كتاب الغوّاصُ واللألئُ

كتاب الغوّاصُ واللألئُ

أو

ترجمة حياة حجة الإسلام الغزالي

تأليف الدكتور زويمر
باللغة الانكليزية
الطبعة العربية الثانية سنة ١٩٢٦
ملتزم الطبع والنشر مطبعة النيل المسيحية
ويطلب من مكتبتها بخان الزيت قرب باب العمود بالقدس الشريف

 

:A Moslem Seeker After God

Showing Islam at its Best
in the Life and Teaching of Al-Ghazali
Mystic and Theologian of the Eleventh Century
By
Samuel M. Zwemer
Study-Islam.org

إذا رمت الحصـول على اللآلي   وإحــراز المفــاخــر والمعــالي
بترجمـة حــوت مــن كل فضــلٍ   عليك بقصة الشيخ الغــزالي

محراب الجامع الأموي المشهور بالشام

With the aid of A.C.L.S.M.

فهرست الغواص واللآلئ

  وجه
المقدمة (بقلم الأستاذ عبد الفادي القاهراني) ١
الفصل الأول ـ العصر الذهبي في الآداب العربية ٧
الفصل الثاني ـ ولادة الغزالي وتربيته ٣٧
الفصل الثالث ـ تعليمه واهتداؤه واعتزاله ٦٣
الفصل الرابع ـ رحلات واخريات أيامه وموته ٨٤
الفصل الخامس ـ مؤلفاته ١٠٤
الفصل السادس ـ علم الآداب كما علمه الغزالي ١٢٩
الفصل السابع ـ تصوف الغزالي ١٥٧
الفصل الثامن ـ يسوع المسيح في الغزالي ٢٠٠
الخاتمة (لمسلم استهدى فاهتدى) ٢٣٣

مقدمة
بسم الله الهادى إلى الصوابSamuel M. Zwemer photograph

سبحان خالق الأمور ومعيدها ومنشئ الديانة ومحييها. وبعد فلنا الشرف أن نقدم إلى القراء مؤلفاً نفيساً سميناه «الغواص واللآلئ» وهو عبارة عن سيرة حياة حجة الإسلام الامام «الغزالي» الذي غاص في بحار العلوم والفلسفة يفتش على لآلئ ثمينة ودرر فاخرة وهذا المؤلف تأليف العلامة البحاثة الدكتور زويمر المستشرق الأمريكاني وقد أصدره أصلاً باللغة الإنكليزية وسماه حضرته «مسلم يبحث عن الله» وقد طلب اليَّ أن أقول كلمة عن أهمية الكتاب من الوجهة الدينية في البحث عن اللؤلؤة الثمينة التي هي الغاية المقصودة والضالة المنشودة لكل باحث في كل عصر وصقع ألا وهي نيل غفران الخطايا كأول خطوة في الطريق إلى الله

وليسمح لي القارئ أن أنقل شيئاً مما قلته في محاضرتي الصغيرة [١] عن صاحب الترجمة. قلت: ـ

﴿الأزمات الروحية﴾

ان خير وسيلة لمعرفة أدوار حياة هذا الأستاذ أن نتخذ كتابه «المنقذ من الضلال» كترجمة لحياته وفعلاً كان هذا من أهم أغراضه في تأليفه اياه. وعند ما نفتح الكتاب المذكور نجد فيه ذكر أربع أو خمس أزمات روحية اصابته

وما هو معنى «أزمة روحية» يا ترى؟ هل غاب عنكم ذكر الأزمة المالية التي أصابت مصر بل جميع الشرق في سنتي ١٩٠٧ و١٩٠٨؟ ـ ان الأزمة هي عبارة عن شدة موقتة فقد تأتي بني آدم في بعض الأحيان فرصة للتوبة والتفكير في الآخرة وربما تأتي هذه الفرصة فجأة وبعد أن تدوم مدة من الزمن تذهب فجأة كما أتت فيرجع الإنسان إلى عاداته المعهودة. على أن نتيجة تلك الفرصة تدور فإذا تاب الإنسان واستغفر الله فخيراً والا فشراً لأن الأزمة الروحية عبارة عن صوت الله تعالى ينادي قائلاً «هلموا يا بني آدم اتركوا ذنوبكم وفتشوا على الصراط المستقيم الذي ينقذكم من الهلاك في النار ويوصلكم إلى دار السعادة الأبدية»

وعلى هذا فاننا نقسم حياة الغزالي إلى الأدوار الآتية وهي: ـ

الغفلة ـ اليقظة ـ البحث ـ الوصول الجزئي

(١) زمن الغفلة ـ يصف الغزالي حالته الأصلية بالحديث الذي اقتبسه «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» ومعنى ذلك ان اهمالهم وعدم مبالاتهم يشبه النوم أو الموت وفعلاً تسمى هذه الحالة بالموت الروحي وهذا يوافق قول الإنجيل «أموات بالذنوب والخطايا» فليست هي حالة كل مسلم مهمل فقط بل نقول انها حالة كل مسيحي غير مبال بأمر الدين أيضاً

(٢) أتى زمن اليقظة أو ادراك الحالة فحالما استيقظ الغزالي خاف وفزع. خاف من الدينونة والهلاك في النار. نعم ان الأطباء قد نسبوا ذلك إلى أثر مرض كان قد أصابه لكن هؤلاء الأطباء هم أطباء الجسد لا الروح لأن ذلك خارج عن دائرة علمهم فلا يقدر الطبيب أن يرشدك إلى الصراط المستقيم أو أن يشفع فيك عند الله وقت التوبة والاستغفار

عود ـ رأى الأستاذ ان كافة مجهوداته لم تجد نفعاً. وحيث كان له جانب عظيم مما نسميه «شجاعة أدبية» فاعترف بالشكوك التي خالجت فؤاده في ذلك الوقت فقد جاهر في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه ذهب مذهب السفسطة (الزندقة) مدة شهرين حتى شعر بأنه على شفا جرف هار فيئس من النجاة ويخال لي ان حالة الغزالي كحالة كثيرين من شياننا اليوم

استيقظ هؤلاء من نوم عميق وانتبهوا وسألوا عما هي فائدة دينهم الذي ولدوا وتربوا فيه. سألوا «اين الرضى والانبساط الذي عرفه آباؤنا؟ كان دينهم يكفيهم فهل يكفينا؟» هم تكلموا عن المغفرة التي اختبروها لكونهم استغفروا المولى تعالى ولكنا لا نعرف كيفية ذلك لأننا قد فقدنا مفتاح الطريق

هذه هي بعض الشكوك التي تحضر الشاب العصري وليست هي بعيدة عن تلك التي طالما داهمت الأستاذ الغزالي واحرجته مع انه جد واجتهد ولم يستسلم لليأس والقنوط بل بحث عن الطريق المثلى التي بها ينقذ نفسه من الهلاك

(٣) دور البحث: ـ قام الأستاذ بكل عزم وحزم تاركاً منصباً عالياً وايراداً طائلاً لأنه اعتبر انقاذ نفسه أكثر قيمة من حفظ أمواله. خرج من بغداد سنة ٤٨٨ هـ وبذلك فك كل قيوده التي طالما ربطته ومنعته حرية الفكر والتأمل

(ا) تعلم علم الكلام ثم رفضه ـ كان الغزالي مسلماً تقياً بمعنى الكلمة فلم ترضه الأبحاث المنطقية الطويلة التي كان الأشعري وغيره قد أنشأوها واعتمدوا عليها كأنها اصل الدين! فانه ملم الماماً تاماً لكنه بعد استقصاء البحث رفض علم الكلام والمتكلمين أي أساتذة ذلك العلم وازدرى بهم في كتابه ازدراء شديداً

(ب) تحول إلى الفلسفة ولسان حاله يقول ان شاء الله تعالى وجدنا المطلوب فهذه هي ضالتنا المنشودة. لكنه لم يلبث حتى نبذ جميع أنواع الفلاسفة وهم الدهريون والطبيعيون والالهيون. أما النوع الأول فلأنهم رفضوا الخالق وهذا كفر كما لا يخفى. وأما الطائفة الثانية وهم الطبيعيون فاعتقدوا ان العالم قد سار مثل ماكينة بعد صنعها أي بلا اعتماد على عناية الهية وأما المذهب الثالث فيذكر منهم أسماء سقراط وأفلاطون وارسطاطاليس ويرد عليهم بأنهم انقسموا على بعضهم حتى كفَّر بعضهم بعضاً تكفيراً وقد تبعهم ابن سينا والفارابي من المتفلسفة الاسلاميين ثم يعوذ بالله من شرهم ويقر بأن «لا منقذ من الضلال هنالك»

(ج) ـ تعليمات الباطنية ـ كان الباطنيون يعتقدون ان «الخلافة الظاهرة تولاها أبو بكر والخلافة الباطلة اخذها علي وذريته» فضالتهم هي الامام الباطن وليس عندهم حديث غير ذلك لكن الغزالي تباحث معهم وفند شبهاتهم وصرح أخيراً بأن المنقذ من الضلال ليس هنالك

﴿وصوله إلى الطريقة الصوفية﴾

اختبر جنابه كل هذه المذاهب المختلفة وسبر غورها وفهم تماماً بأنها لا تروي غليلاً فلم يضيّع وقتاً ثميناً فيها بل التفت إلى طريقة أخرى فيها وجد (حسب روايته) المعرفة الحقيقية بخلاف هذه الضلالات التي ليست الا أوهاماً واضغاث احلام

أما الطريقة التي سار فيها وانضم إليها فهي طريقة الصوفية وقد انتفعت الطريقة كثيراً بانضمامه إليها واصلاحه لها لأن الغزالي كان أحد الكبار الذين لا يستفيدون الا وهم يفيدون غيرهم أو كما قال السيد المسيح «أتيت لأَخدِم لا لأخدَم» وكذلك كان الأستاذ يفيد أكثر مما يستفيد

استفاد نوعاً لأنه وجد عند الصوفية رغبة شديدة لمعرفة الحقيقة وتلك الحقيقة عندهم هي الله نفسه فجل مسعاهم هو الوصول إلى معرفة الله. فعبوديتهم وعشقهم وزهدهم ووجدهم جميعها منازل سفر في طريق بعيد وكل مرحلة منها دليل محسوس على تقدم المسافر في طريقه نحو الغرض

﴿انما لم يصل وصولاً تاماً﴾

لم يصل تماماً والعيب في ذلك ليس على المريد بل على عدم كمال الطريقة لكنه زعم انه قد وصل فانه فعلاً تلذذ ببعض ازمنة من «المعرفة» و«الوجد» (لكنها على كل حال زمنية وقتية) نعم لا شك انه جرد أفكاره عن العالم تجريداً مشكوراً ولا ننكر انه استخرج من الطريقة كل ما فيها من الفوائد الدينية لكنها غير كافية لنيل الخلاص (أي النجاة) كنتيجة لاخلاصه الكلي. (اهـ)

قلنا ان المذكور لم يصل تماماً. نعم اننا لا ننكر عليه حقه من الاكرام لأنه أجلّ الكتاب المقدس اجلالاً مشهوراً وتكلم عنه بصفة كونه منزلاً من العلي العظيم ولم يعتقد بنسخه مطلقاً وعلاوة على ذلك يتضح من الفصل الثامن ان الغزالي طالع الإنجيل باخلاص للاستفادة ولذلك فيحسن بغيره الاقتداء بقدوته. نعم واعطى لسيدنا المسيح مقاماً عظيماً. لا ننكر ذلك انما نقول ان من يقتدي بالغزالي في البحث والتنقيب عليه ان يداوم البحث وان لا يكتفي بنتيجة جزئية

ان الغزالي لم يدرك ماذا كان غرض المسيح من التطوع للموت ـ ليموت نيابة عن الجنس البشري ـ كما انه لم يشعر بأهمية قيامته من الموت ولا يخفى ان هاتين النقطتين هما الركنان المهمان في الديانة المسيحية ـ «موت المسيح وقيامته» وبعبارة أخرى ان سيدنا المسيح هو رئيس الموت والحياة وفي طاقته ان يهب الحياة لمن يؤمن به ويتكل عليه ومن يقبل إليه لا يخرجه خارجاً بل يعطي له أولاً غفران خطاياه وثانياً الايقان بأمور لا ترى أي الحصول على رجاء الحياة الأبدية

وربَّ تابع يسعى وراء متبوعه فينال أكثر منه وربَّ مسلم يقرأ في هذا الكتاب فيقبل إلى الفادي الهادي إلى الصواب ومن استهدى فقد اهتدى

عبد الفادي القاهراني
رئيس تحرير مؤلفات المطبعة
ومديرها العام


الفصل الأول

(العصر الذهبي في الآداب العربية)

يشبه عظماء التاريخ قمم الجبال الشوامخ المتطاولة في الفضاء المطلة فوق السهول والبطاح المرئية للعين على أبعاد شاسعة والمشرفة على مناظر الطبيعة. وكل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظماء وهم محمد نبي المسلمين نفسه، والبخاري جامع الأحاديث المشهور، والأشعري اللاهوتي المتفلسف المضاد لمذهب العقليين، والغزالي المصلح المتصوف، وقد خلف هذا الأخير آثاراً هامة باقية في تاريخ الإسلام أكثر من أي إنسان آخر عدا محمد نبي المسلمين نفسه حتى قال عنه السيوطي «لو كان هناك نبي بعد محمد لكان الغزالي»

وفي اعتقادي اننا نعثر في ترجمة حياته وزوايا مؤلفاته على صورة واضحة للإسلام لأنه كلما حاول المسلمون التنصل من قيود الأحاديث الثقيلة ونظاماتها الجامدة ورسميتها الظاهرة اتسع أمامهم باب الفرج عن طريق التصوف. وليس من يضارع الغزالي ويدانيه بين كل الذين تعمقوا في استكشاف المعاني الروحية لتعاليم القرآن ولا في دقائق الفرائض الطقسية الإسلامية الكثيرة «لأنه استفاد من معاني الإنجيل الروحية شيئاً كثيراً سيظهر أثره في هذا المؤلف ان شاء الله

فقد قال عنه السبكي: ـ

«هو الامام الجليل محمد بن محمد بن أحمد الطوسي أبو حامد الغزالي حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام جامع اشتات العلوم والمبرز في المنطوق فيها والمفهوم جرت الأئمة قبله بشأو ولم تقع منه بالغاية ولا وقف عند مطلب وراء مطلب لأصحاب البداية والنهاية حتى أخمد من القرناء كل خصم بلغ مبلغ السها وأخمد من نيران البدع كل ما تستطيع أيدي المجالدين مسها. كان ضرغاماً الا ان الأسود تتضاءل بين يديه وتتوارى، وبدراً تماماً الا ان هذا لا يشرق الا نهارا، وبشراً من الخلق ولكنه الطود العظيم، وبعض الخلق ولكن مثل ما بعض الحجر الدر النظيم، جاء والناس إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء، لمصابيح السماء، وأفقر من الجدباء، إلى قطرات الماء، فلم يزل يناضل عن الحقيقة بجلاد مقاله، ويحمي حوزته ولا يلطخ بدم المعتادين حد نصاله، حتى أصبح مبدأه وثيق العرى، وانكشفت غياهب الشكوك فلم تكن الا حديثاً مفترى، هذا مع ورع طوى عليه ضميره، وخلوة لم يتخذ فيها غير الطاعة سميره، وتجريد نراه به وقد توحد في بحر التوحيد» اهـ

ولئلا يخطر ببال أحد ان هذا الأطناب شرقي ومبالغ فيه فها نحن نورد هنا كلمات الأستاذ دنكن مكدونالد وقد تعمق في درس الغزالي وحياته ومصنفاته أكثر من أي بحاثة آخر في الإسلام قال: ـ

«يصعب علينا التكهن بما كانت تصل إليه يد الإسلام من الصلابة والعنف والصرامة لولا نفوذ الغزالي فيه فهو قد أنقذه من التداعي والانهيار وفتح أمام المسلم الصادق باب حياة مستترة في الله (متتبعاً خطوات بولس رسول الله إلى الأمم بالتمام). وقد صادف في حياته مرارة الاضطهاد كملحد هرطوقي ولكنه اليوم يشار إليه بالبنان كأكبر استاذ للجامعة الإسلامية»

ولسهولة تفهم روح الغزالي وتعاليمه لا محيص لنا من الرجوع إلى العصر الذي عاش فيه لأننا لا نفهم روح الشخص إلا إذا عرفنا الأوساط (البيئات) التي اكتنفته وما تراجم العظماء الا خيوط فقط ضمن أنسجة التاريخ الواسعة والغزالي من تلك الزمرة القليلة التي حملت مشاعل النور في العصور المظلمة

ولد صاحب الترجمة في طوس في خراسان من أعمال بلاد فارس سنة ١٠٥٨ ب. م وقضى نحبه سنة ١١١١ ب. م وعند ولادته كان طُغْرُلْ بك السلجوقي قد استولى على بغداد وكان هنري الرابع امبراطوراً ونيقولا الثاني بابا رومية وكان النورمنديون قد بدأوا فتوحاتهم في الغرب وكان الأتراك يكتسحون الأناضول في الشرق الأدنى

وكان أيضاً من بين معاصريه في الغرب البابا هلدربراند وابيلار الفيلسوف وبرنارد الراهب وأنسلموس رئيس أساقفة كنتربري وبطرس الناسك وفي الزمن الذي كتب فيه مؤلفه الشهير كان جودفري ملكاً (على القدس الشريف)

وكان الغزالي يناضل ويكافح في المسألة الإسلامية وتعطش القلب البشري لمعرفة الله بعد ظهور رسالة الكندي عن الإيمان المسيحي (التي كتبها في عصر هارون الرشيد بنحو مئتي سنة وقبل أن يستشهد ريموندلل ٢ في شمال افريقيا بنحو مئتي سنة أيضاً

وكانت حالة العالم الإسلامي وقتئذ قد تبدلت عما كانت عليه أيام سيادة العرب الفاتحين في خلافة عمر على مدينة البصرة ونظيرتها الكوفة وأمسى خلفاء الدولة العباسية في القرن الحادي عشر مجرد أشباح لعز دارس أشبه بامبراطرة (اباطرة) الشرق ولم يحتفظوا بشيء فوق سيادتهم الدينية الا النذر اليسير

وقد كان الخليفة القائم بأمر الله عضداً وساعداً لطغرل بك في كل فتوحاته وغزواته فاغدق عليه من القاب الشرف وآيات التبجيل والتعظيم وحياه كملك الشرق والغرب وزوجه بابنته (على خلاف عادات الهاشميين) وفي عهد الخليفة التالي استولى الأتراك السلجوقيون على مدينة القدس الشريف

وقال نولديك (البحاثة الألماني) في مؤلفه «مقتطفات من التاريخ الشرقي» ما نصه:

«كان الإسلام حوالي سنة ١٠٠٠ ب. م في حالة سيئة إذ وهنت الخلافة العباسية وتضاءل بطشها فتضعضعت قوة العرب وتفرقت الجامعة الإسلامية إلى مجموعة من الولايات الصغيرة والكبيرة ولم يكن في وسع أقواها وأمنعها وهي الدولة الفاطمية أن تشد أزر المجموعة المتفرقة لا سيما وقد كانت شيعية... وقد جاء هؤلاء الغزاة الرحل (الأتراك) بالخراب والدمار ودكوا صرح مدينة واسعة الأطراف ولم يفعلوا شيئاً نحو ترقية الجنس البشري بل قصروا همهم على تعضيد دين محمد ـ حمل الأتراك لواء الايمان الإسلامي بكل غيرة وحماس ـ وقد كان سهل المنال أمام قواهم العقلية ـ وأمسوا حماته الصادقين المتعصبين ضد العالم الخارجي ولم يلبثوا أن أقاموا دولة السلجوقيين القوية وفتحوا أقاليم جديدة للإسلام في الشمال الغربي وبعد سقوط دولة السلجوقيين ظلوا هم الشعب الحاكم المتسلط في كل ولاياتها القديمة ولو لم يوقظ الأتراك فطرة الإسلام الحربية لاحرزت الحملات الصليبية نصراً مبيناً»

وقد ولي طُغْرُل بك سلطاناً في مدينة نيسابور الملكية سنة ١٠٣٨ ب. م وقال عنه جبون

«كان أباً لجنوده ورعيته وأنقذ بحسن إدارته وعدل أحكامه بلاد فارس من ويلات الفوضى والاستبداد فأمست تلك الأيادي التي تلطخت بالدماء نصيرة العدل وحامية الإسلام العام. ولم ينفك المتقشفون من الأتراك بل العقلاء منهم على السكنى في مضارب أسلافهم وكانت تلك المستعمرات الحربية من الاوكس إلى نهر الفرات في حمى أمرائها الوطنيين. أما الأتراك المتحضرون فقد ألهتهم المشاغل الكثيرة واستعاضوا عن التقشف والخشونة بالانغماس في الأطايب واللذات وعمدوا إلى تقليد بلاد فارس وثيابها ولغتها وأخلاقها وكان يرى الناظر القصور الملوكية في نيسابور ويرى أبهة الملك وفخفخة السيادة والمجد وقد اعتلى المناصب الحكومية الكبرى الاكفاء من العرب والفارسيين واعتنقت الامة التركية جمعاء دين محمد بكل غيرة واخلاص»

وقد اشتهر أول سلاطين السلجوقيين بغيرته للعقائد الإسلامية فكان يقضي وقتاً طويلاً في الصلاة ويشيد مساجد جديدة في كل مدينة يفتحها. وهو الذي ضرب على أيدي المناوئين للخليفة في بغداد وأخضع أهل الموصل وبغداد بقوة بأسه وكثرة سلاحه ولما ان استتب الأمر للخليفة واستراح من مناوئة خصومه عقدت بينه وبين السلطان محالفة عمادها زواج اخت طُغْرُل بخليفة الرسول

وفي سنة ١٠٦٣ مات طغرل فخلفه ابن أخيه ألب ارسلان وكان اسمه يذكر بعد اسم الخليفة في الأدعية العامة عند جميع المسلمين في الشرق الأدنى.

وقد وصف لناجبون عهد سلطنته بهذه الكلمات

«رصت ربوات من الخيول التركية على تخوم يبلغ مداها ٦٠٠ ميل من جبال طوروس إلى مدينة ارضروم على البحر الأسود وسفكت دماء ١٣٦,٠٠٠ نفس من المسيحيين ضحايا باسم النبي العربي» (اهـ)

وقد تمثل في ذلك «الأسد الجبار» ـ وهذا معنى اسمه ـ صلابة الحاكم وكرمه الشرقي، وفي عهده عانى المسيحيون أقصى صنوف الاضطهاد، واستأصل شأفة أعدائه ومناوئيه، ولكن أكرم مثوى العلماء والأغنياء والكبراء وأغدق عليهم من نعمائه بكل سخاء وقد كان ارسلان محارباً جباراً شديد البطش منتصراً للايمان متعطشاً للجهاد ولسفك الدماء وخوض معامع القتال.

ولما استولى على عاصمة ارمينيا في ٦ يونيه سنة ١٠٦٤ أقفرت من بنيها ونعق على ربوعها يوم الويل والخراب وقد قيل في هذا الصدد: ـ

«سالت الدماء البشرية انهاراً وحدثت ملحمة هائلة حتى اكتظت الشوارع وسدت الطرقات بأشلاء القتلى واكوام المجندلين واحمرت مياه النهر من كثرة الدماء التي امتزجت بها وقد سيم الأغنياء من الأهلين العذاب أشكالاً وألواناً ونهبت الكنائس وسلخت جلود الكهنة: وهم احياء وكان الغزالي في ذلك الوقت في الحول السادس من عمره»

وفي سنة ١٠٨٢ اغتيل ارسلان فخلفه ملك شاه ابنه الأكبر وأخذ بالتوسع في فتوحات أبيه فيما وراء الاكسوس حتى بخارى وسمرقند ونقش اسمه على نقود مملكة التتر المتاخمة لبلاد الصين واندمج اسمه في صلواتها ـ وقد امتد سلطانه من تخوم الصين إلى جهة الغرب والجنوب حتى جبال جورجيا وضواحي الاستانة ومدينة القدس الشريف وبساتين اليمن (بجزيرة العرب). وقد كان ذلك الملك الراعي عاملاً في الميدان أيام السلم والحرب ولم يستسلم لشهوات النفس وحب النساء

وكان وزيره الأكبر نظام الملك وهو صاحب الأيادي البيضاء في احياء العلوم والآداب ففي عهده نقحت (الرزنامة) وشيدت المدارس والكليات وتنافس العلماء والأدباء لنيل الحظوة لدى الملك. وقد ظل نظام الملك هذا موضع اعجاب الخليفة وحجة الدين والعلوم مدة ثلاثين عاماً ولكن لما بلغ ذلك السياسي المحنك الثالث والتسعين من عمره ـ وهو صاحب الفضل الأكبر على الغزالي كما سيجيء ـ عزله مولاه واتهمه أعداؤه واغتالته يد متعصب أثيم. وقد أثبتت كلماته الأخيرة براءته مما عزي إليه وكانت حياة ملك شاه بعده قصيرة الأمد ضئيلة العز والأبهة

وكانت اللغة العربية وقتئذ قد سادت في كل مكان وتسربت مفرداتها إلى كل لغات الشرق الأدنى. وكان كل جنس يحتك به العرب «يتعرب» على شاكلتهم.

وقد قال شينري: ـ

«ويمكننا الحكم على مقدار هذا النفوذ بمقارنة لهجة الفردوسي الفارسية بلهجة السعدي «لأن الأول نبغ في أوائل القرن الحادي عشر ترك لغته وتراكيبه صافية نقية لا شية فيها ولكنك ترى في مؤلفات الثاني التي نسقها بعد هذا العصر بنحو مئتي سنة وخمسين سنة بعض الكلمات العربية متداخلة في الفارسية مع شيء من لغته الأصلية وقد أورد هذا المؤلف كثيراً من الأبيات العربية كحلية يزين بها مؤلفاته مفترضاً أن قراءه يعرفون هذه اللغة المقدسة الفصيحة»

وقد امتدت طرق التجارة إلى كل النواحي فاتصلت بالهند والصين في الشرق وكذا ارخبيل ملاشيا (جزر الهند الشرقية) وكانت القوافل تحمل المتاجر من أواسط آسيا وشمال بلاد العرب إلى أسواق الغرب ومراكزه التجارية فكان بين اسبانيا وبلاد فارس حلقة اتصال. وقال الحريري في اطراء البصرة: ـ

«هي المكان الذي به تلتقي الفلك والركاب، والحيتان والضباب، والحادي والملاح، والقانص والفلاح، والناشب والرامح، والسارح والسابح، وله آية المد الفائض، والجزر والغائض»

وهي بالحقيقة كانت الميناء والمركز التجاري لكل الأقطار الواقعة على ضفاف دجلة والفرات كما كانت مدينة الاسكندرية للغرب

ولدينا دلائل تؤيد تبادل تجارة أبقار البحر والعاج بين بلاد العرب والصين وقد ظهر مؤلف مكتوب باللغة الصينية في القرن الثاني عشر عن التجارة مع العرب ونشرت ترجمته حديثاً في مدينة لينينغراد عاصمة روسيا والأغرب من هذا أنه عثر في سكندنافيا ٣ على ألوف من قطع النقود الكوفية يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر مما يدلنا على أن هذا الصقع النائي في أوروبا كان على اتصال مع الشرق الأدنى

ويشهد التاريخ أن آداب ذلك العصر كانت مفككة العرى لا رابطة بينها وبين الدين أسوأ مما هي عليه الآن في العالم الإسلامي. فقام فيه طغمة من الكتاب مثل الهراوي وكتبوا الشروح والتفاسير عن اعجاز القرآن ولكن لم يعبأ أحد منهم بخوض المسائل الأدبية كمعاقرة الخمور سراً والتهتك في ولائم المنادمة والميل إلى الأحاديث المستهجنة. ولنا دليل على صدق ما نقول كثرة ورود ألفاظ الخمور والنساء والأغاني ليس في الأدبيات والشعر فقط بل في مجالس أئمة الدين والفلاسفة. وقد قال هيوارت في تعليقه على «كتاب الصوامع» وهو مجموعة اشعار عن الأديرة في الشرق الأدنى: ـ

«لا يغرب عن بالنا أنه لما عكف المسلمون على الأديرة المسيحية لم يفعلوا ذلك مسوقين بدوافع دينية تقوية بل رغبة في تحين الفرص لمعاقرة بنت الحان الأمر الذي كان محرماً في المدائن الإسلامية. وقد تغنى الشعراء بتلك الأماكن المقدسة التي عاقروا فيها بنت الحان وأطفأوا لوعة لذاتهم»

وكان كل من يتصدى للعتب أو الكتابة ضد هذا الفساد العام يتحمل تبعة أليمة. ولأن القوة كلها كانت في أيدي المرائين فلم يكن للمصلحين شأن يذكر

قيل عن ابن حمدون (١١٠١ ـ ١١٦٨) انه لما حمل حملة شعواء على المساوئ التي رآها حوله في بغداد عُزل من وظيفته (كاتم أسرار الحكومة) وأودع السجن حيث قضى نحبه. وكانت العقوبات صارمة وبتر السيقان نظير جرائم السرقة طبقاً لشرائع القرآن من الأمور العادية الجارية حتى كان كل مبتور ومجدوع موضعاً للريب والشبهات. وقد روي عن الزمخشري أنه أصيب في إحدى رجليه بداهمة من الصقيع في الشتاء حتى اضطره الحال إلى بترها واستبدالها برجل خشبية ولكنه كان يحمل معه دائماً شهادة مكتوبة موقعاً عليها من شهود كثيرين جاء بها أنه فقد ساقه في حادثة ألمت به وليست عقاباً على جريمة أتاها

ويؤخذ من أقوال البيهقي مؤرخ بغداد أن الغيرة للايمان كان يصحبها غالباً تهاون شديد للشريعة الإسلامية المختصة بتحريم المسكرات ولم يكن ادمانها قاصراً على الجنود والضباط بل السلطان مسعود نفسه طالما عاقرها في حفلات مع صحبه وخلانه في الخفاء وهاك مشهد وقع في غازني عاصمة ولاية خراسان:

«جيء من السرادق إلى الحديقة بخمسين قدحاً وقنينة من الخمر وبدأوا بإدارة الكؤوس فقال الأمير «لنشرب باعتدال وبأقداح متساوية» ولم تلبث أن لعبت برؤوسهم نشوة الخمر وشرع المغنون والشعراء ينشدون. شرب أحد الندماء خمسة أقداح كبيرة ـ يسع الواحد منها أكثر من نصف لتر ـ وبعد السادس دارت رأسه وبعد السابع فقد شعوره وبعد الثامن حمله عبيده. أخذ الطبيب محمولاً بعد القدح الخامس أما خليل داود فشرب عشرة وسيابيروز تسعة وأخذ كل منهما محمولاً إلى داره. امتنع الحاضرون الواحد بعد الآخر حتى بقي السلطان والخواجه عبد الرازق. وبعد أن شرب الخواجه ثمانية عشر قدحاً نهض وقال «لو شرب عبدك شيئاً آخر لأضاع رشده واحترامه لجلالتك»

تمادى مسعود وحده في تناول الأقداح حتى جاء على سبعة وعشرين قدحا ثم قام وطلب الماء وبساط الصلاة واغتسل وتلا صلاة الظهر المتأخرة والغروب معاً بكل هدوء وسكينة كأنه لم يذق شيئاً ثم امطى فيله إلى القصر»

قتل مسعود سنة ١٠٤٠ واحتفظ أولاده وأعقابه بهذا الصقع من العالم الإسلامي قرناً من الزمن ولكن باتت غازني مجرد ولاية خاضعة للسلطان ملك شاه بعد ان كانت عاصمة ملك واسع الأطراف كبير الجاه

وكان القرن الحادي عشر فاتحة عصر جديد لامم أوروبا الغربية فيه بدأت بتنظيم حكوماتها والأخذ بأسباب المدنية حتى بان نفوذها في الأوطان وخارجها ولو ان طبقات الشعوب كانت لم تزل باقية في أحط طبقات الوحشية. وقد لاحت بين طبقات الاكليروس والاشراف بوادر النظام والمدنية والاصلاح الاجتماعي ولكن قال أحد الكتاب ان ظهور الشعائر الدينية القوية جنباً لجنب مع ضروب التعسف والاختلال والميول الوحشية كان من خواص ذلك العصر. وكانت تكتسي هذه الشعائر غالباً بثياب الخرافات والتعصب وتأدية الواجبات الفرضية وأخصها زيارة القبر المقدس. فكم من ألوف غامروا بحياتهم وصحتهم وثروتهم رغبة في الوصول إلى المدينة المقدسة بنفس الغيرة والتضحية اللتين نشاهدهما اليوم (قبل قيام الحرب العظمى) في الغيورين من حجاج الروس

ولما استولى الترك على آسيا الصغرى وسوريا أوصد باب بيت المقدس وفي سنة ١٠٨٦ (وكان الغزالي وقتئذ قد بلغ الحول الثامن عشر من عمره) ذبح الغزاة ثلاثة آلاف من هؤلاء المسيحيين ومن ذلك العهد أمسى حكمهم سلسلة مظالم وتعسف خلواً من كل مظاهر الرحمة والحنان. فقد روي عنهم بأنهم جروا البطريرك من شعور رأسه وألقوه في سجن مظلم قذر وأهانوا رجال الدين من كل طائفة وساموا الحجاج البؤساء كل صنوف المذلة والاحتقار

وقد أثارت هذه المعاملة الشائنة سخط الغرب وألهبت فيه نار الحقد والغيظ فزار بطرس الناسك نفسه مدينة القدس وعاد إلى أوروبا لاستنهاض الأمم فجردت الحملة الصليبية الأولى التي اشترك في تجريدها البابا اوربان الثاني واندفع إلى أواسط أوربا عن طريق نهر الرين فالدانوب ثلاث مئة ألف من الفلاحين نصفهم عزل عراة ولكن لم يصل إلى شواطئ آسيا الا ثلث هذا العدد الخفير وهناك لاقوا حتفهم على بكرة أبيهم ولم يوقف لهم الا على أكداس من العظام البالية فلم يبقوا في بلادهم ولم يصلوا إلى أغراضهم

ثم جردت حملة أخرى منظمة ضمت تحت لوائها زهرة شبان اوربا تحت قيادة جودفري وقيل انها استعرضت في سهول بثينية فبلغ مجموعها نحو مئة ألف فارس كاملي العدد والسلاح ونحو ست مئة ألف من المشاة. وربما كانت هذه الأرقام مبالغاً فيها أو ان صفوفها قد نقصت بفعل الاوبئة والمجاعات ولكنها في أقل من ثلاث سنوات وصلت إلى بغيتها العظمى. وفي سنة ١٠٩٧ حاصرت مدينة نيقية واستولت عليها ثم تقدمت الحملة الظافرة نحو انطاكية وضربت حولها نطاقاً من الحصار بعد سبعة أشهر كلها تعب ونصب. وفي سنة ١٠٩٩ وقفت على أبواب اورشليم فسلمت المدينة المقدسة بعد حصار دام أربعين يوماً. وهنا انتقم الافرنج بلا رحمة ولا شفقة للآلام الكثيرة والمظالم الرائعة التي حلت بدينهم وأبناء جنسهم فأحرقوا اليهود في مجامعهم وقتلوا نحو سبعين ألفاً من المسلمين بحد السيف وأعملوا معاول النهب والتخريب والمذابح ثلاثة أيام متوالية في المدينة كلها حتى انتشرت الأوبئة من جراء تعفن اشلاء القتلى

وأخذ جودفري وخلفاؤه في توسيع نطاق فتوحاتهم حتى لم يبق في حوزة المسلمين من مدائن سوريا سوى حلب ودمشق وحماة وحمص وعم الكمد والحزن والخجل أتباع النبي العربي في كل مكان وتاقت نفوسهم ان يمحوا هذا العار الذي لصق بدينهم

ويقول ميور في تاريخه ٤ في سنة ٤٩٢ هجرية: ـ

«ساد الذعر في كل أنحاء البلاد من جراء الاستيلاء على بيت المقدس ومعاملة سكانها بالقسوة والعسف فجال الرسل في كل مكان منادين بهذه المأساة المحزنة ومشعلين نيران الانتقام ومحرضين الناس على الجهاد لانتزاع قبة الصخرة والمسجد الأقصى و(مهبط أنبياء بني إسرائيل) من أيدي الكفرة ومهما كان مقدار نجاح هذه الدعوة في البلدان الأخرى فانها لم تلق رواجاً في الشرق وقد كان وقتئذ منغمساً في مشاغله واضطراباته ولم يكن ليعبأ كثيراً بالأماكن المقدسة لسيادة الدولة الفاطمية فيه. وفي خلال ذلك كانت جموع المنفيين تلجأ إلى بغداد وهناك ناصروا سكانها واستصرخوا الأمة لاثارة حرب ضد الافرنج فلم تلق صرخاتهم آذاناً صاغية لا من السلطان ولا من الخليفة. وقد احتشد الثوار مرتين في صلاة الجمعة في المسجد الأكبر وتعالت أصواتهم بالصخب والهياج وحطموا منبر الخليفة وعرشه ونادوا بالويل والثبور ولكن اقتصر جهادهم عند هذا الحد ولم يجهز الجيش»

وقد كانت الاحقاد الدينية سائدة في تلك الأيام بين المسلمين أنفسهم فاليوم مثلاً ترى المذاهب الأربعة في وفاق يعبدون الله معاً ويعيشون معاً في سلام كجيران ولكن في ذلك العصر كانت المنازعات على أشدها بين المعاهد المناظرة لبعضها وقامت المناقشات والمجادلات حتى اتسعت شقة الخلاف وبلغت الكشاحة والبغضاء مبلغاً عظيماً من الشدة بين المذاهب حتى سطر مركوهند المؤرخ الفارسي حقيقة يبين فيها ما وصلت إليه الحفائظ والاحقاد من الشدة قبيل انتهاء الخلافة فانه لما وقف مغول جنكيز خان أمام مدينة الري ألفوها منقسمة إلى حزبين متنافسين هما الشافعيون والحنفيون فدخل الأولون مع المغول في مخابرات سرية وارتضوا أن يسلموهم المدينة ليلاً على شرط ان يذبح المغول أتباع الحزب الآخر فقبل المغول هذه المقترحات غير محجمين عن سفك الدماء ولما دخلوا المدينة ذبحوا أتباع مذهب أبي حنيفة بلا رحمة ولا شفقة.

وفي مثل هذا الوسط. وسط البغضاء والاحقاد والحروب وسفك الدماء قضى الغزالي أخريات أيامه فنلتمس له العذر إذا لحظنا فيه شيئاً من التعب والضغينة لأن اتجاه الميول نحو الحروب تطمس الحكم البشري وتجعل محالاً أن يرى الناس فضيلة في الغزاة الفاتحين

ولا يغرب عن أذهاننا أن الغزالي احتك بالمسيحيين الشرقيين منذ حداثته ٥ وكانت المسيحية قد استوطنت في بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي وقويت الكنيسة النسطورية على احتمال صدمات رائعة في الوقت الذي انهارت فيه الديانة الفارسية ٦ ولم يكن دخول العرب في نظر المسيحيين سوى استبدال سادة بآخرين وظل النسطوريون في حماية الخلفاء ولم يكونوا قد تدهوروا إلى مثل حالتهم التعسة التي هم عليها الآن بل ثابروا على ادارة البعثات الأجنبية وكانوا في حكم الدولة العباسية من أكبر عوامل المدنية في الشرق فسمح لهم باعادة كنائسهم لا ان يشيدوا كنائس جديدة وحرم عليهم حمل الأسلحة وركوب الخيل الا في الأحوال الاضطرارية وحتى في هذه الحالة كانوا يترجلون عند مقابلة المسلم. وكانوا دائماً عرضة لضريبة الرأس العادية. ومع ذلك كله كان النسطوريون أقوى الهيئات الغير الإسلامية إبان حكم الخلفاء في بغداد (٧٥٠ ـ ١٢٥٨) وتسامت مدنيتهم فوق مدنية سادتهم فكانوا يعينون في الوظائف الحكومية كاطباء وكتبة وكاتمي أسرار حتى عظم نفوذهم وقويت شوكتهم ونالوا حرية في المسائل الدينية وانتخبوا بطاركتهم الخ.

والعلوم العربية التي انتقلت إلى الأندلس وكانت من أكبر العوامل في علوم ومعارف القرون الوسطى انما الفضل فيها للنسطوريين أهل بغداد فهم الذين سلموا لسادتهم العرب العلوم اليونانية الموروثة عن الترجمات السريانية ولذلك ترى الخلفاء يعاملونهم كرؤساء الهيئات المسيحية ويعطون للبطريرك النسطوري في بعض الأحايين سلطة مدنية على المسيحيين قاطبة

وفي أوائل القرن الحادي عشر ذكر البيروني ـ وهو كاتب مسلم من حيفا ـ النسطوريين كأعرق الهيئات المسيحية الخاضعة للخليفة في المدينة فقال بأنه يوجد ثلاث طوائف من المسيحيين هم المالكيون والنسطوريون واليعاقبة «وأكثر هؤلاء عداً هم المالكيون والنسطوريون لأن اليونان والبلاد المجاورة لها آهلة بالمالكيين وأغلب سكان سوريا والعراق وبين النهرين وخراسان من النسطوريين».

قضى الغزالي العقدين الأولين من عمره في خراسان فهل عرف المسيحية من اطلاعه على الإنجيل؟ نحن نعلم بأن الترجمات العربية ان لم نقل الفارسية كانت موجودة في ذلك العصر ومؤلفات الغزالي طافحة بالشواهد عن المسيح وتعاليمه وليس ذلك فقط بل هناك عبارات دقيقة يصح أن يقال عنها اقتباسات حرفية بدليل قوله كما سيجيء «اني رأيت في انجيل عيسى الخ» (رسالة ايها الولد وجه ١٠)

ومن المحتمل جداً ان يكون الغزالي قد حصل على ترجمات للكتاب المقدس باللغة العربية فقد أشار الدكتور كلجور ٧ إلى وجود نسخ خطية عربية من الإنجيل يرجع تاريخها إلى القرن التاسع وترجمات من العهد القديم وأجزاء من العهد الجديد نسخت في الفيوم قبل سنة ٩٤٢ ب. م ـ وتوجد ترجمات لبعض أسفار الكتاب المقدس من السريانية والقبطية يرجع تاريخها إلى القرن العاشر وكذا ترجمات جديدة لاسفار موسى الخمسة

اما النسخ الخطية باللغتين العربية والسريانية فوفيرة العدد ومنها نسخة البشائر الأربع التي حفظت بعض وريقاتها حتى اليوم في المتحف البريطاني والتي جاء بها تشندروف من أحد الأديرة في سوريا

وفي أوائل القرن الحادي عشر قام أحد علماء العرب بترجمة كتاب تاتيان واسمه Diatessaron أي اتفاق البشيرين التي ساعدت الكنيسة المسيحية على تفهم الحقائق الأولية الخاصة بمخلصنا. ثم أعدت أيضاً في أواسط ذلك القرن ترجمة للمزامير لاستعمالها في الخدمات الكنائسية لليونان البابويين وهذه نقلت عن الترجمة اليونانية وأخذت اسم المحل الذي طبعت فيه أولاً فصارت معروفة بمزامير حلب. فمسألة فحص الغزالي للعهد الجديد سواء كان في سفراته أو أثناء اقامته في خراسان لا تزال من المسائل الهامة التي أمامنا في هذا الموضوع

يروى ان اليهود نقلوا نواميسهم إلى الفارسية حوالي سنة ٧٢٨ ب. م فمن الصعب جداً تبرئة مسيحي فارسي من هذه التبعة وقد اتسع الوقت لمطارنتهم فالفوا الرسائل العلمية بالعربية والفارسية وترجموا مؤلفات ارسطو ولكنهم قد أهملوا ابراز كتابهم المقدس للمسلمين غير أن الكندي وامثاله ممن اختفت اسماؤهم ومؤلفاتهم لم يجبنوا عن التفوه بشهادتهم في مجالس الخلفاء فقال ويتلي: ـ

«لم تفشل الكنيسة في بسط بعض نفوذها على الإسلام حولها مهما تقاعد المسيحيون عن السعي لاكتساب دخلاء إلى دينهم (قياماً بالفرض المسيحي الواجب على كل مؤمن) لكن صبغة التقدم الإسلامي في دمشق وبغداد كانت مسيحية»

ولا يخفى ان المسيحية في ذلك العصر لم تكن حسب دين المسيح في طهارته الكاملة ونماذج محبته وتسامحه، فقد حالت الشبهات والبغضاء المتبادلة دون تفاهم وتواد الباحثين وراء معرفة الله من الغيورين بين المسيحيين والمسلمين فكان المسلم مخوفاً مهاباً والمسيحي مرذولاً محتقراً وكان أتباع المسيح أعداء الله في أعين المسلمين الذين جعلوا الحق للقوة في تلك الأيام والعياذ بالله

وشرائع ذلك العصر الدينية تفصح لنا عن معاملة المسيحيين الذين كانوا في عرف المسلمين كفرة لا تحميهم إلا ضرائب الرأس (الجزية) التي كانوا يدفعونها والتي خولتهم بعض الحقوق كرعايا. وبين الشرائع التي سنها النواوي أشهر المتشرعين في مذهب الشافعي والذي علّم في دمشق سنة ١٢٦٨ ما يأتي: ـ

«على جباة الضرائب معاملة الكفرة الذين فرضت عليهم ضريبة الرأس بالامتهان والاحتقار فيبقى الجابي جالساً والكافر واقفاً أمامه حاسر الرأس محدودب الظهر وعلى الكافر أن يضع بنفسه الدراهم في الميزان والجابي يمسك بلحيته ويصفعه على خديه. ولا يجوز للكفرة أن يمتلكوا دوراً أعلى من جيرانهم المسلمين ولا مساوية لها وهذا القانون لا يسري على الكفرة الذين يقطنون في حي خاص بهم. وممنوع على الكافرين من رعايا السلطان ركوب الخيل ولا يسمح لهم إلا بالحمار أو البغل مهما كانت قيمته. وعليهم استعمال ikaf المهامز الخشبية. ومحظور عليهم استعمال المهامز الحديدية أو السرج (البراذع). وعلى الكافر أيضاً أن يركن إلى جانب الطريق ريثما يمر المسلم ولا يجوز معاملته (الكافر) كإنسان ذي حيثية ولا يعطى له المكان الأول في المجتمعات. ويجب تمييزه برداء ملون ومنطقة فوق ثيابه وإذا دخل الكافر داراً للاستحمام بها بعض المسلمين أو خلع ثيابه بحضرتهم في أي مكان آخر وجب أن يعلق في عنقه طوقاً من الحديد أو الرصاص. أو أي علامة أخرى تدل على الذل والعبودية. ومحظور عليه أن يكون عثرة للمسلمين في إسماعهم تعاليمه الفاسدة أو التكلم بصوت عال عن مسيحه أو معاقرة الخمور أو اكل لحم الخنزير. ولا يسمح للكفرة بقرع أجراس كنائسهم أو مجامعهم ولا التباهي في حفلات طقوسهم الدينية». وتفسير آية الجزية: «يجلس الآخذ ويقوم الكافر ويحني ظهره ويضع الجزية في الميزان ويقبض الآخذ لحيته ويضرب لهزمتيه» (الخطيب ج ١ وجه ٤٩٦ والكشاف ج ٢ وجه ٣٠)

ويقول الأستاذ مرجوليوث (بجامعة اكسفورد) ٨: —

«لا يمكننا التزام جادة الافصاح في تاريخ الهيئات المسيحية تحت الحكم الإسلامي لأنه لم تسنح الفرصة لافراد تلك الهيئات بسرد أحوالهم على نمط يأمنون به العثار ولم يفسح المسلمون مجالاً لسردها لقلة اكتراثهم ولكننا نجرؤ على القول بوجه عام بأن المسيحيين كانوا في نظر سادتهم المسلمين معثرة ومبعثاً للحقد والغيظ كما كانت النساء في نظر حكماء اليونان والرومان قديماً. ولأنهم كانوا عزلاً من السلاح كان نجاحهم يأتي دائماً من طريق الصدف. ومع أن هذه الحالة السيئة كانت شاملة لرعايا كل حكومة مستبدة تحت حاكم غير مسئول لكن كان الأهلون الغير المسلمين تحت رحمة الزعانف والأسياد على حد سواء وكان المسيحيون في أوقات الملمات والشدائد أشبه بالتيوس التي كان ينحرها بنو إسرائيل كفارة عن خطاياهم وأزمنة الشدائد هذه كانت شائعة الحلول حتى في أحسن البلاد حكماً»

وقد سدلت على أساليب معاملة المسيحيين وحالتهم الأدبية في ذلك العصر سجف كثيفة ويحسن بنا أن نرخي عليها الستار أيضاً ولكننا نستشف من بعض فصول الغزالي في كتابه «احياء علوم الدين» أحوال رائعة كما يصفها مرجوليوث في قوله: ـ

«كان عالقاً بالمسلمين بعض الشهوات (السدومية) الخبيثة التي يخجل القلم من ذكر اسمها وهي أشبه بتلك التي ضُرب بها اليونانيون قديماً وكانوا يحاولون نيل أغراضهم الشهوانية السيئة من الصبية المسيحيين. وقد روى لنا المؤرخ ياقوت رواية عن راهب شاب من اوسا (أي مدينة الغرفة) راق منظره في عين أحدهم اسمه سعد الناسخ وقد تضايق الرهبان من زيارات ولحظات هذا الشخص حتى اضطروا أخيراً إلى قطع دابره. وأخيراً وجد قتيلاً وراء جدران الدير فقال المسلمون بأن الرهبان اغتالوا حياته واقترح الحاكم ان يعدم ويحرق ذلك الراهب الشاب الذي حلت بسببه هذه الكارثة ويجلد الرهبان زملاؤه بالسياط ولكنهم نالوا عفواً من هذه العقوبة بدفع مئة ألف درهم». (أهكذا يجازون الذين يحافظون على العفة والرجولة؟)

وكانت سوق الآداب كاسدة في القرن الحادي عشر ليس بين المسلمين فقط بل بين المسيحيين أنفسهم. وقد قال أحد مؤرخي الكنيسة الرومانية بأن ذلك العصر كان حديدياً خلواً من كل صلاح وصلباً مملوءاً بكل شر دائم وقال

«ويظهر ان المسيح كان في سبات عميق لما غمرت الأمواج السفينة والأدهى انه في سبات الرب لم يكن هناك تلاميذ يوقظونه بصرخاتهم وأصوات استغاثتهم لأنهم كانوا أنفسهم مستغرقين في نوم عميق»

ولقد غالى منتقدو البابوية في اذاعة رذائل وسخائم الباباوات في ذلك القرن والقرن السابق ولكن الكنيسة نفسها بشهادة كتابها كانت غارقة في لج عميق من النجاسة وحب الشهوات والفجور فلما جاء اوتو الأول امبراطوار المانيا إلى رومية ادخل فيها الاصلاحات الأدبية بقوة الحسام ولكن يقول ملنر في مؤلفه تاريخ كنيسة المسيح:

«كان من نتائج الأنظمة التي وضعها اوتو ان استبدل الباباوات سخائم الفجور والدعارة برذائل الاطماع السياسية والرياء. وهكذا استعادوا تدريجاً الغطرسة والتجبر والانتفاخ، تلك الأمور التي كانوا قد أضاعوها من افراطهم في المفاسد والشرور، ولكن لم يحدث كل هذا الا في أواخر القرن الحادي عشر»

وكانت الجهود التبشيرية في ذلك العصر قاصرة على هنغاريا وبعض اجزاء الدانمارك وبولندا وبروسيا حتى قال آدم من بريمن الذي كتب حوالي سنة ١٠٨٠ «انظر إلى امة الدانيمارك المتوحشة إذ صارت منذ مدة طويلة تردد في تسبيحاتها هللويا. انظر إلى ذلك الشعب الذي كان يقطع الطريق بحراً وقد اكتفوا الآن بأثمار بلادهم. انظر إلى ذلك الاقليم المخيف الذي كان موصد الأبواب بسبب عبادة الأوثان وأهله الآن يقبلون عن طيبة خاطر الكارزين بالكلمة»

وقد ظل البروسيون من عبدة الأوثان طول ذلك العصر ويروى ان ثمانية عشر مرسلاً أرسلوا للعمل في بلادهم فذبحوا بحد السيف وهم آخر الأمم الأوربية التي احنت اعناقها لنير المسيح

غير ان أمجد رجال ذلك العصر الذين نبغوا في الغرب هو الأسقف انسلموس وقد ولد تقريباً في عصر الغزالي وقضى نحبه سنة ١١٠٩ أما حياته فكانت من أوجه كثيرة مشابهة لمعاصره فكلاهما لاهوتي وكلاهما صوفيّ دائب لايجاد راحة لنفسه في اعتزال العالم وغروره وغوايته. وكلاهما مدافع عن الايمان ومناوئ للكفر والفلسفة وقد كان لكتاباتهما وتعاليمهما نفوذ فعال في العقول فالغزالي سعى إلى احياء الحياة الدينية في الإسلام بواسطة الكتاب المشهور «احياء علوم الدين» أما انسلموس فقد سعى في احياء الحياة الدينية في الديانة المسيحية بواسطة كتابه اللاهوتي الفلسفي المشهور «لماذا تجسد الكلمة؟» وكلاهما دحض المزاعم الفلسفية بالسعي لتأييد الايمان

ولا مندوحة لنا عن القول في هذا الصدد ان مؤلف انسلموس (لماذا تجسد الكلمة) يستعمل الآن بالترجمة العربية بين المرسلين للعالم الاسلامي وقد وضعت «اعترافات» الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بين أيدي القراء من الانكليز كشهادة على اخلاصه وخشوعه الذي كاد يصل به إلى المسيحية

وقد عاش انسلموس والغزالي وكتبا تحت مؤثرات عميقة عن العالم الآتي ورهبة يوم الدينونة ومصير الأشرار وقد كانت هذه كلها من مميزات ذلك العصر

ولسهولة فهم العصر الذي عاش فيه الغزالي علينا أن نذكر بأنه كان من العصور الذهبية وهو الذي نشطت فيه العلوم والمعارف تحت حكم الخلفاء العباسيين في بغداد وسلاطين السلجوقيين وكان الحكام في ذلك العصر يجزلون العطاء لنوابغ الأدباء والعلماء ويشيدون المدارس ويعضدون التربية والتهذيب على قواعد دينية وكانت الآداب العربية غنية بوفرة الكتاب والأدباء في النصف الأخير من القرن الحادي عشر في كل فرع من فروع العلوم الإسلامية

وبين معاصري الغزالي ممن ذاع صيتهم في عالم الآداب أبو الدرداء الشاعر (المتوفي سنة ١١١٣) وابن الخياط الذي ولد في دمشق سنة ١٠٥٨ وتوفي في بلاد فارس سنة ١١٢٥ والغازي (ولد سنة ١٠٤٩) وهو الذي ألف المراثي والمدائح في الكلية النظامية وكان زميل الغزالي وتوفي في خراسان. والطرابلسي (ولد سنة ١٠٨٠) وهو شاب معاصر ولكن أشهر شعراء ذلك العصر هو الحريري المعروف بمقاماته التي سطعت بنورها على أخلاق وآداب ذلك العهد (وما هو نورها؟)

وبين رجال الجامعة النظامية الخطيب اللغوي الشهير الذي (ولد سنة ١٠٣٠) وابن العربي الذي ولد في اشبيل (بالأندلس) سنة ١٠٧٦ وجاء بغداد للارتشاف من تعاليم الغزالي. وأشهر علماء الشافعية ممن عاصروا الغزالي هو الرباني وكان أستاذاً في نيسابور وكتب مجلده الشهير عن الفقه المسمى «بحر العلوم» وقد اغتيل هذا العالم سنة ١١٠٨ عقب القاء احدى محاضراته بيد اثيم متعصب من شيعة الفدائيين السفاحين (الحشاشين) الذين كانوا وقتئذ معتصمين بقلعة أَلاَمُوت في الجبال السورية الشمالية

ونذكر بين رفقة الغزالي في الدراسة الحراسي (١٠٥٨ ـ ١١١٠) وقد تلقى علومه في نيسابور على يد امام الحرمين ثم انتقل إلى بغداد حيث قضى بقية حياته في تعليم علم الكلام في الجامعة النظامية. ولا ننسى أيضاً البغَوي الذي كتب تفسيره عن القرآن وبعض المؤلفات الفقهية الأخرى (سنة ١١٢٢) والراغب الأصفهاني الذي توفي سنة ١١٠٨ وكتب قاموس القرآن مرتباً حسب الحروف الهجائية ويُعرف بمفردات ألفاظ القرآن وفيه اقتباسات من الأحاديث والشعراء. وقد كتب أيضاً رسائل عن الآداب التي كان الغزالي دائماً يحملها معه وتفسير القرآن

ولا يفوتنا ان نذكر بين معاصري الغزالي الأولين علي بن عثمان الجلابي الهجويري مؤلف أقدم الرسائل الفارسية عن التصوف وقد ولد في غازني من أعمال أفغانستان وتوفي سنة ١٠٦٢ لما كان الغزالي في الرابعة عشرة من عمره. وقد جاب الهجويري كل بقاع الدولة الإسلامية وسبق له أن كتب في مؤلفه الشهير «كشف المحجوب» الشيء الكثير من تعاليم الغزالي مما يدل على أن هذا الأخير كان في تعارف مع المؤلف

ونذكر أيضاً بين مشاهير هذا العصر الميداني من نيسابور المتوفي سنة ١١٢٤ وقد كتب مؤلفاً ضخماً عن الأمثال العربية. والزمخشري الذي ولد سنة ١٠٧٤ وكتب تفسيره الشهير عن القرآن وابن طومارت الفيلسوف المغربي الطائر الصيت الذي حضر محاضرات الغزالي في النظامية. والشهرستاني الذي كتب مؤلفه المشهور (واسمه «الملل والنحل») عن الأديان والطوائف المختلفة ـ ولا يزال كتابه هذا حجة لليوم بين جميع المسلمين

وقصارى الكلام ان ذلك العصر كان من الأعصر الذهبية للعلوم والآداب الإسلامية ومن دواعي الفخر ان الغزالي ـ بحكم المسيحيين والمسلمين على السواء ـ تفوق على كل معاصريه وبرز عليهم في العلوم والآداب ان لم يكن في الأسلوب والفصاحة ففي مرمى مؤلفاته وصفتها وفي نفوذ حياته التي لم يدانه فيها أحد لأنه كان أكثر مؤلفي عصره اهتماماً بالكتب المسيحية وما فيها من العلوم والآداب والروحيات التي ظهرت تأثيراتها في أقواله وأفعاله وكتاباته

وها نحن الآن نسطر للقارئ الكريم ترجمة حياته وماهية غايته والله ملجأنا وبه نستعين


١. «الغزالي وكتابه المنقذ من الضلال» ثمنها نصف غرش فقط وتطلب من مطبعتنا بمصر أو من موزعينا في الجهات

٢. شهيد بلاد تونس وكان أول مبشر بين المسلمين وتطلب قصة حياته من مطبعة النيل المسيحية أو من موزعيها في الجهات

٣. هي ممالك نروج واسوج والدانمارك

٤. تاريخ سقوط الخلافة للسير وليم ميور المستشرق الشهير

٥. احتكاك المسيحيين بالاسلام في عهد الغزالي أمر مشهود له. انظر سيرة حياة يوحنا الدمشقي (المنصور) وأيضاً رسالة الكندي المشهورة

٦. كانت عبادة أرمزد ومؤسسها زرادشت

٧. رئيس قلم الترجمة لجمعية التوراة

٨. في كتابه «تطور الإسلام»