تمهيد

المعجزة دليل النبوّة الأوحد

ما هي المعجزة؟

المعجزة، في اللغة، هي ((ما أَعجز به الخصم عند التحدّي)).

والمعجزة، في اصطلاح علم الكلام ((أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، سالم عن المعارضة)). هذا هو التعريف الذي تعارف عليه علماء الكلام، كما أورده السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن (٢: ١١٦) فأركان المعجزة ثلاثة.

نرى ضرورة المعجزة وصحة النبوّة في الكتاب، أي التوراة والإنجيل والقرآن، ثم في علم الكلام، ونقارن ما بين المعجزة والإِعجاز.

أولاً: ضرورة المعجزة لصحة النبوّة، بحسب الكتاب

في التوراة والإنجيل والقرآن، إن المعجزة، على أنواعها، دليل النبوّة الأوحد، فلا تصح النبوّة بدون معجزة. هذا مبدأ إلهي مقرر، متواتر بالاجماع عند الأنبياء والمرسلين، حتى سماه القرآن: ((سُنّة الأولين)) (الكهف ٥٥) و((السلطان المبين)) (غافر ٢٣) الذي يؤتيه الله رسله برهاناً إلهياً على صحة رسالتهم، وصدق نبوءتهم ودعوتهم.

١ ـ  في التوراة

فمنذ التوراة، جعل الله نفسُه المعجزة دليل النبوّة. لمّا تجلى الله لموسى في سيناء ليرسله إلى بني إسرائيل وإلى فرعون وملئِهِ، ثبت له وللناس رسالته بمعجزة العصا ومعجزة اليد البرصاء (الخروج ٣ ـ ٤: ٢). ثم أرسله والمعجزة بيده: ((خذ بيدك العصا تصنع بها المعجزات ... وصنع موسى المعجزات على عيون الشعب فأمن الشعب)) (الخروج  ٤: ١٨- ٣١).

والقرآن نفسه يشهد بأن المعجزات كانت عند موسى دلائل النبوّة: ((ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين)) (غافر ٢٣)، ((ولقد آتينا موسى تسعة آيات بيّنات)) (الإسراء ١٠١، القصص ٣٠ ـ ٣٦، طه ١٧: ٢٣، الشعراء ٣٠ - ٣٣)، ويفصلها (الأعراف ١٠٤ ـ ١٣٦)، حتى أمن بنو إسرائيل، وعجز سحَرة مصر عن المعارضة، وسَلـَّم فرعون وآمن عند غرقه (يونس ٩٠). فالمعجزة هي ((السلطان المبين)) الذي به يشهد الله لنبيه أنه أرسله ليبلغ كلام الله، فلا نبوّة بدون معجزة.

٢ - في الإنجيل

وفي الإنجيل جعل السيد المسيح المعجزات دلائل النبوّة: ((إن كنت لا أعمل أعمال أبي (الله) فلا تصدقوني. ولكن إن كنت أعملها، ولا تريدون أن تصدقوني، فصدقوا هذه الأعمال)) (يوحنا ١٠: ٣٧-٣٨)، ثم يستشهد بالكتاب لنفسه، ويستشهد بسابقه يحيى المعمدان، ولكنه يستشهد خصوصاً بأعماله المعجزة: ((وإنّ لي شهادة أعظم من شهادة يوحنا: إِنّ الأعمال التي أتاني الآب أن أعملها، هذه الأعمال عينها التي أنا أعملها هي تشهد لي بأن الآب (الله) قد أرسلني)) (يوحنا ٥:٣٦).

وعلى التخصيص، كلما ادّعى السيد المسيح لنفسه سلطاناً إلهياً أكده بالأعمال المعجزة. لمّا نسب لذاته سلطان الله نفسه على مغفرة الخطايا، بمناسبة شفاء مُقعد في كفرناحوم، أبرأه بكلمة منه على مشهد من الجماهير المزدحمة، يشهد بهذه المعجزة الخارقة لسلطانه المعجز. ادّعى أنه ((نور العالم))، فشفى الأكمة، أي الأعمى منذ مولده، شهادة للحقيقة المُنزلة معه وفيه. علّم أمام الجماهير في بيت عنيا: ((أنا القيامة والحياة)) ـ  ولا ينسب ذلك لنفسه إلاّ إله أو كافر مجنون ـ  ونادى لعازر الميت من القبر فأحياه شهادة للسلطان الإلهي الذي يدعيه لنفسه. وقد أعطى قيامته الشخصية من الموت والقبر معجزته الكبرى.

والقرآن يصدّق شهادة الإنجيل أن رسالة المسيح كانت بتأييد روح القدس والمعجزات: ((وآتينا عيسى أبن مريم البيّنات، وأيدناه بروح القدس)) (البقرة ٨٧). فامتاز السيد المسيح على سائر المرسلين بتأييد روح القدس الدائم له . ثم يعدد القرآن أربعة أنواع من المعجزات التي يفضل فيها المسيح سائر النبيّين: ((ورسولاً الى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأبرىْء الأكمة والأبرص، وأُحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: إنَّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين)) (آل عمران ٤٩). وتوج معجزاته بمعجزة المائدة التي اكتسحت إيمان الحواريين (المائدة ١١٠ ـ ١١٥)، وختمها جميعاً بمعجزة رفعه حيّاً إلى السماء، تلك المعجزة الخالدة التي لم يحلم بمثلها نبي ولا رسول (النساء ١٥٨).

٣ ـ في القرآن

للقرآن فلسفة رائعة في ضرورة المعجزة لصحة النبوّة.

فالقرآن يسمي المعجزة ((سُنّة الأولين)) التي لا تبديل لها ولا تحويل ((فهل ينظرون إلا سُنّة الأولين! فلن تجد لسُنّة اللهِ تبديلاً! ولن تجد لسُنّة اللهِ تحويلاً)) (فاطر ٤٣). وبدون معجزة لا يوجب الله على الناس الإيمان: ((وما منع الناس أن يؤمنوا، إذ جاءَهم الهدى، ويستغفروا ربهم، إلا أن تأتيهم سُنّة الأولين، أو يأتيهم العذاب قبلاً)) (الكهف ٥٥). فقد امتنع مشركو مكّة عن الإيمان بالدعوة القرآنية، ((بالحكمة والموعظة الحسنة))، لأنها لم تقترن بالمعجزة المطلوبة، ((سُنّة الأولين))، ورضخوا لها بالجهاد في المدينة ((بالحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس)) (الحديد ٢٥). ففي فلسفة القرآن وفي عرف الناس جميعاً، إن المعجزة سُنّة النبوّة: ((لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسول الله)) (الأنعام ١٢٤).

لذلك، إذ يتشدق بعض أهل زماننا بقولهم: ((إن حكمة الله أقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبـوّة سيدنا محمد عليه السلام، وبرهاناً على صحة رسالته وصدق دعوته[1]))، فهم إنما يتتقدون حكمة القرآن في ضرورة المعجزة للنبوّة، وسُنّة اللهِ في أنبيائه.

والقرآن يسمى المعجزة أيضاً ((السلطان المبين)) من الله لتأييد أنبيائه: ((ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه)) (هود ٩٦ ـ ٩٧)، ((ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه)) (المؤمنون ٤٥ ـ ٤٦)، ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين وهامان وقارون (غافر ٢٣ ـ ٢٤). فالمعجزة هي السلطان المبين من الله لصحة النبوّة. والشعب في كل زمان لا يؤمن بنبوّة إلا بسلطان المعجزة المبين: ((قالت رسلهم: أفي الله شك، فاطر السماوات والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى! قالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا: فأتونا بسلطان مبين)) (إبراهيم ١٠).

فالمعجزة على أنواعها، هي سلطان الله المبين لصحة النبوّة، وسننه المتواترة في رسله.

ثانياً: ضرورة المعجزة لصحّة النبوّة، بحسب علم الكلام

لقد أجمع أهل العلم قاطبة من المسلمين بأن المعجزة دليل النبوّة الأوحد، وذلك قديماً وحديثاً.

١ ـ قديماً انقسم المسلمون ثلاث فئات بالنسبة إلى معجزة القرآن:

أهل السنة والجماعة اختلقوا في الحديث والسيرة للنبي العربي معجزات تفوق معجزات الأنبياء الأولين كلها، ولم يحترموا موقف القرآن السلبي من كل معجزة لمحمد. وذلك لإيمانهم الشعبي بضرورة المعجزة لصحة النبوّة.

واقتصر العلماء من أهل الإِعجاز على إِعجاز القرآن معجزة له. فكان ذلك رداً منهم على أهل الحديث والسيرة. قال الباقلاني[2]: ((إن نبوّة النبي r معجزاتها القرآن)). وفصّل الجويني[3] فقال ((لا دليل على صدق النبي غير المعجزة. فإن قيل: هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا: ذلك غير ممكن! فإن ما يقدّر دليلاً على الصدق لا يخلو إما أن يكون معتاداً، وإمّا أن يكون خارقاً للعادة: فإن كان معتاداً يستوي فيه البرُّ والفاجر، فيستحيل كونه دليلاً، وإن كان خارقاً للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداءً من فعل الله تعالى، فإذا لم يكن بدّ من تعلقه بالدعوى، فهو المعجزة بعينها)).

وقال ابن أبي الاصبع[4]: ((لابدّ لكل رسول من الاتيان بخارق قرين دعوى النبوّة، ليتحدى به من بعث إليهم ليكون علامة صدقه)). فلا صحة لنبوّة بدون معجزة.

وترى من هذا التحليل ما أوجزه السيوطي، خاتمة المحققين القدماء في أركان المعجزة الثلاثة، وفي ضرورتها: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، سالم عن المعارضة. وقد قسم المعجزة الى نوعين: المعجزة الحسية، والمعجزة العقلية أو اللغوية أي الإِعجاز. فقال[5]: المعجزة ((إمّا حسية وإما عقلية. وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم. وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال افهامهم، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر)).

فإجماع العلماء قديماً على أن القرآن وحده معجزة محمد: لذلك، في باب معجزة النبي العربي اقتصروا على كتب الإِعجاز. وهذا اقرار منهم بأنه ليس لمحمد معجزة حسية تشهد له، كما سنرى ذلك من القرآن نفسه.

والفريق الثالث من الأقدمين، المعتزلة، ما فتئوا يرددن ((بأن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة))! وسنرى بأن القرآن الذي يصرح بإِعجازه لم يجعل إِعجازه برهان النبوّة.

فموجز تاريخ الكلام قديماً في معجزة محمد أن علماء الكلام المسلمين أجمعوا على ضرورة المعجزة لصحة النبوّة، لكنهم استنكروا أن معجزة حسية تشهد للنبي العربي، واقتصروا معجزته على إِعجاز القرآن. فأنكر المعتزلة كون القرآن معجزة تشهد لمحمد، مع قولهم بإِعجاز القرآن.

٢ ـ وحديثاً يفترق المسلمون ثلاث فرق في تقدير معجزة محمد: فئة التقليديين الذين لم يزالوا غائصين في رواسب الماضي، وفئة العلماء الذين يجعلون القرآن وحده معجزة محمد، وفئة المتحررين الذين ينادون بأنه لا ضرورة للمعجزة لصحة النبوّة.

من أغرب ما قرأنا للتقليديين في ((معجزة النبي r)) مقالاً في مجلة (الفكر الإسلامي ص ٣٦) التي تصدرها دار الفتوى في بيروت، عدد ايلول سنة ١٩٧٠، جاءَ فيه ((أما معجزة نبينا r فقد كانت ذا شَعب ثلاث)):

((تناولت الشعبة الأولى ما ظهر على أيدي كافة الرسل من الأمور الكونية والغيبية: فنبعَ الماء بين أصابعه، وسعت الشجرة اليه، وأنبأته الشاة أنها مسمومة، وحنَّ الجذع اليه، وغير ذلك كثير!))

((وظهرت الثانية في شخصه r  وتكوينه الخلقي المدهش. فقد نشأ فقيراً يتيماً محروماً من عطف الأم وحبها وحنانها، أميّاً، وفي قوم أميّين، قساة القلوب، فظاظ الطباع، حداد الألسنة، جفاة النفوس، غلاظ الأكباد. فكان مع ذلك على ما وصفنا من الرقة والحلم وسعة الصدر وحلاوة اللسان والشمائل العجيبة، التي لا تتكون إلا فيمن منحه الله من عنايته ما منح النبي r.))

((أمّا الثالثة، وهي الأساسية، فهي القرآن الكريم، لأنها المعجزة العقلية العلمية الدائمة على الدهر، لا ينالها تشويه، ولا يشعر بها تحريف، تنطق بلسان النبي، وتثبت بقاء رسالته على وجه الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها)).

لقد أحسن صاحب المقال باستدراكه ((وهي الأساسية))، لأن القرآن وحده معجزة محمد بإِجماع العلماء المسلمين. أما الشعبة الأولى فهي أساطير من الحديث والسيرة لا يأخذ بها عالم، وموقف القرآن السلبي من كل معجزة ينقضها نقضاً مبرماً. وأمّا الشعبة الثانية، المعجزة الشخصية، فمع شهادة القرآن بأنك ((لعلى خلق عظيم)) فلم يعتمدها معجزة لنبيه، ولا ينطبق عليها تعريف المعجزة للسيوطي. نذكر من ذلك أسطورة ((أمية محمد))، وأسطورة ((فقر محمد)) الذي أغناه زواجه من السيدة خديجة قبل البعثة بخمس عشرة سنة، أكثر من سائر تجار قريش مجتمعين. في هذا الكتاب نوجز المعجزة الشخصية، في فصل، ونفرد لها كتابنا: ((المسيح ومحمد في عرْف القرآن)). وفي موقف العلماء تقييم حقه لمثل مقال المجلة المذكورة.

فعلماء العصر يشهد فريق المحافظين منهم، مثل الدكتور حسين هيكل في (حياة محمد): ((لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على أختلاف عصورهم برسالة محمد إلاّ القرآن)). وكان الأستاذ دروزة[6] أصرح في قوله: ((إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوّة سيدنا محمد عليه السلام، وبرهاناً على صحة رسالته، وصدق دعوته)). هذا هو الواقع القرآني. فلم يبقى الا إِعجاز القرآن معجزة لمحمد.

لكن بما أن الإِعجاز البياني للخاصة من العرب الفصحاء لا للعامة، ولا لجميع الأجانب من الناس كلهم، فقد أخذ بعض أهل العصر ينكرون ضرورة المعجزة لصحة النبوّة، بخلاف كتب الله كلها، وبخلاف علماء المسلمين حتى عصرنا.

فالمعجزة هي دليل النبوّة الأوحد.

فهل يشهد القرآن لمحمد بمعجزة؟

وهل يعتبر القرآن إِعجازه معجزة له؟

ثالثاً: ما بين الإِعجاز والمعجزة

في كتابنا ((نظم القرآن والكتاب ـ الكتاب الأول: إِعجاز القرآن)) درسنا واقع القرآن في إِعجازه. وفي هذا ((الكتاب الثاني: معجزة القرآن)) ندرس هل يصح إِعجاز القرآن معجزة له؟

لقد قسم أهل الإِعجاز المعجزة على نوعين: حسية وعقلية. المعجزة الحسية هي كل عمل إلهي يفعله الله تعالى على يد نبيه يشهد له بالنبوّة، والعقلية هي إِعجاز القرآن في النظم والبيان. وقالوا: إن إِعجاز القرآن في النظم والبيان معجزة عقلية تفوق جميع معجزات الأنبياء السابقين الحسية، لذلك فنبوءة محمد تفوق جميع النبؤات.

١ ـ لكن الواقع القرآني يشهد، كما سنرى، بموقف القرآن السلبي من كل معجزة! لذلك كل ما جاء في الحديث والسيرة من معجزة حسية منسوبة إلى محمد ينقضها موقف القرآن السلبي الصريح من كل معجزة له ولنبيه، وكل ما رأوه من معجزات في ((آياته المتشابهات)) ينقضها صريح ((آياته المحكمات)).

٢ ـ فليس من القرآن من معجزة حسية. والواقع القرآني يشهد بأن محمداً لم يأتِ بمعجزة: ((لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله)) (الأنعام ١٢٤)، ((فلياتنا بآية كما أرسل الأولون)) (الأنبياء ٥)، ((وأقسموا بالله جَهْد إيمانهم: لئن جائتهم آية ليؤمنن بها)) (الأنعام ١٠٩)، ((وما منع الناس أن يؤمنوا .. الا أن تأتيهم سنة الأوليين)) (الكهف ٥٥). فالمعجزة هي سُنّة النبوّة، والقرآن يشهد صراحة نحو خمس وعشرين مرة، غير الشهادات الضمنية المتواترة، أن ليس في القرآن والسيرة من معجزة. ويشهد القرآن أيضاً، كما سنرى، أن المعجزة قد منعت عن محمد منعاً مطلقاً، من حيث المبدأ: ((وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون)). (الإسراء ٥٩)، فمهما كان السبب، إن المعجزة قد منعت عن محمد منعاً مبدئياً، ومن حيث الواقع: ((وإن كان كَبُرَ عليك اعراضهم فإن اسـتطاعت أن تبتغي نفقاً في الأرض، أو سلماً في السماء، فتأتيهم بآية)) (الأنعام ٣٥) ـ ((فافعل: المعنى أنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى يحكم الله)) (الجلالان). فالمعجزة على أطلاقها مُنعت أيضاً عن محمد منعاً واقعياً. فإن امتناع المعجزة على محمد هو مبدأ وواقع، وهذا بنص القرآن القاطع.

٣ ـ لكن القرآن يتحدى بإِعجازه، وهذه هي معجزته العقلية. وشهادة القرآن خير جواب. بما أنه يشهد بمنع المعجزة عن محمد، فليس إِعجاز القرآن المشهود بمعجزة له. وسنرى أن اختلافهم في وجه الإِعجاز يجعله أيضاً معجزة متشابهة. والقرآن يقسم نفسه إلى محكم ومتشابه، والمحكم فيه هو بالاجماع أحكامه الشرعية. ففي ((متشابه القرآن))، وهو أكثره، حكم القرآن نفسه على نفسه أن إِعجازه ليس بمعجزة: ((منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأُخر متشابهات ... وما يعلم تأويله إلا الله، الراسخون في العلم يقولون: أمنا به، كلٌ من عند ربنا)) (آل عمران ٧). كما في ((محكم القرآن)) حكم على نفسه بوجود الناسخ والمنسوخ في أحكامه (البقرة ١٠٦)، وقيام ((التبديل)) في آية (النحل ١٠١). وسنرى أيضاً، من حيث الجدلية، أن الدين للعامة، والإِعجاز البياني للخاصة من العرب: فلا يصح إِعجاز للخاصة من العرب معجزة للعالمين، وحاشا لله أن يعجز العالمين بما لا طاقة لهم فيه. ففي ذلك يصح قول السيوطي: ((ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصوَّر التحدّي به)) (الإتقان ٢‏:١١٧)، فكيف وهو ((ما يعلم تأويله الا الله))، ويكتفي الراسخوان في العلم بالتسليم به!

٤ ـ والقرآن نفسه شاهد عدل على أنه لا يعتبر إِعجازه معجزة له. والإِعجاز الحق الوحيد الذي يقول به هو الإِعجاز في الهدى: ((فلما جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثل موسى! ... قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين)) (القصص ٤٨ ـ ٤٩). فالقرآن والكتاب هما في الهدى سواء، بل يعتبر الكتاب ((إمام)) القرآن في الهدى (هود ١٧، الأحقاف ١٢). فتحدي القرآن لإِعجازه موجه للمشركين، لا للكتاب وأهله. لذلك فهو لا يعتبر إِعجازه معجزة له على الإطلاق.

٥ ـ في القرآن شهادة ناطقة غفل عنها القوم حتى اليوم. ففيما هو يتحدى المشركين بقوله: ((قل: لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (الإسراء ٨٨)، نراه يشهد شهادة قاطعة بوجود ((مثل)) القرآن في زمانه، عند النصارى من بني إسرائيل: ((وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله)) (الأحقاف ١٠). لاحظ وحدة التعبير، ((مثله))، في التحدّي وفي شهادة الواقع التي لا يمكن لأحد ان يماري فيها ـ وهذه الشهادة القاطعة حجة ناطقة على أن القرآن لا يعتبر إِعجازه معجزة له.

٦ـ ونحن لا نقتصر المعجزة على حسيّة وعقلية. بل نستجمع في هذا الكتاب وجوه المعجزة جميعها، لاستكمال النظر فيها أبعد من المتقدمين والمتأخرين.

ففي القسم الأول، نرى المعجزات الحقيقية: المعجزة الحسية (أي الافعال المعجزة)، والمعجزة الغْيبية (أي الإنباء بالغيب)، والمعجزة الشخصية في السيرة والنبوّة والرسالة، والمعجزة الظرفية من حيث البيئة وشمول الدعوة و((حفظ)) القرآن،  والمعجزة الذاتية في التنزيل وفي التأليف، والمعجـزة الموضوعية في الهدى والشريعة و((العلم)) والتاريخ (القصص القرآني). تلك أنواع ستة تشمل المعجزة من كل وجوهها.

وفي القسم الثاني نرى المعجزة البيانية، من الأسس الضعيفة لاعتبار الإِعجاز معجزة (أمية محمد، القرآن كلام الله فهو معجز بذاته، وجه الإِعجاز أمجهول)، إلى حقيقة شهادة القرآن لإِعجازه، إلى الإِعجاز في فصاحة لغته مع ((غريب القرآن)) فيها، إلى الإِعجاز في بيانه مع متشابهاته، إلى الإِعجاز في بلاغته مع ((متشابه القرآن))، وناسخه ومنسوخه، إلى الإِعجاز في جدليته، مع ((مشكله وموهم الاختلاف والتناقض فيه))، إلى الإِعجاز في أسلوبه ونظمه، وهو نظم الكتاب بحسب الأسلوب الآرامي، لا العربي. ويأتي فصل الخطاب: أيصح هذا الإِعجاز معجزة الهية؟

٧ ـ واننا نستفتح كتابنا بهذا التصريح: إننا نؤمن إيماناً علمياً بإِعجاز القرآن.

هذا هو موقفنا الذي يجب أن يفهمه كل من يطالع هذا الكتاب. لكن بما أن المعجزة على أنواعها هي برهان النبوّة الأوحد، يظل السؤال المحرج الذي حير العلماء من مسلمين وغير مسلمين قائماً: هل يشهد القرآن لمحمد بمعجزة؟ هذا ما نراه في القسم الأول؟ هل يعتبر القرآن إِعجازه المشهود معجزة له؟ هذا ما نراه في القسم الثاني. هدانا الله إلى السراط المستقيم.

 

[1] الأستاذ دروزة : سيرة الرسول  ١ : ٢٢٦

[2] إعجاز القرآن، ص ٤

[3] الإرشاد، ص ٣٣١

[4] بديع القرآن، ص ٣٠٧

[5] الاتقان  ٢ :  ١١٦

[6] سيرة الرسول ٢ :  ٢٢٦