد واضح أعلن الله ما في قلبه منذ الأزل- بأنه من بين كل الأمم، واليهود والأمميين، سوف يفتدي ويتخذ جماعة منتخبة ستشكل، بمعمودية الروح، جسداً واحداً مرتبطاً بالمسيح، وذلك بعلاقة حميمة ليس لها مثيل (تُشَبَّهُ في أفسس ٥ بالعلاقة بين الزوج والزوجة، أو الرأس والجسد)، وليس الآن فقط بل عبر كل العصور القادمة.

هذا السر العظيم للمسيح والكنيسة قد أُظهر الآن وعُرف من خلال الكتابات النبوية- وليس كما تُرجم هنا "بالكتب النبوية"- فالمعنى جليّ واضح وهو أنه جُعل معروفاً بالكتابات التي كتبها رجال ملهمون، وهم أنبياء العهد الجديد، على ضوء نور الإنجيل وشهادته.

هذا ليس مجرد نظرية أو نظاماً عقائدياً نتبناه في فكرنا. إنه يتطلب تطابقاً مع المسيح في رفضه، ولهذا السبب جُعل معروفاً لكل الأمم لإطاعة الإيمان. هذا الموضوع لم يُطرح في الرسالة إلى رومية، لأن الموضوع الكبير هنا، كما رأينا، هو برّ الله الذي أُعلن بالإنجيل. ولكن ترد بعض الإشارات إليه هنا بغاية الربط بين كشف الإنجيل في هذه الرسالة وإعلان السر، كما يتضح في رسائل السجن على نحو خاص. هذا لا يعني أن لدينا حقيقة جديدة ومهمة في أفسس وكولوسي، على سبيل المثال، أكثر منها في الرسالة إلى رومية والرسائل المبكرة. فهي جميعاً تشكّل جزءاً من كلٍّ، وتؤسس ذلك الهيكل في التعليم في كل مكان كما أعلن الرسول خلال سنوات خدمته الطويلة، ولكن لم يُعهد بكتابة الكل دفعة واحدة. إن "السر" الذي تحكي عنه رسالة رومية ١٦: ٢٥  هو نفسه الذي تتحدث عنه الرسائل اللاحقة، وعلى الدوام يظهر في رسائله كموضوع متكامل. ما كان هناك داع لقول ذلك لولا أن البعض حتى في يومنا هذا يحاولون فصل خدمة بولس في سفر الأعمال بشكل كامل عن تلك التي يجسدها في آخر رسائله التي كتبت بعد رفض اليهود في رومية لرسالته كما يظهر من (أعمال ٢٨). إن تذييل الرسالة إلى رومية يظهر خلاف ذلك. إن هذه الإضافة الواردة في نهاية الرسالة يُقصد بها إظهار وحدة خدمته للإنجيل وللكنيسة، من خلال صفة الجانب المزدوج فيها.

وبهذا نأتي إلى ختام دراستنا الحالية السريعة الخاطفة نوعاً ما، وكلنا ثقة بأن مراجعتنا للرسالة لم تكن بلا جدوى، بل أنها ستكون للمنفعة والبركة على نحو متزايد ونحن ننتظر ابن الله الذي سيأتي من السماء.

"ِللهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ."


١. فيلبي ٣: ١٨، ١٩